الاثنين، 26 مايو 2014

حقيقة القلب الإنساني (ج1)

حقيقة القلب الإنساني (ج1)


القلب هو جوهر النفس الإنسانية ومركزِها، وهو الذي يقوم بأسمى أنشطتها الذهنية والوجدانية، كما أن له السيطرةَ على كل لطائفها ومكوناتِها، والمظهرُ المادي له It’s hardware) (هو الجهازُ العصبي المركزي (Central Nervous System)، والقلب له ارتباطٌ وثيق بالدماغ فهو آلته المادية لممارسة مقتضيات ملكاته الذهنية والوجدانية كما أن له ارتباطا بالقلب العضوي من حيث الكيانات الباطنة، والقلبُ بالنسبة للكيان الإنساني الشامل هو كوحدة المعالجة المركزية (Central Processing Unit) بالنسبة لجهاز الحاسب.
  
إنه يجب التأكيد على أن القلب الإنساني الحقيقي لا يفنى ولا يتحلل، بل يمكنه العمل مستقلا عن آلاته العضوية التي يكون مقيدا بها أثناء حياة الإنسان.

والنفس ذات ارتباط وثيق بالجسم فهو من لوازم تعينها وتكونها وظهورها وتطورها، والإنسان كيان كلى واحد تشكل أكثف مكوناته الجسمَ بينما تشكل الطبقاتُ الألطف النفسَ، وهى تبدأ بكيان أقرب إلى الجسم وان كان من مادة لطيفة تشبه مادةَ المجالِ الكهرومغناطيسي (Electromagnetic Field)، ثم تزداد لطافةُ الكيانات أو الطبقات إلى أن تصل إلى ألطف وأسمى كيان موجود في كل الناس وهو القلب، وهذا القلب أيضا يتكون من طبقاتٍ عديدة، وكلما ارتقى الإنسان في مدارج الكمال يكتسب كيانات لطيفة تضافُ إلى هذا القلب وتتحسن بها صورة الإنسان الجوهرية دون أن تتغيرَ الأنية (The I-ness)، فوجود القلبِ بصورته الأولية الفطرية هو الأمر المميز للكيان الإنساني، وهو الحد اللازم ليكون الكائنُ إنسانا، فهذا القلب ليس هو العضلةَ أو المضخةَ المعلومة وإن كان له ارتباط بها.
فالقلب هو ألطف مكونات الإنسان وعنصرُها المركزي، وهو في الكيان الإنساني الجوهري كالجهاز العصبي المركزي من البنيان المادي، وهو محل الملكات الذهنية كالفقه والعقل والفهم والذكرِ والتدبر والتفكر، وأنشطته هي ظواهر ومظاهر إعمالها، كما أنه هو محل الملكات والأمور الوجدانية؛ فهو محل الإيمان والتقوى والهدي والخشوعِ والوجل والرأفة والرحمةِ واللين والطمأنينة والسكينة وهو أيضا محل القسوةِ والغلظة والتجبر والزيغ والرعب والحسرة والحقد والغل واللهو والحمية والريبةِ والاشمئزاز من الحق والنفاق والفسق… الخ
ووسائل القلب هي النوافذ التي سمح له بالتطلع من خلالها إلى مجالاته، وتلك النوافذ قد صُممت وقدِّرت بحيث تحقق الغاية من وجود الإنسان وهو الظهور التفصيلي للحسن المطلق، ووسائل القلب تشمل الحواسَ المعروفة والتي تنقل إلى المخ ما يترجمُ علي أنه صورةٌ أو صوت أو طعم أو رائحة أو نعومة أو ألم أو حرارة أو رطوبة أو لين أو صلابة أو صلادة أو هشاشة أو جوع أو عطش أو خفة أو ثقل....، وتلك الوسائل هي حواسُ الإنسان الظاهرة أو البارزة، وهي تشمل بالإضافة إلى الحواس المعلومة الإحساس الجلدي والإحساسات الحشوية والإحساسات العضلية.
وفي حين أن القلبَ الإنساني الحقيقيَ لا يتعامل مع العالم الخارجي إلا عن طريق الجهاز العصبي المركزي فإنه يظل باقيا مع النفس رغم تحلل الجسد وكافة أجهزته بما فيها القلب العضلي، وهو يستطيع أن يمارس مهامه بدون أجهزة الجسم، وإن كان لا يستطيع التغير بعد الموت عن الحالة التي وصل إليها قبلَه إلا بتلقي آثار أعماله بعيدةِ المدى.
وللإنسان كيانُه الباطني الذي لديه هو الآخر حواسه والتي يمكن بإيقاظها وتنميتها سماعَ أصوات أو رؤيةَ صور هي فوق إدراك الحواس الظاهرة مع احتفاظ هذا الإنسان بكونه بشرا سوياً، ومن البديهي أن كل المعانيَ والكيانات والإدراكات المتولدة في الكيان الإنساني لا وجود لها إلا به دون أن يعني ذلك نفي المؤثرِ الخارجي أو الوجودِ الموضوعي، والحواسُ مَثلُها كمثَل الهوائي المعلوم؛ ولاستخلاص البيانات والمعلومات من الكيان الحامل المؤثر المستقبل لابد من أجهزة تلقٍّ وإحساس (Receivers & Sensors)  وخطوطِ نقل وأجهزةِ تحويلٍ ومعالجةٍ واستخلاص، كما يلزم كيانٌ ذو وعيٍ وإدراك لفقه وعقل البيانات والمعلومات، فأجهزة النقل والمعالجة والاستخلاصِ هي الجهاز العصبي أما من يفقهُ ويعقل ويفسر المعلومات ويُصدرُ التعليمات بناء علي ما وصل إليه فهو القلب الإنساني بملكاته الذهنية والوجدانية، والإنسان يحكم ويريد ويختار بقلبه، فباستقبال مجموعة من المعلومات المتعلقة بأمرٍ ما تبدأ سلسلةٌ من العمليات التي هو مبرمج عليها ومُقدرٌ أي مصممٌ للقيام بها، بيد أن التحكمَ في النشاط الذهني وإدارته أشدُ تعقيدا من توجيه الحواس البارزة وذلك لتداخل عوامل كثيرة وبفعل تأثير الكائنات اللطيفة البنيان التي تلقي في قلب الإنسان ما يحلو لها وما يتوافق مع طبيعتها فيظنُ الإنسان أن ما هو في قلبه إنما هو من عنده، هذا بالإضافة إلى أن حواسَ الإنسان الباطنة تستقبل باستمرار من عالم الخيال ما هو متلائم معها ومع الأمر المنظور، كما أن الإنسان يختزن في حافظته كثيرا من المعلومات والخبرات التي هو ليس علي وعي تام بها فقد تُستدعي إلى الذاكرة الرئيسة إذا كانت ذاتَ صلة ما بالموضوع المنظور، ومجالُ الملكات الذهنية هو عالم الأمر، والكيانات الأمرية التي هي مجال تلك الملكات هي المفاهيمُ والتصورات والمعاني والمعلومات والقوانينُ والسنن، والمفاهيم والتصورات قد تكون مستخلصةً من عالم الخلق وقد تكون ملقاةً في القلب الإنساني، والمعاني قد تكون فطريةً وقد تكون ملقاة، أما القوانين فتعبر عن ارتباطاتٍ بين مفاهيم وتصورات تقابلُ ما هو في عالم الشهادة، أما السنن فهي القوانين الخاصة بالكيانات المخيرة.

وللقلب الحقيقي ارتباطا بالقلب البيولوجي، وهما يتبادلان الفعل والتأثير، وبصرُ القلب الحقيقي -وهو المسمى بالبصيرة عند بعض الناس- مرتبط بالقلب البيولوجي، وأغلفته اللطيفة المرتبطة بالمكان موجودة في محل هذا القلب، والنفس البشرية ذاتها –وهي الكيان الجوهري- لا ترتبط بالمكان بمثل ارتباط الجسم، وهي المخاطب حقيقة في كيان الإنسان، فالمخاطب ليس جسده المرتبط بالمكان، ومع ذلك تُخاطب على أنها متعينة في المكان، لابد من ذلك!!

والقلب ذاتُه يتشكل وفقَ آثار الأعمال الاختيارية الصادرةِ عنه إلى أن يبلغَ شكله النهائيَ بانقطاع آثار هذه الأعمال، وأعظمُ الأعمال أثرا عليه هي تلك الصادرة عن الإنسان بمحض اختياره مادام متدثراً بجسده مدبراً له، أما بعد ذلك فإنه يمكن أن يترقى بأن يجنى ثمار ما قدَّم من أعمالٍ ذات آثار بعيدةِ المدى مثل التي قدمها لنفع قومه أو لنفع البشرية جمعاء، وأعظم تلك الأعمالِ بدورها أثراً هي تلك التي تكون بمثابة رد فعل أو موقف من أمر شرعي، فالاستجابة الطيبة الملائمة تؤدي إلى تحسن هذا الكيان، أما العصيان فله آثاره السيئة ما لم يبادر الإنسان بالتوبة والاستغفار.

إن القلبَ هو لب الكيانِ الجوهري للإنسان وأداة التحكم فيه والسيطرةِ عليه وإدارتِه، وهو محل الملكات الوجدانية والذهنية أو هي عدته وقواه كما أن له مَلكاتِه الخاصةَ الجامعة، وهو أداةُ تذوق الأمور المعنوية والكيانات الأمرية وآثار السمات الإلهية، والملكات الذهنية والتي قد يطلق على جماعها العقل هي أداة استيعاب ما يراه ويتذوقه القلب، ولا حدَّ لقدرة العقل من حيث أنه قابلٌ مدرك مميز، ولا حد لقدرة القلب من حيث أنه متذوق مشاهد.
والحكمة هي الصفة الغالبة على الملكات الذهنية، بل إن تلك الملكات هي من مقتضيات منظومة الحكمة والعلم بصفة أساسية مع إدراك الارتباط الموجب بين الحكمة وبين العلم وبين كل منهما وبين العزة، ولذلك فُضِّل الإنسان وكرِّم، أما القلبُ فهو مقتضي كل منظومة الأسماء الحسني بمنظوماتها الفرعية، والإيمان هو المفتاح الذي لا مفر للقلب من التحقق به واستعماله حتى يري الحقائق، ولما كان العقل هو مناط التمييز كان هو أيضاً مناط التكليف، والتمييز خاص بالعقل لأنه مقتضي منظومة أسماء العلم.
والكيان القلبي هو مركز النفس وهو ألطف لطائفها وله الحكم عليها وهو أداتها لتذوُّقِ الأنوار والمعاني والصفات الحسنة وكذلك الكيانات اللطيفة المصاحبة للمواد والأطعمة الكثيفة بل ولتذوق المعاني التي تشير إليها الألفاظ عند سماع تلك الألفاظ.
فمركز النفس ولبها هو القلب وهو فيها الكيانُ الأرقى والألطف، وذلك القلب هو مركز التحكم والسيطرة، وهو المهيمن على النفس وعلى الجسد البرزخي.

إن الإنسان مزود بأدوات استشعار أو أعضاء حس تتأثر بالكينونات والكيانات الخارجية عن طريق وسائط أخري كضوء الشمس والهواء مثلا، وذلك في نطاقات محددة؛ فيُحدث في تلك الأدوات تغييرات تتناسب بطريقةٍ ما مع المؤثر وتنتقل تلك التغيرات عبر الأعصاب إلى مراكز معينة في مخ الإنسان فتسبب بدورها تغيرات أخري هي التي يترجمها الكيان الجوهري اللطيف أي القلب إلي الصور التي ألفها الإنسان، وهي تسبب في هذا القلب انطباعات وأفكارا، والانطباع هو عبارةٌ عن إدراكٍ أو عاطفة أو شعور يدركه الجانب الوجداني من القلب، أما الفكرة فيدركها الجانب الذهني منه، والتصورات الإنسانية عن الأشياء الخارجية ليست بذات حقيقةٍ موضوعيةٍ بحت، وإنما فيها جانب ذاتي عام خاص بالكائن الإنساني العام، وجانب ذاتي خاص وفق طبيعة الإنسان المعنيِّ ذاته، والصور البصرية ليست إلا جزءا من هذه التصورات أو هي من مقومات التصور، فالصور البصرية والسمعية واللمسية والشمية التي تتكون لدى الإنسان هي نتاج التفاعلِ بين ما لدي الإنسان من حواس وملكات مفصِّلة وجهاز مركزي وبين الشيء الخارجي والعوامل الوسيطة، وكون الأمرِ كذلك لا ينفي عن الشيء الخارجي حقيقتَه الموضوعية ولا يجعلُ من تلك الحقيقة أمرا خارجا عن نطاق العالم، ولا سبيل للإنسان إلى الفقه الكامل لمثل هذه الآليات بالإصرار على التفكير المادي أو بإنكار الحقائق الغيبية.
--------------
إن ثمة طائفةً من المعاني والمفاهيم والمشاعر الوجدانية يتذوقها الإنسان بما لديه من ملكاتٍ وجدانية والتي يشكل جماعها الجانبَ الوجداني من القلب الإنساني، ومن تلك الأمور الحبُ والسرور والفرح والغبطة واللذة والسعادة والرغبةُ والرهبة والخوف والخشية والإرادة والتقوى والطمأنينة والإيمان والفقه والعقل والوجل والإخبات والإنابة والانشراح وآثار الأعمال والرعب والكفر والقسوة والغلظة والنفاق والكراهية والإنكار والعمى والريبة والزيغ والإثم والحسرة...…إلخ، ولابد لاكتمال تذوقها من العمل الكلي للقلب بشعبتيه؛ الذهنيةِ والوجدانية، ولابد بالطبع لكي يتم ذلك من عمل حواس وملكات الإنسان الأخرى ولابد من المؤثرات الخارجية، فالإنسان لا يتعين ولا تُفصَّل إمكاناته وتصوراته إلا في بيئة إنسانية.
-------------
إن القلب الإنساني يستطيع أيضاً إدراك الحكمة أو العلوم المحكمة في صورتها المحكمة، والملكة الوجدانية من القلب لا تتذوق الأحاسيس والمشاعر فقط وإنما تتذوق هذه العلوم المحكمة المبهمة فتمهدُ لعمل الملكة الذهنية التي تتناولها وتتذوقها من حيث أنها مفصلة أو تقوم بهذا التفصيل والتحليل فتجعلها في مستوى وعي وإدراك الإنسان بحيث يمكنه نقلها إلى الآخرين.
ومن البديهيات أن القلبَ المشار إليه في القرءان ليس هو القلب البيولوجي الذي يتحلل مع الجسد، بل إن هذا القلب هو لب كيان الإنسان الجوهري، وهو باقٍ ببقاء النفس التي هو لها بمثابة الجهازِ العصبي المركزي والقلبِ العضلي بالنسبة للجسد، وهو الذي يتلقى الأمور من عالم الغيب ويتذوقُ الكيانات الأمرية، والقلب هو محل الملكاتِ الوجدانيةِ والذهنية، وهو محل تلقي آثارِ الأعمال الاختيارية، وأمراض هذا القلب هي أخطر ما يصيب الإنسان.
والقلب هو محل تلقي الأمور من عالم الغيب، والله سبحانه يعاملُ الإنسان وفق ما هو في قلبه، وأخطر الأمراض هو ما يصيب القلبَ من حيث أنه هو الكيانُ الجوهري، وأخطرُ ما يهدد الإنسان هو أن يُختمَ أو يُطبع على قلبه، وهذا يكون بسبب آثار أعماله، وسلامة القلب هي سبيله إلى النجاة، فلن ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم.
إن أجدى الأمورِ اللازمة لسلامةِ الإنسان هي تزكيةُ قلبه ومن أفضل ما يفوز به الإنسانُ أن يكتبَ الله الإيمانَ في قلبه وأن يجعل قرءانه آياتٍ بينات في صدره، وما يكتسبه القلب الإنساني من صورة نتيجةً لآثار أعماله الاختيارية هو الذي يحدد مصيرَ الإنسان ومكانته في الآخرة.


*******

هناك 4 تعليقات:

  1. وفقك الله أستاذنا، وزادك من علمه. وأعاننا نحن على الفهم، ووهب لنا من فضله.
    مقال أكثر من رائع وبحاجة الى قراءات عديدة للإستيعاب.

    ردحذف
  2. مقال أكثر من رائع و قرأته بشغف الى أن وصلت الى الفقرة الأخيرة وهي القلب المشار له في القرآن ..... بفقرتك الأخيرة جعلت القلب يمثل لب كيان الانسان الجوهري... انت بذلك جعلت القلب هو النفس الانسانية ... فأنت لم تبقي للنفس شيئا....
    وسؤالي ايضا : عندما يخاف الانسان او يحب او يحزن .. ألا يتركز شعوره هذا في قلبه البيولوجي .? ...

    ردحذف
    الردود
    1. هناك صلة بين القلب الحقيقي الخالد وبين القلب العضوي المادي

      حذف