الأحد، 23 أكتوبر 2016

تأويل كارثي من (صحابي) لمروية ذات أصل صحيح

تأويل كارثي من (صحابي) لمروية ذات أصل صحيح

قد تكون المروية صحيحة ولكنهم يخطئون في إدراك معانيها ومقاصدها، وذلك يكون في أحيان كثيرة بسبب اعتبارها نصا دينياً مطلقا، مثال: جاء في الصحيح عن الأحنف بن قيس أنه قال: ذهبت لأنصر هذا الرجل (يعني الإمام عليا وقد كانوا لفرط الرعب من الأمويين يكنون عنه)، فلقيني أبو بكرة فقال: ارجع فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)، فقلت يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: (إنه كان حريصا على قتل صاحبه).
هذه المروية تبين كيف أن من يعدونه صحابيا يمكن أن يخطئ خطأً فادحا في استخراج الحكم الصحيح، فلقد رد هذا (الصحابي) الأوامر القرءانية الواردة في قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} الحجرات9 بناء على مروية سمعها فأخطأ إدراك المقصد منها، فالمؤمن ملزم بمقاتلة الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله، ولكنه ظن أن المروية نص ديني مطلق، ولو كان الأمر كذلك لوجب علي المسلم الاستسلام لأي مسلم يريد قتله وألا يرفع عليه سيفا دفاعا عن نفسه، فالمروية تشير إلى أصل صحيح، ولكن هذا الأصل يحذر أولئك الذين يتقاتلون في سبيل مطمع ديني أو بدافع العصبية، وهو يحذر المسلمين من أن يقتل بعضهم بعضا، فهو بيان للآيات التي تنهي عن القتل بغير الحق وتجعله من أكبر كبائر الإثم.
والمشكلة أن الراوي لم يرو الملابسات والظروف التي ورد فيها الحديث وإنما احتفظ بالقول وحده مجردا عن سياقه، وهذا ما دفعه  إلى ارتكاب هذا الإثم العظيم وهو تخذيل الناس عن نصرة من لم يجرؤوا علي التصريح باسمه وهو الإمام علي، فهذا الرجل قد امتنع عن نصرة الإمام بسبب تأويل خاطئ فاقترف إثما عظيما ثم حاول منع غيره من نصرته فارتكب إثما أعظم، ولا بد أنه قد امتنع كثيرون عن نصرة الإمام بسبب موقفه مما أضعف معسكر أهل الحق وقوَّي معسكر أهل البغي، فأهل البغي لم تكن تعنيهم النصوصس في شيء، فقد كانوا جميعا على قلب شيطان واحد وإن تعددت صوره، فكان ما كان من تحول الأمر إلى ملك استبدادي عضوض مازالت الأمة تدفع ثمنه الباهظ والمرير إلى الآن، ومن امتنع عن نصرة الإمام لم يقعد عن المشاركة في الفتنة كما ظن وإنما شارك فيها بقعوده وقعود من قعد لقعوده عن نصرة أهل الحق وما سببه ذلك من تقوية أهل الباطل، وهو بذلك يتحمل وزر ما ترتب علي انتصار أهل البغي.
أما المروية فتشير إلي أصل حقيقي، والمقصد منها حث المسلمين على تسوية خلافاتهم بالوسائل السلمية وبالاحتكام إلى القوانين الشرعية لا إلى السلاح، وينطبق هذا الكلام على كل الكيانات الإنسانية: الفرد، الأسرة، القبيلة، الأمة، الدولة، فالمسلمان اللذان في النار هما من عقد كل منهما العزم على تسوية الخلاف بالقضاء على غريمه، وبالتالي لا يقل إثم المقتول عن إثم القاتل، أما من قتل دفاعاً عن ماله أو عرضه مثلاً فهو شهيد ولا يقدح في ذلك أن كان المعتدي مسلما أو بالأحرى محسوبا علي المسلمين، والحديث كان بالتأكيد تعليقا علي واقعة ما أو أخذ من سياق حديث أشمل يفصل الأمر ويبينه.
أما النووي فقال: (واعلم أن الدماء التي جرت بين "الصحابة" ليست بداخلة في هذا الوعيد، ومذهب أهل السنة و"الحق" إحسان الظن بهم والإمساك عما شجر بينهم وتأويل قتالهم وأنهم مجتهدون متأولون لم يقصدوا معصية ولا محض دنيا بل اعتقد كل فريق أنه محق ومخالفه باغ فوجب عليه قتاله ليرجع إلى أمر الله وكان بعضهم مصيبا وبعضهم مخطئا معذورا في الخطأ لأنه لاجتهاد، والمجتهد إذا أخطأ لا إثم عليه، وكان على رضي الله عنه هو المحق المصيب في تلك الحروب، هذا مذهب أهل السنة).
وهكذا يجعل النووي المتحدث باسم أهل السنة أي (أهل المرويات الظنية) من أسماهم بالصحابة فوق الشرع والقانون والدين، فهو بذلك يزعم أن الحديث يقول: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار إلا إذا كانا ينتميان إلى فئة الصحابة فعندها يبطل الشرع وتتوقف القوانين والسنن عن العمل"!!!!!! ولا شك أن ما زعمه هو الباطل المحض، ولقد توعد الله سبحانه نساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بمضاعفة العذاب إذا أخطأن فصدور الخطأ ممن رأى الآيات البينات أدعى  إلى مضاعفة العذاب، وما أسموه بالصحابي الذي ناصر أهل البغي (وهو لا يوجد إلا وفق اصطلاحهم) إنما اقترف إثما مضاعفاً، إذ قوَّض ركناً من أركان الدين وخالف عن أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله َسَلَّمَ.
والمسلم ليس مطالبا بإحسان الظن بمن ثبت أنهم هم أهل البغي ولقد أثبت الحديث النبوي ووقائع التاريخ الثابتة أن فئة معاوية كانت هي الفئة الباغية، ومعاوية لم يطلب الحق فأخطأه وإنما طلب الباطل وأصابه، وكان ذلك من المعلوم بالضرورة للناس كافة في حينه، وعلى المسلم الذي علم حقيقة الأمر أن يتمنى لو كان مع معسكر أهل الحق وقاتل معاوية وأهل البغي مثلما أدرك ذلك كل من قعد عن نصرة الإمام في ذلك العصر، والاجتهاد الذي يثاب عليه المرء إن أخطأ بعد استنفاد جهوده إنما هو في القضايا والأحكام الجزئية التي تحتمل الصواب والخطأ، وليس في الأمور المحسومة ولا في الصراعات المصيرية، ومن يقترف حشداً هائلاً من كبائر الإثم عمداً ويقوض الدين ويحل عرى الإسلام ويقضي علي الخيار الصالحين لا يعد مجتهداً مخطئاً وإنما يعد مجرماً أثيما، وإذا كان للنووي الحق في أن يتحدث باسم أهل السنة الذي ينتمي إليهم فإنه لم يكن له أن يستعمل أمثال تلك المقولات الاستبعادية مثل أن يسميهم بأهل الحق راميا من خالفه بأنه من أهل الباطل، ولكن طريقة أهل السنة أو المرويات في معالجة الأمور تتسم باللاتساق وتعمد دائما إلى تسطيح الأمور والتملص والتنصل من مواجهة الحقائق، وإذا كان النووي قد أقر في النهاية بأن الإمام كان هو المحق المصيب فكان عليه أن يأخذ بمقتضيات ذلك، وألا يلزم الناس بما يخالفه، ولكن هكذا كان دأب المتصدرين في أمور الدين؛ كانوا دائما حربا علي المنطق السليم.

*******

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق