الجمعة، 1 أبريل 2016

التوبة من 1 إلى 6

التوبة من 1 إلى 6

{بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6).
إن سورة التوبة تتضمن كثيرا من أنباء القرن الإسلامي الأول وتتضمن كثيرا من الأوامر المتعلقة بما واجهوه من وقائع خاصة وتخلِّد جهادهم للناس ليتأسوا بهم، كما أنها تبيِّن بكل وضوح أنهم لم يكونوا كلهم علي درجة واحدة من الصلاح والكمال وإنما كانوا طبقاتٍ عديدة تم ذكرها وبيان أمرها، ولكنها أيضا ذكرت كثيراً من معاصيهم ومخالفاتهم وما اقترفوه من آثام حتى لا يغلوا الناس في أمرهم كما حدث مع الذين من قبلهم، ولا يعني ذلك تاريخانية السورة، ذلك لأنها تتضمن الكثير من الأحكام العامة  كما يمكن استنباط كثير من تلك الأحكام منها، فهي توضح مثلا للأمة المؤمنة في حال وجودها كيف تتعامل مع مكوناتها المختلفة ومع الأمم الأخرى، وكيف أنه يجب أن تتحلى تلك الأمة باليقظة والفطنة والحكمة والحزم في ذلك التعامل، فتلك السورة ترسى القواعد وتوضح نسق الأوامر والسنن والتعليمات اللازمة لتحقيق المقصد الديني الأعظم الرابع أي إعداد وبناء الأمة الخيرة الفائقة، فآيات السورة وأحكامها واجبة التطبيق والإعمال عندما تستجد ظروف مشابهة لتلك التي كانت موجودة في القرن الأول.
وليس لامرئٍ منفرد أن يلزم نفسه بما لا تقوم به إلا أمة تملك زمام أمورها وولاة أمرها منها لا من أعدائها، وعليه أن يعلم أن الله تعالي لا يكلف نفساً إلا وسعها وأنه لابد أن يعرف الناس منظومات القيم والسنن الإلهية وأن يعملوا وفق مقتضياتها، فإن أعياه ذلك فلا أقل من أن يتحلى بالتقوي والرغبة في طلب مرضاة الله تعالي.
والآيات (1-6) توجه الأوامر والتعليمات إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ والمؤمنين بخصوص كيفية التعامل مع قومه من العرب والأعراب الذين رفضوا الإيمان كما هو واضح وبيِّـن، فالمراد بالمشركين هنا هو ما اصطلح الكتاب على أن يسميهم كذلك، وهم من رفضوا الرسالة من العرب والأعراب وآثروا البقاء على عبادة الأصنام، فهم أشركوا بالله واتخذوا الأصنام أربابا وعبدوهم بحجة أنهم سيقربونهم إلى الله زلفى، وهم تمادوا في ذلك حتى أصبح الشرك سجية لهم، وأصبح اسم "المشركين" عَلَما عليهم، وهم لم يكتفوا بذلك بل أخرجوا الذين آمنوا من ديارهم واستولوا على أموالهم، وهم الذين كانوا مع كل حلفٍ ضد الأمة الوليدة، وهم الذين قاوموا ظهور دين الحق وحاولوا إطفاء نور الله بأفواههم، وهم الذين أُعطيت لهم المهلة المذكورة، وهم الذين بدأت السورة بإعلان البراءة منهم حتى ولو كان ثمة عهد معهم، ولكن حدث استثناء لمن أوفى بعهده فيما يتعلق بالمدة.
فالآيات لا تلزم المحسوبين على الإسلام بقتال كل المشركين في مشارق الأرض ومغاربها وإلا للزمهم قتال أنفسهم، قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} يوسف106، وبالفعل فإن أتباع كل مذهب الآن يرمون أتباع المذاهب الأخرى بالشرك ويزعمون أنهم وحدهم هم الفئة الناجية، وهم مخطئون في ظنهم أنهم الفئة الناجية، ولكنهم كلهم محقون في كونهم جميعا مشركين، قال تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}الأنعام159، بل لقد أعلن الله تعالى أن الذين فرقوا دينهم الفرحين بما هم عليه من المشركين، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ{30} مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ{31} مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ{32} الروم.
وهم بالفعل لم يكفوا عن الاقتتال والتناحر إلا بفعل قوى أخرى، وهم إلى الآن بالفعل لا يملكون أية صيغة تمكنهم من التعايش السلمي مع بعضهم البعض.
ويجب العلم بأن قوم أي رسول ملزمون بالإيمان به من بعد أن جاءهم بالآيات والبينات، وقوم كل رسول لا يمكن أبدا أن يتعايشوا سلميا مع من آمن، ولكن لم يكن هذا ليحدث أبدا، لذلك كان لابد دائما من حسم أمرهم في هذه الدنيا.
وقد زعم بعض المضلين والمفسدين أن آية التوبة 5 والتي يسمونها بآية السيف تنسخ أكثر من مائة آية من آيات القرءان، والآيات التي زعموا أنها منسوخة هي التي تلزم الدعاة باتباع الأساليب السلمية والتي تحض على مكارم الأخلاق ومعاملة الناس بالحسنى، كما زعموا أن تلك الآية تلزم المسلمين بشن حرب لا هوادة فيها على المشركين أي على سائر البشر ما عدا المسلمين، ولقد ترتب على ذلك أن قسموا العالم إلى دارين دار إسلام ودار حرب، وجعلوا من أنفسهم حربا على كل من خالفهم؛ أي على البشرية جمعاء وذلك بدلا من أن يكونوا خير أمة أخرجت للناس أمة داعية إلى الخير والسلام آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر، ولما فرَّق المسلمون دينهم وصاروا شيعا ضمت كل شيعة من خالفهم إلى أولئك المشركين، ومنذ ظهور الإسلام إلى الآن فقد كانت حروب طوائف المشركين المحسوبين على الإسلام فيما بينهم أكثر وأشد ضراوة من الحروب التي شنها الآخرون عليهم.
فالآية وردت في سياق الحديث عن المشركين المحيطين بمكة والمدينة إذ كان لابد من حسم أمرهم إن أريد للإسلام أن يبقى فلقد كانوا قبائل مقاتلة شرسة لا انضباط لديها ولا عهد لها ولا أيمان لها ولا يمكن أن يؤمن جانبها، وهم لم يؤمنوا إيمانا حقيقيا وإنما أذعنوا انتظارا لأية فرصة يهتبلونها، وقد كانوا لا يرون في الإسلام إلا حيلة ابتدعتها قريش لبسط سيادتها على سائر العرب مثلما رأت قريش من قبل أنه حيلة دبرها بنو هاشم للسيطرة علي مكة، وإن سياق وسباق الآية ليقطع يقينا بذلك ويبرر الأمر الصادر في الآية، فالآيات تتحدث عن عهود مبرمة وبشهور محددة وبأجل مضروب، فلكل ما سبق بيانه لم يكن من الممكن ترك تلك القبائل لتمثل قنابل موقوتة في جسد الأمة الوليدة التي تتهيأ للتصدي للدول العظمى الموجودة آنذاك والتي ثبت أنها تتربص بها الدوائر.
فالآية تتحدث عن ظروف استثنائية وهى تتضمن أحكاما خاصة بهذه الظروف، ومع ذلك فإنها تؤكد أنه بمجرد إسلام المشركين –ولو إسلاما ظاهريا- فانه لا سلطان لأحد عليهم، ولقد انتهت الآية ببيان أن الأمر كله خاضع لمقتضيات الاسم الإلهي الغفور الرحيم.
والآية تبين أنه بالنسبة لقوم نبي مرسل فإن إعلان التبرؤ من الشرك هو في الحقيقة توبة، ذلك لأن إصرارهم على الكفر بعدما تبين لهم الحق هو أفدح ذنب، فقوم الرسول النبي ملزمون بالإيمان به من بعد أن جاءهم بالبينات وإلا فسيعرضون أنفسهم للهلاك العاجل، أما إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فهما بمثابة إعلان الانتماء إلى الأمة المؤمنة، وهما من وسائل زيادة تماسكها وتقوية بنيانها.
وهذه الآية تبين ماذا كان مطلوبا من قوم النبي، وما هو مطلوب منهم كان هو الإسلام بمعناه الظاهري الذي لا يستلزم بالضرورة إيمانا، وهذا الإسلام له أركانه الثلاثة المذكورة، والتي تمثل بالنسبة لقوم النبي من العرب والأعراب بطاقة الهوية التي تعني الانتماء إلى الأمة، وهي التوبة من عبادة الأصنام بالتلفظ بالشهادة، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
فالإسلام الظاهري (Restricted or limited or superficial or minor or formal Islâm)، هو جماع ما يعلن به الإنسانُ من الناحية الظاهرية على الأقل انتماءَه للأمة المؤمنة المسلمة ومسالمتَه لها وولاءَه لها، وفيه قال تعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} التوبة5، {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }التوبة11، {قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} الحجرات: 14، {وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} آل عمران20، وهو يتضمن الأركانَ الخمسة المعلومة ولا يتضمنُ بالضرورة إيمانا أو إحسانا، وهو الإسلام الذي كان قومُ الرسولِ مطالبين به، وبه يكتسب المرءُ الهوية الإسلامية؛ أي يكون من حقه أن يكون عضوا في الأمة الإسلامية،  ويكون له كافةُ حقوقِ المسلم ولو كان يخفي نفاقا عريقا، ولكنه يكون أيضا ملزما بما عليه من واجبات، ومثلُ هذا لا يجوز إخراجه من الجماعة المؤمنة وإن كان يجب أخذُ الحِذْرِ منه وجهادُه بالقرءان.
فالالتزام بالأركان الثلاثة المذكورة في آية التوبة كان في العصر النبوي بمثابة بطاقة هوية لكل من ينتمي إلى الأمة، لذلك يجب مؤاخذة من لا يلتزم بها في حالة وجود تلك الأمة وامتلاكِها لمقدراتها ووجود ولاة أمر لها منها، ومن الجلي أن إسلاما كهذا لا يضمن النجاة لصاحبه، أما من اعتنق هذا الإسلام رغبةً في الاهتداء وليس نفاقا أو على سبيل التقية فإنه بقيامه بأركانه وحرصه على العمل بما فقهه من كتاب الله سيدخل الإيمان في قلبه شيئا فشيئا ويصبح مؤهلاً ليكون مسلما بالمعنى الحقيقي
والآيات رغم أنها تتحدث عن أحكام خاصة إلا أنه إذا ما توفرت ظروف مشابهة لما تحدثت عنه الآيات مثل نشوء أمة مؤمنة وليدة تعاني من الاعتداءات المتكررة من الآخرين، وتخشى على نفسها من تربص المشركين بها والذين دأبوا على نقض العهود والمواثيق أن تعلن البراءة منهم وأن تحذرهم من العواقب الوخيمة لأفعالهم فإن لم يُجْدِ كل ذلك نفعا وظلوا متشبثين بسياساتهم العدائية تجاه الأمة المؤمنة فعليها أن تعلن الحرب عليهم، وهذا يعني أنه لا يجوز لأحد أن يتولاهم ولا أن ينحاز إليهم، ومن المعلوم أن ذلك يُعتبر في القوانين العصرية من أعمال الخيانة العظمى.
أما إذا كانوا لم يقاتلوا المؤمنين ولم يخرجوهم من ديارهم وأموالهم ولم يظاهروا عليهم أحدا فعلى المسلمين أن يبروهم وأن يقسطوا إليهم وأن يعاملوهم وفق منظومة القيم الإسلامية التي هي أرقى منظومات القيم الإنسانية.
ولكن ليس من حق إحدى الطوائف المحسوبة على الإسلام أن تشهر هذه الآيات كسلاح ضد الطوائف الأخرى المحسوبة على الإسلام، وحتى بالنسبة لأتباع دين الحق عليهم أيضا أن يضعوا في اعتبارهم نظرة الآخرين إليهم وأن يلتزموا دائماً بالجنوح إلى السلم.

فآيات سورة التوبة لا تعطي الشرعية لأي أحد ليقاتل الناس حتى يؤمنوا، والاعتداء على الآخرين هو كبيرة من كبائر الإثم التي لا يحبها الله، فالعدوان محرم تحريما باتا، كما أن القتال ليس وسيلة شرعية للدعوة إلى الله تعالى، وهو لا يكون مشروعا إلا ردا لعدوان أو الدفاع عن الأوطان (الديار والأهل والأموال) أو لنجدة المستضعفين المضطهدين في دينهم.
*****

هناك تعليق واحد: