الأربعاء، 7 مايو 2014

من كتابنا: دحض القول بوجود آيات قرآنية منسوخة، 2012 (5)

من كتابنا: دحض القول بوجود آيات قرآنية منسوخة، 2012 (5)
قال تعالى: {مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ{105} مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{106} أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ{107} أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ{108} وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{109} وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ{110} وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ{111} بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ{112}}البقرة.
إن الآيات تبيِّـن أن الله سبحانه قد اختص تلك الأمة برحمته طبقا لقوانينه وسننه إذ رأى أنها أصلح الأمم لحمل رسالة الحق عندما حان أوانها، ولقد كان القرن الإسلامي الأول عند حسن ظنه بهم وحملوا الرسالة إلى العالمين.
والآية رقم 106 من سورة البقرة التي يحتج بها القائلون بالنسخ وردت في سياق حديث موجه إلي المؤمنين يندد بالذين كفروا من أهل الكتاب ويحمل عليهم ويكشف للمؤمنين حقيقة موقفهم منهم ومما أنزل عليهم وحقيقة دوافعهم ويحذرهم من أن يكونوا مثلهم، فلقد عزّ علي هؤلاء أن ينزل كتاب علي الأميين يحل محل ما لديهم من أحكام وينسخها أمام أعينهم، فكل آية من آيات القرءان تتضمن حكماً شرعياً قد نسخت نظيرتها مما لديهم، والقرءان هو الآية التي نسخت ما كان قد أنزل عليهم وأغنت عنه، وثمة شرائع أخرى لم يقصصها الله على رسوله واندثرت آثارها فبذلك أُنسيت، والآية رقم 106 تبين أن ما أنزله الله علي عباده لن يضيع أبدا، فلابد من آية تحل محل ما نُسِخ أو أنسي مما سبق نزوله، ولابد أن تكون الآية الجديدة أفضل أو علي الأقل مثل ما نُسخ أو أُنسي.
فالآية رقم 106 تبيِّن إذاً اتجاه تطور الشرائع، فلقد كان اتجاهاً صاعداً موجباً، ومن المعلوم أن الدين العام المنزل قد اكتمل بالإسلام، وأن الإسلام قد أخذ ينمو أيضاً أثناء البعثة النبوية إلي أن اكتمل وأُنزلت آية تنص علي ذلك، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} المائدة3، وكل هذا يدحض مزاعم أعداء القرءان الذين يقولون إن المراد بالآية في الآية المذكورة هو الآية القرءانية دون أن يقدموا بين يدي زعمهم هذا أدنى دليل.
ويجب العلم بأنه ليس لدى عبيد النسخ من نص يقطع بأن المراد بالآية المنسوخة هنا هو الآية القرءانية، ولقد استعمل المصطلح (آية) في القرءان للدلالة علي أمور عديدة، فاللفظ المفرد "آية" لم يرد أبداً في القرءان كإشارة للعبارة القرءانية بين نجمتين!!!، وإنما ورد بمعنى العلامة أو الدليل أو الأمر المادي المعجز أو الأعجوبة أو الإنجاز المادي الهائل أو الظاهرة الطبيعية أو العظة أو العبرة أو الحكم المنزل أو ما أُنزل بصفة عامة....الخ، والمراد بالمصطلح (آية) هاهنا هو ما كان لدى أهل الكتاب من كتابهم السابق وما كان لدى أتباع ملة إبراهيم عليه السلام من آثار هذه الملة مثل مناسك الحج مثلا.
-------
 إنه يجب العلم بأن هذا القرءان يهدي للتي هي أقوم، وهو آية ناسخة لما قبلها أي لما بين يديه من آية الكتاب الماضي إذ حل محلها وأخذ مكانها وتضمن من الآيات ما هو خير مما نسخ أو ما هو مثلها، كما حلَّ محلَّ ما اندثر من الآيات التي تلقاها الأنبياء قبل ختم النبوة، ولقد جاءت الآية {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}البقرة106 في سياق الرد على أهل الكتاب الذين عزّ عليهم أن يروا آية كتابهم تنسخ أمام أعينهم ويستبدل بها غيرها فاستبشعوا ذلك وغاظهم إذ كانوا ومازالوا يظنون أن الإله خاص بهم وحدهم وأن شريعتهم لا يمكن أن تنسخ وأنها خاصة بهم وحدهم ليتعالوا بها على الناس، وذلك هو سبب إنكارهم للنسخ، ولا يدرى أحد كيف استساغ بعض السلف استخدام هذه الآية لإثبات أن الكتاب به آيات منسوخة إما بواسطة آيات أخرى أو بالمرويات الظنية أو بالإجماع!! ألم يقرءوا آيات الكتاب المنذرة: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ{40} إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ{41} لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ{42} مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ{43} وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قرءاناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ{44} وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ{45} مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ{46} فصِّلت
-------
إن هذه الآيات تحذر المؤمنين تحذيراً شديداً من الذين كفروا من أهل الكتاب وتكشف عن حقيقة مشاعرهم تجاههم بعد أن رأوا شريعتهم تنسخ أمام أعينهم وبعد أن تأكدوا أن النبي المنتظر لم يكن منهم، ومن العجب أن ينتزع بعض المحسوبين علي المسلمين آية من سياق هذه الآيات ليتخذوها حجة للقول بأن القرءان ينسخ بعضه بعضا، ومن بعد أن استمرأ الناس هذا الإفك ولم يعودوا يستبشعونه زعموا لهم أن المرويات الظنية ثم الإجماع يمكن أيضاً أن ينسخ الآيات القرءانية!!! وهكذا أعطى هؤلاء الضالون لأنفسهم الحق ليضربوا القرءان بالقرءان وبغير القرءان وليلقوا بظلال من الشك والريبة حول آياته، لذلك بدلاً من أن يقرأ المسلم القرءان ليتدبر آياته فإنه يضطر إلى الوقوف عند كثير من آياته ليتساءل عن حالتها من حيث مسألة النسخ، وقد يُعجب المرء إعجاباً خاصاً بآية معينة ويخشع قلبه لما فيها من سموّ المعاني ثم يتلقى الصدمة الهائلة عندما يعلم أنها منسوخة!!! هذا فضلاً عن التحريف الهائل الذي لحق بالدين كنتيجة لفرض المفهوم الاصطلاحي للنسخ عليه ولجعل المسلمين بحاجة إلى كهنوت ليفتيهم في أمر النسخ، إن مفهوم النسخ قد حرفه شياطين الإنس والجن عمداً ليفتكوا بالرسالة الخاتمة وليعطوا لأعداء الدين سلاحاً ليطعنوه به.
-------
إن الآية رقم 106 من سورة البقرة وردت في سياق آيات تكشف حقيقة مواقف ومشاعر أهل الكتاب تجاه المسلمين، وهذه المجموعة المذكورة من الآيات وردت كذلك في سياق مجموعة أكبر من الآيات لها نفس المقصد، ومن المعلوم أن من المقاصد الرئيسة لسورة البقرة إعلان بني إسرائيل بالحكم النهائي الصادر عليهم وأن دورهم كحملة للرسالة قد انتهى وأنه قد استبدل بهم غيرهم، ولقد اقتضى ذلك نسخ أحكام رسالتهم بالرسالة الجديدة، فالآية هاهنا هي جماع ما لديهم من الأحكام الشرعية، ولقد قال الله في مطلع سورة النور: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ{1} ثم أخذ يذكر أحكاماً شرعية في آيات عديدة اختتمها بقوله: {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ{18}، ثم شرع في بيان أحكام أخرى اختتمها أيضاً بقوله: وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ{34}، فالأحكام الشرعية وكذلك العبر والمواعظ هي آيات للناس؛ ذلك لأن من المعاني الأصلية للمفردة آية العلامة، والآيات علامات على الصراط المستقيم، فبالأحكام الشرعية يتعرف الناس على الصراط المستقيم، بل إن تلك الأحكام هي التي تحدده وتعينه وترسمه.
وإنه من الواضح أن أهل الكتاب كانوا يلقنون كفار قريش الحجج ليجادلوا المسلمين، ومن ذلك أنهم كانوا يقولون لهم إذا كان إلهنا وإلههم واحد كما يقولون فما الداعي لتبديل الرسالة؟ فنزلت الآيات: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ{101} قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ{102} وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ{103} إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ{104} إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ{105} النحل.
فالضمير في قوله تعالى {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} إنما يعود على القرءان كله.
ولما هاجر المسلمون إلى المدينة تولى أهل الكتاب بأنفسهم أمر الجدال؛ ولذلك نزلت مجموعات كبيرة من آيات سورة البقرة للرد عليهم ودحض براهينهم وتفنيد حججهم، ومن تلك المجموعات المجموعة المذكورة والتي ورد في سياقها آية النسخ المعلومة، وهذه المجموعة تبين أن الملك لله سبحانه وأن له التصرف المطلق في مملكته وتكشف للمسلمين حقيقة مشاعر أهل الكتاب الذين عز عليهم أن تنسخ شريعتهم وأن يستبدل الله بهم قوماً غيرهم.
=======  

هناك تعليق واحد: