الثلاثاء، 6 مايو 2014

من كتابنا: دحض القول بوجود آيات قرآنية منسوخة، 2012 (3)

من كتابنا: دحض القول بوجود آيات قرآنية منسوخة، 2012 (3)
إن أكثر المصطلحات الدينية التي كانت معروفة قد تعرضت للتحريف والتشويه، ذلك لأنه من الأسهل إكساب مصطلح معلوم مدلولات جديدة لأغراض خبيثة بدلا من إحداث مصطلح جديد، وكم من لفظ لم يكن له أي معنى غير معناه اللغوي أكسبوه مدلولا دينيا ثم نفخوا في هذا المدلول حتى أصبح اللفظ يشير إلى كيان ديني مقدس ثم سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بإفك عظيم، ثم أحاطوا ما أحدثوه بسياج هائل لا يسمح لأحد بمجرد إعادة النظر فيه، ولذلك يجب الحذر من كل ما هو سائد من مفاهيم عن بعض المصطلحات فضلا عما أحدثوه من مصطلحات، ذلك لأن الشيطان لا يعبث، وهو لم يكن ليسلم بسهولة لما سيؤدي إلى تقويض صرح بناه على مدى القرون، ولأنه يتمكن بسهولة من استيطان الكيانات الجوهرية لمن أعرضوا عن ذكر ربهم فهو يجد الحشود الهائلة من الناس طوع بنانه ورهن إشارته.
ومن المصطلحات التي تعرضت للتحريف الشديد مصطلح النسخ وقد تم تحريف معناه ليعني إلغاء معنى ومدلول وحكم الآية القرءانية دون تقديم أي دليل يعتد به على هذا الزعم الخطير مع أن الآية التي يحتجون بها تتحدث عن نسخ آية، ولو كان للنسخ المعنى الذي أحدثوه لما كان للآية المنسوخة وجود في القرءان أصلاً إذ كيف تكون الآية ملغاة وموجودة في القرءان في نفس الوقت؟ هذا مع العلم بأن اللفظ المفرد "آية" لم يستعمل أبداً في القرءان للدلالة على العبارة القرءانية الواردة بين نجمتين!!
وهم بالطبع لم يستطيعوا أن يأتوا بآية يمكن أن يكون معناها كلها منسوخا وغير ملزم فاستعملوا النسخ لإلغاء حكم جزء من الآية وليس الآية كلها وليس كل الأحكام الواردة في الآية، وتعاملوا مع القرءان باستخفاف غريب ووقاحة منقطعة النظير.
=======
في العربية هناك فرق بين (فعل) وبين (استفعل)، فهناك فرق بين (قلّ) و(استقلّ) مثلا، والنَّسْخ لغوياً هو إِبطال الشيء أو إزالته وإِقامة آخر مقامه، وهو غير الاستنساخ، وهو اكتتاب كتاب عن كتاب حرفاً بحرف، أو التسجيل الدقيق للقول أو الفعل، ولذلك عندما ينسخ الله تعالى آية سابقة أو ينسها (يجعلها تندثر) فإنه يأت بخير منها أو مثلها! وعندما ينسخ الله ما يلقي الشيطان فهو لا ينقل عن الشيطان إلقاءاته وإنما يمحوها بآية محكمة من عنده!
والنسخ ورد في الآيتين: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} البقرة106، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} الحج52، وهو فيهما بمعنى المحو والإبطال.
والآية "البقرة106" تتضمن جوابا واحدا لشرطين ممكنين، فتحقق أي شرط يستلزم نفس الجواب، لا ريب في ذلك، والجواب هو أن تأتي آية بديلا لما تم نسخه أو إنساؤه، فلا يمكن أن يكون معنى النسخ هو الإثبات بأي حالٍ من الأحوال أو النقل من شريعة سابقة! وبالطبع لا يمكن أن يظل النص المنسوخ مع الآية التي نسخته في نفس الكتاب!
أما الاستنساخ فقد وردت فيه الآية: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} الجاثية29، فالمراد هنا الإثبات والتسجيل الدقيق لأعمالهم.
=======
إن الرسول قد بُعث بعثتين بعثة إلى قومه خاصة وبعثة إلى الناس كافة، فمن الآيات التي تذكر بعثته إلى قومه خاصة: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قرءاناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ }الشورى7، {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ }الرعد30، {الم{1} تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ{2} أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ{3}}السجدة، يس{1} وَالْقرءان الْحَكِيمِ{2} إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ{3} عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ{4} تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ{5} لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ{6}يس، ومن الآيات التي تذكر بعثته إلى الناس كافة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}سبأ28، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }الأعراف158.
ورسالته إلى قومه هي التي أخذت تنمو وتتسع طوال زمن البعثة، فهي الرسالة التي تتضمن الأحكام المتدرجة الصاعدة نحو الكمال والاكتمال، أما رسالته إلى الناس كافة فهي القرءان الكامل، لذلك لا يجوز لأحد مثلا أن يشرب الخمر بحجة أن القرن الأول ظلوا يشربونها طوال العصر المكي وجزءا من العصر المدني، ومن البديهي أن أوامر الدين ونواهيه أخذت تزيد بمضيّ العصر النبوي، ونزول حكم جديد كان ملزما للقرن الأول بمجرد نزوله، وهو بالطبع ينسخ حكم الحالة التي كانوا عليها، وعلى سبيل المثال كانوا يتعاطون الخمر ثم نزلت الآية التي تنص على أن في الخمر إثم كبير ولما كان الإثم محرما منذ أن نزلت أول آيات القرءان فقد أصبحت الخمر محرمة بمجرد النص على أن فيها إثم كبير حتى وإن كان فيها بعض المنافع، ولكن لا توجد في القرءان آية تحلل للناس تعاطي الخمر حتى يقال إن الآية المحرِّمة نسختها، وكل الآيات التي نزلت بعد النص على أن الخمر فيها إثم كبير إنما هي للتأكيد والتذكرة والبيان وإضافة معلومات جديدة، ومن أساليب التأكيد المعلومة في القرءان التكرار مثلما هو الحال مثلا مع الأمر بإقامة الصلاة، فنزول آية لاحقة تأمر بإقامة الصلاة لا تنسخ أبداً الآية السابقة التي تأمر بها.
والآيات التي عالجت موضوع الخمر لم تتدرج بالناس من التحليل إلى التحريم ولا من درجات تحريم إلى تحريم مطلق ولا من تحريم جزئي إلى تحريم كلي، وإنما تدرجت بهم من التحريم بالإشارة أو بمفهوم النص أو بشيء من الاستنباط إلى التحريم بمنطوق النص، ولا توجد في هذه الآيات آيات منسوخة، فكل ما ورد فيها ملزم للناس إلى يوم القيامة!
وبالنسبة للرسالة العالمية فكل آيات القرءان على نفس الدرجة من الحجية والحقانية والمصداقية، فلا يجوز أن يشغل الإنسان نفسه بموضوع ترتيب نزول الآيات، بل عليه أن يأخذها كلها في الاعتبار وهو مؤمن بصدق الحديث الرباني؛ أي مؤمنا بما ذكره الله تعالى عن نفسه: {وِإِنَّا لَصَادِقُونَ} الأنعام146، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً} النساء87، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً}النساء122.
وبالمثل عندما نزلت الآية التي تسمح للمسلمين من بعد أن أصبحوا أمة برد العدوان بمثله لم تنسخ آية كانت تأمر الأمة بألا ترد العدوان، فلا توجد آية تأمر الأمة بالاستكانة للعدوان، فللمسلم كفرد أحكامه وسننه الملزمة له، وللأمة أحكامها وسننها الملزمة لها، فشرائع وسنن الدين هي أنساق متعددة، وقد يتداخل بعضها وقد يتطابق بعضها، ولكن لابد من أحكام ملزمة للأسرة مثلا ليست موجهة للإنسان منفردا.
ولكن الذي سبب الإشكال هو مخالفة الناس للأمر النبوي بألا يكتبوا شيئاً غير القرءان، ذلك لأنهم لن يستطيعوا أبداً التحديد الدقيق للزمن الذي حدث فيه ما ينسبونه إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت الأمور العملية لا التنظير الدقيق هي كل ما يعنيهم في العصر الأول، هذا بالإضافة إلى وجود شياطين الإنس والجن الذين لم يكفوا عن الكيد للإسلام والتآمر ضده.
=======
إنه بالتأكيد قد حدث تدرج في إلزام الناس بالأحكام في العصر النبوي وتغيرت بعض الأحكام وعُدِّلت ولكن كان القرءان بمنأى عن كل هذا فالأوامر والتعليمات التي تم تعديلها لم تنص عليها آيات قرءانية؛ فالقرءان تضمَّن فقط الآيات الناسخة وليس المنسوخة والأحكام النهائية وليس المرحلية، وكمثال على ذلك موضوع تغيير القبلة، فلا توجد في القرءان آية تأمر الناس بالتوجه إلى بيت المقدس وإنما توجد الآيات التي نسخت هذا الحكم، أما الآيات التي تتناول فيما تتناول موضوع الخمر فهي متسقة متكاملة متعاضدة.

=======

هناك تعليق واحد: