الثلاثاء، 20 مايو 2014

الردة وحروب الردة

الردة وحروب الردة
دائرة معارف1
قال تعالى:
{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }البقرة256.
فقوله تعالى: "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" هو حقيقة راسخة وسنة كونية تقتضي سنة تشريعية، فهذه العبارة تبيِّـن سنة إلهية لا تبديل لها ولا تحويل، ذلك لأن الدين الحقيقي محله القلب ولا سلطان لأحد عليه، وبالتالي لن ينتفع بالإكراه لا المكرِه ولا المكرَه، فلا جدوى من الإكراه، وبالتالي فمن العبث ومما يخالف السنن الإلهية محاولة إكراه الناس على تغيير دينهم، والسنة تقتضى العمل وفق مقتضياتها، لذلك فالعبارة تتضمن نهياً عن الإكراه في الدين، فالعبارة هي خبر حقيقي وهى أيضا نهى في صورة خبر، ولقد بيَّن الله سبحانه في آيات أخرى أن سننه لم تقتض أن يؤمن كل الناس، ذلك لأن الإنسان خُلِق مخيراً فيما يتعلق بهذا الأمر، ولما كان هذا الاختيار هو أمر حقيقي كان لابد من وجود الكافر والمؤمن، بل إن الآيات أكدت دائما أن أكثر الناس ليسوا بمؤمنين وأن أكثر من آمنوا مشركون، قال تعالى:
{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} يوسف103، {....فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ }هود17، {المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ }الرعد1، {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ }غافر59، {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ }يوسف106
-------
إن الكتاب العزيز قد بيَّـن بما لا يدع مجالا للشك حرية الإنسان فيما يتعلق بقضية الكفر والإيمان، ذلك لأنه سبحانه إنما يريد أن يأتيه الناس بمحض إرادتهم ولذلك خلقهم، والإنسان بحكم طبيعته لن ينتفع بإيمان أو عمل إلا إذا أقبل عليه بمحض إرادته، ولقد ذكر الكتاب الردة والمرتدين، ولم يتوعدهم إلا بالعذاب الأليم في الآخرة وبالإتيان بمن يحبهم ويحبونه في الدنيا، ومن البديهي أن الحب لا يكون بالقهر والإكراه، ولو كان لدى المرتد مثقال ذرة من الحب الإلهي لما كفر بربه الذي أعطاه كل شيء وهو الغنيّ عنه وعن إيمانه وعن تظاهره بإيمان ليس لديه في قلبه مثقال ذرة منه وكفى بذلك عقابا له، وفى القرن الأول لم يُقتل إنسان بسبب ارتداده وإنما بسبب انحيازه إلى صفوف أعداء الأمة وهى في صراعٍ مصيري معهم واقتران هذا الانضمام بتجنيد كافة قواه لخدمة أعداء الأمة.
والإسلام أكبر من أن يتأثر بهجمات الجهلة والمنافقين، ولم يواجه دين من المحن والابتلاءات مثلما واجه هذا الدين، ولقد تحالف ضده شياطين الإنس والجن واليهود وعباد البقر وعباد الصليب وعباد المقابر وعباد السلف والشيع وسدنة المذاهب التي حلَّت محله، كما تحالف عليه المحسوبون عليه من حثالة السلاطين والطغاة والمجرمين والمنافقين والفاسدين والمفسدين والفاسقين المترفين هذا فضلا عن الغربيين والشيوعيين والمستبدين والإرهابيين المجرمين فلم ينالوا منه شيئا وحقّ عليهم قوله تعالى: {اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }البقرة15، لكل ذلك فإن التمسك بحرية الرأي والذود عنها هو في صالح الإسلام والمسلمين؛ فأعداؤه والمرتدون لن يجدوا إلا أن يكرروا نفس الحجج الممجوجة الواهية التي قال بها من قبل أسلافهم من مشركي مكة وأهل الكتاب والتي تم دحضها في حينها وشهد العالم كله كيف قادتهم إلى الخسران المبين ولم تزدهم غير تتبيب.
وبافتراض أنه من الممكن أن يأتوا بحجج جديدة ضد الإسلام فسيدفع ذلك الصفوة من أولى الألباب لإعمال ملكاتهم لدحضها فيظهر كمال جديد من كمالات الإسلام، أما ما يسمى بالاستتابة فإنه لا محل لها في الإسلام لأنه لا كهنوت في هذا الدين، ذلك لأن الله وحده هو التوَّاب وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ولم يعط تلك السلطة لأحد غيره، فمن أراد التوبة فليتجه إليه بقلبه حتى وإن صمت لسانه فإنه يدرك من كل إنسان ما لا يدركه هذا الإنسان من نفسه، أما من سبق له الطعن في الدين علناً أو الافتراء عليه كذباً فإن الشرف والنخوة والمروءة تقتضي أن يتبرأ مما قاله على رؤوس الأشهاد وحتى لا يتحمل وزر من أضلهم بغير علم، أما إحداث ضرورة استتابة من رأوا أنه خالف ما هو معلوم من الدين في نظرهم فإنما أخذوه عن أهل الكتاب وألبسوه ثوبا إسلاميا، فلقد اتبعوا سنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع.
أما ما هو حق للمسلمين بلا مراء فهو أن يقدموا الحجج والبراهين ضد من يريد المجادلة فإن أبى إلا أن يتطاول بالباطل وإلا أن يعمد إلى السخرية والاستهزاء فإن لهم أن يقاضوه، ذلك لأن من حق كل إنسان أن يسأل وأن يستفسر ولكن ليس من حقه أن يشتم أو أن يسخر أو أن يستعرض سوء أدبه وبذاءة لسانه، وإن من أبسط أسس الحضارة الحديثة ألا يسخر الإنسان من عقائد الآخرين، ومن العجب أن الغربيين من عباد الصليب والمتع الرخيصة يحترمون عبَّاد الحجر والبقر ……الخ ثم يتطاولون على من يعبد الله الذي له الكمال المطلق، وهم في الحقيقة معذورون جزئيا بسبب وجود تلك المذاهب التي حلت محل الإسلام واستعملت للقضاء على دين الحق وصد الناس عن سبيله، وتلك المذاهب تتسم -كما هو معلوم- بالعدوانية والماضوية والمحلية، ولقد كان المسلمون هم ضحاياها قبل غيرهم.
أما في حالة وجود الأمة المؤمنة ووجود أولى أمر لها منها بمعنى أنه للأمة بنية وكيان بالمعنى الحديث وكما كان الأمر في عهد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن المرتد إنما يكفر بالأساس الأعظم وبمنظومة القيم التي اجتمعت عليها تلك الأمة، ومن المعلوم أن ما كفر به هو الذي ترتب عليه ما له من حقوق وما عليه من التزامات وواجبات، فإذا ما كانت تلك الأمة في صراع عقائدي مع دولة أخرى معادية فإن اعتناق هذا المرتد لعقيدة العدو وانضمامه إليه يفوق في شناعته جريمة الخيانة العظمى، ومن جاهر بارتداده فإنه لا يمكنه نفسياً ولا أدبيا ولا واقعيا أن يوفِّى بما عليه من التزامات، وبالتالي فإنه يشكل ثغرة في بنيان الأمة وخطراً داهماً عليها، لذلك فإنه لا يمكن أن يستمر فيها طالما اختار لنفسه البعد عنها، ومثل هذه الحالة لا تحتاج إلى محكمة تفتيش، ذلك لأن الكلام عن مرتد جاهر بكفره وشرع في التصرف بمقتضاه وأعلن عداءه السافر للأمة وأصبح أمره معلوما للجميع في أمة مشتبكة في صراع ديني مصيري مع أعدائها، فالأمر لا علاقة له بحرية الاعتقاد، ذلك لأن الأمة المؤمنة تقبل بالتعايش السلمي مع المنافقين ومع أهل الكتاب وتسمح للمنتمين إليها بالزواج منهم وأكل طعامهم وتضمن لهم حرية العقيدة والرأي وتأمرهم بأن يتحاكموا إلى كتبهم، ولكن على الأمة أن تتخذ ما يلزم من إجراءات لحماية نفسها من هذا المرتد، أما عقوبته فهي مفوَّضة إلى أولى الأمر في كل عصر ومصر، ولكن ليس لأحد أن يكفِّـر أحدا بمحض هواه ولا أن يؤول أقواله ليثبت أنه أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة…… الخ.
أما الآن فليس ثمة أمة بالمعنى المعلوم أي أنه ليس للأمة كيان بنائي يلتزم بالولاء لما قرره الإسلام؛ دين الحق، من منظومات القيم والسنن وأنساق التعاليم الخاصة بالأمة، وهذا هو الحال في كل العالم بلا استثناء، والوحدة الآن هي الدولة المرتكزة إلى وطن تتعدد فيه المجتمعات والطوائف، لذلك فإنه يجب ترجيح الجانب العلماني المتسامح، إن المجتمع المثالي الممكن الآن هو المجتمع العلماني الليبرالي الذي يؤمن بحرية العقيدة وبحرية الرأي ويحترم مبدأ التسامح والتعايش السلمي ويسمح لكل فرد بممارسة حق الدعوة السلمية إلي ما يؤمن به، ولا يوجد في الحالة الراهنة أي حل آخر، ذلك لأن سيطرة أية فئة تدعي أنها تمثل الإسلام الآن علي مقدرات الأمور لن يؤدي إلا إلي اشتباكها في صراع إقصائي دموي مع كافة المذاهب التي تختلف معها مهما كانت هامشية وتفاهة هذه الاختلافات، ولقد رأى الناس وعاينوا مدى قدرة هذه المذاهب على إعداد أبشع العناصر الدموية الإرهابية وكذلك على إعداد بشر لا عقول لهم ولا إنسانية، ولو تركهم أعداء الإسلام وشأنهم لقضوا علي أنفسهم بأنفسهم أو لقضي عليهم جهلهم وتخلفهم، ولقد أخذت كل تلك المذاهب والصيغ فرصتها كاملة علي مدي التاريخ وأثبتت بكل جلاء فشلها الذريع علي كافة المستويات، وكفى بالتاريخ شاهدا على ما جلبته هذه المذاهب على الأمة من كوارث.
-------
إن الله تعالي قد جعل الإنسان مخيَّراً فيما يتعلق بأمر الكفر والإيمان فلا ينبغي أن تُقيَّـد الحرية فيما هو دون ذلك علي ألا يتضمن ذلك مساساً بحقوق الآخرين أو عدواناً علي قانون، ولكن على الجماعة المؤمنة أن تتماسك وأن تتخذ كل ما يلزم من إجراءات لحماية نفسها ومنظومات قيمها وسننها ممن ارتد وجاهر بذلك وأعلن عداءه السافر للإسلام، فإذا كان يمتهن التعليم فمن حقها أن تطالب بإبعاده عن تلك المهنة حماية لأبنائها، وإذا كان صحفياً أو إعلامياً فمن حقها اتخاذ الإجراءات القانونية والإعلامية اللازمة ضده وتحذير الناس منه وكشف حقيقة أمره، ولكن ليس من حق رجال الكهنوت أو سدنة المذاهب أو أية سلطة أخرى أن يكفِّروا أحد الناس ولا أن يؤلبوا عليه أعوانهم من الدهماء والغوغاء والسفهاء لأنه جاءهم بما يخالف ما ألفوا عليه أسلافهم طالما أعلن تمسكه بالإسلام على رؤوس الأشهاد، فإن قيل إنه قد يكون منافقاً أو مرتداً ويُخفى كفره فالجواب هو أنه حتى لو ثبت ذلك فإنه يكون منافقا ولا توجد عقوبة على النفاق ويجب التعايش معهم كما تعايش معهم خاتم النبيين من قبل، وقد كان يسمح لهم بالصلاة معه في مسجده، وإن كان يجب أيضا تفنيد آرائهم والتنديد بمسلكهم واتخاذ الإجراءات القانونية ضدهم إذا صدر عنهم خطأ حقيقي ظاهر يقعون به تحت طائلة قانون ما ولكن ليس من حق أحد تكفيرهم أو قتلهم أو إخراجهم من الجماعة، وتلك هي سنن التعامل معهم.
ومن المعلوم أن الأمة قد فرقت دينها وأصبحت شيعاً متنافرة، وكل حزب بما لديهم فرحون، وهم طبقاً للحكم القرءاني ضالون ومشركون والرسول بريء منهم، لذلك فبدلا من أن ينشغل المتمذهب بأمر متمذهب آخر فعليه أن يحاول أولا أن ينجو بنفسه بالتطهر من شركه!
-------
إن الإسلام أجلّ من أن يتحول إلى سيف بيد الطواغيت يسفكون به ما يشاءون من الدماء دون أن يلتزموا هم بشيء من أصوله ومبادئه وقيمه، وهذا هو الذي استحدثه الأمويون في الإسلام نقلا عن تراث الأمم الغابرة وتابعهم في ذلك العباسيون، وهكذا تناول ما أسموه بسيف الشريعة كثيرا من صفوة الأمة بزعم القضاء على أهل البدع وما قضوا إلا على حرية الأمة واستعبدوها؛ فتحول دين الرحمة إلى أداة نقمة تهدد أول ما تهدد المسلمين أنفسهم ثم من يلونهم من أهل الأرض، وبلغ الأمر مداه مع العثمانيين الذين أسرفوا في القتل والتعذيب والمثلة والظلم باسم الإسلام وكانوا شر نقمة على المسلمين وخاصة العرب منهم قبل أن يكونوا نقمة على نصارى شرق أوروبا.
ولقد ساير سدنة المذاهب ورجال الكهنوت مآرب الطاغوت فقسموا العالم إلى دارين دار إسلام يستبيح الخلفاء لأنفسهم أموال من فيها من المسلمين ودماءهم ويمارسون أبشع أنواع الظلم والسادية عليهم دون أي إحساس بأدنى مسؤولية تجاههم وإلى دار حرب لا ينفق ذوو السلطان قطميرا في سبيل تبيين الإسلام لهم ودعوتهم إليه وإنما يهاجمونهم بمن استذلوهم واستعبدوهم من المسلمين طمعاً في أموالهم ونسائهم وغلمانهم، ولقد كان دائماً في جعبة رجال الكهنوت ما يخرجونه كلما احتاج إلي ذلك الطواغيت، ولقد كان لما فعله الأمويون بأهل البيت وبأهل المدينة من الأنصار وبالحرم المكي وبابن الزبير ومن ثاروا معه أبلغ الأثر في استرهاب وترويع الصفوة من علماء الأمة وإسكاتهم فلزموا إلا قليلاً الصمت فرقاً وهلعاً ورعبا، ولذلك تمكن المخربون والمنافقون والمفسدون طوال حكم الأمويين من تحريف الدين كما يرغبون وتحميله بما يشاءون من إلقاءات الشياطين وتحققت نبوءة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ وكان هلاك أمته علي يد أغيلمة سفهاء من قريش.
-------
قال تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ{99} وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ{100} قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ{101}} يونس.
إن الله سبحانه في هذه الآيات يدافع عن الحرية التي أعطاها لعباده وهي حرية العقيدة، فلقد أوضح أن لا سبيل أصلا لإكراه إنسانٍ ما على الإيمان بما لا يرتضيه وتقبله نفسه، إن تلك الحرية هي ما اقتضته قوانينه وسننه التي هي تفاصيل مشيئته.
إن الله سبحانه لم يشأ أن يكره الناس على الإيمان، وما لم يشأه لنفسه لن يسمح به لغيره مهما كانت مرتبته عنده، فلقد أعطى الإنسان الإرادة الحرة والاختيار اللائق بمرتبته، وأراد أن يأتيه الإنسان طوعا لا كرها، وتركه مخيرا بين الكفر وبين الإيمان بعد أن بين له السبيلين وهداه النجدين، وهو الغنى عن العالمين، كذلك فإن عنده من الملائكة من يعبدونه طوعا ولا يعصونه ما أمرهم، وهم أكثر من البشر عددا وهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون، لذلك فإنه ليس لأحد أن يكره الناس على عقيدةٍ ما، وإنما يجب التصدي لمن يحاول أن يحول بين الناس وبين حرية اختيار رسالة الحق ومن يستعبد الناس أو يظلمهم أو يعمل علي إخراجهم من ديارهم، فالحق سبحانه لا يستجدى الإيمان به ممن خلق وإنما الإيمان هو النعمة العظمى التي يمنّ بها على من استعد لها وطلبها، ومن لوازم الاستعداد أن يكون لدى الإنسان قلب اعتاد أن يستعمله وأن يفقه به وأن يعقل به واعتاد أن ينظر في السماوات وفى الأرض وفي الأنفس يطالع فيهما آيات الحق، أما من أعرض عن ذلك فلن يغنى عنه ما يرى من آيات ونذر، فلقد اختار الكفر وعقد العزم عليه فحال بين قلبه وبين نور الحق، لذلك فلن يستطيع أن يرى وإن رأى فإنه لن يفقه ما يرى، كما أنه لن يعقل ولن يتدبر ما سبق من النذر ولن يستلهم عِبَر التاريخ ولن يفقه سننه، إن إنساناً كهذا لن ينتفع بأية آية رآها ويستحق بإهماله إعمال ملكاته رجساً وغضباً وعذاباً من ربه.
ولقد أعطى الله تعالى للإنسان حق الاختيار بين الكفر وبين الإيمان، وما أعطاه للناس من حق لن يأمر الناس بعقابهم إذا استعملوه، ولكنه بيَّن لهم عاقبة اختيارهم في الدار الآخرة.
والتعبير (لو شاء) إشارة إلى المشيئة المطلقة والتي هي جماع أعلي أنساق القوانين والسنن، فمن حيث تلك المشيئة يمكنه حمل الناس على الإيمان ولكنه ما شاء وإنما شاء أن يُدبِّر ويصرِّف الأمور وفق السنن التي هي مقتضيات منظومة أسمائه الحسنى، ومع ذلك فإنه لا يوجد ما يحول بينه وبين أن يُجرى الأمور وفق المشيئة المطلقة، وهو يفعل ذلك أحيانا، ومن هنا خاف الرسل وأُمروا أن يستثنوا وأن يقدموا المشيئة، ولقد قال إبراهيم عليه السلام: {قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ(80)} (الأنعام)، وقال شعيب عليه السلام: {قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ(89)}( الأعراف: 89)، ومن هنا أيضا ألح الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ في الدعاء يوم بدر رغم أن الله تعالى سبق أن بشَّره بالنصر ووعد المؤمنين بإحدى الطائفتين وكانت العير قد أفلتت، ومن هنا حذر الحق سبحانه عباده من نفسه ومن أن يأمنوا مكره.
ولقد بينت الآيات أن الحق سبحانه شاء أن يجعل أوامره في القرءان مجالا لاختبار الإنسان، كما جعل الإنسان مخيرا في أمر الكفر والإيمان، وتبين الآيات بكل جلاء أنه ليس لأحد أن يكره الناس على الإيمان فإذا كان قد نهى أفضل خلقه عن ذلك فكيف بمن هم من دونه، والإيمان إنما يكون بإذن الله تعالى بمعنى أن من يريد الإيمان سيمهد له الحق السبيل إليه بمقتضى السنن، ولا يريد الإيمان أصلا إلا من أراد الإفادة من ملكاته، ولذلك فإن الله سبحانه يجعل الرجس على الذين لا يعقلون، فالذي يستحق الرجس هو ذلك الذي يرفض استخدام ملكاته الذهنية في مجالاتها الطبيعية، والذي لم يتدبر الأمر بما يلزم من الجدية، والله سبحانه يأمر الناس بالنظر فيما هو في السماوات والأرض من كائنات وأحداث، فالكائنات هي آياته والأحداث هي نذره وهى كافية تماما لمن أراد الحق، أما من أراد الجدل والمغالطة والمكابرة فلن يغني عنه ما يرى من الآيات والنذر.
-------
إن حرية الإيمان هي حق من حقوق الإنسان، ومن يريد أن يدعو إلى دينه أو أن يبينه للناس لا يجوز له أن يمنع الآخرين من أن يفعلوا مثله، ولا وجود لعقوبة دنيوية على المرتد، فالدين الذي يقرر بأقوى عبارات حرية الإيمان لا يعاقب من يمارس هذه الحرية، ولكن في حالة وجود أمة مؤمنة خالصة يتولى أمرها أولو أمر منها وتتحكم في مقدرات بلدها فإن لأولي أمر الأمة أن يبتوا في أمر المرتد طبقاً للأحوال والظروف، ففي حالة السلم: إذا كان قد ارتد لشبهات وشكوك اعتورته وتمكنت منه فإنهم يكونون مسئولين عن معالجته ومداواته، ولهم أن يعزلوه إذا كان قد أصبح كافراً عنيدا يُخشى منه على غيره، أما إذا كانت أمة المسلمين في حالة قتال شرعي مع دولة معتدية تقاتلها في دينها أو تحاول إخراج المسلمين من ديارهم فإن كل فرد من الأمة يعد بمثابة جندي من جنودها، فإذا اعتنق أحد الأشخاص دين الأعداء وأعلن ذلك وأصبح يعمل لحسابهم فإنه يكون قد اقترف جريمة الخيانة العظمى مكتملة الأركان.
أما في الدولة الحديثة حيث يتعايش المسلمون مع غيرهم فيجب على الكل أن يلتزموا بالمواثيق الدولية الموقع عليها ومنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ويجب على المسلمين أن يقوموا بواجب الدعوة إلى الله، ومن لوازم ذلك أن يرتقوا بأنفسهم وأن يقدموا للآخرين الأسوة الحسنة حتى يجتذبوهم إلى دين الله، وليس لهم أن يكونوا أول كافر بالدين أو أول صادٍّ عن سبيله، ومن أبشع الجرائم المشينة أن يشترطوا على من أراد أن يسلم أن يقبل بأن يُقتل !!!!! إذا ما ارتد عن الإسلام!!؟!!
------------
إنه لا خيار لأقوام الرسل في شأن الإسلام، ذلك لأن رسولهم قد بُعث إليهم بلسانهم وأقام عليهم الحجج وجاءهم بالآيات والبيِّنات التي يرى رب العالمين أنها كافية تماما لإقناع السويّ منهم، لذلك كان لابد من حسم أمر كل واحد منهم على حدة، لقد أراد الله أن يكون للرسالة الخاتمة حملة، ولم يأمر الله ورسوله بقتل المنافقين لأنه كان سيخرج من أصلابهم مؤمنون حقيقيون يحملون الراية ويجاهدون مع من سبقهم بالإيمان، وكذلك قُبِل إسلام الأعراب على أمل أن يتسرب الإيمان إلى قلوبهم شيئاً فشيئا، كذلك لم يكن يجوز لأحدهم أبداً الارتداد عن الإسلام، ومع كل ذلك فلقد فُوِّض أمر المرتدين إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لذلك عفا عن بعضهم وأمر بقتل البعض الآخر، ومن أمر بقتلهم كانوا أشدهم خطورة على كيان أمة وأمعنهم في الغدر والخيانة، أما غير أقوام الرسل فحكمهم إلى الله، وحكم الله موجود في كتاب الله.
-------
إن المرتد غير المجاهر بردته هو منافق ولا سبيل لأحد عليه، ولكن يجب الحذر التام منه، أما المجاهر بردته فيجب قبل النظر في أمره معرفة ما يلي:
1.        إنه لا خيار لقوم أي رسول بعد أن جاءهم بالبيِّنات وأقام عليهم الحجج؛ فهم مطالبون بالإسلام بمعنى الانقياد والإذعان وبالمعنى الظاهري، وإلا فلابد من حسم الأمر معهم، والإسلام الظاهري هو جماع ما يعلن به الإنسان من الناحية الظاهرية على الأقل انتماءه للأمة المؤمنة المسلمة ومسالمته لها وولاءه لها، وفيه قال تعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}التوبة5، {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }التوبة11، {قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} الحجرات: 14، وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ }آل عمران20، وهو يتضمن الأركان الخمسة المعلومة ولا يتضمن بالضرورة إيماناً أو إحساناً، وهو الإسلام الذي كان قوم الرسول مُطالَبين به، وبه يكتسب المرء الهوية الإسلامية أي يكون من حقه أن يكون عضواً في الأمة الإسلامية، ويكون له كافة حقوق المسلم ولو كان يُخفِي نفاقاً عريقا ويكون ملزماً بما عليه من واجبات، ومثل هذا لا يجوز إخراجه من الجماعة المؤمنة وإن كان يجب أخذ الحذر منه وجهاده بالقرآن.
2.        إن كل فرد مسلم في حالة وجود أمة إسلامية حقيقية مالكة لمقدراتها هو جندي من جنودها.
3.        في حالة وجود أمة إسلامية حقيقية فإن المرتد في حالة معركة مصيرية لها على أسس دينية مع أطراف معادية هو قوة تخصم من رصيد الأمة وتضاف إلى الطرف المعادي لها، فإذا ما جاهر بميوله العدوانية تجاه أمته وظاهر عدوها عليها فإنه يكون بذلك مقترفاً لجريمة الخيانة العظمى.
فتلك الشروط مجتمعة كانت تعطي الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ الحق في الأمر بقتل من ارتد، ومع ذلك فلقد كان كما تثبت سيرته الحقيقية لا يستعمل هذا الحق إلا في الأحوال الضرورية النادرة، ويجب العلم بأنه كان على الرسول أن يتعامل مع الأعراب وكانوا أشد الناس شراسة وعدوانية وغدراً وهمجية وعدم اكتراث بالعهود والمواثيق، وكانوا يعتبرون ما لدى الآخرين حقا لهم يتعين عليهم الاستيلاء عليه إذا تمكنوا من ذلك، وكانوا يتباهون بذلك، كان الأعراب يقدسون القوة، وكان في إظهار قدر من الشدة معهم حفظاً للأمن وصيانة للدماء.
أما من هم من غير أقوام الرسل فهم مخيرون تماما في أمر الإيمان، ويجب أن تقوم الأمة بواجباتها تجاههم، فهي ملزمة بدعوتهم إلى الخير وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر بالوسائل السلمية المشروعة، والأمر كله توضحه الآية:
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} آل عمران64.
والحالة الطبيعية هي حالة السلم والبر والإقساط، قال تعالى:
{وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} الأنفال61، {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }الممتحنة8.
أما الآن فالنظام السائد هو وجود دُوَل بالمفهوم العصري الحديث، لذلك فالوضع مختلف تماماً، فلا وجود لأمة إسلامية بالمعنى الشرعي، وإنما توجد تجمعات من المحسوبين على الإسلام، وتلك التجمعات أكثر الناس فيها فاسقون وظالمون وكافرون ومنافقون ومرتدون أو رقيقو الدين أو ذوو تدين زائف منقوص أوعملاء للشياطين، فلا يجوز الارتكان إلى وجود إيمان حقيقي راسخ لديهم، فالمسلمون الحقيقيون لا يشكلون في أية دولة في العالم الآن إلا قلة على أي مستوى من المستويات الحقيقية، وهم غير مكلفين أصلاً إلا بما هو في وسعهم، وأفضل ما هو ممكن في حالة كهذه هو التمسك بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي يكفل لكل إنسان حرية العقيدة، فهو الذي يضمن لكافة الأقليات وكذلك للمسلمين الحقيقيين حقوقهم وإلا فسينقض عليهم الضالون المشركون المحسوبون ظلما على الإسلام.
وبافتراض أنه قامت بالفعل أمة إسلامية حقيقية فإن أمر المرتد هو مفوَّض إلى أولي الأمر، ذلك لأن المرجع الأوحد في كل أمور الدين الكبرى هو القرآن الكريم، ولقد سكت القرآن عن تقرير عقوبة دنيوية على المرتد، وهذا يعني أن أمره مفوض إلى أولي أمر الأمة في حال وجودها.
وطالما يرحب المسلمون الآن ويبتهجون بكل من يبدل دينه ويعتنق الإسلام وينضم إلى مجتمعهم فليس لهم أن يقتلوا من اعتنق ديناً آخر منهم، ويجب من الأصل أن يتعلم كل مسلم مدى خطورة الارتداد عن دينه وأن ينشأ مدركاً لسمو دينه ورقي قيمه، أما العقوبة الدنيوية على الردة فلا وجود لها وإنما للأمة الإسلامية في حالة وجود دولة لها أو وجود كيان سياسي يصرف أمورها وكانت في حالة حرب دينية مع أمة أخرى أن تسن العقوبة الملائمة لمن يخرج عليها ويحاول الالتحاق بأعدائها ومؤازرتهم.  
-------
إن السبب الرئيس لما يُسمَّى بحروب الردة والذي تجاهله الناس عمدا أو جهلا هو أن العرب والأعراب لم يجدوا أنفسهم ملزمين بما اتفق عليه بعض القرشيين وأهل المدينة في السقيفة، فمن المعلوم بالضرورة أن الرسول لم يؤسس دولة لا بالمعنى القديم ولا بالمعنى الحديث، وإنما أسس أمة، وكان يكتفي من قبائل العرب بإعلان إسلامهم وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وكانوا يؤدون الزكاة له هو أو لمن يمثله لديهم بموجب الأمر القرءاني: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}التوبة103، وكان يتركهم بعد ذلك على ما كانوا عليه من نُظُم ولا يتدخل في شئونهم الخاصة، ولكونه لم يؤسس دولة لم يكن ملزما بأن يعيِّن لها رئيساً من بعده! وهذا أمر بديهي، ففوجئ هؤلاء العرب والأعراب بأنهم مطالبون بإيتاء الزكاة لمن ليس بنبي ولم يختاروه أو يشاركوا في اختياره، فهذه الحروب هي بالأحرى حروب تأسيس الدولة وتوحيد العرب بالقوة، وكان إدراك ضرورة ذلك هو من عبقرية الصديق الإستراتيجية، ولو تولى غيره بما فيهم عمر بن الخطاب لما أقدم على مثل هذه الحروب، ولتغير مجرى التاريخ ولظلّ الإسلام ينتشر بالطرق الشرعية المعلومة مثلما حدث مع المسيحية من قبل، فلا علاقة لاجتهاده بالإسلام أصلا!!
-------
هذا الاسم (حروب الردة) هو الاسم الذي غلب على هذه الحروب بسبب وجود بعض من ارتد عن الإسلام بالفعل، ولكنها لم تكن ضد المرتدين وحدهم، والسبب الرئيس الذي تجاهله الناس عمدا أو جهلا هو أن العرب والأعراب لم يجدوا أنفسهم ملزمين بما اتفق عليه بعض القرشيين وأهل المدينة في السقيفة، فمن المعلوم بالضرورة أن الرسول لم يؤسس دولة وكان يكتفي من قبائل العرب بإعلان إسلامهم وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وكان يتركهم بعد ذلك على ما كانوا عليه من نظم ولا يتدخل في شئونهم الخاصة، ففوجئ هؤلاء بأنهم مطالبون بإيتاء الزكاة لمن ليس بنبي ولم يختاروه أو يشاركوا في اختياره، فهذه الحروب هي بالأحرى حروب تأسيس الدولة وتوحيد العرب، وكان إدراك ضرورة ذلك هو من عبقرية الصديق الإستراتيجية، ولو تولى غيره لما أقدم على مثل هذه الحروب.
-------
الإسلام يقرر حرية العقيدة في آيات عديدة بأقوى أسلوب لغوي ممكن، ولم يقتل الرسول أحداً لمجرد أنه ارتد، بل قتل من أتبع ردته بأن خان وانضم لصفوف الأعداء في حالة حرب معلنة أو تورط في حرب سافرة ضد المسلمين، وقتل مثل هذا حق مشروع في كافة الشرائع السماوية والأرضية.
ولقد ارتد عبد الله بن سعد ابن أبي السرح وكان من كتبة الوحي وقال إنه يمكنه أن ينزل مثل ما أنزل الله وانضم لصفوف كفار قريش، ومع ذلك عفا عنه الرسول وقبل شفاعة عثمان فيه، ولو كان للردة عقوبة مقررة أو حدّ لما قبل الرسول فيه شفاعة فلم يكن يقبل أية شفاعة في حد من حدود الله تعالى.
-------
من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: "لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سرا أم جهرا متفردا أم مع الجماعة".
إن هذا البند هو مقتضى العدل في دولة حديثة متعددة الأديان والمذاهب، فإذا كان المسلم يعتقد أن من أركان دينه الدعوة إلى الإسلام واجتذاب الناس إليه (وهو محق في ذلك تماماً) فإن أتباع الأديان الأخرى لديهم نفس الاعتقاد، سيقول السلفية إن عليهم إذاً أن يقاتلوا هؤلاء الآخرين لإلزامهم إما بالإسلام أو بدفع الجزية والعيش تحت مظلة المسلمين مع خضوعهم لأحكام الصغار، وهذا هو اعتقاد المذهب السني التقليدي القائل بالناسخ والمنسوخ والمقدس للآثار، وهذا الاعتقاد هو خطأ محض وجريمة ضد الإنسانية، ومن الأولى بالسلفية أن يتعرفوا على دينهم وأن يتفقهوا فيه من قبل أن يجلبوا على المسلمين عداء العالمين بلا أي مبرر، أما بمقتضى دين الحق فإن سبل الدعوة الشرعية معلومة، وكلها أساليب سلمية لا جبر ولا إكراه فيها، ولذلك فعلى المسلمين أن يكونوا أول المتمسكين بهذا البند وأول من يحسن الإفادة منه.
سيقولون فما بال حد الردة؟ إنه لا يوجد في الإسلام ما يُسمى بحد الردة، ولا توجد سلطة أرضية لها الحق لتحكم بالردة على مسلم يعلن إسلامه، ومن كبائر الإثم أن يشترطوا على من يريد أن يسلم أن يقتل إذا ارتد عن دينه.
إن الارتداد عن الإسلام هو أبلغ عقوبة يمكن أن يصاب بها إنسان، بل إن المرتد عن الإسلام يفقد لتوه إنسانيته ويصبح أضل من الأنعام، ولكن في الدولة العصرية الحديثة لا يجوز معاقبة الإنسان لتخليه عن دين أو لاعتناقه أي دين آخر، أما في حالة وجود أمة إسلامية حقيقية خالصة يقوم بأمورها أولو أمر منها وتملك مقدراتها فإنها تصبح بذلك جسداً واحداً، فمن ارتد فعقابه أن يلفظه الجسد كما يلفظ أي خبث أو أي جزء فاسد، ولكن لا توجد عقوبة دنيوية له، ولا يجوز لأحد محاكمته أو التفتيش عما يضمره أو الحكم عليه، أما إذا كانت هذه الأمة في حالة حرب دينية مع أعدائها واعتنق هذا المرتد دين الأعداء وظاهرهم على المسلمين فإن لأولي أمرها حق اتخاذ كل ما يلزم للدفاع عن الأمة ضده وحماية نفسها من شره، وذلك حق مقرر لكل أمة لا يستطيع أحد أن يماري فيه.
أما في العصر النبوي حيث كان لابد من حسم الأمر تماماً مع من أبى الإيمان من قوم الرسول بمقتضى السنن الإلهية وحيث كان الفرد بكيانه هو المقاتل وهو القوة والسلاح فإن ارتداد من كان مسلماً وانضمامه كقوة مقاتلة إلى صفوف الأعداء مع ما يعرفه عن المسلمين وعن نقاط ضعفهم يعادل فرار طيار مثلاً بطائرته وبما يعرفه من أسرار عسكرية من بلده إلى بلد في حالة حرب معها وانضمامه إلى قواتها، ولا شك أن البلد الجاد المسئول لابد من أن يعمل على تصفية هذا الخائن.
-------
من الكلمات المهلكة والأخطاء القاتلة التي تتضمن إساءة للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ ولا يوجد لها أي مبرر أو مسوغ شرعي قول أبي بكر الصديق غفر الله له: "والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه للنبي لقاتلتهم عليه"!!!!!
كان العرب يؤتون الزكاة وفقا للأمر القرءاني: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} التوبة103
فهم كانوا يعلمون أن الصدقات أمر خاص بالرسول فقط، والرسول لم يدمجهم في كيان سياسي واحد بل ترك الأمور على ما كانت عليه؛ أي بلغة العصر الحديث: احترم استقلالهم السياسي واكتفى بأن أرسل إليهم من يعلمهم أمور دينهم ويقضي بينهم ويأخذ الصدقات منهم.
فلما انتقل الرسول فوجئوا بأن بعض أهل المدينة –وليس كلهم- قد اختاروا أبا بكر ليتولى أمورهم دون أن يشركوهم في الاختيار، فلم يستوعبوا ذلك الأمر، فتمردوا، إذ كانوا يعتبرون دفع الأموال إلى أناس آخرين إهانة لكرامتهم.
وكلمة أبي بكر تعني أنه أعطى لنفسه حقوق الرسول، وتظهر استهانة بالقتال وسفك الدماء، فمن تمردوا كانوا مسلمين، وظلوا على تمسكهم بالإسلام، وكان من حقهم أن يجدوا من يبيِّن لهم الأمر وليس من يرسل إليهم الجيوش الجرارة لتفتك بهم.
أما المرتدون فقد كانوا معروفين ولم يكن يجوز أن يتم وصف المسلمين المتمردين بالردة طالما لم يعلنوا الكفر! وذلك بالطبع ظلم مبين! فالامتناع عن دفع الزكاة لأبي بكر الصديق أو لغيره لا يساوي أبداً الكفر بالله ورسوله وكتابه، والمسلمون الذين قتلهم السلف ظلما في هذه المعارك لم يسلموا من ألسنة الخلف الذين ما زالوا يسمونهم بالمرتدين!!!
-        كان موقف أبي بكر اجتهادا منه، وقد عارضه عمر بن الخطاب كما هو معلوم، وهو سيصبح خليفة من بعده، والخلفاء لم يكونوا أربابا بل هم بشر غير معصومين.
