الأربعاء، 18 مارس 2015

الحديــد من 22 إلى 23

الحديــد من 22 إلى 23

مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)

إنه لا يمكن أن يحدث أمرٌ في هذه الدنيا ولا أن يصيب الإنسان أمر ما إلا بعد أن تتوفر شروطه وترتفع موانع تحققه طبقا للقوانين والسنن فيُكتب؛ أي يتحتم حدوثه فليس الأمر خبط عشواء، ثم يحقق الباري سبحانه الأمر، فذلك التحقيق هو البرء، وليس في الأمر جبر أو إكراه، ولكن على الإنسان أن يتعرف على سبب ما حاق به، وعليه أيضا إذا كان ما أصابه هو أمر حسن أن يعرف الفضل لمن بيده كل الفضل وأن يشكر مَنْ الكمال هو أمر ذاتي له، ولذلك أيضاً على الإنسان ألا يبالغ في ردود أفعاله حتى يتحقق له الاتزان النفسي اللازم.
والآية تتحدث عن سنة إلهية يترتب عليها سنة كونية، فما يصيب إنساناً ما أو طائفة ما مرتبطة بطريقة ما لابد من أن يسبق تحققها أن يقضى بها في عالم علويّ وأن تتعين هنالك وتتقرر بناء على قوانين وسنن فيقال إنه وجب وجودها أو أنها كتبت، وهذا يعنى أن الأمور لا تحدث عبثا، لذلك على الإنسان أن يخفف من غلواء ردود أفعاله وانفعالاته والتي تترتب على تخيل الإنسان أن ما يصيبه هو أمر عشوائي أو صدفة محض، أما إذا ما علم أن الأمور تجرى وفق قوانين وسنن وأن كثيرا منها منظور فيه في كل وقت وحين فستتسم ردود أفعاله بالحلم والعقلانية، وسيعمل على اكتشاف تلك القوانين والتكيف معها والإفادة منها، وبتلك المعرفة لن يفتخر على الناس ولن يختال عليهم بما يصيبه من خير ولا يقنط ولا يصب عليهم جام غضبه لما يصيبه من شر.
ويجب العلم أيضا أن للرب سبحانه أن يبتلى عباده بما يشاء، وليس لأحد أن يملي عليه كيف يختبره أو يبتليه كما لا يحق للطالب مثلا أن يجبر معلمه على وضع أسئلة الاختبار كما يروق له، أما المؤمن الذي عقد العزم على السير على الصراط المستقيم فكل ما يصيبه سيكون في حقه حسنا، فيجب العلم بأن للإنسان أن يتحكم باختياره في استجاباته وردود أفعاله، وبالتالي فهو الذي يبدأ سلسلة الأسباب والنتائج التي تصدر عنه وتعود إليه.
فما من أمر يصيب جماعة أو فرداً من الأفراد إلا وهو محكوم بقوانين وسنن، فكل فعل فردى أو جماعي يستحث سلسلة من القوانين لتعمل فيترتب عليه أثر محدد، فإذا ما تعين ووجب تحقق هذا الأثر وتحتم يقال إنه كتب وهذا يتضمن أيضا تدوينه في سجل علوي، ونتيجة العمل أو الأثر المحدد لابد أن تلحق بمصدر العمل بمعني أنها لابد من أن تصوَّب إليه بالتحديد، أما إذا كان مصدر العمل كيان اعتباري كجماعة ما مثلا مرتبطة برباط ما كقوم أو كأمة من الناس فإن الأثر يصيبها أيضا كذلك أي ككيان كلى واحد، ويكون لذلك الأثر السيادة والتقدم على الأمور الفردية، لذلك وجب على كل فرد ألا يقصِّر في واجباته تجاه الجماعة، ومن هنا كانت التكاليف والأركان الملزمة بالأمة ككل، ولايتناقض هذا مع ما قرره سبحانه من أنه لا تزر وازرة وزر أخري فهذه السنة إنما تسري علي كيانات متكافئة مثل إنسان وإنسان آخر، فلا يتحمل إنسان وزر آخر، ولكن الإنسان بالنسبة إلي الأمة هو جزء منها يصيبه ما يصيبها كما تتحمل أعضاء جسده وزر ما قرر فعله بقلبه، وما يصيب الإنسان بسبب أفعال قومه أو أمته هو من أمور القدر والقضاء التي تتحدد آثارها بموقفه منها.
إن الله سبحانه قد ذكر أن كل أمر تحقق هو في كتاب من قبل أن يتحقق وأن ذلك عليه يسير، وهذا يعنى أن ذلك الأمر لابد أن يتقرر باطنا قبل أن يتحقق ظاهرا، ولابد أن تجتمع أسباب تحقيقه وترتفع موانع ذلك وعندها يُكتب أي يتحتم تحققه، ولكن هذا لا يعنى أن كل ما هو حادث الآن قد تحدد وسجل في كتاب في لحظة ما قبل خلق الكون فكل اللحظات لديه سبحانه سواء وهو غير مقيد بزمان ما، وهو يدبر ويصرف أمر كل عالم بالقوانين والسنن التي بثها في هذا العالم، فقد أوحى في كل سماءٍ أمرها، وثمة أمور مترتبة على أفعال العباد الاختيارية طبقا لسنن كونية اقتضتها سنن إلهية، فالمقصود بيان أن الأمور تنعقد وتتعين في عالم الغيب أو الباطن قبل أن تتحقق في عالم الشهادة وأنه لا يحدث أمرٌ ما عبثاً.
وكتابة الأمر قبل تحققه لا تتضمن جبرا أو إكراها وإنما تعني أن القوانين والسنن وتطورات الأمور قد أوجبت تحققه ويسبق ذلك التقدير وهو بمثابة التوقع Expectation, anticipation من الكائنات الموكل إليها تدبير الأمور الجزئية والتصرف فيها عن أمر الله تعالى، والدعاء من القدر، فله قوانينه وسننه بحيث يمكن به مغالبة ما أوجبته الأسباب الأخرى، وهمة الإنسان وإرادته وعزيمته الماضية هي أيضاً من الأسباب المؤثرة عن أمر الله سبحانه، ويبقى الحق سبحانه فوق كل أمر وفوق كل ما ذكر.
-------
إنه لابد من تعين المصيبة وتألفها باجتماع أسبابها وارتفاع موانع تحققها أي بكتابتها في عالم الغيب قبل أن تتحقق في عالم الشهادة أي قبل أن تبدأ، فذلك هو النمط الذي جاءت على منواله الأعمال الإنسانية، ذلك لأن أي فعل صدر عن إنسان ما لابد أن يتشكل ويتألف ويتعين أولا فى باطنه ثم ينتقل إلى حيز التحقق، كذلك لا يصيب الإنسان مصيبة ما إلا وكانت مكتوبة ومسجلة في سجلٍّ ما في عالم الغيب ثم تأخذ فى التكثف إلى أن تتحقق فعليا في عالم الشهادة، والإنسان هو النقطة التي تحدد وتميز العالمين فهو مجمع البحرين، ولولاه لاستوى البحران، ولابد من اجتماع الأسباب اللازمة لوقوع المصيبة وارتفاع موانعها بحيث يتحتم وقوعها، فإذا ما تحتم فإنه يعبر عن ذلك بكتابتها، فكونها فى حيز الاحتمال يعنى أنها مسجلة في ألواح المحو والإثبات، وانتقالها إلى حيز الحتمية يعنى وجوبها فتكتب ويتحتم وقوعها، وكونها مازالت في ألواح المحو والإثبات يعنى إمكان تغييرها بمعنى إمكان تدارك الأمر وفق القوانين والسنن، ومن هنا كان الدعاء يرد القضاء والمراد ذلك الأمر الذي مازال هنالك في تلك الألواح ولم تجتمع أسباب تحققه بعد، ويلزم القول بأن ماهية الإنسان الأولية تتضمن جانبا عشوائيا هو من لوازم حرية إرادته واختياره، فالإنسان ليس بآلة.
وكتابة الأمر قبل تحققه الفعلي لا تعنى أن الإنسان مسيَّر أو أنه سيساق إلى مصير كتب عليه منذ مليارات المليارات من السنين ولكن الأمر هو كما سبق بيانه، فلا يمكن أن تساوق الأمور والأحداث الله سبحانه في مراتب وجوده العليا، ولا يعنى ذلك أبدا نفى علمه السابق بالوقائع والأحداث فإن من أراد القول بذلك إنما يقيده بالأمور الزمانية بمعنى أنه يعين نقطة زمانية يعطيها الأفضلية على كل ما سواها بقوله إن الرب سبحانه خلق فيها كل شيء وألف فيها كل الوقائع والأحداث، أما من أصر على ذلك القول فهو من المعطلة وكان عليهم أن يعلموا أنه سبحانه يمارس وسيظل يمارس مقتضيات ألوهيته في كل عالم وفق الأمر الذي هو منظومة القوانين والسنن التي أوحاها وبثها في هذا العالم، أما من أصر على وجود تلك اللحظة الزمنية التي آثرها الله تعالى بأن خلق فيها كل شيء وصرَّف كل أمر ودبَّر كل آية فمن الخير له أن ينسبها إلى الله عز وجل كما يليق بذاته فتلك اللحظة مفصلة بكل العصور والدهور في كل الأكوان.
وقد قال تعالى: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ(23) الحديد
وهو سبحانه هنا يعالجهم نفسيا ويزكيهم حتى يتحقق لهم النضج الانفعالي والاتزان النفسي ومتانة البنيان النفسي، والمعالجة تكون بما يدبره من الوقائع والأحداث والتي يترتب جزء كبير منها على أفعالهم السابقة، فأفعاله سبحانه متسقة متعاضدة؛ فهو يتخذ من العقاب الذي يستحقونه وسيلة لتعليمهم وتزكيتهم.
والفرح المنهي عنه والمذموم هو الفرح المقترن بالبطر والأشر، وهو الفرح بالأشياء وبالكمالات عندما يظن الإنسان أنه مستقل بها، أما الفرح المحمود فهو ذلك الفرح الذي يجذب الإنسان إلى ربه، وهو فرح بفضل الله وبرحمته المتمثلة في النعم من حيث أنها تعبر عن عناية الله تعالي بعبده وحبه له، فمثل هذا الفرح هو مأمورٌ به، قال تعالى:
{قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُون} [يونس:58]


*******


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق