الأحد، 10 مايو 2015

الولاية الدينية (ج1)

الولاية الدينية (ج1)

الولاية هي الولاية الدينية الجوهرية التي هي وراثة مهام الرسول العظمى المذكورة في الآية: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ}البقرة151، وكان الإمام علي هو سابق الأمة والمؤهل للقيام بهذه الولاية، خاصة وأن الأكثرية لم تسلم إلا في السنة الأخيرة من البعثة ولم يهاجروا، ولم تتح لهم فرصة التعلم والتزكي على يد الرسول نفسه، ولكن قريشا أبت عليه هذه المكانة، وظنت أن الأمر أمر تسلط وحكم، فمنعوه منها، فالرسول لم يؤسس دولة، ولم يكن ذلك من مهامه أبدا، ولم يكن من الممكن أن يكون من مهامه أبدا، وإنما أقام وأعد خير أمة، كان يريد عليها ولياً دينيا لاستكمال مهامه هو بالنسبة للمسلمين الجدد، وليس حاكما سياسيا بالمعنى المعروف، ولذلك أعلن عليهم أن عليا هو ولي كل مؤمن، وهذا أمر لا ريب فيه ولا علاقة له بمقولات المذاهب، فهذا القول لم يسبقنا إليه أحد، ولقد ترتب على إهمال ذلك اندثار الجانب الوجداني الأخلاقي من الدين وتحول إلى أيديولوجية للفتح والتوسع العسكري والاستيطان، وكان مادة ذلك هم الأعراب الذين لما يؤمنوا ولم يتعلموا ولم يتزكوا على يد الرسول، فالأعراب الذين اقتحموا كل البلدان المجاورة لهم لم تكن معلومات أكثرهم عن الإسلام تضارع معلومات طفل مسلم في نهاية المرحلة الابتدائية.
*******
الذي يقول إن الرسول أسس دولة أو مملكة أو إمبراطورية أو حكومة ديمقراطية أو حكومة إلهية هو المطالب بتقديم الدليل، فالبينة على من ادعى، وهم يحتجون بالأوامر القرءانية الموجهة للمؤمنين بطاعته، هذا رغم أنها حجة عليهم، فكل هذه الأوامر تلزمهم بطاعته بصفته كرسول، وليس كملك أو رئيس أو إمبراطور أو حاكم بالحق الإلهي Divine right of kings، فالمؤمنون من قوم الرسول ملزمون بطاعته في القيام برسالته، وبذلك كانوا خير أمة أُخرجت للناس، ولو كان رئيسا لدولة وملزما بتأسيس دولة لأتى النص الصريح على ذلك ولخوطب بصفته هذه ولو في بضع آيات، ولكانت طاعته ملزمة لقومه بالنص على صفته هذه ولكان هو حريصا على وضع أسس وهياكل تلك الدولة، إن الله تعالى الذي أورد أقوال فرعون والنملة والهدهد كان يمكنه الحديث ولو في جزء من آية عن هذه الدولة المزعومة وهياكلها، ولكن لم يكن ذلك ليحدث أبدا في الدين العالمي الخاتم الذي يمكن أن يعتنقه أي إنسان فرد في أي مكان وزمان، والذي لا يجمد أمرا هو بحكم طبيعته قابل للتطور.
والقرءان يبين بوضوح أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ كان رسولا نبيا، وأن كل مهامه كانت من هذا المنطلق، وأنه لذلك أقام أمة تحكم نفسها بنفسها، وكان يتولى أمر تعليمهم وتزكيتهم والقضاء بينهم، ولكنه لم يكن عليهم حاكماً بمعنى Ruler وإنما حاكما بمعنى قاضٍ Judge، وذلك من لوازم كونه ولي أمر الأمة وليس رئيسا لدولة أو حاكما بالحق الإلهي لها، ولم يأت في القرءان الأمر احكم متعدياً أبداً؛ أي لم يرد فيه: "احكمهم"، وإنما ورد فيه: "احكم بينهم"، فلم يكن جبارا ولا حفيظا ولا وكيلا ولا مصيطرا عليهم.
ولذلك لم يكن ملزما بأن يولي عليهم حاكما بالمعنى السياسي، وكان ذلك من مقتضيات كون الإسلام رسالة عالمية صالحة لكل زمان ومكان، وكان معلوما أن شكل نظام الحكم هو أمر سيال قابل للتغير بالتطور الحضاري، فلم يكن من الممكن أبدا تثبيته أو تجميده.
فهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ كان يؤدي الرسالة المنوطة به، وكان رسولا إلى قومه خاصة وإلى الناس كافة، وكونه مرسلا إلى قومه يعني أنه لابد من سريان أحكام أقوام الرسل والسنن الخاصة بهم عليهم، فلأقوام الرسل أحكامهم الخاصة التي فصَّلها القرءان تفصيلا، وبمقتضى هذه الأحكام حطَّم الرسول أصنامهم وألقاها خارج الكعبة وأرسل البعثات لتفعل ذلك في كل مكان يسكنه قومه.
ولكنه لم يسع أبدا إلى إدماجهم في كيان سياسي واحد، وكان يكتفي من شيخ القبيلة بإعلان الإسلام وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وهذا هو إسلام الأعراب الذي تحدث عنه القرءان:
{قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيم} [الحجرات:14]
ومن المعلوم أن حوالي 117 ألفا أسلموا بعد فتح الحديبية ولم يهاجروا ولم يتعلموا إلا القليل عن الإسلام، فلم تكن المصاحف متاحة للناس كما هو الحال الآن، وكان حفظة القرءان والمعلمون قليلين، وكان لابد من ولي أمر للأمة الوليدة يستكمل المهام النبوية بالنسبة لهم، ولقد فاز بهذه الولاية الإمام عليّ بعد أن أثبت جدارته بها طوال العهد النبوي؛ كان دائما في مقدمة الصفوف بينما كان يكتفي غيره بالفرجة أو يفرون عند الخطر، وكان ينجح حين يفشل الآخرون، فضلا عن أنه تربى في بيت النبوة.
هذا أمر في الغاية من الوضوح، ولكن تم إساءة تفسير ما حدث عند غدير خُم لأسباب مذهبية.
وقد عمل القرشيون على تجاهل ما حدث عند غدير خم لأسباب قبلية وغيرها، وأهم سبب تذرع به القرشيون هو أنه يكفي بني هاشم أن النبوة كانت فيهم!! وبالطبع لم تنسَ بطون قريش للإمام عليّ أنه قتل من مشايخهم المقدسين من قتل.
أما ما حدث في السقيفة وأسبابه فهي مسألة تاريخية، لا يجوز الاحتكام في شأنها إلى متمذهب، وما ترتب عليها كذلك هي أمور تاريخية لا علاقة لها بالدين وعقائده، ومن الخير للمسلم غير القادر على البحث المستقل ألا يشغل نفسه بها وألا يكون بوقا أجوف يردد كلام أي مذهب من المذاهب.
ومن اجتمعوا في السقيفة لم يكونوا أبدا يمثلون كافة طوائف الأمة، وما جرى فيها من جدال وتلاسن لا علاقة له بالإسلام ولا حتى بالقيم العربية، وما حدث في السقيفة لا يثبت إلا براعة ممثلي الحزب القرشي وطيبة وسذاجة الأنصار، وسيدفعون من بعد ثمن ذلك غاليا.
ومن الناحية التاريخية ومن ناحية تاريخ الأديان لا يجوز الاستهانة بما حدث في السقيفة، فمئات الملايين على مدى التاريخ قُتلوا بسبب ما ترتب على ما حدث فيها، وقد تمزقت الأمة وتفرق الدين بسبب ذلك.
أما السؤال عن البديل، وهل كان من الأفضل أن يتحقق هذا البديل أم لا فهذه مسألة أخرى، ولا تعني عامة المسلمين في شيء.
*******
حديث العترة صحيح، وهو يعني ما يلي:
1.      بالنسبة لأهل القرن الأول الذي شهد عصر النبوة أنه كان عليهم أساسا أن يسلموا للإمام علي بالسبق والولاية الدينية لاستكمال مهام الرسول؛ أي تعليم الأميين آيات الكتاب والحكمة وتزكيتهم، وقد أبى الناس ذلك، وظنوها تسلطا وملكا دنيويا فانحرفوا عن الجادة وباؤوا بإثم ما حدث.
2.      أن يكون الإمام عليّ خليفته من بعده كولي أمر لأمة خيرة حرة وليس كحاكم بالحق الإلهي Divine right لدولة، فالنبي أسس أمة من المؤمنين ولم يؤسس كيانا سياسيا ولا دولة مركزية، وكان يترك حال كل قبيلة على ما كانت عليه، ويرسل إليها قاضيا ومن يعلمها أمور دينها ويحصل الصدقات منهم.
3.      برفضهم العمل بالوصية النبوية انتقل الأمر بذلك من ظاهر إلى باطن، ولم يعد من الممكن أبدا إلا إذا شاء الله أن يتولى أمور الناس من يجمع بين الإمامة الجوهرية وولاية الأمر، وسيرة الإمام عليّ بعد أن تولى الخلافة تثبت ذلك تماما، ولكن سيظل هناك دائما أئمة ومجددون من عترة النبي الحقيقيين على المستوى الجوهري، سواء أعلم الناس ذلك أم جهلوه، وعلامتهم أن يكونوا مفطورين على حب القرءان وملازمته والتمسك به.


*******

هناك 3 تعليقات:

  1. بارك الله فيكم دكتورنا العزيز

    ردحذف
  2. أعتقد صادقا بأن "الامامة" كمفهوم ابستيمولوجي معرفي، ليست مرتبطة بشخص معين (علي او غيره)، لأن الامامة تعني من بين ما تعني، تطور قراءتنا و مقاربتنا المعرفية لوحي الله تماشيا مع تطور المعرفة الانسانية، و هي بذلك ليست مرتبطة بزمن معين، بل هي مستمرة كاستمرار الزمن. فاسلافنا كانوا يعتقدون بان الارض مسطحة و بانها مركز الكون، فجاء غاليليو و اثبت بانها كروية و تدور و بانها ابعد ما تكون عن مركز الكون، و اسلافنا ايضا لم يكونوا يعرفون بان هناك شيء اسمه الجاذبية، فجاء نيوتن و اكتشف قانون الجاذبية او قانون الجذب العام، و لكن في علم الله الازلي، لا بد و ان هذه المفاهيم حاضرة، و حاضرة في وحي القرآن العظيم، و نحن مطالبون بكشفها للناس من خلال قراءتنا المعرفية المتجددة باستمرار لوحي الله. "يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ"، و منه سنطرح السؤال: ما معنى كلمة تنفذوا؟ ربما دلت على القدرة على التخلص من الجاذبية، و بذلك تكون الجاذبية كمفهوم حاضرة في علم الله و مبينة في وحيه الحكيم؟

    ردحذف