مروية آية الإيمان حب الأنصار
جاء في البخاري:
"حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَبْرٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ
الْأَنْصَارِ وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ"
أخرجه البخاري
ومسلم والنسائي
المروية ذات
أصلٍ صحيح؛ أي تشير إلى حديث حقيقي، ولم يقدِّر أحد هذا الحديث الشريف حق قدره،
وهذا الحديث هو حجة علي القرون الإسلامية الأولي وكانوا هم المعنيين أساسا به،
ولقد كان أشد الناس حبا للأنصار عترة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ،
ولقد تعرضوا مثلهم لظلم فادح، أما أشد الناس بغضا للأنصار فهم الطلقاء من قريش
الذين كانوا آخر من أسلم وأول من انقلب علي عقبيه وبدل، وما زالوا يحقِّرون من شأن
الأنصار ويغرون بهم ويستأثرون بالأمر من دونهم ويتربصون بهم الدوائر حتى بلغ الأمر
مداه بالمذبحة التي ارتكبها جيش يزيد اللعين ضد من بقي منهم وضد ذريتهم في موقعة
الحرة وما تلا ذلك من جرائم يندى لها جبين الإنسانية.
إن الطلقاء
وذريتهم لم يكتفوا بمجرد الكراهية القلبية للأنصار وإنما شفعوها بالعمل علي
استئصال شأفتهم، وأن المرء لا يجد علي مدي التاريخ فئة قد أبلت أحسن البلاء في
نصرة دينٍ ما أو عقيدة ما ولم تظفر في سبيل ذلك بطائل مادي مثل أولئك الأنصار،
فبجهادهم قام هذا الدين وكشف الله تعالى الكرب عن رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وعن
المسلمين وكانوا هم الذين شهد لهم القرءان بأنهم آووا ونصروا، وهم الذين قال الله
فيهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ
مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا
وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ
نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }الحشر9، فمنهم من آمن بالنبي من قبل
أن يُبعث، ثم غلبهم علي أمرهم الطلقاء من قريش واستأثروا بالأمر من دونهم ولم
يكتفوا بذلك بل نكلوا بهم وكادوا يبيدونهم، ولكن خطأهم الأساسي والذي دفعوا ثمنه
غاليا هو ما حدث في سقيفة بني ساعدة، إذ كان عليهم أن يوحدوا صفوفهم وألا يسمحوا
لحمية الجاهلية أن تفرقهم وكان عليهم أن يصروا علي ألا يتم إبرام أي اتفاق إلا بعد
الانتهاء من أداء ما يجب تجاه نبيهم الحبيب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وإلا في حضور ممثلين لكافة الطوائف الإسلامية، إن هذا كان من الممكن أن يؤدي إلي
حفظ حقوق أهل البيت والأنصار وغيرهم من القبائل العربية، وكان لابد من إعمال
الشورى الحقيقية في أمر كهذا، وهذا لم يكن ترفا بل هو ركن ديني ملزم كانت المخالفة
عنه من أسباب ما شجر من المظالم والفتن.
وكذلك كان عليهم
أن يعملوا بمقتضى وصية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ
وَسَلَّمَ بأن يكون الإمام عليا وليا
لكل مؤمن، فيتولى بذلك الخلافة عن الرسول على أمر الأمة كأمة؛ يعلمهم الكتاب
والحكمة ويزكيهم، خاصة وأن أكثر من مائة ألفٍ منهم لم يتلقوا أي تزكية أو تعليم
على يد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ
وَسَلَّمَ.
وما حدث في
السقيفة من صراعٍ وتلاسن وما ترتب عليه هي أمور بشرية اجتهادية وليست نصوصا دينية، فتلقي الوحي الملزم للناس كافة قد خُتِم بختم النبوة، ولم
يكن يجوز تحويل ما حدث إلى دين مثلما فعل بنو إسرائيل من قبل أبدا، وكان من الأفضل
دينيا بالطبع اختيار من يلي أمورهم من خلال إعمال شوري حقيقية يشترك فيها ممثلون
لكل الأمة، وليس من خلال فلتة كما قال بحق عمر بن الخطاب، ولكنه لم يكن محقا عندما
قال بأن الله وقي المؤمنين شرها فليس له أن يتحدث نيابة عن الله تعالى، والحق أن
شر تلك الفلتة كان مستطيرا، وقد طال بلا ريب عترة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ
وَسَلَّمَ وعلي رأسهم بضعته السيدة فاطمة الزهراء التي سرعان
ما قضت نحبها أسي وكمدا وهي في ريعان شبابها، ثم طالت الفلتة الأنصار الذين استبعدوا بقسوة من كل أمر ولم يحترم
القرشيون وصية الرسول بهم.
وعندما ذكر الأنصار لمعاوية الحديث "إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً
فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ، لم ينصفهم، وإنما قال لهم: إذًا
فاصبروا، وتولى ابنه يزيد من بعده أمر القضاء شبه التام عليهم وقهرهم وإذلالهم.
كما طال شر الفلتة الآلاف من المسلمين الذين سُفكت دماؤهم فيما سُمِّي
بحروب الردة، وهي لم تكن في مجملها إلا حروب تأسيس دولة مركزية لم يلزم الإسلام
أحدا بإقامتها ولم يكن للعرب الأباة عهد بها، وكل ما ضرب المؤمنين من فتن فيما بعد
ذلك يضرب بجذوره إلى يوم السقيفة.
وخلاصة القول
أنه لو تمسك المسلمون بضرورة إعمال مبدأ الشورى بين كل أولي الأمر لأمكن وضع الأسس
الكفيلة بتجنيب الإسلام شر ما شجر من فتن دامية ولوجد الإسلام فرصته لاقتلاع
الجاهلية المتأصلة في النفوس ولما حدثت مخالفات لقيم الإسلام وأسسه ولما تسلط
الولاة الأمويون علي أمور الناس في عهد عثمان ولما نهبت أموال المسلمين ... إلخ،
ولكن الأمر هو أنه بعد أن قام الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ خير
القيام بما نيط به من المهام وأشهدهم على أنفسهم أصبحت الأمة مسؤولة عن نفسها وعن
اختياراتها، وكل الأمم معرضة لأن يحيق بها ما ترتب على سريان السنن، ولذلك تعرضوا
للابتلاء ليعلموا الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ومن بدلوا تبديلا وانقلبوا على
أعقابهم، ولم يكن من مهام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ أن يضمن لهم
كلهم النجاح.
والهدف من هذا
القول هو بيان أن الفتنة لم تنفجر فجأة وإنما مهدت لها آثار قرارات فردية لم تمحص
التمحيص الكافي ولم تعرض علي مجلس شوري حقيقي، فلم يستشر الخليفة الثالث أحدا من
السابقين الأولين عندما عزل سعد ابن أبي وقاص وعين بدلا منه قريبه الوليد ابن عقبة
بن ابي معيط ولا عندما قرر تولية ابن أبي السرح أمر مصر ولا عندما استوزر مروان
ابن الحكم ولا عندما تأوَّل في أموال المسلمين ولا عندما وسع من سلطان معاوية ولا
عندما أمر بضرب عبد الله بن مسعود ولا عندما نفى الصديق أبا ذر ولا عندما رفض أية
نصيحة وأصر على التشبث بالسلطة بعد ثبوت أن الوزغ مروان بن طريد الرسول قد استأثر
بها من دونه ... إلخ، وكل إنسان مهما علت مرتبته معرض للابتلاء والفتنة وعليه أن
يتقبل النصح، ولقد قال الله تعالى لنبيه داود: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ
خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ
الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ
اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}ص26، فها هو نبي
هو خير من عثمان يتلقى أشد تهديد ووعيد من رب العالمين، ولكن عبيد السلف رفعوا
معبوديهم عمليا وواقعيا فوق مرتبة الأنبياء! بل واتخذهم بعضهم أربابا من دون الله
تعالى.
*****
رووا
أن الرسول
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قال للأنصار:
(إنكم سترون بعدى أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله على الحوض).
(البخاري).
هذا
الحديث من معجزات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ ولقد تحقق
بحذافيره وصدقته وقائع التاريخ الثابتة ولم تكن توجد فئة من المسؤولين عن تدوين
المرويات أو الرواة لها مصلحة في وضعه، بل كان للحزب القرشي الذي ساد وسيطر كل
مصلحة في طيه، ذلك لأن بقايا الأنصار وذرياتهم كانوا قد هزموا هزيمة نهائية على
أيدي الأمويين وفقدوا كل أمل في المشاركة في الأمر، ومن المعلوم أن الشيخين وكانا
من قريش قد حرصا بالفعل على تقديم القرشيين، وكان قادة الجيوش من القرشيين، وفي
عهد عمر كان توزيع الأموال بتراتبية تصب أساسا في صالح القرشيين، ولم يستوزر
الشيخان الأنصار استوزارا فعليا كما وعدا في السقيفة، ولقد شُغِل الأنصار كما هو
العهد بهم وكما هو متوقع منهم بالجهاد لقمع المرتدين ثم لكسر شوكة الفرس والروم
ولكن كان عليهم أيضا ألا يفرطوا في حقهم في المشاركة الفعلية في الأمر عن طريق
إيجاد الآليات والمؤسسات اللازمة لذلك ولو فعلوا لما ظلوا تحت رحمة طبيعة القائمين
على الأمر.
وهذا
القول منه
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ للأنصار كان
لعلمه بطبيعة الأمر وسنن التاريخ، فقد كان يعلم أن معظم الناس لم يتشبعوا بجوهر
الدين وطبيعته العالمية ولم يتطهروا تماما من حمية الجاهلية ومنظوماتها المعنوية
والصفاتية، ولولا صبر الأنصار لاشتعلت الفتنة مبكرا ولعصفت بالأمة الوليدة.
ومن
الدلائل على صحة المروية أنه عندما اشتكى الأنصار إلى معاوية سوء حالهم فإنه قال
لهم ماذا قال لكم الرسول؟ قالوا: قال (اصبروا) فقال لهم إذاً فاصبروا!!!!! فلم يكن
معاوية لينسى ثأره، ولكنه خشي أن يفتح على نفسه بابا جديدا بعد أن استبد بالأمر،
ولكن ما حدث يبين طيبة الأنصار المعلومة إذ كيف كانوا يتوقعون الإنصاف من عدوهم
اللدود؟ ولقد تكفِّل ابنه الوغد اللعين يزيد بالأخذ بثأر أئمة الكفر الذين قُتلوا
في بدر بسيوف الأنصار وأباد أكثر الأنصار
*****
إن دراسة وتمحيص
وقائع التاريخ الإسلامي كما حدثت هو ركن ديني ملزم للأمة، فالأمة مأمورة بالنظر في
عواقب أمور من كانوا قبلهم لالتماس العظات والعبر وتجنب مواطن الزلل ومعرفة السنن
والاقتـداء والتأسي بأهل الحق، فكل ذلك لازم لإحقاق الحق وإبطال الباطل واستخلاص
الدين نقيا غضا كما أنزل علي الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ،
فذلك الدين النقي الغض هو دين الحق الذي تأذَّن الله تعالي ليظهرنه علي الدين كله
ولو كره المشركون سواء أكانوا مشركين صرحاء أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا
وعبدوا غيره أم مشركين ممن نسبوا للمخلوقين سمات الإله وكذبوا كلامه وكلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ
وَسَلَّمَ حرصا علي سمعة بعض السلف، إن من يريد الغطرشة علي
وقائع التاريخ لن ينفع السلف في شيء ولن يضر إلا المسلمين وهو يفعل ذلك دفاعا عن
مذهبه الذي يتكسب به أو ألفى عليه
آباءه،
إنه لكل إنسان أعماله الصالحة المتسقة مع دين الحق وأعماله السيئة المناقضة له،
ولا يجوز لأحدهم إنكار الأعمال الصالحة لأحدهم وذكر أعماله السيئة انطلاقاً من
تعصب مذهبي.
*******
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق