الأحد، 6 مارس 2016

الأمة والدولة

الأمة والدولة

إن الوضع في الحجاز قبل وأثناء العصر النبوي كان يسمح بقيام أمة خالصة موحدة تتعايش مع أمم أخرى على نفس الأرض، وهذا ما حققه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، ولذلك كان الأمر يستدعي تنظيم العلاقة مع الأمم الأخرى، ولم يكن هناك أي أثر لوجود دولة أو مواطنة أو أي شيء من هذه الأمور، وهكذا لم يكن التعامل مع اليهود كأقلية تعيش مع المسلمين في وطنٍ واحد ولكن كقبائل تعيش بالقرب منهم أو معهم في نفس الأرض مع استقلالهم بأمورهم.
والوثيقة أو المعاهدة التي تم عقدها مع يهود بني عوف تقرر بكل وضوح أن المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم ولحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة من دون الناس، وأن يهود بني عوف أُمَّة مع المؤمنين، فهي تعتبرهم أمة أخرى بلا أدنى شك، وتميز أمة المؤمنين عنهم فتقول: لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم، وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم‏، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة .... الخ‏.
فالمعاهدة لا تقرر أنهم يشكلون دولة واحدة ولا أنهم يشكلون كيانا سياسيا واحدا ولا تعلن وجود أمة واحدة لها دستور واحد، بل هي تعتبر كلا من أمة المسلمين وأمة اليهود كيانين مستقلين متميزين تماما وهم يتعاهدون على هذا الأساس.
فالمعاهدة ليست أبدا دستورا لدولة واحدة تندمج عناصرها لتشكل شعبا واحدا، هذا أمر واضح تماما، ولذلك كان لليهود قانونهم المستقل، ولم يكن الرسول حاكما عليهم أو فيما بينهم، وعندما لجئوا إليه ليحكم بينهم نزلت آيات تتعجب من تصرفهم هذا!! وتجعله هو مخيرا في ذلك:
{....فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)} المائدة
هل ثمة ما هو أوضح من ذلك؟! فهو لم يكن مطالبا بأن يحكم بينهم، وهو بالأحرى ليس مطالبا بما هو أكثر من ذلك، ومن هم دونه من الناس هم بالأحرى غير مطالبين بذلك، فليس لأحد أن يقاتل الناس ليلزمهم بأحكام الإسلام ولا ليكونوا أمة واحدة مع المسلمين ولا ليندمجوا معهم في كيانٍ سياسي واحد.
ولكن الذي سبب اللبس هم أصحاب ما يُسمَّى بنظرية الإسلام السياسي الذين استعملهم الشيطان للقضاء على المسلمين وعلى إمكانية تطورهم السلمي وتعايشهم مع الآخرين، فهو الذي وضع لهم الأسس ليظلوا حربا على العالمين وعلى أنفسهم إلى يوم الدين، ولكن للأسف المعركة خاسرة بالطبع، وسينقرض المسلمون قبل غيرهم بسبب هذا الضلال الذي رسخ في أنفسهم، ولن يبقى إلا اليهود والنصارى وغيرهم، وعليهم ستقوم الساعة.
فالذي أسسه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ هو أمة المؤمنين، وكان هو يعيش بينهم كرسول نبي وولي أمورهم ومربيهم ومعلمهم وكقاضٍ بينهم وولي أمورهم مع أولي الأمر منهم، ولكن ليس كملك أو جبار أو حفيظ أو وكيل أو مسيطر عليهم، ولذلك كانت الآيات تنزل لتحثهم على طاعته وتحكيمه فيما شجر بينهم والرضا بأحكامه، وكان من الممكن أن تنزل آية تقرر تعيينه رئيسا أو ملكا عليهم لتغني عن كل ذلك، فقد كانت كلمات الملوك هي الدستور والقانون في ذلك العصر، وهذا ما سيلتزمون هم به من بعد الرسول.
وكان لابد من توفر ما يلزم لكي تتعامل هذه الأمة مع الكيانات الأخرى القريبة ولكي تحمي نفسها من اعتداءات الآخرين.
أما كل ما استجد بعد ذلك فهي أمور دنيوية وتاريخية كان على المسلمين أن يجتهدوا للوصول إلى ما يتفق مع دين الحق بشأنها وأن يتحملوا نتائج اجتهاداتهم، ولا يتحملها الإسلام في شيء، فهناك فرق هائل بين الدين بنصوصه وعناصره وبين تصرفات الناس المحسوبين عليه.
فأقصى ما يُطالب به المسلمون كجماعة الآن هو أن يكونوا داخل أي كيان سياسي أمة صالحة خيرة تعيش بالإسلام للإسلام وتتعايش سلميا مع الآخرين وتدعو إلى الخير وتمثل منظومة القيم الإسلامية للناس وتجذبهم إلى الإسلام بسلوكها الرفيع، ومن مفاصد الدين العظمى توفير ما يلزم من القيم والسنن اللازمة لذلك.


*******

هناك تعليق واحد: