الاثنين، 28 مارس 2016

لحوم مسمومة ج2

لحوم مسمومة ج2

أخذت سنوات الدراسة تمضي بهما، تلقيا قدرا هائلا من العلم بالتراث، كان كل ما يريده مبروك مما يدرسه أن يلتقط منه ما يؤدي إلى تزكية نفسه والرقي بذاته وتحسين إمكاناته الحقيقية؛ الذهنية والوجدانية، عندما كانوا يضربون المثل بمن كان متصفا بخلق كريم معين لم يكن يكتفي بإبداء الإعجاب الظاهر بل كان يبادر على الفور إلى السعي إلى التحلي بهذا الخلق، كان يوحي إلى نفسه دائما بهذه الرسالة:
"واجبي أن أقوم بكل وجباتي الدينية وأن أحقق المثل العليا في نفسي قبل أن أشتغل بأمر غيري".
وهكذا كانت أمور العبادة عنده أمورا جادة، يحاول أن يمارسها بكل كيانه وأن يتفاعل معها إلى المدى الأقصى، ولم يكن يغتفر لنفسه أية غفلة أو هفوة، بل كان يحاول أن يجعل من كل أفعاله عبادة يؤديها بأعلى درجة ممكنة من الإتقان.
أما حشاد فلم يجد فيما يقرأ ما يلفت نظره أو يلزمه على تغيير نفسه، كان راضيا تماما عن نفسه ويعرف جيدا هدفه، كان كل همه استيعاب ما يتلقاه والتمكن منه والتفوق فيه، ساعده على ذلك حافظته القوية التي تلتقط بسهولة كل ما تسمعه فضلا عن قدرات تمثيلية هائلة، هو يعلم جيدا أن التمكن من العلوم التي يدرسها هو سبيله ليخرج من العدم الذي يحيا فيه إلى الوجود الحقيقي من وجهة نظره، لذلك تعلم أن ينظر إلى ما يدرسه بحيادية تامة، تعلم كذلك كيف ينحي عقله ومشاعره جانبا، كان يوحي إلى نفسه دائما بهذه الرسالة:
"واجبي هو حفظ واستيعاب كل ما أتلقاه من معلومات والتمكن التام منها، يجب ألا يشغلني أي شيء عن ذلك، في سبيل هذا الواجب يجب تسخير كل إمكاناتي".
وهكذا أصبح دور كل ملكاته هو الوصول إلى أفضل السبل للتمكن مما يتلقاه من معلومات والسيطرة عليها والمناورة بها، لم يكن غريبا إذًا أن يتفوق على كل أقرانه تفوقا شجعه على التمادي فيما هو فيه.
وهكذا أيضاً أصبحت ممارساته الدينية محض أعمال آلية، لقد كان يقتل في نفسه في الحقيقة الوجدانيات والمشاعر والقدرة على الفقه والتفكير السليم، أخذ كيانه الإنساني يتلاشى لحساب صورة يريد أن يبدو بها للآخرين، لم يخطر بباله أبدا وهو يصلي أنه يخاطب إلها حيا عليما بالسر وأخفى وأن الصلاة هي وسيلته لتوطيد صلته به، كان أداء الصلاة بالنسبة له هو منتهى الأمر، هي عمل روتيني يؤديه كما يؤدي أي موظف وظيفته ليحصل على الأجر في نهاية مدة معلومة، كان يستثمر وقت صلاته أيضا في التفكير في خططه المستقبلية أو مراجعة معلوماته الدينية، وهكذا كان صوم رمضان مجرد امتناع عن الطعام والشراب لوقت معلوم، من بين ما احتفظ به من ذكريات طفولته الفرح بقدوم رمضان، ولكن اختلف سبب الفرحة، كان رمضان بالنسبة له هو الموسم الذي يشتد الطلب فيه عليه وترتفع فيه قيمته.
كان يدرك مدى جدية وصدق وإخلاص صاحبه مبروك، أدرك أيضا تفوق صاحبه عليه في الأخلاق والذكاء والملكات الذهنية والوجدانية والشفافية، كان يلجأ إليه دائما لشرح ما استعصى عليه فقهه من كلام المدرسين، رغم أنه كان يفوقه من حيث المقدرة على حفظ المعلومات إلا أنه كان يجد حفظها أسهل والقدرة على تذكرها أسرع عندما يشرحها له مبروك، كان حسن فقهه للمحفوظات الذي يأخذه عنه هو الذي لفت أنظار المدرسين إليه وهو الذي ميزه عن أقرانه الذين يتمتعون مثله بحافظة قوية، لذلك سلَّم بينه وبين نفسه بحاجته الماسة إلى مبروك رغم كل الاختلافات فيما بينهما.

وكان مبروك يراقبه وهو يتباهى أمام المدرسين بما تعلمه منه في صمت، ويمنعه حياؤه من بيان الحقيقة للناس، وهو لم يتوقع أبدا من حشاد أن ينصفه أمام الناس أو أن يقر له بفضله عليه، ولكن لم يحمله ألمه وازدراؤه لتصرفات حشاد على الامتناع عن مساعدته، كان يقول دائما لنفسه: "إذا اضطررت لمعاملته بالمثل سأجعله بذلك إماما لي ومتقدما عليّ، وسأعطيه زمام المبادرة والفعل، وأجعل من نفسي مجرد تابع وردّ فعل، وسأتدهور إلى مستواه، يجب أن يكون ردّ فعلي من وسائلي للرقي بنفسي، لذلك يجب أن أتحلى بالحلم والصفح والإغضاء والترفع".
(يتبع) 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق