الصلاة والتسليم على النبي
قال
تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} الأحزاب56
إنه
من أركان الدين أن يؤمن الإنسان بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ من
حيث أنه خاتم النبيين والمبعوث رحمة للعالمين، وهذا يقتضي أن يقر بعظمة قدر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وألا ينكر أي فضل منسوب إليه طالما لم يناقض ذلك شيئا مما ورد في الكتاب العزيز،
كما ينبغي عليه وأن يوقره توقيرا يفوق توقير المسلمين في العصر الأول، ذلك لأن
خلقه العظيم وحياءه وحرصه على نقاء العقيدة وظهور بشريته كل ذلك ربما جرَّأ عليه
بعض الأعراب الذين لم يعرفوا قدره فحدثت منهم في حقه بعض التجاوزات أو ربما أساء
بعضهم الأدب معه كما ورد في الكتاب أو على الأقل لم يوقروه التوقير اللازم، أما
الآن فلا عذر لمسلم ولا ينبغي أن يقصر في هذا الأمر، إن المسلم بذلك إنما يؤدى ما
أمره الله تعالى به، ويجب علي المسلم أن يعرف سيرته وأن يتأسى بهديه وأن يثني عليه
بالفضائل الحقيقية والأخلاق العظيمة التي اتصف بها والبطولات الهائلة التي أظهرها
والإنجازات الرائعة التي حققها، وعليه أن ينزهه عن أوهام القصاص ورواة الموالد،
ومن لوازم هذا الركن الديني أن يداوم الصلاة والسلام عليه، فالصلاة والسلام عليه
بأية صيغة يكون فيها تعظيم لقدره وبيان لفضله وعلو شأنه أمر واجب بل هي من أفضل
الوسائل لتزكية النفوس، ولقد دأب بعض المجتهدين الجدد على الطعن في هذا الأمر
والتشكيك فيه، دون أن يحيطوا علما بحقيقة الأمر!
وللقيام
بحقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ
يجب إنصافه وتبرئته من كل المرويات الشائعة والمقررة والتي وضعت للنيل من قدره
وللتطاول عليه وللسخرية من غفلة المسلمين.
والصلاة
عليه تؤدي إلى إحداث آثار كونية حقيقية إذ يترتب عليها إيجاد كيانات لطيفة تشكر
لمن كان سبباً لوجودها وتستغفر له ويترتب على ذلك جلاء وجه قلبه وتنزل الرحمات
عليه واكتسابه استعدادات لتلقي مزيد من الكمالات.
والصلاة
على النبي هي
من لوازم ركن ديني ملزم، هذا الركن هو: "الإيمان بمحمد كخاتم للنبيين والقيام
بحقوقه، والعمل على إقامة صلة وثيقة به"، والتوجه إلى الله تعالى بالصلاة على
النبي هو كالتوكل على الله وتفويض الأمر إليه، وهو إقرار من المؤمن بعجزه عن
القيام بأمر الصلاة عليه، والوفاء بما هو للنبي من حقوق على العالمين من حيث كونه
مرسلا رحمة للعالمين، ولقد أمر الله تعالى عباده بأوامر كثيرة من حيث أنه لديهم
الإرادة الحرة والاختيار، ولا شيء عليهم إذا أقروا بعجزهم له وفوضوا أمورهم إليه،
بل إن ذلك هو عين العبودية! فالمؤمن الحق هو الذي يستطيع أن يقول لربه صادقا: إني
فقير إليك، عاجز عن القيام بأوامرك، وقد فوضت إليك الأمر، وقد اخترت ما اخترته أنت
لي!
والمسلم
يجب أن يؤدي بحضور تام وباستشعار أن النبي معه فيصلي ويسلم عليه كأنه حاضر معه،
ويترتب على ذلك أن يتشرف الإنسان بالمعية المحمدية فيحظى بشفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ويجد آثارها في حياته الأولي وفي الآخرة.
فالصلاة على النبي هي سعي من المؤمن
لإقامة صلة وثيقة به، ومن وسائل ذلك الحرص على التأسي به في ذكره لربه ورجائه إياه
وذكر الصيغ اللسانية المعلومة للصلاة عليه، وتوجه المسلم إلى ربه بالصلاة عليه هو
إقرار بعجزه عن القيام بهذه الصلاة القيام الأوفى، فهو من باب تفويض الأمر إلى
الله تعالى، وهذا ما لم يدركه بعض المجتهدين الجدد وشنعوا على سائر المسلمين
بسببه، هذا مع أن تفويض الأمر إلى الله هو من الأوامر القرءانية ومن عناصر دين
الحق ومن أركان منظومة الصفات الإسلامية.
إن
الأمر بالصلاة على النبي يعني الأمر بالعمل على إقامة صلة به، وهذا يتضمن دعمه
وتأييده ومناصرته هو والرسالة التي حملها من ربه إلى الناس كافة، والتوجه إلى الله
تعالى ليصلي عليه هو من لوازم هذا الركن الديني الملزم.
أما
الأمر بالتسليم على النبي فهو يعني القبول به وبالرسالة التي أتي بها بامتنان
وعرفان وإقرار بالفضل وعدم منازعته في أي شيء يتعلق بها، وذلك أيضا من لوازم
القيام بهذا الركن، والطلب من الله أن يسلِّم عليه هو لنفع العبد المسلِّم، والله
تعالى يسلم بالفعل على الصفوة من عباده المرسلين.
وصلاة
المؤمنين علي النبي تتضمن كل سعي منهم لإقامة صلة به ويترتب عليها استمدادهم منه،
ولقد كان السماح بها فضلاً إلهياً على هذه الأمة، وهي تقوم بهذا الواجب بالنيابة
عن البشرية جمعاء
أما من يسيء الأدب مع خاتم
النبيين زاعما أنه بذلك غير واقع في الشرك فقد جمع إلى شركه الأصلي الذي هو مغمور
فيه ما يوجب قطع الصلة بينه وبين خاتم النبيين، ولن يفلح بذلك أبدا، بل يُخشى عليه
من سوء الخاتمة.
وهو بذلك تمرد أيضا على الأمر
الإلهي بالتسليم عليه وله.
ويجب العلم بأنه لا حرج في ترديد
الأذكار بصيغة الماضي، فلا مشكلة في القول: "صلى الله على النبي وسلَّم"
بمثل ما أنه لا مشكلة في أن تقول لأحد الناس: "غفر الله لك"، فهذه صيغ
دعاء، واستعمال صيغة الماضي تتضمن الثقة بأن الدعاء مقبول، وهذا من آداب الدعاء،
ومن يفقه اللسان العربي يعلم أن:
"صلى الله على النبي
وسلَّم" = "صلى الله على النبي وسلَّم عليه".
*******
التسليـم
إن الله تعالى هو السلام، وهو بذلك مصدر السلام، وهو
الذي يحقق في الأكوان التي خلقها الاتساق والانسجام، وهو مصدر الشعور بالطمأنينة
عند بني الإنسان، فكل إنسان يدرك في أعماق نفسه أن هناك من يمكنه الركون إليه
والاعتماد عليه عند الشدائد والمحن.
والله تعالى يلقي أيضا السلام على من شاء من عباده،
فيمنحهم بذلك الأمن والطمأنينة الداخلية، فلا يرتابون أبدا في أنه سينجيهم
وينصرهم.
ومن السلام المنسوب إلى الله تعالى ما أنعم به على كل
المرسلين، قال تعالى:
{وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} الصافات181، {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ
وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ}النمل59،
{وَالسَّلاَمُ
عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:33]
وهو الذي أمرنا كما تبين الآية بالتسليم عليهم، فالقول: "سَلِّمَ" عليهم يعني اتباع سنة إلهية؛ أي هو محاكاة للفعل الإلهي
وتذكره، فهو الذي يسلم على عباده الذين اصطفى، وهو عمل بأمر إلهي ودعوة مستجابة في
حق الرسل، أما المنتفع بالتسليم على المرسلين فهو المسلِّم نفسه، وهو لذلك ملزم
أيضاً بإعطائهم السلام من نفسه، فيجب أن يتجنب الشقاق والمنازعة معهم وأن يكف عنهم
شر نفسه الذي لن يضر غيره.
والتسليم يؤدي إلى السلام كما يؤدي التطهر إلى الطهر
والتذكر إلى الذكر.
والفعل "سَلَّمَ" في القول "صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ"، له
معانٍ عديدة، فهو أولا إقرار بما هو حق للنبي من حيث أنه رسول، وهو توطين للنفس
على الإيمان بأنه رسول، وهو اتباع لسنة إلهية؛ أي هو محاكاة للفعل الإلهي وتذكره،
وهو عمل بمقتضى الأمر القرءاني الوارد في الآية: {إِنَّ اللَّهَ
وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} الأحزاب56، وهو أيضاً إعطاء المسلم للرسول السلام من نفسه، فهو يتجنب
بذلك الشقاق والمنازعة معهم ويكف عنه أذاه وشر نفسه الأمارة بالسوء، وكل ذلك
لمصلحة المسلِّم؛ فهو المنتفع الأساسي بالتسليم على الرسول.
فطوبى لمن تولوا الرسول وعملوا على توثيق صلتهم به وصلوا
وسلموا عليه طبقا للأمر الإلهي، والصلاة عليه تتضمن اتخاذه إماماً واتِّباعه،
والسلام عليه أن يكف المرء أذاه عنه وأن يكون سلما له، فهم ملته الحقيقية وحزبه.
إن
الأمر بالصلاة على النبي يعني الأمر بالعمل على إقامة صلة به، وهذا يتضمن دعمه
وتأييده ومناصرته هو والرسالة التي حملها من ربه إلى الناس كافة، والتوجه إلى الله
تعالى ليصلي عليه هو أمر قرءاني ملزم، وهو يتضمن إقرارا من المسلم بعجزه عن القيام
بما للنبي الخاتم من حقوق عليه، أما الأمر بالتسليم للنبي فهو يعني القبول به
وبالرسالة التي أتي بها بامتنان وعرفان وإقرار بالفضل وعدم منازعته في أي شيء
يتعلق بها، وذلك أيضا من لوازم ركن ديني ملزم يتضمن كل ما يجب على المسلم القيام
به تجاه أعظم الرسل وخاتم النبيين، وترديد الصيغ المعلومة للصلاة على النبي هي
كالدعاء والاستغفار وكل الأذكار اللسانية، فهي تمارين ورياضات روحانية وجدانية
للرقي بالإنسان على المستوى الجوهري.
أما
تسليمك عليه فيعني بالإضافة إلى إلقاء السلام أن تكفيه شر نفسك الذي لن ينالَ منه
أصلا وعدمِ منازعته أو التهوين من قدره وألَّا تحاول تعمد إيذائه كما يفعل أكثر
المغضوب عليهم من أتباع المذاهب السلفية
وأكثر المجتهدين الجدد.
ولقد نص القرءان على أن الله تعالى
ألقى السلام على المرسلين وعلى أصحاب الجنة وعلى عباده المصطفين والمؤمنين، وإلقاء
السلام من رب العالمين على طائفة من الناس هو أمر فوق تصورات ومفاهيم البشر، فهو
مثله مثلُ صلاته عليهم من الأمور المتشابهات لا يُعرف كنهها وإنما تُعرف آثارها
ومقتضياتها، ومن آثارها الثقة بالله تعالى واطمئنان القلب إليه والسلام الداخلي
والحياة الطيبة.
ومن معاني القول: "سلَّم
عليه": ألقى السلام عليه، وهذا دعاء للمخاطب أيضا بالسلام، ومن الأوامر
القرءانية أن يسلم المؤمن على عباد الله الذين اصطفى، وأن يسلم على خاتم النبيين،
والتسليم على النبي يتضمن أن تلقي السلام إليه وأنت تكف أصوات نفسك وشيطانك عنه،
وألا تنازعه فيما هو له وفي المكانة التي ارتضاها ربه له، وأن تسلم بصدق ما جاءك
به.
وعلى المستوى الوجودي فمحمد الرسول هو
بعينه محمد النبي، لذلك فالمؤمنون مطالبون بأن يصلوا عليه ويسلموا تسليما في كل
أحواله ومراتبه، أما في القرءان فالخطاب الموجه إليه من حيث هو رسول ليس كالخطاب
الموجه إليه من حيث هو نبي، فللأوامر القرءانية مراتبها ودرجاتها.
أما
من يسيء الأدب مع خاتم النبيين زاعما أنه بذلك ينأى بنفسه عن الشرك فقد جمع إلى
شركه الأصلي الذي هو مغمور فيه ما يوجب قطع الصلة بينه وبين خاتم النبيين، ولن
يفلح بذلك أبدا، بل يُخشى عليه من سوء الخاتمة.
ومن حيل الشيطان أن يحمل الناس على إساءة الأدب مع النبي
وعلى رفض القيام بما له من الحقوق بحجة أن ذلك مقاومة للشرك، هذا مع أن المتبع
لدين الحق يعلم علم اليقين أن النبي هو العبد المحض المطلق لله تعالى، وأنه ما
استحق أعلى مرتبة من مراتب الكمال إلا لكونه كذلك، فهو عبد الله
من حيث ذاته ومن حيث كافة أسمائه وسماته، لذلك فهو المقصود بالأصالة بالمصطلح
"عبد الله"، وهو المقصود بالأصالة بالمصطلح "عبده" أينما ذُكر
مجردا في كتاب الله العزيز.
إنه لن يفلح مسلم ليس له ورد يومي من الصلاة والتسليم
على النبي، لا تستمعوا إلى أمثال هؤلاء.
*****
قال تعالى:
{قُلِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ
أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)} النمل
وقال:
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ
(181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} الصافات
فالمسلم
مأمور بأن يسلِّم على عباد الله الذين اصطفاهم، وهو بذلك يتبع سنة إلهية، فعليه أن
يقوم بهذا الأمر بقدر وسعه، وعليه أيضًا أن يفوض الأمر إلى ربه وأن يوكله في
القيام عنه بهذا العمل، فهو مأمور بأن يتخذ ربه وكيلا.
ومثلما
أذن الله لعباده المؤمنين أن يقولوا نيابة عنه: "سمع الله لمن حمده"،
فلهم أن يفوضوا الأمر إليه وأن يتخذوه وكيلا في القيام ببعض ما أمرهم به مثل
الصلاة على النبي والتسليم عليه وعلى عباده الذين اصطفى.
*****
دأب بعض المشايخ وتابعهم المجتهدون الجدد في السخرية من الأذكار
اللسانية التي يلتزم بها المسلمون في حياتهم، وقال بعضهم: "إذا كان ذكر الله
يعني ترديد أسمائه فإن ذكر نعمته يعني أن يذكر الإنسان أسماءها فيقول مثلا: لحم،
خبز، تفاح... الخ" وقالوا: إذاً فيجب أن تكون الاستجابة للآية {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} آل عمران200 القول: "صبرنا وصابرنا وربطنا واتقينا
الله، ونكررها مرات كثيرة ونجعلها ورداً يُذكر صباحاً ومساء"! وقالوا: إذًا
يجب أيضاً أن تكون الاستجابة للآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ
تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} الأنفال20 القول: "أطعنا الله
ورسوله"، وتكرارها غناء وإنشاداً، وجعلها ورداً يُذكر في الصباح والمساء!
وكذلك استهجنوا أن تكون الاستجابة للآية {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} الأحزاب56 القول
لفظاً: "اللهم صلِّ على النبي وسلم تسليماً"
لذلك يجب العلم بما يلي:
1.
أوامر القرءان موجهه إلى قوم
يسمعون ويفقهون ويعقلون.
2.
لكل أمر مجاله الخاص الذي تبينه
آيات القرءان، ولكل مصطلح معناه الذي تبينه أيضا آيات القرءان، ولا يجوز الخط بين
الأمور.
3.
لا يجوز لأحد إهمال فحوى آيات
القرءان ولا مقتضياتها.
4.
لا يجوز الانحياز إلى معنى ممكن
للأمر القرءاني على حساب معنى آخر، فكل المعاني الممكنة للأمر متسقة متماسكة،
فالذكر اللساني لأسماء الله لا يتعارض مع ذكر القلب له بل هو من الوسائل إليه،
ويجب تذكر دائماً أن الوسيلة لا تغني عن الغاية.
5.
ذكر الله هو الإحساس القلبي الصادق
بحضوره بذاته وأسمائه، وتسمية ترديد الصيغ اللسانية التي ترد فيها أسماؤه بالذكر
هي من باب تسمية الشيء بمآله، فمن يوطن نفسه على الذكر المنتظم لبعض الأسماء مع
محاولة التركيز والتفكر فيما يردده بلسانه من وسائل التحقق بهذا الذكر.
6.
الأذكار اللسانية هي من مقتضى
الوصول بالإنسان إلى كماله من حيث أنه كائن ناطق، فمن يكرر صيغ حقانية يرقى بذلك
لكونها تشير إلى حقائق إلهية وكونية، فالنطق من قوى وإمكانات الإنسان التي هو ملزم
بأن يزكيها بذكر الله وذكر نعمه وسننه لا أن يدسيها باللغو أو بالفاحش أو بالباطل
من القول.
7.
إقامة صلة وثيقة بالله تعالى هي من
أركان الدين الجوهرية، وهي تستلزم أقوالا وأعمالا عديدة، ومن هذه الأعمال التوجه
إليه بالدعاء في كل حال، ولقد علَّم الله تعالى الناس بما ذكره في القرءان كيف
يدعونه بذكره صيغ الدعاء التي توجه بها إليه عباده المصطفون الأخيار.
8.
أصل معنى الصلاة واحد وهو عمل
اختياري من كائن لإيجاد صلات له بكائن آخر لتحقيق مقاصد معينة، ثم بعد ذلك يعتمد المعنى
على حقيقة الطرفين، فصلاة الله على الناس يترتب عليها إخراجهم من الظلمات بكل
معانيها الممكنة إلى النور بكل معانيه الممكنة، ومن مظاهر هذه الصلاة إرسال الرسل،
فهم رحمة لمن أرسلوا إليهم، أما خاتمهم فهو رحمة للعالمين بما فيهم الناس كافة.
9.
أما صلاة الله على النبي فلها
بالإضافة إلى معانيها العامة معانٍ خاصة، ومنها مد يد العون إليه والالتزام بنصره
وتأييده ومن وسائل ذلك مثلا التأليف بين قلوب المؤمنين رغم ما كانوا عليه من تعصب
قبلي مقيت.
10.
وصلاة الملائكة على النبي هي
إقامتهم لصلات به يترتب عليها أن تعمل القوانين والسنن الكونية لصالحه ولصالح
دعوته فيتحتم انتصاره، وهذا ما تحقق رغم أنه بدأ فردا في مواجهة أشرس مجموعة من
البشر، وفي مواجهة قوى عظمى متسلطة لم يكن يوجد من يتصور إمكان الخلاص منها في ذلك
العصر!
11.
أما الصلاة التي يجب على المؤمنين
أن يقيموها فتشمل ما سبق الإشارة إليه من وجوب أن يعملوا على إقامة صلة وثيقة
بالله وأن يعملوا على دعمها وترسيخها، والصلاة بصورتها المعلومة هي من الرموز
المكثفة لما يلزم لذلك، وكل أوامر القرءان هي من لوازم ذلك، ومنها إقامة صلات مع
المؤمنين ومع البشرية جمعاء.
12.
وصلاة النبي على المؤمنين هي بالإضافة
إلى ما يجب على المؤمن بصفة عامة تجاه المؤمنين الآخرين هي أيضا من لوازم كونه
نبيا مرسلا، فهو يقيم صلات بهم من حيث ذلك يمدهم من خلالها بما يطمئمن قلوبهم
ويهدئ من جيشان نفوسهم.
13. "المصلون" المذكورون في سورة الماعون الذين تتوعدهم
السورة بالويل هم المصلون المراؤون، أي المصلون ظاهريا فقط، أما على المستوى
الجوهري فهم يكذبون بالدين، بكل ما يعنيه ذلك، ومن المعاني الجزاء الأخروي، فهم لا
يؤمنون فعليا باليوم الآخر، ويحيون بمقتضى ذلك، فهم ساهون عن حقيقة الصلاة وعن
ضرورة إقامة صلة وثيقة بالله، وتصدر عنهم أفعال مصدقة لذلك، فأعمالهم الخارجية
تكشف تكذيبهم بالدين وتعمدهم مخالفة أوامره، فمن يرائي بشكليات الصلاة هو بالفعل
يجعل للناس مكانة في قلبه أعلى من مكانة ربه، وربما لم يكن له في قلبه أية مكانة!
وكثير من الناس أساؤوا فقه هذه السورة وقدموا مثالا تقليديا لخطورة انتزاع القول
من سياقه ونظمه وتفسيره بمعزل عنه وعن القرءان بصفة عامة.
14.
الصلاة المعلومة هي حشد مكثف من
الأقوال والأفعال التي ترمز إلى حقيقة الصلات بين العبد وربه.
15.
وبذلك فإن معنى الصلاة كمصدر أو
فعل إنما يتحدد ويتعين بالسياق القرءاني مع الالتزام بالمعنى المشار إليه وهو جماع
الصلات الممكنة بين كائنين أو أكثر.
16.
الصلاة على النبي هي سعي من المؤمن
لإقامة صلات مع النبي من حيث أنه نبي، وهذه الصفة تعني ذاته وكيانه كبشر على صلة
بالعالم القدسي الغيبي، فهذه الصلة هي أمر آخر غير طاعة الأوامر الواردة في
الرسالة.
17.
الصلاة اللفظية أو اللسانية على
النبي هي لتوطيد الصلة بالنبي على المستوى الجوهري، فالمؤمن لا ييأس من النبي كما
يئس الكفار والمجتهدون الجدد والسلفية من أصحاب القبور.
18.
الاستجابة للأمر بالصلاة على النبي
بالطلب من الله تعالى أن يصلي على النبي ليست من باب العبث وإنما هي من باب الأدب
والإقرار بالعجز عن كيفية القيام والعمل بمقتضى هذا الأمر، والاستجابة من الله لها
هي بتحقيق المطلوب بقدر إخلاص المصلي وهمته، ولمن يقولون إن هذا الدعاء هو بمثابة
تحصيل الحاصل لأن الله يصلي بالفعل على النبي فجوابنا هو أن كل الأذكار التي
يرددها الإنسان هي من باب تحصيل الحاصل، فمن يقول "لا إله إلا الله" فهو
إنما يردد حقيقة ثابتة، ولكن هذا الترديد قد جعله الله وفقا لسننه من وسائل نجاة
الإنسان وتزكيته والرقي به.
19.
ولا شيء في أن يطلب المؤمن من ربه
أن يسلم على النبي، فالله تعالى يسلِّم بالفعل على النبي وعلى عباده الذين اصطفى،
فكأن المؤمن يدعو ربه أن يبلغ النبي سلاما منه، فهذا من وسائل التقرب إلى الله
تعالى وتوطيد الصلة برسوله، والمنتفع هو المؤمن، ومعنى الفعل بالعربية مرتبط بحرف الجر التالي له،
والعربي بالسليقة يعرف الفرق بين "سلَّم على فلان" وبين "سلَّم
لفلان" أو "سلَّم إلى فلان.
20.
المسلم مأمور
بأن يسلِّم على عباد الله الذين اصطفاهم، وهو بذلك يتبع سنة إلهية، فعليه أن يقوم
بهذا الأمر بقدر وسعه، وعليه أيضًا أن يفوض الأمر إلى ربه وأن يوكله في القيام عنه
بهذا العمل، فهو مأمور بأن يتخذ ربه وكيلا، ومثلما أذن الله لعباده المؤمنين أن
يقولوا نيابة عنه: "سمع الله لمن حمده"، فلهم أن يفوضوا الأمر إليه وأن
يتخذوه وكيلا في القيام ببعض ما أمرهم به مثل الصلاة على النبي والتسليم عليه وعلى
عباده الذين اصطفى.
*****
يعتبر القرءانيون والمجتهدون الجدد من فتوحاتهم الكبرى
إبطالهم ما دأب عليه المسلمون من الصلاة والتسليم على الرسول بالصيغ اللفظية
المعلومة، ومنها مثلا الصلاة الإبراهيمية، ويقولون ما معناه: "إن الله يأمرك
بالصلاة على النبي وليس بأن تطلب أنت منه أن يصلي عليه خاصة وأنه يصلي عليه
بالفعل"، وهم يقصدون إنه لا معنى لصيغ الصلاة اللفظية وأنها تحصيل حاصل،
وللصلاة بالفعل معان جليلة، ولكن لا حرج على المسلم في أن يسأل الله أن يصلي على
النبي، وذلك منه تفويض إلى الله أن يقوم عنه بما هو أعجز عن القيام به، فهو عبادة
متضاعفة، وكل صيغ الذكر هي في الحقيقة تحصيل حاصل، وهي لن تنفع الله في شيء، وهي لن
تنفع الرسول في شيء، وإما المنتفع هو الذاكر نفسه، أمثلة:
1. من يقول "لا إله إلا الله"، لن يغير شيئا من الحقيقة، فقوله
تحصيل حاصل، فهو لم يجعل آلهة متعددة إلها واحدا، وإنما هو يطهر نفسه من توهم ذلك،
ويبرمج نفسه وكياناته على تلك الحقيقة فيتصرف بمقتضاها.
2. من يقول "الله أكبر" استجابة للأمر القرءاني: {وَكَبِّرْهُ
تَكْبِيرًا} لن يغير شيئا في الذات الإلهية، وإنما هو يبرمج نفسه وقلبه على حقيقة
أن الله أكبر من كل مخلوقاته، فتكون له بذلك المكانة الكبرى في قلبه، فلا يقصد
بأعماله إلا وجهه.
3. من
يطلب من الله تعالى أن يصلي على النبي كاستجابة للأمر بأن يصلي هو عليه إنما يفوض
الأمر إلى ربه ويوكله، وهذه دعوة مستجابة ومحبوبة.
*******