الجمعة، 25 مارس 2016

فاطـــر 19-26

فاطـــر 19-26
{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)}
المتقابلات المذكورة لا تستوي، مَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ، وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ، وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ، وفي ذلك ردّ مسبق على من سيقولون من بعد بوحدة الوجود، فيقولون بأن الليل عين النهار والمؤمن عين الكافر والرب عين العبد.
والأموات هم الذين في غفلة وضلال مبين، فهم الأموات على المستوى الجوهري المشار إليه في الآية:
{أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون} [الأنعام:122]
فإطلاق الاسم "ميْت" على الضال الغافل ليس مجازا، وإنما هو أمرٌ حقيقي.
ومن في القبور هنا هم الذين لا يستطيعون أن يسمعوا السمع الحقيقي الجوهري؛ أي السمع القلبي المشار إليه في آياتٍ قرءانية عديدة، هذا السمع القلبي يعني الإدراك والفقه وإبداء الاستجابة المناسبة، فهو الفقه الباطني الذي أداته ومحله القلب الإنساني والذي يقتضي الاستجابة السليمة، فالسمع القلبي هو للكيان النفسي الجوهري كالسمع المعلوم بالنسبة للجسم المادي.
والسمع القلبي يترتب عليه إدراك الكيان الأمري في الصوت المادي أي إدراك المعنى في المبني وإدراك مقصد المتكلم أو مصدر الصوت، والسمع هو عين الإدراك والفقه والفهم والاستجابة الصحيحة، ومن الآيات التي وردت فيه:
{وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}النحل65، {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}الأنعام36، {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}البقرة171، {وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ }الروم53، {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ} السجدة26.
فالرسول ليس بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ مثلما أنه لا يهدي من أحبَّ كما قال له ربه، فهو نَذِيرٌ، وهو سراج منير، وهو يهدي إلى صراط مستقيم، ولكنه لا يملك إكراه الناس على السير فيه ولا على الإيمان، ولا يملك إسماع الأموات الغافلين.
ولذلك لا يجوز الاحتجاج بقوله تعالى {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} لإنكار عالم البرزخ وما يحدث للأنفس بعد الموت، فالموضوع مختلف تماما كما سبق الإيضاح، والأموات هم الذين في غفلة وضلال مبين، فهم الأموات على المستوى الجوهري، أما الأنفس الحقيقية فلا تتقيد بالقبر بعد الموت، فهي ليست بجسم مادي لتتقيد بالإطار الخاص بعالم الشهاد.
والقول: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} لا يتناقض مع القول: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُون} [يس:6]
والإجابة هي في القول {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}، وفي {لِتُنذِرَ قَوْمًا}، فالنذير لهذه الأمة كان هو، وإلى قيام الساعة سيظل هو النذير الذي خلا فيها، والصالحون الذين أورثوا الكتاب من أمته هم خلفاؤه في أداء مهامه ومنها الإنذار.
أما قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الأَوَّلِين} [المؤمنون:68]
فليس المقصود منه النفي بل التأكيد، فلقد جاءهم بالفعل ما لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الأَوَّلِين مثلما أنهم لَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ فالآية تقول: أَكَفروا بالقرءان لمجرد أنه لم يأت آباءهم الأولين؟ أو لقد جاءهم ما لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الأَوَّلِين وكان من الأولى أن يتدبروه وألا يكفروا بسبب ذلك.
أما تكذيب أكثر الناس للرسل فلا غرابة فيه، إن من لوازم الحقيقة الإنسانية الإرادة الحرة والاختيار، لذلك من الطبيعي أن يظهر في الناس الكفر والإيمان والشرك والإخلاص والطاعة والمعصية، ولا يجوز مطالبة الله تعالى بأن يجرد الإنسان مما هو من لوازم حقيقته، وذلك لا يعني إلا مطالبته بأن يخلق إنسانا غير إنسان.
ولكن كما يترتب الموت على تجرع السمّ فإنه يترتب على تكذيب الناس للرسل تدهورا على المستوى الجوهري يستحقون بسببه عذاب الجحيم.


*****

هناك تعليق واحد: