الاثنين، 10 أكتوبر 2016

حقيقة مرويات عاشوراء

حقيقة مرويات عاشوراء

ورد في مسألة صيام يوم عاشوراء مرويتان رئيستان بصور متعددة؛ إحداهما ما رواه البخاري عن ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قدم المدينة يوم عاشوراء فإذا اليهود صيام، فسألهم عن ذلك فقالوا هذا يوم أغرق الله فيه فرعون ونجّا فيه موسى وبني إسرائيل فقال: نحن أولى بموسى منكم وإني لأحتسب هذا اليوم ذنوب العام السابق له، فصامه وأمر المسلمين بصيامه.
والمروية جاءت في البخاري هكذا:
[ 1900 ] حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب حدثنا عبد الله بن سعيد بن جبير عن أبيه عن بن عباس رضى الله تعالى عنهما قال قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال ما هذا قالوا هذا يوم صالح هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى قال فأنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه
وجاء في مسلم
133 (1134) وحدثنا الحسن بن علي الحلواني. حدثنا ابن أبي مريم. حدثنا يحيى بن أيوب. حدثني إسماعيل بن أمية؛ أنه سمع أبا غطفان بن طريف المري يقول: سمعت عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول:
حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله! إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا كان العام المقبل إن شاء الله، صمنا اليوم التاسع. قال: فلم يأت العام المقبل، حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمروية من النوع الآخر ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما كذلك عن عائشة رضي الله عنها أن قريشا كانت تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيامه حتى فُرض رمضان فقال من شاء فليصمه ومن شاء أفطر.
والمروية جاءت في البخاري هكذا:
[ 1515 ] حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن بن شهاب عن عروة عن عائشة رضى الله تعالى عنها وحدثني محمد بن مقاتل قال أخبرني عبد الله هو بن المبارك قال أخبرنا محمد بن أبي حفصة عن الزهري عن عروة عن عائشة رضى الله تعالى عنها قالت كانوا يصومون عاشوراء قبل أن يُفرض رمضان وكان يوما تستر فيه الكعبة فلما فرض الله رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاء أن يصومه فليصمه ومن شاء أن يتركه فليتركه.
من الواضح تماما أنه يوجد تناقض واضح وصارخ بين المرويات التي تتحدث عن صيام عاشوراء، كما أنها تتنافى مع حقائق تاريخية راسخة، ولكن لورودها في الصحيحين كان عمل كل المحدثين كالعادة محاولة التوفيق فيما بينها على حساب أي شيء آخر مهما كانت قداسته، ولم يكن من الوارد عند هؤلاء بالطبع الدراسة المنهجية الكاملة للأمر، إنه يجب أولا محاولة معرفة ماهية هذا اليوم الذي ورد في المرويات أن اليهود كانوا يصومونه وأنه يناظر العاشر من شهر محرم أول شهور السنة العربية، هل كان اليهود أو هم الآن يصومونه فعلا.
فثمة مرويات تجعل عاشوراء مرتبطا بتراث العرب وأخرى تجعله مرتبطا باحتفال اليهود بذكرى خروجهم من مصر ونجاتهم من فرعون، أما اليوم الذي خرج فيه بنو إسرائيل من مصر، فهو عيد الفصح، وليس في عاشوراء، وعيد الفصح اليهودي هو أحد الأعياد الرئيسة في اليهودية، ويحتفل به لمدة 7 أيام بدأ من 15 أبريل حسب التقويم اليهودي.
وفي التقويم اليهودي يعتبر شهر نيسان (أبريل) أول أشهر الربيع وعيد الفصح نفسه يسمى أحيانا بـ"عيد الربيع"، ولكن لكون الأشهر اليهودية قمرية، يجب في بعض السنوات مضاعفة الشهر الذي يسبق نيسان، أي شهر آذار، كي لا يتراجع شهر نيسان إلى موسم الشتاء.
يحل عيد الفصح في منتصف شهر نيسان اليهودي، أي عند اكتمال القمر الأول بعد الاعتدال الربيعي (20 أو 21 مارس) ولكن في بعض الأحيان يحل في نهاية أبريل عند اكتمال القمر الثاني بعد الاعتدال الربيعي، لأن حساب التلاؤم بين السنة القمرية والشمسية ليس دقيقا بشكل تام.
وفي الشريعة اليهودية يكون اليوم الأول واليوم الآخر من العيد يومي عطلة يحظر فيهما القيام بأي عمل، أما الأيام الخمسة بينهما فيوصى بها الاستراحة دون حظر كامل على العمل.
ويوم خروج بني إسرائيل من مصر هو عندهم يوم فرح وعيد، وليس بيوم صيام.
أما عن عيد الفصح في المسيحيّة فقد ظلّ المسيحيّون الأوائل يحتفلون بعيد الفصح المسيحي تزامنا مع عيد الفصح اليهود، ذلك لأن قيامة المسيح عندهم من الموت كانت في يوم الأحد المباشر لعيد الفصح عند اليهود، وقد قام الإمبراطور "قسطنطين" بالدعوةِ لمجمع نيقيا الكنسي عام 325 م، وقد اعتمد فيهِ أن يكون عيد الفصح المسيحي هو يوم الأحد الذي يلي 14 من الشهر القمري ويوم 21 آذار من الشهر الشمسي حيث التعادل الربيعي، وهكذا انفصل المسيحيّون في فصحهم عن الفصح اليهودي، ويقع عيد الفصح بين 22 مارس حتى 25 إبريل في الكنائس الغربيّة المتبعة للتقويم الجريجوري، أما الكنائس الشرقيّة المتبعة للتقويم اليولياني فإن عيد الفصح يقع بين 4 إبريل حتى 8 مايو، ويسبق عيد الفصح الصيام لمدة 55 يوما، وفي آخر ثلاثةِ أيامٍ قبل القيامة والفصح يمتنع البعض تماما عن الأكل والشرب كنوعٍ من التضامن والمشاركةِ لآلام السيّد المسيح ليكون في اليوم الثالث العيد فيفطرون ويعيّدون.
فلا علاقة للنصارى بفصح اليهود مما يقوض أسس مروية ابن عباس التي ذكرهم فيها.
إنه لا شك أن مرويات عاشوراء متناقضة مضطربة، وهي متناقضة مع أمور مذكورة في السيرة وكتب المرويات، فهي تقول إن الرسول وصل إلى المدينة في يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، وذكر ابن هشام أن ذلك كان يوم 12 أيضا.
والمرويات تقول بأن النبي صام عاشوراء في الجاهلية مع قريش تتناقض مع الروايات الأخرى بأنه لم يعلم بصيام عاشوراء إلا بعد الهجرة ودخول المدينة وتقليد اليهود في صيامه.
وتقول بأن النبي قال " لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع "، وأنه لم يأتِ العام المقبل حتى توفي تدلّ أن صوم عاشوراء؛ أي إن الأمر بصيامه كان قبل انتقاله بعام، وهذا يتناقض مع الرواية الأخرى بأن ذلك كان عند مقدمه المدينة، وكلا الحديثين من رواية ابن عباس نفسه! كما أن المرويات تقول بأن صيام رمضان نسخ صيام عاشوراء، وصيام رمضان كان في العام الثاني من الهجرة.
وبعض المرويات تجعل النصارى أيضًا يعظمون عاشوراء، ولا علاقة للمسيحيين بيوم الغفران الذي يحدث فيه الصيام، كما أن لهم عيد فصح خاصًا بهم لا يحتفلون فيه بنجاة بني إسرائيل بل بقيامة المسيح.
أما كسوة الكعبة فكانت في يوم النحر، وليس يوم عاشوراء، وعلى العموم فيوم النحر هو العاشر من ذي الحجة، وهذه إشارات تستلزم المزيد من البحث والتدقيق.
وقد فات الباحثين في المرويات أنه طالما يتعلق الأمر بأعياد يهودية ومسيحية فقد كان يجب دراستها في مصادرهم.
واليهود لا يصومون بالطبع العاشر من محرّم ولا يعرفونه، بل هم يصومون العاشر من أول شهور السنة اليهودية، أي 10 تشري، هذا هو عاشوراء اليهود، وهو أحد أهم الشعائر الدينية لديهم ويسمى يوم كيپور أو يوم الغفران ... وفيه يبدأ الصيام قبيل غروب شمس يوم 9 تشري، ويستمر إلى ما بعد غروب شمس اليوم التالي، أي إنه يستغرق حوالي 27 ساعة يجب فيها الصيام ليلا ونهارا، وعدم الاشتغال بأي شيء خلا العبادة .... فهو يوم في السنة لحساب النفس والندم على ما بدر من المؤمن من الخطايا، والتكفير عنها ليس بالصوم فقط، بل بالذبائح والصلوات والأموال وردّ المظالم إلى أهلها وطلب الصفح من المعتدى عليهم.
فأهم أيام الصيام هو صيام يوم الغفران في العاشر من تشري، وهو الصوم الوحيد الذي ورد في أسفار موسى الخمسة حيث جاء فيها "فَتُذَلِّلُونَ نُفُوسَكُمْ"، وقد فسروها على أنها الصيام.
جاء في سفر اللاويين 16:
29«وَيَكُونُ لَكُمْ فَرِيضَةً دَهْرِيَّةً، أَنَّكُمْ فِي الشَّهْرِ السَّابعِ فِي عَاشِرِ الشَّهْرِ تُذَلِّلُونَ نُفُوسَكُمْ، وَكُلَّ عَمَل لاَ تَعْمَلُونَ: الْوَطَنِيُّ وَالْغَرِيبُ النَّازِلُ فِي وَسَطِكُمْ. 30لأَنَّهُ فِي هذَا الْيَوْمِ يُكَفِّرُ عَنْكُمْ لِتَطْهِيرِكُمْ. مِنْ جَمِيعِ خَطَايَاكُمْ أَمَامَ الرَّبِّ تَطْهُرُونَ. 31سَبْتُ عُطْلَةٍ هُوَ لَكُمْ، وَتُذَلِّلُونَ نُفُوسَكُمْ فَرِيضَةً دَهْرِيَّةً. 32وَيُكَفِّرُ الْكَاهِنُ الَّذِي يَمْسَحُهُ، وَالَّذِي يَمْلأُ يَدَهُ لِلْكَهَانَةِ عِوَضًا عَنْ أَبِيهِ. يَلْبَسُ ثِيَابَ الْكَتَّانِ، الثِّيَابَ الْمُقَدَّسَةَ، 33وَيُكَفِّرُ عَنْ مَقْدِسِ الْقُدْسِ. وَعَنْ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ وَالْمَذْبَحِ يُكَفِّرُ. وَعَنِ الْكَهَنَةِ وَكُلِّ شَعْبِ الْجَمَاعَةِ يُكَفِّرُ. 34وَتَكُونُ هذِهِ لَكُمْ فَرِيضَةً دَهْرِيَّةً لِلتَّكْفِيرِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ جَمِيعِ خَطَايَاهُمْ مَرَّةً فِي السَّنَةِ». فَفَعَلَ كَمَا أَمَرَ الرَّبُّ مُوسَى.
وفي سفر اللاويين 23
26وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلاً: 27«أَمَّا الْعَاشِرُ مِنْ هذَا الشَّهْرِ السَّابعِ، فَهُوَ يَوْمُ الْكَفَّارَةِ. مَحْفَلاً مُقَدَّسًا يَكُونُ لَكُمْ. تُذَلِّلُونَ نُفُوسَكُمْ وَتُقَرِّبُونَ وَقُودًا لِلرَّبِّ. 28عَمَلاً مَا لاَ تَعْمَلُوا فِي هذَا الْيَوْمِ عَيْنِهِ، لأَنَّهُ يَوْمُ كَفَّارَةٍ لِلتَّكْفِيرِ عَنْكُمْ أَمَامَ الرَّبِّ إِلهِكُمْ. 29إِنَّ كُلَّ نَفْسٍ لاَ تَتَذَلَّلُ فِي هذَا الْيَوْمِ عَيْنِهِ تُقْطَعُ مِنْ شَعْبِهَا. 30وَكُلَّ نَفْسٍ تَعْمَلُ عَمَلاً مَا فِي هذَا الْيَوْمِ عَيْنِهِ أُبِيدُ تِلْكَ النَّفْسَ مِنْ شَعْبِهَا. 31عَمَلاً مَا لاَ تَعْمَلُوا. فَرِيضَةً دَهْرِيَّةً فِي أَجْيَالِكُمْ فِي جَمِيعِ مَسَاكِنِكُمْ. 32إِنَّهُ سَبْتُ عُطْلَةٍ لَكُمْ.
ويوم الغفران هو يوم صيام، ولكنه مع هذا أضيف على أنه عيد، فهو أهم الأيام المقدَّسة عند اليهود على الإطلاق وحيث إنه يقع في العاشر من تشري فهو، إذًا، اليوم الأخير من أيام التكفير أو التوبة العشرة التي تبدأ بعيد رأس السنة وتنتهي بيوم الغفران، ولأنه يُعتبَر أقدس أيام السنة، فإنه لذلك يُطلَق عليه "سبت الأسبات"، وفي هذا العيد كان الكاهن الأعظم يدخل قدس الأقداس في الهيكل ويتفوه باسم الإله "يهوه"، وهو الاسم الذي يحرم التفوه به إلا في هذه المناسبة، وبحسب التراث الحاخامي، فإن يوم الغفران هو اليوم الذي نزل فيه موسى من سيناء، للمرة الثانية، ومعه لوحا الشريعة، حيث أعلن أن الرب غفر لليهود خطيئتهم في عبادة العجل الذهبي، فهو لذلك يوم عيد وفرح، ومع هذا أضاف التراث الحاخامي جانب الحزن والندم والحداد إذ قرر الحاخامات أن يوم التكفير هو اليوم الذي سمع فيه يعقوب عن موت ابنه يوسف، ولذا يجب أن يشعر الإنسان بالحزن طيلة ذلك اليوم ويجب التضحية بكبش ليتذكر اليهودي الكبش الذي ذبحه إخوة يوسف وبللوا قميصه بدمه.
فعيد يوم الغفران هو العيد الذي يطلب فيه الشعب ككل الغفران من الإله ولذلك، فإن الكاهن الأعظم كان يقدم في الماضي كبشين (قربانًا للإله نيابة عن كل جماعة يسرائيل) وهو يرتدي رداءً أبيض (علامة الفرح) وليس رداءه الذهبي المعتاد، وكان الكاهن يذبح الكبش الأوَّل في مذبح الهيكل ثم ينثر دمه على قدس الأقداس أما الكبش الثاني، فكان يُلقَى من صخرة عالية في البرية لتهدئة عزازئيل، وليحمل ذنوب جماعة يسرائيل.
واعتمادا على ما سبق فقد أخطأت المروية القائلة بأن عاشوراء هو يوم نجّى الله فيه موسى وبني إسرائيل فهم يصومونه شكراً لله .... لأن يوم نجاة موسى وخروجه من مصر يقع في شهر نيسان اليهودي وليس تشري، وهو ليس يوما واحدا بل أسبوعا كاملا .... وهم لا يصومون فيه بل هو عيد ويأكلون فيه الفطير غير المختمر، وهو المعروف عند اليهود بـ " عيد الفصح " أي عيد الفطير أكبر الأعياد اليهودية وبه تبدأ سنتهم الدينية.
فهل كان دخول النبي المدينة يوافق يوم كيبور أم يوم الفصح؟؟ إن كل الباحثين في هذا الموضوع فاتهم أن الأشهر العربية كانت محل تلاعب من العرب بسبب اقترافهم النسيء المذموم الذي هو زيادة في الكفر وإصرارهم عليه، وأن المؤمنين لم يكن أمامهم إلا أن يلتزموا بما كان يلتزم به سائر العرب في هذا الأمر، وأن الأشهر لم تعد إلى مواضعها الطبيعية إلا في حجة الوداع في العام العاشر من الهجرة، ولقد أعلن الرسول عليهم ذلك عندما قال: "إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ" والذي كان يقصد به رجوع شهر ذي الحجة إلى مكانه الطبيعي، وهذا يعني بالضرورة أن الأشهر لم تكن في مواضعها بالضرورة قبل ذلك، ولذلك ورد أن حجة أبي بكر بالناس كانت في ذي القعدة.
ويؤكد بعض الباحثين بالحساب الفلكي أن الهجرة كانت يوم الاثنين 8 ربيع الأول سنة 1 هجرية المصادف 20 سبتمبر سنة 622 ميلادية، ويوافق ذلك 10 شهر تشري سنة 4383 عبرية، وهو يوم صوم الكيبور (عاشوراء اليهود) العاشر من الشهر الاول من السنة عندهم.
وهذا خطأ جسيم من الفلكيين لما يلي:
1.     هم أجروا حساباتهم على أساس أن التقويم الهجري المستعمل الآن كان ساريا بحيث يمكن الرجوع إلى العصر النبوي بانتظام وبدون مشاكل، وهذا غير صحيح، فالتقويم الهجري لم يأخذ صورته الحالية إلا في الفتنة الكبرى.
2.     قد تجاهلوا فحوى كلام الله ورسوله من أنه قبل سنة حجة الوداع كان النسيء يسبب أخطاء في مواضع الشهور بل في أعدادها في السنة.
ولذلك فالذي نقول به بفضل الله تعالى أن الهجرة كانت بالفعل يوم الاثنين في ربيع الأول، وذلك حسب ما كان يعرفه الناس عندها، أي كان الشهر هو عندهم ربيع الأول بغض النظر عن تلاعبهم أو عن كونه في موضعه الحقيقي أو في غير موضعه، فلم يكن لدى القلة المؤمنة المضطهدة من السلطة ما يجعلها تفرض تقويما معينا أو تصحيحا لتقويم على الجزيرة العربية كلها أو على الأقل على الحجاز كله.
ولم تكن كلمة عاشوراء مستعملة في العصر النبوي، وإنما حدثت من بعد في العصر الأموي بعد استشهاد الإمام الحسين في العاشر من محرم، ويبدو أنه قد ظهر فريقان رئيسان كل فريق يحاول الانتصار لقول معين في هذا اليوم، فريق يرجعه إلى العصر الجاهلي وفريق يرجعه إلى إحياء لعيد يهودي، ومن المعلوم أن الدس اليهودي في التراث الإسلامي بدأ مبكرا.
فالذي حدث أنه بعد انقضاء العصر النبوي وعصر الخلافة الراشدة تسرب الكثير من التراث اليهودي إلى الإسلام، وتم تحريف بعض المرويات الخاصة بعاشوراء تحريفا عشوائيا غير محكم، فصار هذا العاشوراء هو العاشر من أول شهر من السنة الهجرية ليكون مناظرا لعيد الكفارة والغفران العبري في العاشر من أول شهر في سنتهم الدينية؛ شهر تشري، وصار صيامه كفارة للسنة الماضية كما هو الحال في التراث اليهودي تمامًا.
إن مشكلة النوع الأول من مرويات عاشوراء هي أن اليهود لا يصومون في اليوم الذي نجَّى الله تعالى فيه موسى وبني إسرائيل من بطش فرعون، وإنما في يوم الكفارة والغفران كيپبور، فاليهود يصومونه للاستغفار وطلب العفو والتكفير عما اقترفوه من ذنوب في العام المنصرم (يكفر ذنوب العام الماضي كما نقله عنهم واضعو المرويات) كما تصرح بذلك نصوص العهد القديم، ومنها ما جاء في لاويين 16: "34وَتَكُونُ هذِهِ لَكُمْ فَرِيضَةً دَهْرِيَّةً لِلتَّكْفِيرِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ جَمِيعِ خَطَايَاهُمْ مَرَّةً فِي السَّنَةِ». فَفَعَلَ كَمَا أَمَرَ الرَّبُّ مُوسَى"، وكما يدل على ذلك اسم اليوم، فهو يوم التطهير أو الكفارة، أما مناسبته فهي نزول موسى بالألواح والعفو عنهم بعد أن عبدوا العجل.
وأما اليوم الذي يحتفلون فيه بذكرى نجاة موسى وبني إسرائيل وخروجهم من مصر وغرق فرعون وجنده فهو اليوم الثامن والأخير من أيام احتفالهم بعيد الفصح فِصَحْ أي الفسح أو الخروج أو المرور، ويجيء في الحادي والعشرين من شهر نيسان، وهو أول الشهور في سنتهم الدينية "يجيء عيد الفصح عندهم في اليوم الرابع عشر من شهر نيسان ويمتد احتفالهم به سبعة أيام بعد يوم العيد نفسه فينتهي احتفالهم به في اليوم الحادي والعشرين من شهر نيسان وهو اليوم الذي تذكر التوراة أن الله أغرق فيه فرعون وجنده ونجا موسى وبني إسرائيل ويسر لهم الخروج من مصر" وعيد الفصح والأيام السبعة التالية له ليست أيام صيام عندهم بل هي أيام توسعة في المأكل والمشرب.
ويقول أحد المشايخ: "ولما كان الحديثان صحيحين لورودهما في البخاري ومسلم وقوة سندهما فلا مجال إذن للطعن فيهما أو في أحدهما بالضعف ويجب تفسيرهما تفسيرا يدفع جميع الشبهات عنها".
ولو أنصف لما حاول فرض عقيدته الخاصة على الحقائق ولقال بوضع المرويتين لثبوت تناقضهما وتناقض إحداهما الصارخ مع الحقائق الراسخة.
ويقول في دفع الشبهة الخاصة بالخطأ في تعليل صيام يوم كيپبور وهي أن هذا الصوم هو لتخليد اليوم الذي نجّى الله فيه موسى وبني إسرائيل ويسر لهم الخروج من مصر وأغرق فرعون وجنده في حين أن الغرض من صيامه عند اليهود هو طلب التكفير عن ذنوبهم في العام المنصرم:
((وتدفع هذه الشبهة بأن الذين ذكروا هذا الغرض غير الصحيح هم بعض أفراد من يهود المدينة سئلوا عن ذلك وكانوا قليلي المعرفة بشعائرهم وحكمتها وأغراضها فالتبست عليهم أغراض عيد (كبور) بعيد الفصح، وألصقوا بالعيد الأول الأغراض التي من أجلها يُحتفل بالعيد الثاني وكان معظم يهود المدينة من عوام اليهود، بل كان منهم من ينحدر من أمم أخرى غير شعب بني إسرائيل واعتنق اليهودية بدون علم بتفاصيل شريعتها.
ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم بإلهام من الله عز وجل قد قصد إلى إصلاح هذا الخطأ والإشارة إلى الغرض الصحيح من صيام يوم "كبور" حينما قال في الحديث الذي نحن بصدده " نحن أولى بموسى منكم، وإني لأحتسب إلى الله أن يكفّر بصيام هذا اليوم ذنوب العام السابق له))
فهذا الشيخ لم يجرؤ على مواجهة البخاري ومسلم ولكنه جرؤ على التشكيك في الجناب النبوي، هل كان الرسول ليسأل بعض العامة المتسكعين في الطرقات ويقرر بناءً عليه أمر المسلمين بالصيام؟ أم إنه سأل أحبارهم وعلماءهم الموثوق بهم إذا كان بحاجة إلى ذلك أصلا؟ هل كان الله تعالى ليترك نبيه بدون تصحيح المعلومة التي ذُكرت له والتي دفعته إلى أمر المسلمين بصيام يوم عاشوراء؟
ومرويات عاشوراء تنسب صيام اليوم مرة إلى العرب ومرة إلى اليهود، وهي متناقضة مع حقائق الأديان والتاريخ، ولا يمكن استعمال مرويات كهذه لفرض أو تقرير أي أمرٍ ديني.
ولكن بغض النظر عن مصداقيتها فإنه يتضح أن التقويم العربي كان موازيا للتقويم العبري، فكلاهما تقويمان قمريان-شمسيان، ولذلك كان من الممكن استمرار توازي التقويمين في السنة التالية، مع حتمية وجود إزاحة بسبب النسيء والتقويم، ولا عجب في ذلك، فالتشابه البيئي يولد حلولا متشابهة لنفس المشاكل أو يوحد بين حلول كانت متباعدة.

******* 

هناك 8 تعليقات:

  1. شكرا لك أستاذنا الكريم على جهودك ،وجعلها الله في ميزان حسناتك

    ردحذف
  2. من أكمل الأبحاث التي قرأتها بهذا الموضوع والتي تشير إلى إسهام آخر حول تزوير وفساد التقويم العربي حاليا .

    ردحذف
  3. بارك الله فيك وعليك ولك

    ردحذف
  4. بارك الله فيك سيدي الجليل

    ردحذف
  5. من أراد الحقيقة فهي ساطعة هنا. بارك الله بك حضرة البروفيسور

    ردحذف
  6. ماشاء الله تبارك الله ربنا يباركلنا في حضرتك ويصلح لك جسدك ويوسع رزقك ويرزقك عمرا طويلا في الخير ❤️❤️❤️

    ردحذف