-        والرسول كان ولي أمر الأمة، وكانت طاعته واجبة لكونه نبيا مرسلا ولكونه ولي أمر الأمة، الأمة شيء، والدولة شيء آخر تماما، والذي اتهمه بأنه ملك هم أعداؤه ومازالوا يفعلون، وهو قد رفض الملك بكافة صوره!
-        كلا، لم يكن الرسول ملكا أبدا، ولا جدوى من العبارات الإنشائية في مواجهة الحقائق القرءانية!
-        لم يتخذ النبي أحدا من أهل القرن الأول أعضاء لجسده، فلم يكن له رجل أو قدم منهم، كما لم يتخذ منهم خليلا أو حميما، وبعد أن بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة فقد أصبح شهيدا عليهم، قال تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ }النحل89، {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً{41} يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً{42}النساء، فأرجو ألا يحاول أحد تكذيب الله تعالى بأساليب ملتوية، فمن كبائر الإثم مخادعة الله والذين آمنوا!
-        كان أبو بكر الصديق من السابقين الأولين ومن أفضل المسلمين، ولكن يجب أن تؤمن بأنه لم يكن ربا ولا ولا نبيا ولا معصوما ولا خليلا للرسول وأن تعمل بالفعل بذلك، وكل قراراته كانت اجتهادات منه، هو وحده الذي يتحمل مسئوليتها، ولا يجوز القول بأن قراراته كانت قرارات إلهية أو إنها كانت وحيا يوحى! ولا يجوز لأحد أن يزعم أن فلانا من الناس هو مصداق لآية معينة على سبيل القطع، فهذا من التالي على الله تعالى، وهو مخالف لقوله تعالى: {.....فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى }النجم32، وقد سبق أن حذرت: فأرجو ألا يحاول أحد تكذيب الله تعالى بأساليب ملتوية، فمن كبائر الإثم مخادعة الله والذين آمنوا!
-        يا لك من مسكين ضال!! الرسول كان يتمنى أن يتخذه خليلا؟؟!! فاكتفى به أخا، هل الأخوة أقل مرتبة من الخلة؟؟؟!!! كفى هراء وتقديسا للبشر وتطاولا على مقام الرسول، واعتبر هذا إنذارا! لا مكان هنا لعبدة البشر المستهينين بقدر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ.
المجادل كان أحمديا قاديانيا، ومغالاتهم في تقديس البشر ليبرروا للناس ولأنفسهم الزعم بأن زعيم طائفتهم كان المسيح والمهدي المنتظر في نفس الوقت!
-------
إن حرية الإيمان هي حق من حقوق الإنسان، وهي من أركان منظومة القيم الإسلامية كما أنها سنة كونية وسنة دينية، وهذا يعني أن المسلم يتعبد إلى ربه باحترام حرية الإيمان وبالإيمان بأن الفصل بين الناس في الأمور الدينية مؤجل إلى يوم القيامة الذي هو يوم الفصل.
-------
لا يوجد في دين الحق ما يسمى بحد الردة، ولقد خلط الناس بين أمرين لا علاقة بينهما من يخرج على أمة الإسلام وينضم إلى صفوف أعدائها في حالة حرب، وذلك ما يعرف الآن بالخيانة العظمى والانضمام إلى العدو وتهديد وجود الأمة وعقوبته معروفة وبين ترك الإسلام لأي سبب من الأسباب مع مسالمة أهله وعدم الاعتداء عليهم.
-------
المرتد عن الإسلام هو في النار، ولا توجد عقوبة دنيوية عليه، ولقد أعطى الله تعالى للناس حرية الاختيار بين الإيمان وبين الكفر، لذلك فهو لن يأمر أحداً من خلقه بمعاقبة من استعمل حقاً هو الذي قرره له، ولكنه رحمة بخلقه نبأهم بعاقبة هذا الاختيار حتى لا يكون لأحد عليه حجة، قال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً }الكهف29.
فالقرءان لم يقرر عقوبة دنيوية على المرتد، ولا مجال للقول بأن المرويات الظنية يمكن أن تنسخ آية قرءانية، بل للقرءان الهيمنة التامة على كل مصادر المعلومات الأخرى.
ولا توجد سلطة دنيوية من حقها أن تحكم على إنسان بالردة، ولا يمكن القول بأن مسلما قد ارتد إلا إذا أعلن ذلك بنفسه على رءوس الأشهاد ولم يتراجع عنه.
أما العقوبة التي ظن الناس أنها للردة فإنما تكون لمن خان الأمة وانضم إلى أعدائها الذين يشنون عليها حربا عدوانية بسبب دينها.
-------
لا وجود لما يُسمَّى بحد الردة في الإسلام، وتطبيق هذا الحدّ المزعوم على رجل مسلم هو جريمة كبرى سيترتب عليها خلود كل من شارك في القتل في النار بالإضافة إلى استحقاقهم اللعنة والغضب الإلهي الذي لا قبل لهم به: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} النساء93
ولا تملك أية سلطة أرضية أصلا حق الحكم على مسلم بأنه مرتد، وحرية الإيمان هي حق قرءاني مقرر لكل إنسان، فلا توجد أية عقوبة على ممارسة الحق، ولا يجوز أن يدفع الإنسانُ أي مال مقابل تركه يمارس ما هو حق له، وكل من أخذ مالاً من إنسان مقابل تركه على دينه فقد أخذ سحتا وأكل في بطنه نارا!
-------
الحروب المسماة بحروب الردة كانت حروبا لإلزام العرب بالخضوع لسلطة مركزية واحدة دون قيد أو شرط، فهي حروب تأسيس دولة موحدة سياسيا بالمفهوم الحديث، وهذا أمر لم يفعله الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ ولم يكن للعرب عهد به، فالرسول لم يحاول أبدا دمج الناس في كيانٍ سياسي واحد، بل كان يترك كل قبيلة أو مدينة وشأنها، وعلى النظام الذي كانت عليه، وكان يكتفي بإرسال من يعلمهم مبادئ الدين ويقضي بينهم ويجمع الصدقات، أما قرار أبي بكر بالحرب فكان قرارا بشريا سياسيا بكل ما يحمله ذلك من معنى، وكان محلّ استغراب العرب هو بأية صفة يطالبهم أبو بكر بدفع الزكاة والخضوع له مع أنهم لم يشاركوا في اختياره، ولا يوجد نصّ ديني يلزمهم بذلك! والنص القرءاني يلزمهم بأن يؤدوا الزكاة إلى الرسول بصفته كرسول، وهو كان يأخذها من أغنيائهم ليردها على فقرائهم.
والقرارات البشرية لها مزاياها وعيوبها وعواقبها السريعة والبعيدة، ولا يجوز أن يفرض رأي معين بخصوصها على الناس، فلا يجوز تحويل التاريخ وآراء البشر إلى دين!
ومن المعلوم أن من ارتدوا كانوا معروفين تماما، وكانوا محدودين، وكذلك كان هناك (صحابة) قتلوا ومُثِّل بهم رغم أنهم أعلنوا أنهم مسلمون مثل مالك بن نويرة.
-------
لا يوجد إنسان على وجه الأرض يستطيع أن يجزم بأنه سيكون في الجنة، أو أن الله هو ربه وحده من دون الناس أو أن الله تعالى اتخذه وكيلا وأعطاه سلطة التفتيش على ضمائر الناس والتأكد من سلامة إيمانهم، ولذلك فإن من العبث مجرد تصور أي إنسان أن من سلطته الحكم على الآخرين بالردة رغم إعلانهم أنهم مسلمون يؤمنون بالله واليوم الآخر، إن أوروبا لم تبدأ خطواتها الجادة نحو نهضتها الهائلة إلا عندما صاح فولتير صيحته المدوية:  écrasez l'infâme اسحقوا الدنس، أو اسحقوا العار crush the infamous thing، للتخلص من أعداء الإنسانية والحضارة والتقدم.
-------
لا توجد أصلاً أية سلطة أرضية تملك حق اتهام أي مسلم بأنه مرتد خاصة إذا كان يعلن تمسكه بالإسلام، ولا توجد بالتالي أية عقوبة على من يتهمه البعض بأنه مرتد، ومن قُتلوا بعد ارتدادهم في العصر النبوي كان لاقترافهم تهمة الخيانة العظمى والانضمام إلى أعداء الأمة ومناصرتهم في وجود حالة حرب، ولو كانت توجد عقوبة شرعية على الردة لما قبل الرسل شفاعة عثمان في أشهر المرتدين وهو عبد الله بن أبي السرح الذي ارتد وقال إنه يمكن أن ينزل مثل ما أنزل الله، فنزلت فيه الآية: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ }الأنعام93، ومن المعلوم أن الرسول لم يكن يقبل أية شفاعة في حد من حدود الله تعالى، ومن المعلوم أنه لفداحة الجريمة التي اقترفها (الصحابي الجليل) ابن أبي السرح فقد أمر الرسول بقتله ولو وُجد متعلقا بأستار الكعبة، ولكنه اختبأ عند عثمان (أخيه من الرضاعة أو أخيه لأمه) حتى شفع فيه عثمان وقبل الرسول شفاعته بعد إلحاح شديد منه، وقد دفع عثمان ثمن فعلته هذه غالياً من بعد، فقد ولى ابن أبي السرح أمر مصر فطغى وبغى وأفسد في الأرض فثار المصريون عليه وذهبوا إلى عثمان طالبين عزله، فبدأت أحداث الفتنة التي قُتل فيها عثمان ولم يغنِ عنه قريبه فيها شيئا!
-------
إن المرتد غير المجاهر بردته هو منافق ولا سبيل لأحد عليه، ولكن يجب الحذر التام منه، أما المجاهر بردته فيجب قبل النظر في أمره معرفة ما يلي:
وبافتراض أنه قامت بالفعل أمة إسلامية حقيقية فإن أمر المرتد هو مفوض لأولي الأمر، ذلك لأن المرجع الأوحد في كل أمور الدين الكبرى هو القرءان الكريم، ولقد سكت القرءان عن تقرير عقوبة دنيوية على المرتد، وهذا يعني أن أمره مفوض إلى أولي أمر الأمة في حال وجودها.
ومن المعلوم أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يؤسس دولة بالمفهوم المعلوم ولا وفقاً لأي مفهوم، ولم يكن ذلك من مهامه أبداً، وإنما علَّم وربَّي أمة تحكم نفسها بنفسها بواسطة أولي أمر منها، أما ما حدث من بعد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو أن أبا بكر الصديق قد أدرك أنه لابد من تأسيس ما هو أشبه بالدولة للأمة التي تركها الرسول، وكان لزاماً عليه أن يقاتل دفاعاً عن مركز تلك الدولة ولتأسيسها، لذلك فلقد قاتل كل من شكل تهديداً فعلياً لمقاصده وإن لم يرتدّ، فهو قد رأى وجوب خضوع كل العرب لسلطة سياسية مركزية واحدة، وهذا كان رأيا ارتآه لم يفعله الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلقد كان الرسول يترك حال كل كيان أسلم على ما كان عليه، ولم يغير الأوضاع السياسية لتلك الكيانات، وهو كحامل للرسالة الخاتمة الملزمة للناس إلى يوم الدين لم يكن مكلفاً بإنشاء كيان وقتي لابد أن يتجاوزه العصر من بعد، ولقد تفوق الصديق على باقي السابقين الأولين بالإدراك السريع لما يلزم الأمة الوليدة وكذلك لضرورة الالتزام بشيء من الواقعية في معالجة الأمور، وكان ذلك اجتهاداً منه، وسرعان ما أدركوا بالفعل مراميه وعاينوا ثمار قراره الاستراتيجي الصائب وأقروا له بالفعل بتفوقه عليهم، ولكن كان لابد لمثل هذا القرار كأي قرار بشري من آثاره الجانبية، وكان من ذلك الجرائم التي اقترفها بعض قادة الجيوش، ومنها جريمة قتل مالك بن نويرة بطريقة بشعة وسبي امرأته وجرائم قتل بعض الأسرى وتجاوز كل حد في عقاب الناس، ولا يجوز تحميل الإسلام وزر تلك الجرائم وإنما يتحملها من أمر بها أو قام بها ومن لم يتخذ ما يلزم لعقاب مقترفيها، والمسلم ليس بملزم بالدفاع عن اقتراف جرائم كهذه، إن مثل تلك الأعمال غير مبررة من حيث مبادئ الإسلام وقيمه، ولكنها كانت لازمة لبناء الدولة والحفاظ عليها، فكان لابد منها لبث الرعب في قلوب الأعراب الشرسين المتمردين، ولا علاقة لهذه الأعمال بالإسلام، ولا يجوز أن تتحول إلى أمور مقدسة، فمكان دراستها الطبيعي هو كتب التاريخ، أما عبيد الأسلاف فهم أضل من الأنعام وسيتحملون وزر صد الناس عن الإسلام.



*******

هناك تعليقان (2):