الخميس، 9 أبريل 2015

سورة النحل: 89

سورة النحل: 89

{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} النحل89

الشهادة هي مرتبة دينية جوهرية أعلى من الصلاح، ومن البديهي أن الشهيد يجب أن يكون حاضرا مع من يؤدي الشهادة عليهم فلا يخفي عليه شيء من أعمالهم في المجال المنوط به أداء الشهادة فيه، قال تعالى حاكياً عن عيسى عليه السلام: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}المائدة117، فبمجرد أن توفاه الله تعالى لم يعد شهيداً عليهم، وقد كان شهيدا على بني إسرائيل كما ذكرت آيات القرءان التي تعالج أمر رسالته، فالقرءان يبيِّن بعضه بعضا،
المقصود بـ "هَـؤُلاء" في الآية هم شهداء الأمم، وكذلك كل من انتمى إلى هذه الأمة، ولابد من وجود شهيد في كل أمة تكون شهادته مرْضية عند رب العالمين، ولذلك فالنبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ هو شهيد على كل من أرسل إليهم وهم الناس كافة بل العالمين، قال تعالى:
{وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً}النساء79،  {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}الأنبياء107،  {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}سبأ28،  {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }الأعراف158، وبالطبع فإن رسالته للعالمين تتضمن رسالته الخاصة إلى قومه، فهو أيضاً شهيد مرتين على قومه، وهذا يقوِّض كل الأساطير التي اختلقها الناس عن العلاقة بينه وبينهم، فهو لم يكن ليتخذ خلانا ممن هو منوط به أن يؤدي شهادة صادقة عنهم أمام ربه، ومن البديهي أن الرسول الذي هو العبد المطلق لله تعالى لن يحابي أحدا على حساب ربه.
ولكونه شهيداً على الناس كافة فهو حي الآن عند ربه يُرَزق من لدنه، وهو الإنسان الكامل الذي جمع الله له كل مراتب الصلاح وشهد له بها، فهو الرسول وهو النبي وهو الصديق الَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ، ورغم أن القرءان بذلك يكون قد شهد له بالحياة عند ربه ونصَّ على أن المسيح قد توفاه الله تعالى ولم يعد له علاقة بالناس فقد أفلح شياطين الإنس والجن في عكس الآية وخداع الناس لحملهم على الكفر بالقرءان والإلحاد في آياته والخطأ في حق الرسول.
ثم يبيِّـن الله تعالى أنه قد نَزَّل عَلَي الرسول الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ، فالقرءان تبيان لكل ما يلزم المسلم في أمور دينه وهو له هُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى، فمن لم يتحقق من كل ذلك فليعلم أنه ليس بمسلم، فالقرءان كاف تماماً لمن أراد البيان والهدى والرحمة والبشرى، وما سكت عنه فلا وزن له فيما يلزم لكل ذلك، وعلى سبيل المثال فلقد بيَّن الله تعالى أحكام التطهر قبل الصلاة في جزء من آية، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }المائدة6.
فما ذكره الله تعالى هو كل ما يلزم بشأن ما يُعرَف بالوضوء، ولا يجوز أبدا التعمق أو التشدد في شأنه، فلا حرج في الدين، أما المجلدات التي كتبها الناس في شأن الوضوء فهم وحدهم الذين يتحملون وزرها ووزر من تسببوا لهم في شتى الأمراض النفسية بسبب ما أحدثوه وقرروه بشأن الوضوء، فلا حاجة مثلا للنص على أنه يجب غسل الأيدي ثلاث مرات، فهذا العدد كان مرتبطا بكيفية الغسل في القرن السابع حيث كانوا يتناولون الماء من إناء أو وعاء أو بئر ماء، وقد كان الله تعالى يعلم ما سيحدث من تطور ولذلك لم يلزم الناس بعدد معين لن يكون له معنى في مثل هذا العصر مثلا.
ومن المعلوم أن الناس عادة ما يسيئون الظن برب العالمين، فهم يظنون أنه لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا يعْمَلُونَ، وهم يظنون أنه يمكن أن يضلّ أو ينسى، وهم لا يصدقون أبدا أنه ما جعل عليهم في الدين من حرج، وينتهز الشيطان وأتباعه من رجال الكهنوت الفرصة ويزينون لهم هذه الظنون ويوهمونهم أنه لا يمكن التقرب إلى الله تعالى إلا بها، ولقد كان ذلك هو الذي دفعهم مثلا إلى محاولة التحديد الدقيق لما لا سبيل إلى تحديده أصلا، فلقد أرادوا تحديد كيف كان يتوضأ الرسول مثلا بكل دقة، وهذا أمر كان فيه سعة ولا يجوز تحديده بأكثر مما نصَّ عليه القرءان، ولقد بلغ بالناس الأمر أن يطلبوا التحديد الدقيق لذلك الجزء من الرأس الذي يجب مسحه أثناء الوضوء.
والكتاب الذي ذكر الله تعالى أنه تبيان لكل شيء ليست به حاجة إلى نصوص أخرى لتبينه، فهو يبين نفسه بنفسه وآياته يبيِّـن بعضها بعضا، ومهمة الرسول أن يبيِّـن القرءان بالقرءان، قال تعالى: {الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقرءان مُّبِينٍ }الحجر1 {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }النحل44، {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }النحل64، {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ }النور34، {لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}النور46، {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}الشعراء2، {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقرءان وَكِتَابٍ مُّبِينٍ }النمل1.
ولقد ذكر الله تعالى في كتابه أنه الأصدق حديثا، والمطلوب من المسلم أن يصدق ربه؛ أي أن يؤمن بهذه الآية وبمعناها وبفحواها وأن يعمل بمقتضى ذلك، ولقد قال الله تعالى إن الكتاب هو تبيان لكل شيء، لذلك يجب الإيمان الصادق واليقين بذلك، ولا يجوز محاولة الالتفاف حول الآية أو تكذيبها بطرق ملتوية تخفى على معظم الناس، فيجب أن يوقن المسلم أن ما لم يذكره القرءان ليس من الدين في شيء، وهو غير مطالب بشيء تجاهه.
والمطلوب من المسلم أن يعمل بمقتضى العلم بأن الرسول شهيد عليه، ويجب عليه لذلك أن يوثِّق علاقته به عن طريق كثرة الصلاة والتسليم عليه باللسان والقلب.
-------
إن كتاب الله تبيان لكل شيء يلزم لتحقيق مقاصده المعلنة فيه والتي تنص عليها آياته بكل وضوح، فهو مثلا مَّوْعِظَةٌ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين، وَهو هُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين، فلابد أن يجد فيه المسلم المؤمن الهدى والرحمة والبشرى؛ أي لابد أن يجد فيه كل شيء يحقق له ذلك، وما ورد في المصادر الأخرى مما لا أصل له فيه فلا يجوز اعتباره شيئا مذكورا مثل ما يسمونه بحد الرجم أو حد الردة ومثل أساطير نزول المسيح وقلبه أمور الكون رأسا على عقب والمسيخ الدجال والمهدي المنتظر .... الخ.
ولا يلزم أن يكون الكتاب معجما للكائنات الحية ولا للتركيب الكيميائي لكل ما هو موجود في هذا العالم، ولقد قال تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:109]، ولكن يجب العلم بأن بيان كل الأصول يترتب عليه بيان الفروع، وبيان سبل المعرفة ووسائل تحصيلها وجعل استعمال هذه الوسائل من أركان الدين يفتح السبيل بالفعل إلى معرفة كل شيء بالمفهوم العام.
إن إعلان أن هذا الكتاب تبيان لكل شيء يعنى أنه ليس بحاجة إلى أي شيء من دونه ليبيِّنه، ولذلك فإن تبيينه إنما يكون به، فالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أُمر في الآية: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(44)} (النحل) أن يبيِّن الكتاب بالكتاب وهذا هو ما ربَّى عليه قومه وعلَّمهم وزكاهم به، فتبيين الكتاب إنما يكون بالكتاب أو بما نص عليه الكتاب، ولقد أحال هذا الكتاب الناس إلى النظر في الآيات الكونية والنفسية، وبالتالي فإن كشف هذه الآيات سيكون من وسائل تبيينه، فالظواهر الطبيعية المعلومة هي من آيات الكتاب المشهود المصدق للكتاب المنزل المقروء، وإنزال آيات الكتاب المشهود هو كإنزال الحديد مثلا، فهو يعنى هداية الناس إلى فقهها وعقلها واستيعابها حتى يلمُّوا بالسنن الحاكمة عليها والسارية فيها، وعندما يتم شيء من ذلك يكون قد تبين أمر جديد من آيات الكتاب ويكون قد تبين أن ما جاء فيه هو الحق.
وكون الكتاب العزيز هدي للمسلمين كما ذكر القرءان الكريم يعنى أن المسلم الحقيقي سيجد فيه لا في غيره الهدى، أما من يبتغى الهدى في غيره فسيضله الله تعالى، والمسلم الحقيقي يجد فيه البشرى بجنتين إحداهما عاجلة والأخرى آجلة، فالجنة العاجلة هي تحققه بكماله المنشود وعندها سيعرف ويتذوق الفرح الحقيقي النافذ إلى أعماق أعماقه فلا يهزه أمر عابر، أما في الجنة الآجلة فسينقلب باطنه الراقي ظاهرا وسيستمتع بأعماله وآثار أعماله وبما اكتسبه من ملكات وقدرات وإمكانات وبكل الكائنات والكيانات الجميلة آلتي كان سببا في إيجادها بعمله الصالح.
إن القرءان الكريم هو فضل الله ورحمته التي ينبغي أن يفرح بها الإنسان وأن يبتهج، فعليه أن يقبل عطية ربه وفضله وأن ينهل من هذا الفضل، وعلى الإنسان أن يوطِّن نفسه على أن يتعلم القرءان بالقرءان، وأن يعلم أن كتاب الله تعالى ليس كمثله كتاب.
-------
إن القرءان الكريم هو برهان ونور وكتاب مبين ومبيِّن وتفصيل لكل شيء وتبيان لكل شيء، فهل يحتاج كتاب هذه سماته إلى شيء آخر ليبيِّـنه ويفصِّله؟ هل يحتاج النور إلي نور آخر ليظهره؟ هل يحتاج البرهان إلي برهان وبيان؟ هل يحتاج البيان إلي بيان؟ هل يحتاج كتاب هو تبيان لكل شيء إلى أي شيء ليبينه؟ هل يحتاج الإنسان إلى مصباح صغير ليرى به الشمس في رابعة النهار؟

*******


هناك تعليق واحد: