الخميس، 16 أبريل 2015

الركن الخامس عشر (ج1)

الركن الخامس عشر (ج1)
الدعـوة إلى الله

إن الدعوة إلى الله تعالى هي ركن ركين من أركان الدين، وهي ركن ملزم لكافة الكيانات الإنسانية الإسلامية من الفرد إلى الأمة، وكلما كبر الكيان كلما اشتدت درجة إلزام ووجوب هذا الركنِ بالنسبة له.
والدعوة إلى الله تعالى تتضمن: الدعوة إلى دين الحق والدعوة إلي الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعمل لإعلاء كلمات الله، وهي كذلك دعوة الناس إلى القيام بأركان الدين لتحقيق مقاصد الدين، وهي كذلك دعوة الناس إلى التحلي والتمسك بعناصر منظومة القيم الإسلامية، ويزداد ثقل هذا الركن وأهميته بازدياد وتعاظم إمكانات الكيان وحجمه.
فالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي ركن أصيل كبير ملزم للأمة، فهو من مقوماتها ومن مبررات ومقاصد وجودها، وهذه الدعوة هي من أبرز مظاهر سمة الإيجابية التي هي من أركان المنظومة الرحمانية أي منظومة القيم الإسلامية والتي يجب أن يتسم بها كل كيان مسلم.
وجوهر الدعوة إلى الله هو الدعوة إلى الإيمان بالإله الواحد الذي له الأسماء الحسنى والشئون والأفعال والسنن المذكورة في القرءان الكريم.
*******
من أركان الإسلام الدعوة إلى الله تعالى والعمل لإعلاء كلمته باستخدام السبل المبينة في الكتاب، والدعوة إنما تكون بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن وتقديم الأسوة الحسنة والعمل الصالح واستمالة وتأليف القلوب، وتلك الدعوة إنما تكون إلي كل الأخلاق والقيم التي اقتضتها الأسماء الإلهية الحسني، وتلك القيم تتضمنها المنظومة المعنوية الرحمانية؛ أي منظومة القيم الإسلامية القرءانية، ومجال الدعوة هو الأقرب فالأقرب علي كافة المستويات، وعلي كل داعية أن يبدأ بنفسه، وعليه عندما يدعو الناس إلى خلقٍ ما أن يجعل نفسه في زمرة من يدعوهم، والدعوة هي واجب علي المؤمن تجاه البشرية جمعاء، ومن لوازم هذا الركن الشهادة لله تعالى والدعوة إليه والدعوة إلي الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن كبائر الإثم المضادة لهذا الركن صد الناس عن سبيل الله وإعطاء صورة مشوهة للدين والدعوة إلي مذاهب المغضوب عليهم والضالين والملحدين في أسماء الله والفاسقين والمفسدين في الأرض.
والآيات الآتية تبين أهمية ومكانة هذا الركن:
{قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}يوسف108  *  {....قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ }الرعد36  *  {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }المؤمنون73  *  {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125  *  {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ }الحج67  *  {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}القصص87  *  {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ }الشورى15  *  {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ }فصلت33.

والآيات الآتية تبين مدى إلزام هذا الركن للأمة:
{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }آل عمران104  *  {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ }آل عمران110  *  {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(71) (التوبة) * {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ }الحج41.
والآيات تنص على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من لوازم هذا الركن الملزم للأمة وتتضمن وعداً من الله تعالي بأنه سيرحم الأمة التي تعمل به وأن العمل بهذا الركن من أسباب الفلاح وأنه من علامات خيرية الأمة.

ومن لوازم هذا الركن الشهادة لله تعالى والدعوة إليه والدعوة إلي الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن كبائر الإثم المضادة لهذا الركن صد الناس عن سبيل الله وإعطاء صورة مشوهة للدين والدعوة إلى مذاهب المغضوب عليهم والضالين والملحدين في أسماء الله والفاسقين والمفسدين في الأرض، وليس من وسائل الدعوة الاعتداءُ على المسالمين، فالعدوان من كبائر الإثم التي أعلن الله تعالى أنه لا يحب مقترفها، ولا يمكن الدعوة إلى سبيل الله تعالى باستعمال الأساليب الفاحشة ولا الكلمات البذيئة، إن الوسيلة في الإسلام يجب أن تكون شرعية، ولا يمكن التقرب إلي الله تعالى باقتراف ما نهى عنه.
إن الدعوة إلى الله تعالى هي ركن واجب علي كل فرد وهي أيضاً من أركان الدين العظمى الواجبة علي الأمة، فالدعوة إلي الله من المهام الكبرى المنوطة بالأمة الخيرة الصالحة الفائقة وبكل فرد من أفرادها، وتلك الدعوة لها لوازم وتفاصيل عديدة فقد تكون دعوة إلى الإيمان بالله تعالى كما تحدث عن نفسه فى القرءان وقد تكون دعوة موجهة إلى الكافرين ليؤمنوا بربهم أو إلى المشركين لينبذوا شركاءهم وليخلصوا العبادة لربهم، وقد تكون دعوةً إلى نبذ الشيع والطوائف التى فرقت الدين ومزقت الأمة، وما تفرقت هذه الأمة إلا لنقصٍ ما عندها أو لشرك كامن في نفوس أبنائها، وقد تكون دعوة إلى التعرف على قوانين الله وسننه والالتزام بها والعمل بمقتضياتها والتوافق معها، وقد تكون دعوة إلي التمسك بقيمة من القيم الإسلامية أو إلي العمل بسنة دينية تجاهلها الناس أو وأدوها.
وحيث أنه لا توجد الآن سلطة جامعة تمثل كل المسلمين فلقد أصبحت المسئولية مضاعفةً على كافة الكيانات الإنسانية بما فيها الأفراد، ومجال الدعوة ليس فقط أتباع الملل والنحل الأخرى وإنما يشمل كل كيان إنساني، فالدعوة إلى الله تعالى تتضمن الدعوة إلى التمسك بكتابه وإلى اتباع رسوله وإلى التحلي بكل صفة أثنى عليها وإلى القيام بأركان دينه لتحقيق مقاصده.
فالدعوة هي الركن الذي يُلزم كلَّ مسلم بحث الناس ونفسِه على القيام بأركان الدين بما فيها ركن الدعوة أيضاً، ومن الأركان التي يجب الدعوة إليها الآن بصفة خاصة ركنُ وحدةِ الأمة، وهو يتضمن العمل على إطفاء نيران الفتن المذهبية والعصبية والقبلية والقومية.
إنه على كل مسلم أن يدعو إلي الله باستعمال الوسائل الشرعية المنصوص عليها في القرءان، والدعوة تكون إلى التمسك بكل عنصر من عناصر دين الحق، والعناصر تتضمن القيم والسنن والخصائص والمقاصد والأركان، فالدعوة إلى القيام بالقسط والحكم بالعدل والعمل الصالح هي من الدعوة إلي الله تعالي، ويجب العلم بأن القتال ليس من الأساليب الشرعية للدعوة، والقول بذلك يتضمن شتى أنواع المغالطات والمخالفات، بل هو جريمة كبرى وإثم مبين.
إن الداعي إلي الله تعالي ينبغي أن يكون علي قدر المهمة التي يريد القيام بها، فيجب أن يكون مثلاً أعلي في الطهارة والرأفة والرحمة والعدالة والسماحة والحلم الحنان والرقة والحياء والصفح والصبر والكياسة والمروءة والإنسانية والإنصاف والسمو الخلقي والتفوق النظري والعملي والحب للبشرية جمعاء والنصح لهم وحب الخير لهم، وقبل كل ذلك يجب أن يتحقق بالإسلام الجوهري فيكون مزكياً لنفسه وعلى صلة وثيقة بربه ذاكراً له معظماً لكتابه متأسياً برسوله، وبالطبع لا يحق له أن يتكسب بالدعوة بمثل ما لا يجوز له أن يتكسب بإقامة الصلاة أو صيام رمضان! فالدعوة إلى الله تعالى هي ركن ديني ملزم، وهي ليست مهنة للتربح.
والداعي إلي الله مأمور بأن يتلو على من يدعوهم آيات الكتاب ليس على سبيل التكسب والاسترزاق ولكن قياماً بركن ديني ملزم، أما من يعرض عن آيات ربه من بعد أن تتلى عليه فهو يعرض نفسه للهلاك على المستوى الباطني الجوهري في الدنيا وعلى كافة المستويات في الآخرة.
إن المسلمين مطالبون بالدعوة إلي دين الحق ولا شيء يساعدهم في سبيل ذلك أفضل من أن يؤمنوا هم أولا بدين الحق وأن يحققوا مقاصده في أنفسهم، وكذلك يساعدهم توفر حرية الفكر والعقيدة والتسامح علي المستوي العالمي، لذلك فمن الأفضل للمسلمين أن يعملوا علي الدفاع عن حرية العقيدة والفكر والمدنية والعلمانية بمعناها الصحيح بدلا من أن يكونوا أعداء ذلك، وبدلا من أن يعملوا علي تقويض المجتمعات التي يتوفر فيها ذلك، إن دين الحق قوي متين وهو إذا دخل في تنافس عادل وحر مع أي دين أو مذهب آخر فلابد له من الظهور والتفوق، لذلك فمن الأفضل للمسلمين في المجتمعات الغربية مثلاً بدلاً من أن يكونوا حرباً علي أوطانهم الجديدة التي وفرت لهم حرية العقيدة وحقوق الإنسان الأساسية أن يكونوا هداة وأن يقدموا للناس مُثل الإسلام العليا وقيمه المثلي، وعليهم أن يتطهروا من المذاهب التي فرقت الدين ومزقت الأمة وأن يقوموا بأركان الإسلام الملزمة للأمة.
إن دعوة الناس إلي الإسلام هي من أهم الأركان التي يمكن أن تظهر فيها سمات الإسلام، ومن أهم تلك السمات الشمول والعالمية، ومن لوازم ذلك الصلاحية لكل زمان ومكان، فسبل الدعوة تتنوع وتتطور مع ظروف كل عصر ومصر، ولا يمكن أن تكون الدعوة الآن بالخروج علي الناس بالجلابيب القصيرة واللحى الطويلة والشوارب المبادة والسيوف والرماح، ويجب ألا يخلط الداعية بين الإسلام الذي هو الدين العالمي الخاتم وبين عاداته وتقاليده هو أو عادات وتقاليد أهل القرن السابع الميلادي، كما لا يجوز له تحميل الإسلام أخطاء المحسوبين عليه على مدى التاريخ، فبافتراض أن أحد المتسلطين المحسوبين على الإسلام كان طاغية مجرما ومفسدا في الأرض فهو مخالف للإسلام معتد على قيمه، والمسلم ليس مطالبا بالدفاع عنه لمجرد أنه انتصر مثلا على الصليبيين في معركة، ويجب أن يترك الأمر لعلماء التاريخ ليقيموا أعماله بحياد وموضوعية.
إن المسلمين في كل عصر مطالبون بالتوصل إلى أفضل سبل الدعوة إلى سبيل الله عزَّ وجلَّ، فالكيان المسلم مطالب بهداية الناس وليس بصدهم عن سبيل ربهم، إنه لا يجوز التضحية بسمة من أهم سمات الدين وهي عالمية الدين في سبيل التمسك بعادات وتقاليد الأعراب والأقدمين، ومن المعلوم أن المحسوبين ظلماً على الإسلام يقومون بما هو مضاد للدعوة، فهم لا يكتفون بأن يصدوا الناس عن الإسلام بسلوكهم المشين بل هم يعملون على ارتداد المسلمين الآخرين، فهم بلا شك أخطر أدوات إبليس اللعين.
إنه لا يجوز أبداً اتباع وسائل غير مشروعة لنشر الإسلام أو لحمل الناس على الالتزام به، فلا يجوز أبداً لتحقيق شيء من ذلك استخدام الغزو أو القهر أو الترويع أو التآمر، ومن حاول ذلك سيجد نفسه وقد تدهور إلى مستوي المفسدين في الأرض والمجرمين، ومثل هذا ما له من ناصرين، فالمسلم الحقيقي هو رحمة للعالمين كما كان كذلك خاتم النبيين وسيد المرسلين، كما أن المسلم الحقيقي على خلق كريم كما كان خاتم النييين على خلق عظيم، إنه لا يجوز لأحدهم أن يزعم لنفسه أنه المسلم الحقيقي أو أن يزعم له غيره ذلك ثم يعطي لنفسه الحق ليفسد في الأرض وليسفك الدماء.
إنه يجب الالتزام بسنة الرسول الحقيقية في دعوة الناس إلي الإسلام والتدرج في مطالبتهم بالتزاماته، فلا يجوز أن يطالب من هو حديث عهد بالإسلام بكل ما يطالب به المولود مسلما في مجتمع مسلم دفعة واحدة بمثل أنه لا يجوز أن يطالب الطفل بما يطالب به الرجل الكبير، ولا يصح القول بأنه يجب أن يلتزم كل من كان حديث عهد بالإسلام بكل أوامره وجزئياته بحجة أن الدين قد اكتمل، ولقد كانت سنة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ أن يتألف قلوب هؤلاء ولو بالمال؛ أي بالمساعدات المادية والاقتصادية بلغة العصر الحديث، وليس أن يجعل الدين حرجاً عليهم، وكان من سنته أن يقبل الإسلام الظاهري منهم حتى يدخل الإيمان في قلوبهم، فلقد كان منفذا لأوامر ربه المنصوص عليها في الكتاب الذي أوحي إليه هو ولم يوح إلى أحد غيره.
*******
والدعوة تقتضي من الدعاة معرفة بألسنة وبنفسيات وبتاريخ وبأحوال كافة التجمعات الإنسانية، ولابد هاهنا من التخصص، ولقد ذكر الله في كتابه للمؤمنين كافة أحوال التجمعات والأحزاب المحيطة بهم وذكر لهم طبيعة أنفسهم وما يدور بخواطرهم حتى يتعلموا كيف يتعاملون معهم.
إنه يجب اتباع سنة الله ورسوله في الدعوة إلى الإسلام وفي التدرج بالمسلمين الجدد ويجب تقديم الأهم فالمهم؛ فيجب أخذهم بالرحمة والرفق واللين والرأفة وإيقاظ الاستعداد المستكن في نفوسهم لمعرفة ربهم فيجب دعوتهم أولا إلى الإيمان بالله تعالي كما تكلم عن نفسه في كتابه العزيز وكذلك يجب أن يتعلم المسلم كيف يقيم صلة حميمة ووثيقة به بذكره، فهذا الذكر هو روح الصلاة ومقصدها الأعظم، كما يجب أن يتعلم أنه بإقامة الصلاة يذكر الله بجسده كما يذكره قلبه، ثم يتعلم كيف يؤدي واجباته نحو أمته وأن يؤتي الزكاة وأن ينفق في سبيل الله، ثم يتعلم أنه يمكن أن يترقى وأن يتزكى بهذا الدين، فعليه أن يتعلم كيف يتزكى باكتساب مكارم الأخلاق والتطهر من الذميم منها وأن ذلك يستلزم اجتناب كبائر الإثم والفواحش والانتهاء عن كل منكر وأن يتحقق بالتقوى وهذا هو روح الصيام، ويجب أن يعلم ما هو العمل الصالح وكيف أنه عبادة مطلوبة، كما يجب أن يعلم حقوق الآخرين وأن يتعلم كيف يتعبد إلى ربه باحترامها ومراعاتها وممارستها، ثم يتعلم أن يؤمن بوحدة الأمة وأنه عضو من أعضاء جسدها وأنها كأمة مأمورة بحمل رسالة ربها وبالسعي نحوه وهذا هو روح الحج، وبالطبع لا يمكن للإنسان أن يقلع تماما عمّا اعتاده أو أدمنه من المعاصي قبل إسلامه ولكنه يجب أن يعلم أن ذلك لا يخرجه من دائرة الإسلام بل يجب أن يعلم أنه أفضل ممن ولد مسلماً ولا يحرص على طاعة ربه بقدر حرصه على معصيته.
*******
إنه لا يجوز سبّ الذين يدعون من دون الله ولكن لا يجوز أيضاً تحريف الدين أو التخلي عنه مجاملة لهم، وإذا كان بعض أهل الكتاب يقدسون الصليب أو يعبدونه فهم أحرار فيما اختاروه لأنفسهم، وعليهم وحدهم أن يتحملوا نتيجة اختيارهم، ولكن ليس لهم أن يحاولوا إلزام مسلم تأبي فطرته ذلك أن يكون مثلهم أو أن يخفي عقيدته مجاملة لهم، ولا حرج على المسلم في أن يدحض بكل قوة مزاعم متبعي المذاهب والأديان المنسوخة والضالة بتقديم ما يلزم من الحجج والأدلة.
إن نشر تعاليم هذا الدين بسلاح الحجّة والبرهان هو أصعب بكثير من محاولة فرضه بالقوة والقتال، ولا يجوز أن يتحمل الإسلام أوزار بعض أهل القرون الأولى الذين انقلبوا على أعقابهم واتخذوا من الدين سلاحا للاعتداء على الآخرين ونهب أموالهم وسبي نسائهم، وما حققوه يُحسب لهم أو عليهم، فهم الذين يتحملون مسؤوليته هم ومن أقرهم على أفعالهم، وذلك يلزم كل مسلم الآن بألا يتخذ من هؤلاء أسوة حسنة، فلقد كانوا بشرا، افتتنوا بالدنيا فتنافسوها، ولم يصمد أكثرهم أمام فتنتها وغرهم الانهيار السريع للآخرين أمامهم، والمسلم الآن ليس ملزماً بالدفاع عن أخطاء هؤلاء، إنه على من أخطأ أن يتحمل وزر نفسه، وليس لأحد أن يحمل الإسلام أو كل أجيال المسلمين وزر خطئه، ومن يفعل فإنما يصد الناس عن سبيل ربه، ولقد دفع المسلمون ومازالوا إلى الآن يدفعون غاليا ثمن أخطاء المعتدين من أسلافهم؛ فالسنن الإلهية لا تحابي أحدا، {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً }النساء123، والسنن الإلهية لا تبديل لها ولا تحويل: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً }الأحزاب62، {اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً}فاطر43.
إنه بعد ختم النبوة وتمام استخلاف الإنسان في الأرض فإن كل كيان إسلامي –من الفرد إلى الأمة- هو خليفة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ في الدعوة إلي الله عزَّ وجلَّ وفي التبليغ والتبشير والإنذار، لذلك فعليه أن يدعو إلى كل ما أمر الله به وأن ينهى عما نهي عنه وعليه أن يعمل علي إعلاء كلمته والانتصار له.
إن الذي ينهى عن المنكر يعمل بمقتضى خلق إلهي، والانتهاء عن الفحشاء والمنكر من مقاصد ركن كبير هو ركن إقامة الصلاة، والآيات الآتية تبين أهمية ومكانة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }آل عمران104  *  {يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ }آل عمران114  *  {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }المائدة79  *  {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }الأعراف157  *  {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }التوبة67  *  {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }التوبة71  *  {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ }التوبة112  *  {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }النحل90  *  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }النور21  *  {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ }لقمان17
ومما لا شك فيه أن الرسول قد أُرسل إلى الناس كافة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }سبأ28، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }الأعراف158، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1]، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين}[الأنبياء:107]
ومن المعلوم أن الله تعالى لم يكتب لبشر الخلد، فكان لزاماً أن تقوم الأمة التي نصّ القرءان على أن الله تعالى أورثها الكتاب أي الرسالة بما كان يقوم به النبي الخاتم في حياته.
وكل أمر بالدعوة إلى سبيل الله تعالى وإلى الخير هو موجه إلى الرسول خاصة وإلى كل مسلم بصفة عامة.
إنه يجب الإفادة من كل المستجدات للقيام بهذا الركن، ومن أبرز المستجدات وسائل الإعلام الحديثة وشبكات الإنترنت.
إن الدعوة إلى الإسلام إنما تكون بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، ولأن الإسلام هو الدين الخاتم فإنه يلزم أتباعه باستخدام كل ما يمكن أن يستجد من وسائل للدعوة مثل الصحافة والتليفزيون والفضائيات والسينما وشبكات نقل المعلومات … إلخ، وعلى المسلمين أن يتعلموا الكثير من المبشرين النصارى والهندوس والبوذيين.
*******
إن الدعوة إلي الله تعالي هي ركن ديني ملزم وواجب منوط بالأمة الخيرة الفائقة، وهي إنما تكون بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن وبالعمل الصالح وبالقول الصالح وبتقديم الأسوة الحسنة ولقد جاء كل ذلك في نصوص قطعية الدلالة، وكذلك ورد في نصوص قطعية أخري التأكيد علي أنه لا إكراه في الدين، ومن فحوى النص على أنه لا إكراه في الدين أنه لا إكراه في أي أمر هو من دون الدين، والحق هو أن أفضل سبل الدعوة هو تحقيق مقاصد الدين العظمي بوجود الفرد الفائق والأمة الخيرة، ومن لوازم الدعوة الشهادة لله تعالى، فأداء الشهادة ينبغي أن يكون خالصاً لوجه الله تعالي، وعلى الأمة أن توفر كل ما يلزم من آليات لتمكنها من أداء تلك الشهادة، وهى تشمل ما يلي:

1-                الشهادة لله تعالى بما هو له من الأسماء الحسنى وبما هو له من القوانين والسنن والسمات والأفعال والكلمات.
2-                الشهادة للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بأنه هو الرسول الخاتم الذي أرسله ربه رحمة للعالمين وأثنى عليه لخلقه العظيم وبأنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده.
3-                الشهادة للكتاب الخاتم بما تضمنه من البينات والهدى والآلاء والآيات، وهذه الشهادة واجبة علي العرب بصفة خاصة من حيث أنه لا يمكن للغة أخرى غير العربية أن تظهر مقدار ما فيه من عظمة وسمو.
4-                الشهادة لدين الحق بالكمال والخاتمية وبأنه يتضمن كل ما يلزم ليصل بكل كيان إنساني إلى كماله المنشود.
5-                الشهادة على الناس بما أبدوه من استجابة للدعوة إلى الخير، قال تعالي: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة: 143).
6-                إشهاد الآخرين بأن الأمة مسلمة ومعتصمة بإسلامها وبيان ذلك لهم، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ(64)} (آل عمران).
*******
إنه لم يرد أبداً أي نص قرءاني يسمح بالعدوان علي الناس حتى يؤمنوا أو بقتالهم حتى يؤمنوا، نعم لقد وردت في سورة التوبة آيات تأمر بقتال الأعراب حتى يسلموا أي يذعنوا –وليس ليؤمنوا- ولكن خصوصية تلك الآيات كانت واضحة تماما؛ فلقد كانت تتكلم عن وقائع محددة ومعاهدات مضروبة مع المشركين ومهلة أعطيت لهم، وخصائص معينة للأعراب توجب الحذر منهم، فلقد كان معلوماً بالضرورة أنهم يتربصون شراً بالمؤمنين وأنهم لو ظهروا عليهم لن يرقبوا فيهم إلاً ولا ذمة، وأنهم لا يحترمون عهداً ولا ميثاقا، ولقد سبق في مواضع عديدة بيان أن لقوم كل رسول أحكامهم الخاصة بهم وهم يعاملون وفق سنن لا تبديل لها ولا تحويل، لذلك ليس من حق متسلط علي أمر الأمم المحسوبة علي الإسلام أن يستخدم الآيات الخاصة أو يؤولها له كهنوته ليستخدمها للعدوان علي الشعوب المسالمة الآمنة لنهب أموالهم واستحياء نسائهم واستباحة أراضيهم بحجة نشر الإسلام الذي تدل أعمال هذا المتسلط علي أنه أول الكافرين به، والحق هو أنه منذ الانقلاب الأموي صار القتال هو الأسلوب الوحيد للتعامل مع الشعوب والدول المجاورة والطوائف الأخرى حتى ولو كانت مسلمة وكان علي من احتكروا العمل بالدين أو من يريدون التكسب به أن يبرروا للمتسلطين علي الأمور مسلكهم وأن يضفوا عليه الشرعية فتطاولوا علي الكتاب العزيز وقالوا بنسخ كل ما لا يتفق مع مزاعمهم من الآيات وقدموا المرويات الظنية عليه وقضوا عليه بها وجعلوها عمليا وواقعيا المصدر الأعلى للتشريع، ومن المعلوم أن السيادة في موضوع التراث الشفهي كانت للوضع والتحريف والدس بينما كانت نسبة المرويات التي حكم المتصدرون لتمحيص بالمرويات بصحتها لم تتجاوز نسبة 1% وذلك باعترافهم، ولقد كان وجود آيات محكمة تحدد السبل الشرعية للدعوة هو الذي دفع شياطين الإنس إلي القول بالنسخ وتوسيعه خدمة لسادتهم من المتسلطين على الأمور، وهم بذلك قد جنوا علي أنفسهم من قبل أن يجنوا علي الأجيال الإسلامية القادمة والتي تعرضت بسبب ذلك  إلي كافة ألوان العدوان البشع من الشرق والغرب.
إنه لَمِن صالح الإسلام والبشرية جمعاء ألا يتخذ المسلمون من القادة العسكريين الذين عملوا في خدمة الأمويين والعباسيين مثلاً عليا، وإنما عليهم أن يتخذوا مُثُـلهم من الدعاة المتجردين المحتسبين الذين نشروا الإسلام في صمت ودون سفك دماء في وسط وشرق آسيا وفي أفريقيا والذين اجتذبوا المغول والتتار إلي الإسلام بعد أن قهر هؤلاء الخلافة العباسية التي كانت تتسلط علي الناس باسم الدين وسحقوها تحت أقدامهم، لقد جعل المتسلطون على الأمور على رأس الموارد الاقتصادية لدولهم وممالكهم القتال ونهب الشعوب التي تسلطوا عليها ولم يعرف عنهم أنهم اتبعوا أي سبل لزيادة الإنتاج ولا لتحسين وسائله ولا لتسهيل التبادل التجاري مثلما فعل الرومان بما شقوه من طرق ممهدة وما بنوه من قناطر...إلخ ومثلما سيفعل أهل الغرب من بعد، وكان بعض ذلك يتم فقط بمبادرات فردية في العالم المسمَّى بالإسلامي أو بفعل من استقل بولايته من الولاة، إن ما أقدم عليه الأمويون ومن بعدهم العباسيون أصبح يشكل الآن أداة في أيدي شياطين الإنس والجن للصد عن سبيل الله وللتصدي للإسلام وللنيل من العرب والعروبة.

وثمة أحكام خاصة بقوم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فهؤلاء كان لابد من قتالهم حتى يسلموا أو يذعنوا –وليس ليؤمنوا- ولم يكن لهم خيار في هذا الأمر، فلقد سبقت كلمة الله لعباده المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن من آمن بهم هم الناجون ومن كفر بهم هم الهالكون، ولما كان إنجاز ذلك باستعمال آية كونية قد نسخ فكان لابد من أن يتم علي أيدي المؤمنين ولم يكن ثمة سبيل آخر، أما شن الحرب علي الفرس والروم فكان قراراً استراتيجياً صائبا إذ لم تكن المدينة كما ثبت من بعد بقادرة على الصمود أمام هجوم جيش نظامي محترف أو الصمود لحصار طويل، ولولا هجوم المسلمين لانهالت عليهم جيوش الفرس والروم من كل حدب وصوب، والإسلام ليس مسئولا عما شاب حركة الفتوحات من مخالفات، فأكثر العرب لم يؤمنوا إلا بعد الفتح ولم يهاجروا، وأكثر الأعراب أسلموا ولما يؤمنوا.
لكل ذلك فالأمة ليست ملزمة بشن حرب شاملة علي كافة الأمم الأخرى وليس لهم أن يعملوا علي إزالة النظم القائمة والاستيلاء علي مقاليد الأمور بدلا منهم حتى ولو تركوا لهم حرية الاعتقاد من بعد كما فعلوا من قبل، فليس مطلوباً من المسلمين إحداث انقلاب عالمي يطيح بكل أنظمة الحكم في كل العالم فذلك أمر مضاد لمقتضيات الفطرة الإنسانية وبالتالي فهو مضاد للإسلام دين السلام بل هو مضاد للمقصد الإلهي المعلن، فلقد خلق الناس للاختلاف وسيبقون كذلك، أما الفصل فيما بينهم بخصوص العقائد والأديان فهو مؤجل ليوم الفصل، أما من يريد مناطحة المقاصد الإلهية ومقتضيات القوانين والسنن والفطرة فلن يجني إلا الخسران المبين وما له من ناصرين، وإذا كان المسلمون الذين لا يعلمون عن الإسلام إلا بعض القشور ولم يعملوا على توثيق صلتهم بربهم ولم يزكوا أنفسهم سيظلون طوال أعمارهم في حروب طاحنة ضروس ضد الآخرين فمتى سيعملون على تحقيق مقاصد الدين؟
*******
أجر الرسالة والدعوة
لا توجد مهنة اسمها داعٍ أو داعية، ولم يوجد في السلف الصالح من كان يتكسب بعمل ديني، أما الاشتغال بأي عمل ذي صلة بالدين أو بما يسمى بالعلوم الدينية فهو عمل مهني مثله مثل الاشتغال بأي علم آخر كاللغة العربية أو التاريخ أو الكيمياء لا يعطي لصاحبه أي ميزة مجانية على الآخرين، ولا يعطيه الحق في أية ألقاب كهنوتية، أما الدعوة إلى الله فهي ركن ديني ملزم لكل مسلم، ومن لوازمه الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالقيام بالدعوة هو ركن كإقامة الصلاة أو صيام رمضان، لذلك لا يجوز  الداعي لا يسأل الناس أجرا على قيامه بأعباء الدعوة، وهو في ذلك يكون متأسيا برسل الله الذين لم يسألوا الناس أجرا على القيام بأعباء الرسالة، فأجر الرسول يكون على من أرسله.
وآيات القرءان تنص على أن الرسل بصفة عامة، والرسول بصفة خاصة لا يأخذون أجرا من الناس ولا يطلبون أجرا من الناس على قيامهم بالرسالة، قال تعالى:
{فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِين} [يونس:72]، {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِين} [يوسف:104]، {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} [الفرقان:55]، {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِين} [الشعراء: 109 ، 127 ، 145 ، 164 ، 180]، {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد} [سبأ:47]، {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِين} [ص:86]، {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِين} [الأنعام:90]، {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُون} [هود:51]، {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُون} [الطور:40]، {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُون} [القلم:46]، {اتَّبِعُوا المُرْسَلينَ(20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ(21)} (يس)
{ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُور} [الشورى:23]
إن أجر الرسول يكون على من أرسله، فإن الكريم لا يرسل رسولا ثم يكله إلى الناس أو يأمره بأخذ الأجر منهم، فمن تعريف المرسل ولوازمه ألا يسأل من أرسل إليهم أجرا، وذلك ما نصت عليه آيات كثيرة خاصة بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبمن أرسل من قبله من الرسل.
وفى آية الشورى أمر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أن يبيِّن لهم أنه لا يسألهم أجراً ولكن يجب على قومه أن يودوه لأجل قرابته منهم، وهذا ليس بأجر ولكنه ما تمليه عليهم أعرافهم؛ فما كان لهم طبقا لها أن يقطعوا أرحامهم هكذا، أما من زعم أنه طلب منهم أجرا فلقد كذب بالآيات المذكورة أو ادعى أن ثمة اختلافاً في القرءان وكلا الأمرين ممنوعان، والأخطر من ذلك أنه تطاول علي ربه وشكك في أوصافه العليا وكرمه.
لقد جاءت النصوص قاطعة بأن أجر المرسل إنما يكون على ربه الذي أرسله وأن من تعريفه اللازم أنه لا يسأل الناس أجرا على رسالته، لذلك فالاستثناء في تلك الآية منقطع كما هو الحال في الآية: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} [الفرقان:55].
والحرف (في) الذي يسبق (القربى) هو كالحرف (في) في الحديث: (عذبت امرأة في هرة) أي بسبب هرة.
لقد أمر الله تعالي رسوله أن يقول لهم إنه لا يسألهم أجراً كما أمر الرسل من قبله، قال تعالي: { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ(86)إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ(87)} (ص)، وقال: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا(57)} (الفرقان)، وقال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ(90)} ( الأنعام ، 90 )
فكيف يتصورون أنه من الممكن أن يأمره بالشيء ونقيضه؟ أم يريدون القول بأنه سبحانه بدا له فغيَّر رأيه؟ ألم يعلن لهم أنه لا يبدل القول لديه؟
إن الآية تأمر الرسول بأن يسأل قومه أن يوَدُّوه في قرابته منهم، أي بسبب هذه القرابة، وأن يَصِلوا الرحم التي بينه وبينهم طبقاً لأعرافهم ومنظومة القيم الحاكمة عليهم، وهذا كان حقاً لكل من انتمى إلى القبيلة وليس أجرًا على قيامه بالرسالة، فهو الأمر الذي تلزمهم به أعرافهم هم.
إن كثيرا من المسلمين قد ظلموا رسولهم الكريم ولم يعرفوا له قدره، فأهل السنة جاروا على حقه لحساب من أسموهم صحابته وزعموا تلك الصحبة للطلقاء والأعراب والمنافقين فأوقعوا الناس في حيص بيص وأعطوا بذلك الفرصة للشياطين ليلقوا في الدين ما يشاءون وكادوا يقضون على الدين لحساب أساطير الأولين، لقد نسب هؤلاء الصحبة إلى من لم يحظ بشرفها ولم يزعمها لنفسه ولم يطمع أبداً فيها، أما الشيعة فلقد زعموا أنه طلب من الناس أجرا على رسالته هي مودة أهل بيته في حين أن كل إخوانه من الرسل لم يطلبوا شيئا كهذا من الناس وإنما اتجهوا بدعائهم إلى ربهم، لقد ظلم الشيعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودينه لحساب أهل بيته وذريتهم، وكأنهم زعموا بذلك أنه أتى ليؤسس سلطانا لذوى قرباه، أما كثير من المتصوفة فلم يتبعوا الرسول الحقيقي الذي أرسله ربه بالقرءان الكريم رحمة للعالمين وعاش مجاهداً في سبيله وإنما أحبوا صورة جسَّدها لهم خيالهم.
*******
إنه يجب علي الأمة الإسلامية الحقيقية إعلان الإيمان بالله تعالى والمجاهرة به والدعوة إليه، فيكون معلوما لدى سائر الأمم أنها قد كرست حياتها لربها فهي تواجه وتجاهد كل دعوة إلي الكفر أو الشرك أو الإلحاد وتفندها وتدحض حججها، كما تدعو كافة الأمم إلى نبذ الشرك وإلى ألا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله تعالى وألا يستعبد بعضهم بعضا، وهذا يقتضي الجهاد ضد الطغيان والاستبداد والكهنوت والتخلف والجهلوت، فيجب علي الأمة أن تحمل رسالة الإسلام للعالمين بأن تكون الأمة تجسيداً حيَّـاً لمنظومة القيم والمبادئ والمثل العليا الإسلامية، ومن لوازم هذا الركن الشهادة لله تعالى، وهي تشمل ما يلي: الشهادة لله عزَّ وجلَّ بما له من الأسماء الحسنى وبما هو له من القوانين والسنن والصفات والأفعال والكلمات، والشهادة للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بأنه هو الرسول الخاتم الذي أرسله ربه رحمة للعالمين وأثنى عليه لخلقه العظيم وبأنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، والشهادة للكتاب الخاتم بما تضمنه من البينات والهدى والآلاء والآيات، وهذه الشهادة واجبة علي العرب بصفة خاصة من حيث أنه لا يمكن للغة أخرى غير العربية أن تظهر مقدار ما فيه من عظمة وسمو، والشهادة لدين الحق بالكمال والخاتمية وبأنه يتضمن كل ما يلزم ليصل بكل كيان إنساني إلى كماله المنشود والشهادة على الناس بما أبدوه من استجابة للدعوة إلى الخير، وفي كل الأحوال يجب إعلام وإشهاد الآخرين بإسلام الأمة.
*******
إن هذا الركن يتضمن الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر علي كافة المستويات، والمعروف هو جماع كل القيم والمبادئ والمثل الإسلامية والتي تشكل عناصر المنظومة الأمرية الرحمانية، وهي تتضمن الحق والعدل والقيام بالقسط والتراحم والتكافل والتسامح وإيثار السلام والدعوة إليه والجنوح إليه والحرص علي الأمن والسلام العالمي والوفاء بالعهود والمواثيق والالتزامات والإعانة علي نوائب الدهر وتقديم المعونات العلمية والتكنولوجية ورعاية حقوق الضعفاء ورعاية حقوق الكائنات المسخرة للإنسان وعدم الإفساد في الأرض بل تعميرها وإصلاحها والحفاظ على التوازن البيئي فيها ومن ذلك التوقف عن إبادة دواب الأرض دون مبرر أو تحميلها فوق طاقتها وحماية حقوق الأقليات وعدم إكراههم على اعتناق ما لا يرضون من الدين والتسامح معهم والبر بهم والإقساط إليهم، فالدين الذي قرر بكل صراحة ووضوح أنه لا إكراه في الدين وقرر حرية الإنسان في اختيار الكفر أو الإيمان لا يأمر باضطهاد أتباع الديانات الأخرى، والخير هو دين الحق، وهو أيضاً الاسم الجامع لكل القيم والمبادئ والمثل العليا التي تتضمنها المنظومة الأمرية الرحمانية بالإضافة إلي منظومات السنن الشرعية والتشريعية...، فالدعوة إليه هي دعوة إلى الحق والعدل والإقساط والمساواة والحرية، أما المنكر فهو كل ما كان مناقضاً للمعروف؛ أي كل ما كان مناقضاً لعنصر من عناصر المنظومة الأمرية الرحمانية أي هو جماع ما تتضمنه المنظومة الشيطانية أو الشجرة الملعونة، ومن ذلك الظلم والاستبداد والطغيان والعدوان والإفساد في الأرض والاضطهاد الديني وإيقاد نيران الحروب والعدوان علي حقوق وكرامة الإنسان والتمييز العرقي.
وهذا الركن تعبير عن إيجابية الأمة الخيرة وسعيها إلى تحقيق ما فيه الخير للبشرية جمعاء، وهو يستلزم ألا يتخذ الناس بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله تعالى وأن يلتزموا بمنظومة القيم الإسلامية الرحمانية وألا يستعبد بعضهم بعضا وألا يظهروا في الأرض الفساد وأن يتناصحوا وأن يتواصوا بالحق وبالصبر، ومن لوازم ذلك في العصر الحديث إيجاد الآليات التي تكفل حرية الرأي وحرية الصحافة ووسائل الإعلام وحرية تدفق المعلومات.
إنه على المنتمين إلى أمة الإسلام أن يقوموا بواجب الدعوة إلى الخير وإلا فسيُسلط عليهم من كان لزاماً عليهم أن يحملوا رسالة الحق إليهم، إنه إذا رفض الآخرون الدعوة إلى الإيمان فلا أقل من دعوتهم إلى التعرف علي قيم وأخلاق الإسلام والتمسك بها، فلدى الإسلام أسمى منظومة قيم عرفها الإنسان، وكذلك يجب دعوتهم إلي سنن وتشريعات الإسلام وبيان مدى جدواها وكفاءتها.
إنه يجب علي الأمة إعلان الإيمان بالله تعالى والمجاهرة به والدعوة إليه، فيكون معلوماً لسائر الأمم أنها قد كرست حياتها لربها؛ فهي تواجه وتجاهد كل دعوة إلي الكفر أو الشرك أو الإلحاد وتفندها وتدحض حججها، كما تدعو كافة الأمم إلى نبذ الشرك وإلى ألا يتخذ بعضهم بعضاً أربابا من دون الله تعالى وألا يستعبد بعضهم بعضا، وهذا يقتضي الجهاد ضد الطغيان والاستبداد والكهنوت والتخلف والجهلوت، فيجب علي الأمة أن تحمل رسالة الإسلام للعالمين بأن تكون الأمة تجسيداً حيا لمنظومة القيم والمبادئ والمثل العليا الإسلامية، ومن لوازم هذا الركن الشهادة لله تعالى، وهي تشمل ما يلي: الشهادة لله عزَّ وجلَّ بما له من الأسماء الحسنى وبما هو له من القوانين والسنن والسمات والأفعال والكلمات، والشهادة للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه هو الرسول الخاتم الذي أرسله ربه رحمة للعالمين وأثنى عليه لخلقه العظيم وبأنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، والشهادة للكتاب الخاتم بما تضمنه من البينات والهدى والآلاء والآيات، وهذه الشهادة واجبة علي العرب بصفة خاصة من حيث أنه لا يمكن للغة أخرى غير العربية أن تظهر مقدار ما في القرءان من عظمة وجلال وسمو، كما يجب الشهادة لدين الحق بالكمال والخاتمية وبأنه يتضمن كل ما يلزم ليصل بكل كيان إنساني إلى كماله المنشود والشهادة على الناس بما أبدوه من استجابة للدعوة إلى الخير، وفي كل الأحوال يجب إعلام وإشهاد الآخرين بإسلام الأمة، قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }آل عمران64.
فهذا الركن يتضمن الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر علي كافة المستويات، والمعروف هو جماع عناصر منظومة القيم الإسلامية؛ فهو يتضمن القيم والمبادئ والمثل الإسلامية ومنها الحق والعدل والقيام بالقسط والتراحم والتكافل والتسامح وإيثار السلام والدعوة إليه والجنوح إليه والحرص علي الأمن والسلام العالمي والوفاء بالعهود والمواثيق والالتزامات والإعانة علي نوائب الدهر وتقديم المعونات العلمية والتكنولوجية ورعاية حقوق الضعفاء ورعاية حقوق الكائنات المسخرة للإنسان وعدم الإفساد في الأرض بل تعميرها وإصلاحها والحفاظ على التوازن البيئي فيها ومن ذلك التوقف عن إبادة دواب الأرض دون مبرر أو تحميلها فوق طاقتها وحماية حقوق الأقليات وعدم إكراههم على اعتناق ما لا يرضون من الدين والتسامح معهم والبر بهم والإقساط إليهم، فالدين الذي قرر بكل صراحة ووضوح أنه لا إكراه في الدين وقرر حرية الإنسان في اختيار الكفر أو الإيمان لا يأمر باضطهاد أتباع الديانات الأخرى.
أما الخير فهو دين الحق، وهو أيضاً الاسم الجامع لكل القيم والمبادئ والمثل العليا التي تتضمنها منظومة لقيم الإسلامية، فالدعوة إليه هي دعوة إلى الحق والعدل والإقساط والمساواة والحرية، أما المنكر فهو كل ما كان مناقضاً للمعروف؛ أي كل ما كان مناقضاً لعنصر من عناصر المنظومة الأمرية الرحمانية أي هو جماع ما تتضمنه المنظومة الشيطانية أو الشجرة الملعونة، ومن ذلك الظلم والاستبداد والطغيان والعدوان والإفساد في الأرض والاضطهاد الديني وإيقاد نيران الحروب والعدوان على حقوق وكرامة الإنسان والتمييز العرقي.
*******
إن ممارسة ركن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تؤدي إلي تكوين رأي عام قوي لا يسمح لإنسان مهما علا شأنه بالعلو على الناس أو بازدراء القانون أو بالإفساد في الأرض أو بادعاء الألوهية بلسان الحال كما يفعل الطغاة والمستبدون.
إن ثمة أموراً هي من كبائر الإثم بالنسبة إلي الأمة وأمرها هو أخطر من كبائر الإثم علي المستوي الفردي، ومن تلك الكبائر العدوان والفتنة والترويج للفواحش والإفساد في الأرض وإيقاد نيران الحروب، ولقد أعلن الله تعالي بكل وضوح أنه لا يحب المعتدين بعد أن نهي عن العدوان، لذلك فليس من حق أمة أن تعتدي علي أخري مهما كانت أهدافها أو مقاصدها، إن أسمي هدف ممكن وهو هداية الناس إلي دين الحق لا يمكن أن يتم عن طريق العدوان علي الآمنين وترويعهم، ولقد أعلن الله تعالي لرسوله الكريم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أنه ليس له أن يكره الناس أن يكونوا مؤمنين، وإذا كان القتال محرما ولو في سبيل نشر الدين فإنه بالأحرى يكون محرماً إذا كان في سبيل نهب واستعباد الآخرين أو في سبيل تحقيق مصالح خاصة على حسابهم.
إن الأمة لا خيار لها فيما يتعلق بأمر الدعوة؛ فهي ملزمة بأن تحمل رسالة الحق إلي كل من يمكنها إيصال الرسالة إليه من الكيانات الإنسانية الأخرى، ولكن تلك الدعوة محكومة بمقتضيات الأمر الإلهي الملزم: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، ذلك لأنه لن تستطيع قوة ما أن ترغم الإنسان علي اعتقاد ما؛ فلا سلطان لأحد علي قلوب الناس، وبالتالي فليس لأحد أن يكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ولو كان الرسول نفسه، لذلك فليس علي الرسول إلا البلاغ المبين والإنذار والتبشير، أما قتال الكفار والمشركين فليس لحملهم علي الإيمان وإنما لكف بأسهم ولدرء الفتنة ولردع المعتدين وتأديبهم أو لوقاية المؤمنين من آثار خياناتهم.
كما أن الوسائل المشروعة للدعوة كلها وسائل سلمية، وكان من أسباب إحداث إفك القول بالنسخ الرغبة في التملص من الإلزامات والأوامر القرءانية الثابتة المحكمة التي تحدد وسائل الدعوة.
وثمة طوائف من المتطرفين تكفر من عداهم من المسلمين وتسعي إلى تقويض النظم القائمة على الأمر في بلادهم، وهؤلاء يتصرفون وكأنهم ضمنوا الجنة وحصلوا على تفويض إلهي بسفك الدماء ونهب الأموال والاستيلاء على السلطات، وهؤلاء لم ولن يجلبوا إلا الدمار لأنفسهم ولأوطانهم ولن يزيدوا المسلمين إلا تشتتا وتمزقاً، وهم قد ادعوا لأنفسهم أنهم المسلمون الناجون وكل مدع مبتلي، ولقد أتاحوا بسلوكهم الفرصة لأعداء الدين ليحرضوا القائمين على الأمور ضد دينهم وليستخدموهم للصد عن سبيل ربهم وليستبعدوا كل أثر للدين من حياتهم.
إن ما سنه الأمويون للناس من تقويض لأركان الدين ومنها ركن الدعوة قد كبد المسلمين بل البشرية جمعاء خسائر فادحة وحال بين قطاع هائل من البشر في أوروبا وآسيا وبين الإسلام بجدار صلد من العداء وصبغ تاريخ المسلمين بالدماء، لقد كان من الواجب على أباطرة وسلاطين المسلمين الكف عن تجريد الحملات العسكرية ضد الناس وكان عليهم استعمال الأساليب الشرعية للدعوة بدلا من الكفر بالآيات التي تبين لهم تلك السبل بالزعم بأنها منسوخة، لذلك كان خيراً لهم وللبشرية أن يبعثوا بالدعاة المؤهلين الملمين بعادات شعوب أوروبا الوثنية ولغاتها لاجتذاب تلك القبائل الفتية التي لا عهد لها بحضارة إلي الإسلام، إن شعوب أوروبا الشمالية لم تأتلف قط مع النصرانية المحرفة في صورتها الكاثوليكية والتي أجبروا من بعد على اعتناقها، ولذلك سرعان ما هجروها إلي مذهب آخر تم افتعاله ليتواءم مع طبيعتهم وهو البروتستنتية، ولقد كان هذا المذهب بكافة صوره اقرب إلي الإسلام، أما الحملات العسكرية التي شنها الأمويون علي أوروبا فلم تؤد إلا إلي خلق عداء دائم مستحكم بين الغرب من ناحية وبين الإسلام والمسلمين من ناحية أخرى، ولقد دفع المسلمون من بعد –وما زالوا يدفعون- ثمن هذا العداء غاليا، هذا بالإضافة إلي إيقاظ تلك الشعوب من غفوتها ودفعها إلي السعي الدؤوب لامتلاك أسباب القوة اللازمة لقهر المسلمين، أما العثمانيون الذين ورثوا كل مساوئ الأمويين والعباسيين وزادوا عليها فإن حكمهم الطويل والسيئ لبعض أقطار أوروبا الشرقية أساء إلي الإسلام وشوه سمعته مع أن أساليبهم لم تكن تمت إلي الإسلام بأدنى صلة، ولقد ترك العثمانيون في شرق أوروبا كراهية للإسلام لا تخبو نارها ولا يخمد أوارها، ولقد ظهر هذا فيما فعله الصرب في البوسنة وكوسوفو وما اقترفه أهل البلقان ضد مواطنيهم من المسلمين بعد انهيار الخلافة العثمانية.
ولو أن المسلمين اهتموا بأمر الدعوة وسعوا إلي معرفة سبل إعداد الدعاة والمبشرين وتأهيلهم ومكنوهم من ممارسة أنشطتهم لما اعتنق الخزر اليهودية، والخزر هؤلاء هم أصل اليهود البيض الإشكناز الذين احتلوا فلسطين وأذاقوا العرب الأمرين، وكذلك لما اعتنق الروس الأرثوذكسية، وقصة فشل الداعية المسلم في تقديم الإسلام إليهم معلومة، وكان إمبراطور الروس ميالا إلى الإسلام، ولو كان الذي أُرسل إليهم داعية متمرس لتغير وجه التاريخ، ذلك لأن الروس بعد تنصرهم استأنفوا الحملات الصليبية ضد المسلمين فقضوا على الممالك الإسلامية المزدهرة في وسط آسيا واشتبكوا في صراع شديد الوطأة مع العثمانيين أنقذ أوروبا الغربية منهم وكانوا من أسباب القضاء علي إمبراطوريتهم، وكان بإمكان المسلمين في الأندلس اجتذاب التيوتون والفايكنج وكل سكان شمال أوروبا الوثنيين إلى الإسلام عن طريق الدعوة والمعاملات التجارية، ولكنهم لم يكونوا يعرفون وسيلة للتعامل مع الآخرين إلا إرسال الحملات العسكرية لاحتلال بلادهم وسفك دمائهم وسبي نسائهم وأطفالهم.
*******
قال تعالى:
{وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(46)} (العنكبوت)، {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(125)} (النحل)، {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ(29)} (التوبة).
دين قريش المولع بالقتال والغنائم الدنيوية يتعجل الأمر ويقول إن آية التوبة قد نسخت كل الآيات المذكورة بل نسخت أكثر من مائة آية أخرى، وعليه فإن كل تلك الآيات المنسوخة قد بطل ما تتضمنه وأصبحت آيات أثرية لا يعمل بها وإنما تُقرأ للتبرك وللحصول على حسنات بمعدل عشر حسنات لكل حرف، وقولهم ينطلق من إيمانهم المطلق بموضوع الناسخ والمنسوخ الذي يروعون الناس ويسترهبونهم به ويمنعونهم من التعامل المباشر والحر مع الكتاب العزيز الذي أمروا به، وقولهم هذا مع كل ذلك هو من الكفر البواح الذي أودى بالمسلمين إذ أنه من الظن السيئ برب العالمين ومن سوء الأدب معه ومن التطاول على كتابه، وهو يتضمن تقويضاً لركن كبير من أركان الدين هو ركن العمل بمقتضيات الإيمان بكتاب الله.
أما دين الحق فيرى أن آيات الدعوة التي قيل إنها منسوخة تتضمن الأساليب الشرعية والآداب الإسلامية التي يجب الالتزام بها عند دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، وتلك أحكام دائمة لازمة يأثم المسلم إذا لم يلتزم بها، أما الذين ظلموا من أهل الكتاب فأمرهم مفوض إلى أولى الأمر من المؤمنين فهم المنوط بهم اتخاذ الإجراءات اللازمة للرد عليهم والتعامل معهم، أما آية التوبة فهي ليست أمرا مطلقا بقتالهم، فالقتال مقيد بشروطه المذكورة في آيات قرءانية أخرى ويجب إعمالها كلها ويحرم الأخذ ببعضها وترك بعضها وفقاَ للأهواء كما يحرم بالأحرى ضرب بعضها بالبعض الآخر، لذلك فالقتال يكون عندما يتجسد ظلمهم في عدوان صريح أو إشعال فتنة أو اضطهاد المسلمين ومنعهم من تأدية شعائر دينهم أو محاولة إكراههم على تركه، وفى تلك الحالة فإنه ثمة قواعد ومبادئ وقيم ملزمة للمسلم من حيث هو مقاتل وعليه أن يتبعها حتى لا يكون قتاله لهوى نفسه أو لدنيا يصيبها، فالمقصد الأساسي من الآية ليس إشعال حرب شاملة لا هوادة فيها ضد أهل الكتاب وإنما بيان كيفية وضع حد للقتال أو كيفية إيجاد مخرج منه؛ فقد يؤمن أهل الكتاب المعتدون الظالمون طوعاً لا كرها ويدينون دين الحق فيسقط بالتالي المبرر الشرعي لقتالهم ويحرم الاستمرار في القتال بل يأثم من يستمر فيه ويحرم أيضا أخذ الجزية منهم، أما إذا أصروا على البقاء على دينهم ولكنهم رغبوا في التوقف عن القتال فلابد من إلزامهم بدفع غرامة حربية مناسبة تسمى بالجزية ويجب أخذ الضمانات اللازمة لإلزامهم بدفعها ولا يلزم بالضرورة احتلال بلادهم أو فتحها فالآية لم تذكر الاستيلاء على بلادهم كشرط لإنهاء القتال، أما إذا تمسكوا بما أدى إلى إشعال القتال من أفعال وتصرفات فلا بد من الاستمرار في قتالهم، وعند إحراز النصر عليهم فلا يجوز إكراههم على الإسلام لأنه لا إكراه في الدين، وإنما يحق لهم الإسلام طوعا وعندها لا يجوز مطالبتهم بتحمل تبعات القتال ولا تغريمهم نفقاته، أما أسراهم فأولو الأمر مخيرون بين أمرين إما المن عليهم بإطلاق سراحهم وإما قبول الفداء منهم، وقد يكون الفداء تحرير الأسرى المسلمين، ولا يجوز استعبادهم أو استرقاقهم إلا إذا أقدموا هم على فعل كهذا في حق الأسرى المسلمين،؛ فيكون هذا من باب رد العدوان بمثله،  وبالأحرى فإنه لا يجوز قتلهم أو تعذيبهم.
*******
قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ(64)} (آل عمران).
إن رسائل الرسول إلى القائمين على الأمور كانت تتضمن دعوة حسنة لهم للإسلام عملاً بالركن الديني الملزم وقياماً بمقتضى الرسالة التي أرسل بها، ويلاحظ أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لم يؤمر في الآية بتخييرهم بين الأمور الثلاثة المشهورة، كما لم يؤمر بإنذارهم بشن الحرب عليهم لإلزامهم به بعد أن أبوا وتولوا، وإنما دعاهم إلى كلمة سواء وحملهم مسؤولية أخطائهم في حق الشعوب التي يتسلطون عليها ودعاهم إلى ألا يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله وبذلك دعا إلى ألا يستعبد الإنسان أخاه الإنسان، وكذلك يوجد أمر قرءاني بإشهادهم بِـ"أَنَّا مُسْلِمُونَ"، وهذه الشهادة سيؤدونها شاءوا أم أبوا يوم القيامة.
وبالنظر إلى ما تقدم يتبين أن السلف قد أخطئوا عندما أطلقوا اسم الجزية على الضريبة التي كانوا يحصلونها من سكان البلاد المفتوحة، فالجزية تفرض على الدولة المحاربة وليس على المستضعفين في الأرض، ولكن يمكن تحصيل ضريبة من سكان البلاد المفتوحة التي تركت بلا قوات تصون أمنها ونظامها العام أو التي أصبحت جزءاً من الكيان الإسلامي على أن تنفق تلك الضريبة مقابل ما توفره السلطة لهم من خدمات، ولا يجوز تسمية تلك الضريبة بالجزية، فهم لم يقترفوا جرماً ليعاقبوا بسببه.
ولكن للأسف فإنه منذ أن تسلط الأمويون ومن بعدهم العباسيون على الأمر صارت موارد البلاد المفتوحة نهبا للمتسلطين على الأمر من أكابر المجرمين والمفسدين في الأرض وأسرف هؤلاء في إغداق تلك الأموال على المحاسيب والمداحين والمنافقين وعلى ملذاتهم الخاصة وعلي الحرس الشخصي الخاص بهم، ولم يشفع إسلام الكثيرين من أهل البلاد المفتوحة لهم عند هؤلاء المفسدين فلم يتوقفوا عن تحصيل ما يسمى بالجزية منهم ولا عن سبي نسائهم، ولكن سلوك هؤلاء إنما يحسب عليهم وليس على الإسلام الذي جاء ليقضى على أمثال هذه الممارسات، أما المشكلة فهي في عبيد السلف الذين يعتبرون تلك العصور عصورا ذهبية ويحلمون بعودتها.
*******
إن الإسلام هو دين الحقانية الموضوعية وليس دين الذاتية والأمور الشخصية، لذلك فالدعوة التي هي ركن من أركان الدين إنما تكون إلي الله تعالي، فهذا هو الذي يعطي للدعوة شرعيتها ومصداقيتها، فالدعوة لا تكون إلى أي مذهب (فقهي) أو كلامي…. إلخ، لذلك فكل من يدعو الناس إلى نفسه أو إلي مذهب ما فهو ضال مبطل، ذلك لأن هذا الدين لم يأت ليستخدمه البعض وسيلة إلي تمجيد أنفسهم ولا لكي يكون أداة استكبار وعلو في الأرض وغير ذلك مما ابتليت به هذه الأمة، ولقد صدق الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ في قول معناه: (لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع)، إنه عن طريق شتي المذاهب ومتبعي السبل تسرب إلي التراث الديني كل ما ابتليت به الأمم السابقة من إصر وأغلال ورهبانية وضلال وشرك وادعاءات الألوهية والربوبية.
*******
إن للدعوة سبلها المعلومة والمبينة في القرءان فهي إنما تكون بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، ويتضمن ذلك تقديم البراهين والبينات المادية والتاريخية والكونية، والدعوة إلى الله تعالي هي ركن ديني مستقل، أما القتال فهو أمر آخر، وهو صورة من صور الجهاد عند توفر شروطه الشرعية، فهو لا يكون إلا دفعاً لعدوان ودرءاً لفتنة ودفاعاً عن المستضعفين، فإذا ما اضطر المؤمنون إلى القتال فهم ملزمون بألا يسرفوا في سفك الدماء وألا يجهزوا علي جريح وألا يفسدوا في الأرض وألا يعتدوا علي غير المقاتلين (المدنيين بالاصطلاح الحديث)، وهم مطالبون بالجنوح للسلم لدي أية بادرة تلوح من العدو، والقتال لا يهدف إلى استئصال العدو وإنما إلى كف بأسه وعند هزيمة العدو ورغبته في إنهاء القتال يجب إلزامه بدفع غرامة حربية وهو صاغر جزاءً لعدوانه وحتى يكون عبرة لأمثاله، فالجزية تشكل مخرجا شرعيا يسمح بإنهاء القتال أو حالة الحرب، والمسلمون ملزمون بالتوقف عن القتال عند جنوح العدو للسلم والتزامه بدفع الجزية، ولكن لا يلزم احتلال بلاد العدو أو نهبها، والجزية مرتبطة بالقتال، فهي لا تفرض علي أحد في وقت السلم ولا تفرض على غير المقاتل ولا مقابل استمراره علي دينه، ويجب العلم بأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان ميالاً إلى حقن الدماء فكان يكره أن يسمي أحدهم ابنه حربا وكان يغير مثل هذا الاسم، ولقد عفا وأغضي وصفح الصفح الجميل حتى يقلل الخسائر البشرية إلى أدني حد ممكن، وهكذا رغم الصراع الطويل مع المشركين والذي استمر حوالي عشر سنوات كان مجموع عدد القتلى من كل من الطرفين أقل من ألف، ولم يحدث في تاريخ البشرية أن تم تحقيق كل هذه الإنجازات التي غيرت وجه العالم تغييرا بمثل هذه القوة والدوام بمثل هذا القدر الضئيل من الخسائر، ولقد شهد العالم كيف سفكت دماء الملايين من البشر في الغرب أو في مناطق أخرى من العالم بأيدي أهل الغرب في صراعات مذهبية وعرقية أو بسبب التوسع والتنافس الإمبريالي.

*******





هناك تعليق واحد: