الأحد، 8 مارس 2015

الفتح 10 و18 و26 و29

الفتح 10 و18 و26 و29


{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً }الفتح10

لقد أنزل الله سبحانه رسوله منزلة نفسه تشريفا له وجعل مبايعته مبايعة لله تعالى وجعل نفسه رقيبا على كل من تابع فوعد من أوفي بالحسنى وتوعد الناكث، وهذا أعظم تكريم وتشريف ناله مخلوق، والآية لا تعنى أنه هو كما ظن دعاة وحدة الوجود، فذلك زعم يتنافى تماما مع ما جاء في الكتاب العزيز ومع حقائق الأمور، وكفي بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ شرفا أنه هو العبد الحقيقي لله تعالى وأن كل عابد آخر إنما هو عابد بالتبعية له، فهو عبد لله من حيث حضرته الإلهية وعبد له من حيث الهوية وعبد له من حيث منظومة أسمائه الحسنى، فهو عبد الله من حيث كل اسم من أسمائه وهو عبده من حيث ذاته ومن حيث اسمه الأعظم، فهو عبد الله من حيث كل مرتبة من مراتب تجلياته.
وقد قدر الله تعالى ماهية رسوله لتكون جامعة لكل الكمال الممكن، وبذلك كان لديه الاستعداد لأداء حقوقه في كل حضراته وتجلياته ما مضى منها وما سيأتي، فكل صفة كمال تنجذب إلى الصفة الإلهية التي اقتضتها وهي تنجذب إليها لأنها الأكبر والأعظم ولأنها أصلها وما صفة الكمال الممكن إلا تفصيل لها ومظهر من مظاهرها، فهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ المنجذب إلى ربه بكل ما له من صفات كمال لا تتناهى، وهذا الانجذاب هو عين عبوديته لربه وهو الذي اقتضى المظاهر التفصيلية لتلك العبودية، فكانت خالصة له لم تشبها شائبة فما زاغ البصر وما طغى وهو أعظم من عرف ربه وأدرك تجلياته وقام بحقها، فمن أراد الاقتراب من ربه فليتبع خاتم أنبيائه وسيد رسله، فاتِّباعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ هو الطريق الآمن للفوز بالسعادتين، واتباعه يعنى اتباع ما أنزل إليه من ربه وهو الكتاب العزيز وليس اتباع المرويات الظنية التي يسيء الكثير منها إلى ربه وإليه وإلى الكتاب الذي أنزل عليه، فالإنسان باتباعه يستمد من صفات كماله وتزداد قوة كل صفة عنده فيزداد انجذابه وقربه من ربه.
والآية ليست نصاً في أن له سبحانه يداً بالمعني الحرفي الدارج كما يظن الحشوية والمشبهة وعباد الآثار، ذلك لأنه سبحانه ليس كمثله شيء، وإنما تضاف إليه الأشياء من حيثيات عديدة ومنها:
1-    طبيعة اللغة ومنطقها وأساليبها الفنية والبلاغية.
2-    أنه هو المالك الحقيقي للعباد وأجسامهم وجوارحهم وكل ما هو لهم.
3-    التشريف والتكريم.
أما من ظنوا أن الآية تنص على أن لله يداً بالمعني المألوف الدارج فقد زعموا بذلك أيضاً أن الآية تنص على أن النبي محمداً هو الله !!!!!!!! سبحان الله وتعالى عما يقولون علوا كبيرا، فالمقصد من هذا التعبير التشديد والتأكيد على أهمية المبايعة حتى لا ينكث أحد في هذا الظرف العصيب، ومن المعلوم أن واحداً ممن حضروا هذه البيعة تورط من بعد في قتل عمار بن ياسر!! وأنه حضرها من كان منافقا.
-------
 عندما يقول الله إنه قد خلق آدم بيديه أو أن يده فوق أيديهم عندما بايعوا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ فهو يتحدث عن أمر حقيقي وهو الأصدق حديثاً، ولكن العبارات تستعمل المجاز المشهور بالنسبة إلى ما لديهم من تصورات ومفاهيم ومعاني معلومة، ذلك لأن سماته الحقيقية هي سمات ثابتة له من قبل ومن بعد خلق الأشياء، فهو لا يتغير عما هو عليه وليس كمثله شيء، أما بالنسبة للمعاني الحقيقية للمفردة (يد) باللغة العلوية المحكمة فليس ثمة مجاز هاهنا، ولكن هذه المعاني ليست في متناول الناس كافة، فهي أمر غيبي، ولذلك آمن الراسخون في العلم، ولما كان الكيان الإلهي فوق كل إدراك وتصور كانت الآية متشابهة، فلا يجوز لبعضهم أن يحاول تقييدها بما لديه من مفاهيم وتصورات، ولا يجوز أن يدعي أنه ينبعث من الكيان الإلهي ما يمكن أن يطلق عليه يدان بالمعنى الدارج، ولا ينجِّيه أن يذكر أنهما ليسا كأيدي المخلوقات، ولا يجوز له أن يقول إن المعنى الظاهر ثابت وأن الكيفية هي المجهولة، كما لا يجوز لأحد أن يدعي أن اليدين صفتان ذاتيتان، ولا يجوز القول بأن كل يد هي إشارة إلى مجموعة من الصفات، وما يلزم المسلم هاهنا هو العلم بشدة اعتناء الله بأمر آدم وعظم المهام المنوطة به وبأن هذا الخلق من أعظم الآيات الإلهية التي كان على الملائكة أن يقدروا لها قدرها، ولذلك أمرهم بالسجود لآدم وعاقب من أبى، وكذلك عليه أن يعلم شدة اعتناء الله بأمر بيعة الرضوان، ولقد علم كل الناس من بعد مدى أهميتها، ويجب العلم بأن ملائكته وجنوده وخواص عباده هم أيادي محض بالنسبة إليه سبحانه عن وعي وإدراك منهم، ولقد أقام الجدار لليتيمين بأمره وبيد العبد الصالح، وهو إذا شاء يستعمل بعض خلقه كأيادي له فيأخذ لهذا حقه بيد ذاك أو يضرب هذا بذاك أو يقتص لمظلوم من ظالم بيد ظالم آخر.
*******
{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}[الفتح:18]
يعلن الله تعالى في هذه الآية رضاه عن الْمُؤْمِنِينَ حال قيامهم بمبايعة الرسول تحت الشجرة والتي سبقت فتح الحديبية، ولقدكافأهم في هذه الحياة الدنيا بإنزال السكينة عليهم وبالفتح القريب، وهو فتح الحديبية، فهذا الرضا ليس رضا مطلقا، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}[الفتح:10]
ففي هذه الآية يتوعد من سينكث، فالرضا عنهم كان بمثابة الجزاء الحسن على فعلهم الطيب، ولكن من البديهي أن من ستصدر عنه سيئة سيحاسب عليها، وقد يستوجب الغضب بدلا من الرضا، فالتبشير بالرضا إنما يكون جزاء الإيمان والعمل الصالح، قال تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ{7} جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ{8} البينة
ويلاحظ أن الآية تقول إن الله رضي عن المؤمنين، وهذا القول يستبعد بالضرورة غيرهم من المنافقين، هذا هو الشرط الضروري، ولذلك لم يقل إنه رضي عمَّن بايعوا أو عن الذين بايعوا، بل قال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ}.
*******
{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الفتح:26]

إن الإسلام جاء حربا على منظومة القيم الجاهلية والتي تحدث في النفوس ما يمكن التعبير عنه بذلك المصطلح المحكم (حمية الجاهلية) واستبدل بها منظومة القيم الإسلامية الرحمانية، وأبرز ملامح حمية الجاهلية هو الكبر البغيض والغطرسة والغرور والتعالي بغير حق والعصبية القبلية أما ما يقابلها من حيث منظومة القيم الإسلامية، وكل عناصرها تبث الثقة والسلام والسكينة والطمأنينة في النفس فضلا عن الشعور بالانتماء إلي الأمة الإسلامية، لقد جاء الإسلام حربا على العصبية الجاهلية واستبدل بها هذا الإحساس بالانتماء إلي الأمة الواحدة الإسلامية، ولقد كمنت العصبية تحت تأثير نور النبوة الساطع ولكنها ظلت تتربص بالأمة وتتحين الفرصة لتمزيق الأمة، إلى أن أحياها بنو أمية واستخدموها للقضاء على مفهوم الأمة الإسلامية، فلم تكن الدولة الأموية دولة إسلامية ولكنها كانت دولة الحمية الجاهلية، فالانحياز للعصبية لم يكن حبا في العروبة ولكنه كان انطلاقا من العصبية القبلية، لذلك سرعان ما انشغل الأعراب وشغلهم الأمويون بصراعات الجاهلية، ولما هزمت العصبية العربية في النهاية وكاد الأعراب يبيدون أنفسهم بأنفسهم أو ذابوا في الشعوب الأخري أو عادوا إلى باديتهم وتلاشى تأثير تلك العصبية نفخ الشيطان في الخلافات المذهبية في الأمور الفرعية والكلامية فظهرت العصبية الجاهلية في ثوب جديد؛ فأصبح المسلم حريصا على أن يعلن للناس عصبيته (الفقهية) وعصبيته الكلامية، وهكذا تفرق الدين وتمزق المسلمون.
*******
الفتــــح : 29
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا(29)
إن القرن الإسلامي الأول كان خير أمة أخرجت للناس إذ نجح في أداء كل ما أنيط به من مهام على خير وجه ممكن وحفظ الله به الكتاب وأسس به للإسلام دولة ونشر به الإسلام في قلب العالم المعمور، لذلك ينبغي النظر بإجلال وإكبار إلى أفراد هذا الجيل المفعم بالقوة والحيوية والإيجابية، هذا مع العلم بأنه كان لابد من أن يشوب ذلك بعض الآثار الجانبية من احتدام التنافس وبقاء بعض آثار الجاهلية، ولكن هذا الجيل كان صادقا مع نفسه ينهض للدفاع عما اقتنع به، ولم يكن للمخالفات التي صدرت عنهم ولا للنزاعات التي نشبت فيما بينهم من أثر حاد على انتشار المد الإسلامي، إذ سرعان ما كانت الأمة تنهض من كبوتها وتستأنف مسيرتها، لذلك ينبغي الاستغفار لمن أخطأ أو تنكب الطريق أو فتنته الدنيا.
أما تحول الخلافة إلى ملك عضوض فلم يكن منه بد نظرا لطبيعة النفس البشرية وطبيعة العصر الذي عاشوا فيه، كان أكثر الناس لما يؤمنوا، وبالتالي لم يستطيعوا تقديم صورة مقبولة عن الإسلام للناس، ولقد كان معاوية زعيم الفئة الباغية والداعين إلى النار هو –رغم كل شيء- أصلح الأدوات لإنجاز ذلك التحول بأقل قدر ممكن من الخسائر على الإسلام والمسلمين، ولو تم ذلك على يد آخرين مثل ابنه يزيد اللعين أو مروان بن الحكم (مضروب القفا بن الوزغة طريد الرسول) لذهبت ريح المسلمين، ويجب القول مع ذلك بأن معاوية يتحمل وزر ابنه هذا فهو الذي حمل الناس على توليته بالقهر والإرهاب والرشوة، كما أنه يتحمل أوزار تمزيق الأمة وتفريق الدين إلى يوم الدين، وكذلك يتحمل أوزار من يعبدون نعله.
أما مزاعم الشيعة بخصوص أهل القرن الأول فينبغي عدم الالتفات إليها وعليهم الإقلاع عنها والتوبة منها، وعليهم ألا يتسببوا في استمرار تمزيق الأمة وتفريق الدين انشغالا بأمر أمة هم مأمورون في الكتاب بأن يستغفروا لمن سبق بالإيمان منهم وبألا يحملوا لهم غلا في قلوبهم.
=======
إنه من الخطأ أن يطالب المرء أفراد الجيل الإسلامي الأول بأن يفكروا بنفس الطريقة التي يفكر بها الآن خاصة بعد أن اكتسب هذا القدر من المعارف والخبرات التي تراكمت علي مدي القرون، وكذلك المعرفة بعواقب ما صدر عنهم من أفعال، ولكن ليس عليه من حرج في أن ينظر إلي ما صدر عنهم علي ضوء المعارف القرءانية الثابتة والراسخة التي يطالب بها كل من آمن بالله وكتابه المنزل وكذلك علي ضوء حقائق التاريخ الدامغة، ولكن الحرج هو في تقديسهم واتخاذهم أرباباً من دون الله ولو بلسان الحال، وإن الغلو في أمرهم لمن دواعي الخطأ في حقهم، لقد كانوا جيلا عاش في ظروف شديدة عصيبة، وشهدوا أحداثا متلاحقة وتقلبات رهيبة، وكان عليهم أن يواجهوا كل ذلك وأن يتكيفوا معه وأن يتصرفوا في كل المواقف بما يتفق مع ما تعلموه وآمنوا به متأثرين بلا ريب بآثار العوامل الذاتية والقبلية والتراثية ومقتضيات العصر وسقفه الحضاري والثقافي، والرأي الأمثل أن يتأدب الإنسان معهم إجمالا وخاصة السابقين الأولين منهم وألا ينتقد إلا أفعالهم إذا كان ثمة غرض شرعي يوجب ذلك، ذلك لأن حق الله تعالى أولى بالاحترام والإجلال، ولكن هذا لا يوجب الالتزام بالحياد فيما نشأ من صراعات بين من صدق ما عاهد الله عليه ولم يبدل تبديلا وبين أهل البغي المرتدين على أعقابهم ومن فتنوا بالدنيا، هذا بالإضافة إلى أن الدفاع عن معاوية وأمثاله ينطوي على المساس بمن هم أفضل منه بما لا يقاس مثل الإمام على وأبى ذر وعمار بن ياسر وقيس بن سعد …..الخ، وكل هؤلاء أفضل وأكرم من معاوية بنص القرءان، كما أن قبول كلام أبى هريرة لما سأله الناس عن سبب إكثاره من رواية أحاديث عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فى حين لم يفعل ذلك من هو خير منه ينطوي على إساءة بالغة للسابقين الأولين إذ يتضمن اتهامهم بعدم معرفة قدر نبيهم وبالزهد في لقائه والتلقي منه والتحديث عنه، ومما لا شك فيه أن معظم الخطب الجامعة النبوية وكثيرا مما رواه الخلفاء الراشدون وغيرهم من السابقين الأولين قد اندثر ولم يخلف أدنى أثر، لذلك فإن الموازين والمناهج المنصوص عليها أو المستنبطة من القرءان وحده تختلف عما يمكن استخلاصه من المرويات الظنية والتي لم تدون في وقت وقوعهـا ولم يرد أبدا نص صريح قاطع يأمر بتدوينها.
=======
لا تزال البشرية إلي الآن تتعجب من الكيفية التي استطاعت بها أمة قليلة العدد والعدة وبمعزل عن مجري الحضارة العالمية وهي القرن الإسلامي الأول أن تهزم إمبراطوريتين أعرق حضارة وأكثر عددا وأقوى عدة هزائم مدوية ترتب عليها نتائج حاسمة ودائمة، لذلك يجب العلم بأن تلك الأمة كان تتميز بما يلي :
      1-              كانت تحمل رسالة أكثر تقدما وعقلانية هي الدين الخاتم الذي تعهد الله تعالى أن يظهره علي الدين كله, وهذا الدين يكفل لمن يعتنقه أن يكون أرقى مرتبة من غيره لإلمامه الأعظم بقوانين الوجود وسننه ولملاءمته الأفضل للفطرة البشرية .
      2-              لأن تلك الرسالة كانت تتضمن الحقائق العظمي الصافية بينما لم يكن لدى الآخرين إلا قليلا من الحقائق مختلطة بكثير من الأوهام والأباطيل.
      3-              لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بنفسه هو الذي تولى تربية تلك الأمة وتزكيتها, ولقد أعدها خير إعداد للقيام بالرسالة المنوطة بها و درب أفرادها ليكونوا قادة علي المستويين التكتيكي والاستراتيجي علي مدي فترة البعثة كما أعدهم من قبل وزكاهم ليكونوا راسخي العقيدة وعلي ثقة من وعود ربهم, ويجب القول بأن الأميين كانوا من قبل في ضلال مبين كما وصفهم الكتاب العزيز علي كافة المستويات, فالنجاح في تحويلهم إلي تلك الصورة هو من دلائل عظمة النبي الأمي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ.
      4-              لقد كان الفرد العربي حيا إيجابيا فعالا ذا ملكات فردية واضحة ومتميزة عاشقا للحرية فكانوا بذلك أفضل بكثير من تلك  الأمم الأعرق حضارة التي اختفت الفردية فيها و لم تعد قادرة علي إنتاج أفراد أفذاذ وإلا فليذكر المتعنت اسم أي فرد حقيقي يمكن أن يعتد به في ذلك الوقت الذي افتتح فيه العرب تلك الممالك في حين يكاد التاريخ يسجل أسماء كل من شارك في الفتوحات الإسلامية.
      5-              الحالة السيئة والبائسة التي كانت عليها شعوب منطقة الشرق الأدنى وكذلك حالة المتسلطين عليهم؛ فالظلم والبغي والطغيان هي أعباء ينوء بها كاهل الظالم قبل المظلوم.
إن الشعوب العريقة في تلك المنطقة كانت قد استنامت للاستعباد الفارس أو الروماني وفقدوا حريتهم من قديم كما فقدوا مجرد الرغبة في استعادتها وكان لابد من العاصفة العربية لتستيقظ تلك الشعوب وتعود لها قدرتها علي الإبداع وإنتاج الحضارة وهو ما حدث بالفعل, ويجب العلم بأنه في هذا العصر لم يعد لدي الشعوب القديمة من مجال لتستثمر فيه طاقاتها الخلاقة إلا في الصراعات العقائدية العقيمة والتي هي قضايا جوفاء ومفتعلة وبلا أدنى مدلول والتي لا يمكن لأي إنسان أن يحسمها أو أن يجني من ورائها شيئا, ولقد سفكت دماء أعداد هائلة من المصريين علي أيدي البيزنطيين بسبب محاولة هؤلاء فرض نظريتهم في طبيعة السيد المسيح علي المصريين رغم أن الإنجيل  لم يتعرض لهذا الموضوع أصلا ولم يطالب الناس بشيءٍ ما بخصوصه, ويلاحظ أن أوروبا لم تتقدم إلا بعد أن ألقت بأعباء تلك المقولات والمعتقدات والدوافع إليها عن كاهلها.
ويمكن القول بأن الذي استفاد أساسا من العاصفة العربية هم الشعوب العريقة إذ تم تجديد دمائهم وعادت إليها الرغبة في الحياة والإنتاج والإبداع وسرعان ما استقلت تلك الشعوب, أما عرب الجزيرة فلقد عادوا إلي ما كانوا عليه أي أصبحوا مهمشين حضاريا كما كانوا بل وتدهورت اللغة التي يتخاطبون بها ولولا كتاب الله لاندثرت، وهكذا ثبت أن الله سبحانه هو الذي صان تلك اللغة من قبل حتى ينزل بها كتابه، أما عرب الجزيرة فلم يظهر فيهم من بعد شعراء كشعراء الجاهلية بل وأصبحوا يتكسبون بالسطو علي قوافل الحجيج, هذا في حين عاد الازدهار إلي مواطن الحضارات القديمة في مصر والعراق والشام وفارس والهند بل وتأسست وازدهرت مراكز حضارية جديدة في الأندلس ووسط آسيا, ولقد استنبطت وكتبت كل العلوم والمعارف الدينية واللغوية في تلك المراكز، ويلاحظ أنه من قبل الطفرة البترولية لم تتأسس مساجد في جزيرة العرب تضارع ما كان في الأقاليم الإسلامية الأخرى باستثناء الحرمين الشريفين والذين تكفل بعمارتهما  الأسر المالكة في مصر ثم العثمانيون من بعد بحكم توليهم مسؤولية العالم الإسلامي.
=======
إن تلك الآية ليست للإشادة فقط بتلك الفئة القليلة من السابقين الأولين ولكنها توضح المواصفات اللازمة لمن أراد أن يدخل في المعية المحمدية إلى يوم الدين، فالقرءان إنما أنزل لينتفع به الناس أجمعون.
والآية توضح صفات من يستحقون شرف المعية المحمدية وهى مرتبة متاحة لكل مؤمن إلى يوم القيامة، فمن أراد تلك المرتبة فيجب أن تكون فيه الصفات التالية :
1-  أن يكون شديدا على الكفار فلا يواليهم ولا يميل إليهم وأن يقدم حق الله تعالى على كل أمر آخر.
2-  أن يكون رحيما بالمؤمنين وهذا يستبعد من شرف تلك المعية أهل الجور والبغي والظلم وسفاكي دماء المؤمنين وناهبي أموالهم والواقعين في أعراضهم والآمرين بسبهم.
3-  المحافظة على الصلوات فيُرَوا ركعا سجدا فهم يظهرون خضوعهم لله تعالى وإخباتهم التام له ويفخرون بذلك.
4-  يبتغون فضل الله تعالى ويحرصون على رضوانه.
5-  يشيعون جوا من التقوى والطهارة والإيمان حولهم بما يبدو عليهم من أمارات الصلاح، وهذا يستبعد المجاهرين بالمعاصي ويستبعد أيضا السلبيين الذين لا ينتفع بثمار أعمالهم إلا هم وكذلك من يتعمدون إظهار المعاصي سترا لصلاحهم.
6-  أن يكونوا غيظا للكفار بصلاحهم وتقواهم وقوتهم وتفوقهم.
7-  وبعد كل هذا فلا بد من الحفاظ والتمسك بالإيمان والعمل الصالح.
ويجب القول بأنه ليس من حق أي إنسان أن يحدد لآخر من هم أصدقاؤه ومن هم أصحابه ومن هم إخوانه، إن ذلك حق لا يملكه الإنسان إلا لنفسه، وهكذا فليس من حق إنسان ولد بعد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بمائتي عام أن يحدد له وللمسلمين من كانوا أصحابه ويضع لذلك من القواعد والأسس ما يحلو له حتى يدخل في هؤلاء الصحابة الأعراب والمنافقين والفاسقين ….. الخ، فليس من حق أحد أن يحدد للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ صحابته خاصة إذا ما رتب على ذلك شرائع وأحكاما دينية يلزم بها الناس إلي يوم الدين، إن مسلكهم هذا يتضمن ضربا من التطاول على الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ والتقدم بين يديه والتزكية على ربه وعليه، وإذا كان الرسول قد استخدم هذا الوصف للإشارة إلى بعض السابقين الأولين من المهاجرين فإنه فإنه وصف به أيضاً رأس المنافقين، فهو لم يخرجه أبدا عن معناه اللغوي، بل إنه عندما أشار عليه الفاروق عمر بقتل رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول قال: (فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه)، هذا بالإضافة إلى أن كل مصطلح شرعي أو ديني يجب أن يستخلص من القرءان وحده، وهذا حكم قاطع وأمر لازم وهو الذي تحتمه طبائع الأمور ولا علاقة له بما شاب أمر تدوين المرويات من أمور معلومة، ومن المعلوم أن الكتاب العزيز لم يستعمل هذا اللفظ خارج معناه اللغوي أبدا.
ويجب القول بأن الإنسان قد يكون مهتديا وقد يؤتيه الله تعالى آياته ثم ينسلخ منها أو قد ينقلب على عقبيه ولقد صح عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أن بعض أهل القرن الأول سيحدثون بعده ما يستحقون به النار، ولقد حذرهم من أن يرجعوا بعده كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض، ولم تمض إلا سنوات قليلة إلا وقد ضرب بعضهم فعلا رقاب البعض، ولقد كان بعض أهل القرن الأول في جيش زعيم الفئة الباغية، ولقد فتن بعضهم بالدنيا وتنافسوا فيها، ولقد تخلى معظمهم عن الإمام عليّ (عليه السلام) وخذلوه ومكنوا بذلك لمعاوية من إحداث انقلابه الذي كاد يقضى به على الإسلام والذي تسبب من بعد في القضاء علي بقايا خير أمة أخرجت للناس، ولقد ثبت أن كثيرا من مسلمي القرن الأول كانوا في ضلال مبين ثم اهتدوا ثم فتنوا بالدنيا فضلوا ومنهم من بغى من بعد ومنهم من أقر بذنوبه مثل عمرو بن العاص وتخلى عن كل ما له وطلب من ربه الصفح والمغفرة، ومنهم من مات مصرا على بغيه وظلمــه بل ودبر الأمر بحيث يستمر ظلمه من بعده.
فاختلاق مصطلح الصحابة والزعم بأن بأن الجيل الإسلامي الأول كان كله من الصحابة هو بدعة كبرى وجناية على الإسلام تتضاءل بجانبها اللمم والبدع الصغرى التي لا يكف رجال الكهنوت عن تقريع المسلمين بسببها.
إنه من  الضروري تصحيح هذا الأمر للأسباب الآتية :
1-         احتراما لكتاب الله تعالى والعمل وفق مقتضيات الإيمان به، ذلك لأن هذا الكتاب قد وصف كثيرا من هؤلاء بصفات معلومة لا داعي لتكرارها وندد بمسلكهم في أحوال كثيرة فضلا عن تصريحه بأن كثيرا من أهل الجيل الأول هم من المنافقين ومن الأعراب ومن أهل المدينة الذين مردوا  على النفاق ومن المؤلفة قلوبهم، فاستحداث هذا المصطلح وكل ما يترتب عليه يتضمن كفرا ببعض الكتاب.
2-         احتراما لقدر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ والتزاما بتعاليمه فهو لم يقل أبدا إن كل من رآه هو من أصحابه ولم يقل بذلك الكتاب الذي أرسل به ولم يخرج هذا اللفظ عن معناه اللغوي وحتى عندما استخدمه في بعض ما نُسِب إليه فلقد تنبأ بأن منهم من سيذاد عن حوضه لأنه غيَّـر وبدل، ولقد تنبأ بأنه سيكون منهم فئة باغية.
3-         إعلاء كلمات الله تعالى وأحكامه فوق الأشخاص، فلا يكون لأي فرد علو على أمر الله أو تقدماً بين يديه.
4-         أن يكون للحق الحكم على الناس والحجة عليهم وتغليب الحقانية على الاتجاهات الذاتية.
5-         الاتساق مع روح الكتاب وطبيعة دين الحق الذي يجعل الأفضلية للتقوى والعمل الصالح ويذكر الناس بأعمالهم وصفاتهم الذاتية لا بتعلقهم بالأشخاص.
6-         عدم تحميل الإسلام وزر ما اقترفه بعض هؤلاء من مخالفات ومعاصي بل وجرائم وبذلك يتم قطع الطريق على أعداء الإسلام الذين  يتخذون من وقائع التاريخ الثابتة والمنسوبة إلى أولئك حججا علي الإسلام.
7-         عدم إثقال الضمير الإسلامي الذي يجد نفسه ملزما بالتغاضي عن الجرائم الكبري والموبقات المنسوبة إلي أهل البغي خوفا من إرهاب الكهنوت وجهل العامة ويجد نفسه وفقا للمذاهب المحرفة ملزما بالدفاع عنها.
8-         العمل علي شفاء المسلمين من الشيزوفرينيا التي يعانون منها من جراء محاولات الكهنوت المستميتة والمجانبة للمنطق والمكذبة بالحقائق الدامغة لتبرير الموبقات المنسوبة إلي بعض من أسموهم بالصحابة.
9-         إظهار الوجه النقي لدين الحق كما جاء فى القرءان بعيدا عن كل التحريفات والتناقضات والشركيات التى حفل بها تاريخ المسلمين وتراثهم.
10-     توحيد الأمة وتخفيف حدة العداء بين الطوائف المختلفة.
11-      تبرئة الإسلام من مسلك بعض من اعتدوا وطغوا وبغوا ونهبوا وسلبوا وسبوا النساء واستعبدوا الناس دون أن يبدوا أدنى اهتمام بالدعوة إلى الإسلام ودون أن يلتزموا بنسق الأوامر الشرعية المنظم لأمور القتال.
12-      احترام وتوقير الذين صدقوا ما عاهدوا عليه الله ولم يبدلوا تبديلا وضحي الكثيرون منهم بالغالي والنفيس في سبيل ذلك.
ولقد رُوي أن هارون الرشيد سأل مالك بن أنس: (هل لمن يسب أصحاب رسول الله في الفيء حق ؟ فقال لا ولا كرامة، قال : من أين قلت هذا ؟ قال: قال الله تعالى: {ليغيظ بهم الكفار} فمن عابهم فهو كافر)، وهكذا يكفر مالك المسلمين بتحريف الكلم عن مواضعه وتأويل الآية كما يحلو له مع أنه من القائلين بالإرجاء، فهو لا يكفر مرتكب الكبائر ولا الولاة الظلمة سفاكي الدماء ولا مغتصبي ولاية الأمر ولا ناهبي أموال الأمة ولا منتهكي حقوق الإنسان والمعتدين على كرامته ومن بينهم هارون هذا الذي يستفتيه، ومن المعلوم أنه لم يجرؤ أحد من رجال الكهنوت على شيء كهذا في حين أنهم وجدوا أنه من الأيسر تكفير من عاب من أسموهم بالصحابة وإسقاط أهليته وحرمانه من حقوقه وفي حين أنهم لم يجرءوا مثلا على تكفير معاوية الذي سن لهم ولأمثالهم لعن أئمة الهدى وعترة النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ على المنابر وظل ذلك تقليدا متبعا وسنة ماضية إلى أن هلك آخرهم وذهبت ريحهم، فهل كان مالكا هذا لا يعتبر الإمام عليا وعترة النبي وأنصارهم من الصحابة؟ ألم يكن من الواجب عليه أن يبين للناس بأدلة حاسمة ما هو المقصود بما اصطلحوا علي أنهم الصحابة؟ أليس هذا الاصطلاح هو من الإحداث في الدين المحرم تحريماً باتا؟ هذا رغم أنه لا يجوز أبدا لمسلم أن يسب مسلما فسباب المسلم من علامات الفسق، كذلك لا يجوز البغى على المسلم أو قتاله إلا دفعا لبغي بعد استنفاد كافة السبل، لذلك فلا يجوز البغي على من تمسك بإسلامه ومن ذلك البغي رميه بالكفر، أما حكم من سب واحدا من أهل الجيل الأول أو عابه فهو كحكم أية معصية أخرى، ويجب على المسلمين النصيحة لمن فعل هذا أو تمادى فيه، ولأولى الأمر سن ما يلزم من تشريعات لمعالجة هذا الأمر، ولكن لا يجوز أبدا تكفير من أعلن تمسكه بالإسلام وإن كان منافقا.

*******




هناك تعليق واحد: