الجمعة، 29 أبريل 2016

البقرة 49-50

البقرة 49-50
{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)} البقرة
الله تعالى يذكر بني إسرائيل بنعمه وأفضاله عليهم، هذه النعم إنما ظفر بها أسلافهم، ولكنهم يذكرون بها لأنهم قبيلة واحدة وكيان واحد، فما من كيانٍ إنساني ينشأ إلا وينشأ بإزائه كيان يُحصى فيه أعمالهم ويُقضى عليهم به، لذلك يتحمل الخلف المسؤولية عن أعمال السلف طالما يعتبرون أنفسهم منهم، وبالنسبة لأعمال الكيانات الكبرى لابد من الفصل والقضاء وتنفيذ القضاء أو الأحكام في هذه الدنيا، ويكون الحكم الصدر على قوم بالنسبة للأفراد بمثابة القضاء الذي لا محيص عنه، فيكون عقابا للمسيء وابتلاءً بالشر لغيرهم.
ولقد ذاق بنو إسرائيل ألوانا من العذاب المهين على أيدي آل فرعون، وآل فرعون هم الأسرة التي كانت حاكمة في مصر في ذلك الزمن البعيد، وهي في تقديرنا الأسرة العشرون (أسرة الرعامسة)، والقول بأنها الأسرة 20 هو وفق ترقيم المؤرخين، وإلا فإن الأسر أكثر من ذلك بكثير.
ولقد جعل فرعون أهل مصر شيعا، كان في الذروة آل فرعون، وقد جعل في أدنى مرتبة بني إسرائيل، يذبح آلُه أبناءَهم ويفعلون في نسائهم ما يشاؤون، وكان ذلك أصلا ابتلاءً من الله تعالى لبني إسرائيل.
ولقد تحملوا بصفة عامة وتحمل خيارهم بصفة خاصة الابتلاء حتى صدر الحكم بأن ينالوا ثواب ذلك، قال تعالى:
{...... وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُون} [الأعراف:137]
وكان لابد لهم من الهرب من مصر، فهم لا يستطيعون أن يعيشوا أحرارا فيها لقلة عددهم بالنسبة لسائر الشعب، ولا يستطيعون أن يفرضوا دينهم عليهم.
كما صدر الحكم على آل فرعون بأن يلقوا في الدنيا جزاء بغيهم وطغيانهم؛ فأُغرق جيشهم أمام أعين من كانوا يضطهدونهم.
والقصة معلومة، وقد أوردتها آيات قرءانية أخرى بالمزيد من التفاصيل، هرب بنو إسرائيل ليلا عندما صدر الأمر لموسى بذلك، قال تعالى:
{فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُون} [الدخان:23]
فلما انكشف أمر فرارهم جُنَّ جنون فرعون وأعلن التعبئة العامة، وأرسل يستدعي الجنود من كافة مدائن مصر:
{فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)} الشعراء.
ولكن عندما تأكد أن من خرج مع موسى كانوا بالفعل شرذمة قليلين قرر ألا ينتظر، وطاردهم بجيش آل فرعون، وكان بنو إسرائيل قد اتجهوا شرقا نحو سيناء، قال تعالى:
{فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِين} [الشعراء:60]
وعندما وصلت طلائع الجيش وجد بنو إسرائيل أنفسهم أمام أحد أفرع النيل الضخمة، وكان للنيل في ذلك الوقت فروع عديدة يصل بعضها إلى البحر المتوسط في سيناء، فتملك الذعر والهلع قلوب بني إسرائيل ومن خرج معهم، قال تعالى:
{فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)} [الشعراء]
والبَحْرُ هو الماءُ الكثيرُ، مِلْحا كان أَو عَذْبا، وهو خلاف البَرِّ، سمي بذلك لعُمقِهِ واتساعه، وسمي البَحْرُ بَحْراً لاسْتبحاره، وهو انبساطه وسعته.
ولكلمة بحر معانٍ عديدة ومعانٍ مجازية، فالبَحْرُ مثلا الرجلُ الكريمُ الكثيرُ المعروف، ولكنها لم ترد في القرءان إلا بالمعنى المذكور، فيجب الالتزام به، ولا علاقة لذلك بالتخصيص الجغرافي الحديث، فالبحر في القرءان يشمل ما يُعرف الآن بالمحيطات والبحار المعلومة كالبحر الأحمر وأنهار المياه العذبة كالنيل وأفرعه مثلا.
ومعنى غرق جيش آل فرعون أنهم غُمروا تماما بالماء عندما انطبق عليهم فِلقا البحر، والموت يتبع عادة مثل هذا الغرق إلا إذا ورد ما يفيد النجاة، وهذا ما حدث مع فرعون لوحده من دونهم، قال تعالى:
{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)} يونس
وعلى مدى التاريخ اقترف المفسرون كل ما هو كفري ومضحك لتكذيب المعنى الصريح الوارد في آية يونس 92 فمنهم من قال إن الله سبحانه يتهكم على فرعون!! ومنهم من قال إن جبريل كان يحاول أن يملأ فمه طينا حتى لا يؤمن!! وكأن الإيمان محله الفمّ، وكأن الله تعالى لا يعلم ما في الصدور!! هذا مع أن الآية تقول إنه آمن وأعلن إيمانه!!! فهم يفسرون الآية بعكسها!!! ومنهم من قال إن الذي نجا هو جسده فقط فتم حفظه ليراه بنو إسرائيل!!! وكأن كاف الخطاب في اللغة العربية يمكن ألَّا تعود على المخاطب!!! وكأن نجاة البدن نجاة للميت غرقا!!! بل إن منهم من قاتل إن البدن هو الدرع، وكأن الدرع كائن حي يمكن أن يوصف بالنجاة هو الآخر من الغرق!!!
كل ذلك مع أن الفعل "نجَّى، نُنَجِّي" له معناه الواضح في القرءان الذي لا يجوز تحريفه ولا تكذيبه، ومفعوله هو كائنات حية مثل البشر، وليس الجمادات، قال تعالى:
{ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِين} [يونس:103]، {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُون} [العنكبوت:65]، {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُور} [لقمان:32]، {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)} مريم، {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِين} [العنكبوت:32]
وليست المسألة هنا هي هل قُبِل إيمان فرعون أم لا، وإنما هي التفسير الصحيح للآية القرءانية.
ولقد قالوا إن الإيمان عند البأس لا ينفع، والحق هو أنه ينفع، فالله تعالى يبتلي الناس بالبأساء والضراء ليؤمنوا ويتضرعوا إليه، فالذي يؤمن ويتضرع هو ناجٍ، وذلك ما يريده الله تعالى من ابتلاء الناس، قال تعالى:
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)}[الأنعام]، {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)} الأعراف، {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)} المؤمنون.
ولكن البأس لا ينفع للنجاة إذا كانت الكلمة قد حقَّت عليهم، قال تعالى:
{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)} غافر، {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّار} [الزمر:19]
والخلاصة هي أن فرعون قد استجيب فيه دعاء موسى فلم يؤمن حتى رأى العذاب الأليم، قال تعالى:
{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيم} [يونس:88]
هذا مع العلم بأنه كان على يقين من أن ما أتاه به موسى هي آيات بالفعل، قال تعالى:
{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آَيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)} النمل
 وهم لم يمت غرقا من بعد أن أعلن إيمانه، وقد عاتبه ربه على تأخير هذا الإعلان، ونجاه ببدنه، وعاش من بعدها، أما مصيره من بعد ذلك فهو مسكوت عنه، أما آله فلقد نصَّت الآيات على أنهم في النار، ولقد أصبح فرعون عبرة وآية للناس إلى يوم الدين، فكل أتباع الأديان الإبراهيمية يعلمون قصته ويأخذون منها العبر.

*******

  

هناك تعليق واحد: