الثلاثاء، 7 أبريل 2015

سورة الزمر: 53

سورة الزمر: 53

قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(53)

الآية تنهى العباد الذين أسرفوا على أنفسهم عن القنوط من رحمة الله تعالى، وتبين أنه يغفر كل ألوان الذنوب التي يمكن أن تصدر عن عبد مسرف على نفسه مهما عظمت تلك الذنوب أو كثرت، والآية تخاطب من كان في الماضي مسرفاً على نفسه ويؤرقه ما اقترفه من الذنوب، وكذلك تخاطب ذلك العبد الذي لا يستطيع مقاومة شر نفسه الأمارة بالسوء والذي لا يملك العزم الكافي للإقلاع التام عن المعاصي وتعطيه الأمل حتى يبادر بالتوبة كلما وقع في المعصية، ولكنها بالطبع لا تحرضه على الاستسلام لشر نفسه ولا لوساوس الشيطان، فالآية تخاطب ذلك العبد المؤمن الذي يعذبه وقوعه المستمر في المعاصي ولا تخاطب كافرا أو مشركا، لذلك فلا تعارض بينها وبين الآية: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا(48)} (النساء: 48 )، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا(116)} (النساء 116) ، فالشرك بالله تعالى لا يغتفر، والآية تبين للمؤمن أن المغفرة له والرحمة به بعد اقترافه الذنوب من مقتضيات المثنى ( الغفور الرحيم) ومن وسائل ظهور آثاره، وكونهم مشملون بهذا الاسم الجليل يعني أن المآل هو الرحمة.
وهو سبحانه لن يغفر إلا لمن استغفر، والاستغفار ليس بمجرد قولٍ لساني وإنما هو حالة وجدانية عرفانية من لوازمها الندم وعقد العزم علي التوبة حتى ولو غلب علي أمره مرة بعد أخري، ولذلك توعد الرب سبحانه من يقترفون المعاصي بألوان شتي من العذاب وندد بأولئك الذين يأخذون عرَض هذا الأدني ويقولون سيُغفر لنا، فغفران الذنوب لا يتم اعتباطاً وإنما وفق مشيئة الله سبحانه؛ أي بمقتضي قوانينه وسننه التي لا تبديل لها ولا تحويل لأنها مقتضيات أسمائه الحسني، لذلك فكل المرويات الواردة بهذا الشأن يجب أن تفسَّر في هذا الإطار لأن الكتاب هو القاضي والحاكم علي كل ما هو دونه، فالمرويات التي تعد الإنسان بالمغفرة مهما فعل من المعاصي إنما يراد منها ألا ييأس الإنسان من رحمة الله تعالي، ولا يراد منها تشجيعه علي اقتحام المعاصي وازدراء الأوامر الشرعية، أما المرويات التي تقلل من أهمية العمل فهي محرفة عن أصل صحيح كان المراد منه حث الإنسان علي ألا يركن إلي عمله وألا ينسب كمالاً ذاتياً إلي نفسه وأن يعرف الفضل لربه وأن يشكر له.
فالخطاب ليس موجهاً للمشركين ولا للكافرين بل هو موجه للعباد الذين أثقلتهم الذنوب وأخجلتهم وهم يودون التوبة ولكن كاد إحساسهم بثقل أوزارهم يؤدى بهم إلى القنوط، أما المشركون فإنما يركنون إلى شركائهم ولا يخشون ربهم، أما العباد الذين أسرفوا على أنفسهم فعليهم أن يعلموا أن الله هو الغفور الرحيم.
فالله سبحانه يتوجه بالخطاب إلى عباده، ولا يفقه تلك الآية إلا الذين يقرون بأنهم عباده حتى وهم في حال عصيانهم، فالذين أسرفوا على أنفسهم أو أحاطت بهم خطايا لا يستطيعون منها فكاكا لا ينبغي أن يقنطوا من رحمة الله تعالى وإلا لأوقعوا أنفسهم في ذنب أفدح من كافة ذنوبهم، ذلك لأن من سمات الله سبحانه اللازمة له أنه قد وسع كل شيء رحمة وعلما وأنه هو الغفور الرحيم، فهم بقنوطهم يسيئون الظن به وينتقصون من قدره ولا يصدقون ما وصف به نفسه، وعليهم أن يعلموا أن ذنوبهم وإن عظمت فإنما هي لازمة لتفصيل وإظهار سمة المغفرة المقترنة بالرحمة، فتلك السمة لكمالها المطلق ولزومها له صارت علماً عليه.
أما الذنب الذي لا يغفر فهو الشرك الذي يصر صاحبه عليه، فالشرك محبط لكل عمل، ذلك لأن القول به هو الخطيئة الكبرى في حق الإله الواحد الأعظم، ومن أشرك فقد اختلت لديه كل الموازين وأغلق على نفسه باب الأمل ومنع كل نور من أن يتسلل إلى قلبه، فهو لن يتغير إلا إلى ما هو أسوأ، والحق سبحانه عندما يعلن أنه يغفر الذنوب جميعاً فإنه يفعل ذلك وفق مشيئته أي كما تقتضي سننه الخاصة بأمر المغفرة، فالغفران أمر يتم وفق قوانينه وسننه؛ أي بالاتساق مع كافة صفاته وسماته الأخرى، فهو لن يغفر مثلاً للمصر علي معصيته والمجاهر والفخور بها.
*******
إن الشرك الذي يُغفر هو الشرك الذي اقترفه من أسرفوا على أنفسهم من الناس المقرين بأنهم عباد لله ويؤرقهم ما كانوا عليه من الشرك ويستغفرون.
أما المشرك المتباهي بشركه والمصرّ عليه بل ويدعو الناس إليه ويريد أن يفرضه عليهم مثل شرك أكثر أتباع المذاهب التي حلَّت محلّ الإسلام وشرك أكثر أهل الكتاب فهو لا يُغفَر لأنهم معتصمون به ولا يستغفرون منه أصلا.
والاستغفار الصادق يتضمن أداء حقوق العباد، فإن تعذر ذلك فيجب أن يبتهل العبد إلى ربه ليقوم بذلك عنه وأن يعوضهم من خزائنه التي لا تنفد.


*******

هناك تعليق واحد: