السبت، 16 مايو 2015

حقيقة مصطلح السنة ج1

حقيقة مصطلح السنة ج1

إن كلمة "السنَّة" هي على وزن "فُعْلَة"، وهي اسم معنى، وهي تُطلق على ناتج الفعل "سنَّ"، فهي بذلك من حيث المعنى اسم مفعول للمرَّة من الفعل "سَنَّ"، فكلمة "سُنَّة" هي على معنى "مسنون"، ويؤدي معناها أيضا كلمة "سَنَن".
ونتاج إعمال الفعل هو ما يتم الالتزام به وتجري الأمور على نمطه، فكلمة "سنة" تعني الطريق أو المسار المحدد تماماً والمهيأ مسبقاً بواسطة كائن ليسير عليه أو يلتزم به كائنات يمكن أن يكون الكائن الفاعل منها، فهي المجرى والمثل الواضح الدقيق الثابت الذي يحفره مسبقا الكائن الفاعل ليتبع مسراه ومجراه كائنات.
فالسنة بذلك هي الأمر الذي ابتدأه أحد الكائنات وجعله قانونا ساريا أو نمطا للسلوك، فهي بذلك أيضاً تتضمن معاني القانون أو نمط سريان الأمور وتحققها أو الطريق أو الطريقة أو العادة أو السيرة أو النهج، وجمع "سُنَّة" هو "سُنَن"، وقد ورد أيضا في القرءان.
والسين والنون أصلٌ واحد مطرد، وهو جريَان الشيء واطرادُهُ في سهولة ويسر.
و"سُنَّة الله" هي بذلك الطريق والمسار المقدَّر مسبقاُ من الله تعالى لتسير عليه الكائنات وتجري وفقه أمورهم؛ فهي قوانين الله تعالى، ولها أنواعها العديدة وفق مجال تأثيرها.
ومن الناحية الاصطلاحية يجب العلم أولا بأن القرءان هو المرجع الأوحد للمصطلحات القرءانية، فطالما ورد المصطلحُ في القرءان فإن معناه يكون مبيَّنا في الآيات التي ورد فيها وفي فحواها ومقتضاها؛ أي إنه لابد أن في القرءان من الآيات ما يحدد مدلولات المصطلح ومعانيه، ولذلك لا يحقُّ لأحد أن يفرض على المصطلح القرءاني معانيَ من عنده، إن ذلك يكون من باب تحريف الكلم عن مواضعه وتحريف الدين وبث ألغام خطيرة في بنيانه، لذلك فمن كبائر الإثم الخطير والعظيم تحريف معنى مصطلح ورد في القرءان أو تحميله بمعاني لا دليل عليها من القرءان لأغراض مذهبية أو غير حقانية.
والعلم بالشئون الإلهية المذكورة في القرءان وكذلك معرفة معاني السنة بالنظر إلى طائفة من الآيات كل ذلك يساعد على معرفة معاني السنة الأخرى، ومن أبرز معاني السنة في القرءان أنها النمط الذي تجري على منواله الأمور:
1.      إما بطريقة تلقائية آلية بأمر الله تعالى وفعله؛ أي بما اقتضته أسماؤه لها من خصائص، ومن مظاهره القوانين العلمية الحاكمة على الظواهر الطبيعية والكيانات المادية، فهو يحكم حركتها وتغيرها والعلاقات والارتباطات فيما بينها ويرتب أمرا يُسمى نتيجة على أمر يُسمى سببا، وهو أيضا يرتب على أفعال الكيانات ذات الإرادة مثل الإنسان والأمة آثارها اللازمة.
2.      وإما أنها النمط السلوكي الذي يجب أن تلتزم به الكائنات ذات الإرادة الحرة بمحض اختيارها لتتحقق بها ولها المقاصد الدينية، والأنماط السلوكية والقوانين التي ارتضاها الله لعبادة تشكل نسيج الدين وعناصره ومنظوماته.
فالسنة هي مصطلح قرءاني لا يجوز لأحد الاعتداء عليه بتغيير معناه أو إلغاء معانيه القرءانية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ومعاني السنة طبقا للقرءان بطريقة أكثر تفصيلية هي:
1. السنن الإلهية الكونية، وهي ما أعلنه الله تعالى على خلقه من مقتضيات أسمائه وأعلن أنه يعاملهم بها أو أنه كتبه على نفسه، ومن ذلك أنه قال: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}، {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}، وهو لم يوجب إلا ما اقتضته أسماؤه التي هي مقتضيات كينونته وكنهه الذاتي.
فالسنة هاهنا هي قانون إلهي تسير على منواله أمور الكائنات المخيرة مثل الناس، وهي السنن المشار إليها في مثل قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِين} [آل عمران:137]، {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)} فاطر
مثال: يوجد نص على أنه "مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ"، هذا قانون كوني إلهي محله الإنسان المخير، وهو بذلك سنة تجري على منوالها أمور الكائنات المخيرة المكلفة، وهذا النوع من السنن هو مقتضى كل منظومة الأسماء الحسنى، ولابد من سريان حكمها وتحقق متعلقاتها، فهذه هي السنن الإلهية الكونية التي لا تبديل لها ولا تحويل.
مثال آخر: يوجد نص على أنه "لَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ"، هذه سنة إلهية كونية مجالها هو الكائنات المخيرة المكلفة، وهي بذلك قانون تجري على منواله أحوال وأمور الكائنات المخيرة المكلفة، فلابد من ارتداد الشر على فاعله.
ومن هذه السنن أيضا: لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ، لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، مَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا، وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم، مَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُون، ............
ومن هذه السنن القوانين التي ترتب آثارا على كل فعل إنساني اختياري صدر عنه كاستجابة لأمر أو نهي ديني سواء أكانت الاستجابة بالقبول أو بالرفض ... الخ، ومن ذلك: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُون} [البقرة:152]، {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين} [غافر:60]، {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد} [إبراهيم:7]
ومن هذا النوع من السنن القوانين الحاكمة على الكيانات الإنسانية التي هي أكبر من الإنسان الفرد مثل القرى والقرون، ومنها ما هو وارد في الآيات؛ بالنص أو بالمفهوم أو بالإشارة أو بالفحوى: {ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُون}[الأنعام:31]، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُون}[الأعراف:96]، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُون}[هود:117]، {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا}[الكهف:59]، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُون}[القصص:59]، {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِين}[يونس:13].
وما يترتب على سريان السنن من الشدائد يعرف بالسنين، ومن ذلك: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُون} [الأعراف:130].
2. وقد تكون السنة قانونا طبيعيا تجري على منواله أحوال وأمور الكيانات المادية الطبيعية، وهذه هي السنة الكونية:
مثال: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ، وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً، الله بدأ خلق الإنسان من طين، الله خلق الجن من مارج من نار ...... الخ.
3. وقد تكون السنة سنة شرعية أو دينية، فهي بذلك عمل بمقتضى أمر إلهي موجه إلى الكائنات المكلفة المخيرة:
وهذه السنن متضمنة في الأوامر القرءانية، فهي السبيل إلى تحقيق المقاصد الدينية، وهي لذلك تتنوع تنوعا كبيرا، فهناك تنوع من حيث مدى قوة الإلزام والتأكيد والشمول، وعلى رأسها من هذه الحيثية الأركان الدينية، وهناك تنوع من حيث نوع أو وظيفة الكيان الإنساني المخاطب، فهناك ما هو ملزم للفرد، وما هو ملزم للأمة، وهناك ما هو ملزم لولي الأمر، وهناك ما يبين عبادة، وهناك ما يقدم تشريعا يجل الالتزام به.... الخ
مثال: قال تعالى بعد أن بيَّن بعض أحكام النكاح: {يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيم} [النساء:26]، وهنا ينسب السنن التي كتبها وفرضها على الأمم السالفة إليهم من حيث أنها ظهرت بهم.
مثال: قال تعالى: {مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا} [الأحزاب:38]، فهو هنا يبين سنة شرعية خاصة بالأنبياء.
مثال: يوجد أمر إلهي شرعي بإقامة القسط، العمل بمقتضى هذا الأمر يصبح سنة يعمل الإنسان وفقا لها، أي تصبح قانونا يلتزم به في حياته ويجد نفسه مبرمجا على العمل به، وكل عمل بمقتضى هذا القانون هو سنة تُنسب إلى من سنها أو من ظهر بها.
4. وقد تكون السنة قاعدة تشريعية أو آلية تشريعية منصوصا عليها في آيات القرءان، أو هي من فحواها ومقتضاها، أو هي مستنبطة منها:
والسنن التشريعية هي تفصيل وتجسيد للميزان القرءاني، وهي تشمل الأسس والمبادئ التي يجب اعتبارها ومراعاتها والنظر فيها عندما تدعو الحاجة إلى أن يسن أولو الأمر تشريعاً لأمتهم أو جماعتهم، وهي من نصوص أو مقتضيات أو فحوى آيات القرءان الكريم، فمن ذلك: لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا، لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا، لا تكليف إلا بنص، لا تكليف إلا بما في الوسع، حقوق الإنسان وكرامته أمور مقدسة، لا تحريـم إلا بنص أو بدليل قطعي ثابت بثبوت نصوص، المحرم قد يباح عند الضرورة، لا تزر وازرة وزر أخرى، الأمانات تُؤدى إلى أهلها، يجب تحري العدل في الحكم ............ الخ.
ومن حيث الشئون الإلهية فالسنة في القرءان قد تكون:
1.      من مقتضى الإرادة الإلهية الكونية التي هي جماع مقتضيات المنظومة الكلية للأسماء الحسنى، وبالتالي فهي سارية وحاكمة على كل ما هو في نطاقها ومجال عملها من الكائنات والظواهر، لا تبديل لها ولا تحويل.
2.      من مقتضى الإرادة الإلهية الهادية التي هي جماع مقتضيات منظومة سمات الرحمة والهدى والمغفرة والإرشاد، والتي مجالها هو الكائنات المخيرة ذات الإرادة الحرة، وبالتالي فهي يجب أن تتمثل في أنماط سلوكية يلتزمون بها لكي تتحقق لهم المقاصد الدينية المذكورة في القرءان.
والسنن هي كيانات من عالم الأمر، لابد لها من كيانات خلقية لتظهر بها أما السنة المنسوبة إلى الله بالنسبة إلى الكائنات الأخرى فهي قانون لا تبديل له ولا تحويل ولابد من سريانه في مجاله وحكمه على ما يتضمنه هذا المجال أو ما دخل فيه.
فالسنن المنسوبة إلى الله تعالى هي من كلماته، لذلك فهي تتسم بأنها لا تبديل لها ولا تحويل، فلاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ولاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم، فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا، فالسنة هي بالأصالة القانون الذي تقتضيه الأسماء الإلهية؛ فهذا القانون سنة لأنه يسرى علي الكائنات بسهولة ويسر إذ ليس ثمة ما يعوق سريانه، كما أنه لا تبديل له ولا تحويل، ذلك لأن من اقتضاه هو من له العلو المطلق فوق مخلوقاته ومن هو القاهر فوق عباده، ومن يرتاب في شيء من ذلك فليحاول أن يغير سنة كونية أي قانونا طبيعيا.
ولكل اسم من الأسماء الإلهية ولكل منظومة من الأسماء الإلهية نسق من السنن (القوانين)، وثمة أنساق من الملائكة والجنود الموكلين بكل نسق من هذه القوانين، فثمة نسق مثلا من القوانين اقتضاه الاسم العليم الحكيم وله جنوده في السماوات والأرض، وثمة نسق وجنود للاسم العزيز الحكيم وله أيضاً جنوده في السماوات والأرض...إلخ، والسنن الكونية هي من لوازم ومقتضيات تلك القوانين.
وأنساق السنن التي اقتضتها منظومة أسماء الرحمة والهدى لها أهميتها الخاصة، ذلك لأن مجالها هو الإنسان المخير، وهذه السنن تقتضي أنماطا سلوكية من الإنسان ومناهج عمل هي السنن الدينية أو الشرعية، كما تتمثل في قوانين تربط بين أفعال الإنسان الاختيارية وبين النتائج والآثار المترتبة عليها، وتلك السنن يتضمنها كتاب الله العزيز، ولقد جسدها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ بسلوكه وأقواله وأفعاله، أما تحقق النتائج والآثار فيتم بفعل المنظومة الكلية للأسماء الحسنى والتي تشكل منظومة سمات الرحمة والهدى مجموعة فرعية منها.
والسنن الإلهية الكونية تتضمن القوانين القدرية ومنها الأنماط التي تحكم سير الأمور وتطورها وتغيرها أو التي يأتي سير الأحداث مصدقا لوجودها، فالسنن الكونية تربط بذلك الأمور بما يترتب عليها من نتائج ارتباطاً سببيا؛ أي ارتباط لاحق بسابق أو نتيجة بمقدمة أو آثار بأفعال، ومن تلك السنن ما يربط بين أفعال أمةٍ ما وبين مصيرها، فهي بذلك تعبر عن أنماط الارتباطات بين الأمور ودرجات هذه الارتباطات ونوعيتها.
ولا يتحقق الحدث في العالم الخارجي إلا إذا تقاطعت كل الحلقات الكونية الخاصة التي يكون هو من نتائجها المحتملة في العالم السماوي الألطف أولا ليحدث ذلك أيضاً في العالم الدنيوي الأكثف ثانيا، لذلك فكل ما يحدث هنا لابد أن يكون قد تعيَّن من قبل وكُتِب هناك، ولا جبر في ذلك ولا إكراه، وإنما هو نمط سريان الأمور وتحققها مثلما يكون الفعل الخارجي للإنسان مسبوقا بشيء طرأ من قبل في ذهنه.
والسنَّة بلغة الحروف هي إشارة إلى الشيء الذي يتم به التوصل بسهولة ويسر إلى غيره، والتضعيف إشارة إلى عملية الإتمام وإلى أنها تتم بالتكرار والملازمة، وهكذا فبالتكرار بالنسبة إلى الكائن المخير يتحول السلوك إلى عادة أو دأب أو سيرة، هذا بالإضافة إلى أنها السبيل إلى المزيد من العلم.
*******
إن السنة الإلهية الكونية التي مجالها الكيانات الإنسانية هي جماع القوانين التي ترتب على أفعالهم الاختيارية آثارها اللازمة، وهى من مقتضيات الأسماء الحسنى، لذلك فلا تبديل لها ولا تحويل، وهى بذلك أيضا النهج الذي يعامل به الله سبحانه الكيانات الإنسانية ويجعل بعض أفعاله مترتبة على أفعالهم، فسنة الله تعالى هي النظام أو الناموس الإلهي، وهو سبحانه يعامل الناس وفق ما نبَّأهم به في كتابه من السنن، ولقد اعتبر –تفضلاً منه- أي خروج عن هذه القوانين ظلماً نفاه عن نفسه بكل الصيغ اللغوية الممكنة.
إن السنن في القرءان تتضمن أيضا القوانين بمعناها الاصطلاحي الشائع الآن، فالقانون اصطلاح مُحدث لم يكن مستعملا في العربية من قبل، ولذلك لم ترد كلمة قانون في القرءان، فالقانون متضمن في تعريف السنة، ولذلك تتنوع السنن، فمنها السنن الإلهية، ومنها السنن الكونية الحاكمة على الكيانات الطبيعية (وهي القوانين الطبيعية) ومنها السنن الكونية الحاكمة على الكائنات المخيرة، ومنها السنن الدينية الخاصة بالمكلفين.
والسنة تتضمن المنطق (The logic) الساري في الوقائع والحاكم عليها؛ فمن معانيها أنها جماع منطق التاريخ وقوانينه؛ وهي سنن لا تبديل لها ولا تحويل ويمكن بإدراك هذا المنطق فقه حركة التاريخ وسير الوقائع والأحداث، ولقد ذكر القرءان كثيرا منها، والسنن تتنوع بتنوع مجلاتها، فثمة سنن مجالها الإنسان من حيث هو مريد مخير، وهي تتضمن منطق الأوامر والتعليمات الخاصة بالإنسان المكلف بالإضافة إلى الأنماط السلوكية المطلوبة منه والمترتبة على هذا المنطق.
والسنة هي أيضاً جماع السبل المؤدية إلى تحقيق غايات ومقاصد، ولذلك فالسنن الدينية هي كل ما يؤدى إلى تحقيق المقاصد الدينية العظمى والفرعية.
فمن معاني السنة أنها هي القانون أو النهج أو النمط السلوكي الذي يقتضيه الكائن ليلزم به نفسه أو يقتضيه كيان أعلي ليلزم به كيانات أدنى لتحقيق مقاصد أو غايات معلومة، والكيانات الأدنى تكون ملزمة بالأخذ بتلك السنة والتوافق معها والعمل بمقتضاها، والكيان الأعلى قد يكون نفس الإنسان مقارنة بجسده، أو قلبه مقارنة بما هو دونه، والسنن هي تفاصيل ما يسميه الناس بالقدر، فالسنن هي القدر الملزم الذي لا يتبدل ولا يتغير.

*******

هناك تعليقان (2):

  1. بارك الله فيك ذكتورنا الغالي الرائع العبقري علامة القرن الواحد والعشرون بدون منازع،زادك الله مددا من العلم المتواصل وبارك في ذللك

    ردحذف