لحوم مسمومة ج3
ولقد لمس حشاد مدى تغير نظرة الناس
إليه عندما التحق بالمعهد الديني، وعندما كان يسافر إلى قريته كان لا يمل من
استعراض معلوماته عليهم، كان يستدرج الناس للدخول في جدال بخصوص موضوعات دينية أصبح
متمكناً منها، كان يبزهم بكمية محفوظاته التي يجيد توظيفها لإبهار الآخرين، اكتسب
مكانة كبيرة عندهم، وجد من كانوا يستمتعون بصفعه على قفاه أو لطمه على خديه يقبلون
يديه وربما قدميه، لقد عرف الطريق للوصول إلى أعلى درجات الوجاهة والثراء، يجب ألا
يسمح لأي شيء أن يجعله يحيد عنه قيد أنملة، عليه هو نفسه ألا يتلكأ في سيره، عليه
أن يسير بأقصى ما يستطيع من سرعة، وعليه أيضًا أن يوسع نطاق الإعجاب به والطلب
عليه.
لكل ذلك لم يكن يكتفي بما كان يلقيه
عليهم المشايخ في قاعات الدراسة، كان يتودد إلى بعض المشايخ الطيبين لكي يجودوا
عليه بالمزيد من المعلومات في مواضيع ذات صلة بما يدرسه من مناهج، كان هؤلاء
بالطبع يسعدون به وبحرصه على العلم ولا يبخلون عليه بأي شيء يطلبه بل ويبادرون إلى
إرشاده إلى ما يشبع طموحاته.
أدرك جيدًا مدى قوة تأثير الدين على
الناس، إنه مرتبط بذكريات آبائهم وطفولتهم، إن تعصبهم له أقوى بكثير من رغبتهم في
العمل به، ولكنهم يعانون بالطبع من الضعف البشري، وهم يعتبرون أن فشلهم في العمل
بالدين سيجلب عليهم العذاب الأليم في الدنيا والآخرة، سبب ذلك لهم نوعا مما يمكن
تسميته بالمازوشية الجماعية، وتعويضا عما يظنونه تقصيرا هائلا منهم في حق الدين لم
يكن أمامهم إلا سلوك الطريق الأسهل؛ أركان هذا الطريق هي:
الاستمتاع بسماع من يندد بقصورهم في
العمل بالدين، سكب الدمع الهتون إظهارا للتقصير، التعصب الشديد له، التعصب الشديد
لكل رموزه ولمن جعلوا من أنفسهم رموزا له، تقبل كل ما يُلقى عليهم كأمر ديني أو
معلومة دينية بدون أدنى نقاش، تقديس المؤسسة الدينية وطلب مضاعفة سلطاتها عليهم، التعصب
ضد كل ما يقول لهم المشايخ إنه خطر على الدين، كان هذا الخطر يتمثل لدى المشايخ
ليس فيما يهدد الدين أو مصالح الناس بل فيما يهددهم هم أنفسهم، وما يهددهم هو كل
ما يختلف عن مذهبهم، ولذلك أصبح لهم طابور من الأعداء والاتجاهات يشمل ما لا حصر
له من الأديان الأخرى والمذاهب الإسلامية الأخرى والاتجاهات الاجتماعية والسياسية
والاقتصادية، فضلا عن كل رموز الثقافة والفلسفة والأدب والفن.
كان العامة يجدون راحتهم في أن يجدوا
من يتملق عقدهم النفسية ويداعب غرائزهم ومركبات النقص لديهم ويزودهم بما يجعلهم
يتطاولون على نجوم المجتمع والشخصيات العامة ويسلقونهم بألسنةٍ حداد، وبذلك أدرك جيدا
من هم جمهوره الحقيقيون؛ إنهم قطعان الجهلة المتخلفين، وكذلك الطلبة المراهقون المغيبون،
عرف نفسياتهم جيدا بنقاط ضعفها وقوتها، وتعلم وأجاد كيف يمكن أن يسخرهم لتحقيق
مآربه.
كما أدرك بغريزته وذكائه أن ثمة عقدا
غير مكتوب بين نظام مبارك الاستبدادي وأجهزته وبين النظام الذي يدافع عنه مشايخه
ممن سبقوه على الدرب؛ بموجب هذا العقد هم لا يذكرون من قريب أو بعيد أي شيء يهدد
جديا هذا النظام، ولكن عليهم أن يشغلوا الناس دائما بما لا جدوى منه ولا طائل من
ورائه، وبذلك أدرك معنى المعارك المفتعلة مع كل شيء والقضايا الخرافية التي يشغلون
الناس بها بين حين والآخر، وتعلم كيف يتربص بالكتاب المشهورين والمثقفين وقادة
الفكر وكيف يتسقط كلامهم ويؤلب الدهماء والغوغاء عليهم.
إن عليه أن يستثمر كل ذلك لصالحه، هو
يعلم جيدا أنه يستند إلى أعتى القوى على الساحة: قوة التعصب الديني لدى العامة
والدهماء، وقوى الجهل والانحطاط والتخلف لدى هؤلاء، وقوة النظام الشيطاني المتسلط
عليهم.
وهكذا انقلبت كل الأمور أمام ناظريه،
لم تعد مقاصد الدين عنده توثيق الصلة بالله وتزكية الأنفس وتنقية الضمائر وتعليم
الناس مكارم الأخلاق بل أصبحت تكريس وترسيخ كل ما يخدم قضيته وقضية طائفته، أي
تكريس الشعور بالنقص والدونية لدى الناس، منعهم من استعمال عقولهم في الأمور
الدينية، حملهم على تقديس السلف وكل الأوهام والخرافات المتعلقة بهم، شغلهم بكل
تافه وشكلي من أمور الدين.
(يتبع)
قصص
ردحذف