الاثنين، 30 مارس 2015

الإنسان الرباني الفائق


الإنسان الرباني الفائق

المقصد لديني الأعظم الثاني لدين الحق هو إعداد الإنسان الرباني الفائق (الصالح المفلح المحسن الشاكر)؛ أي الإنسان الذي يجسد المثل الإسلامي الأعلى على المستوي الفردي والمؤهل للعيش السعيد والفلاح في الدنيا والآخرة، وهو الذي يقوم بقدر وسعه بأركان الدين الحقيقية الملزمة للفرد.
فهذا هو المقصد الأعظم علي المستوي الإنساني، وهو محور مقاصد الدين، وهو يعني إعداد الإنسان الأرقى والأسمى بالمفهوم الإسلامي المرتضى عند الله تعالى (The super human according to the Islamic concept)، وهذا الإنسان هو في الحقيقة من يقوم بأركان الدين الحقيقية ومن تتحقق له نتائج وثمرات هذا القيام؛ فهو الإنسان الصالح والفائق، وهذا الإنسان هو المؤهل للفوز بالسعادة في الدنيا والآخرة، وبالطبع فهذا الإنسان يتصف بأعلى درجة ممكنة من مكارم الأخلاق، ومكارم الأخلاق هي الصفات المتسقة مع منظومة القيم الإسلامية التي هي بدورها من مقتضيات منظومة الأسماء الحسنى الإلهية.
ومن أكبر سمات ومظاهر الإنسان الرباني الصالح المفلح الولاء المطلق لله تعالى والعمل الصالح وحسن الخلق، فلا يراه الناس متهالكا على حطام الدنيا ولا حريصاً عل العبّ منها ولا يخطر بباله أن يتكسب بدينه ولا أن يفشي ما علم من أسرار ربه، فهو يعيش للحق بالحق في الحق، ويكون ولاؤه دائما للحق، فهو الذي يعمل شكرا لربه وابتغاءً لوجهه، وهو الذي يحق له أن يقول صادقاً: إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
إن إعداد الإنسان الرباني الصالح المحسن المؤهل للخلافة في الأرض والعيش في العالم الأرقى بعد البعث يقتضي أن يعمل الإنسان علي أن يتزكى وأن يكون علي صلة وثيقة بربه، وهذا يستلزم أن يعمل علي أن يتحقق بصفات الكمال التي هي مقتضيات الأسماء الحسنى في الكيان الإنساني العام، وهذا هو المقصود بالقرب من الله تعالى، وسعي الإنسان إلى ربه ينبغي أن يكون متسقا مع حقيقة نفسه، لذلك فعليه أن يتجه إلى ربه طوعا لا كرها وأن يجاهد نفسه بالتغلب علي عوامل النقص الكامنة في طبيعته الذاتية، وعليه ألا يترك المجال لمقتضيات بشريته لتجذبه إلى الأرض وتضخم من شأن متاعها القليل الفاني، والإنسان الخليفة يزداد تحققه بالكمالات بالنظر في آيات الله في الأنفس وفي الآفاق وبإعمال ملكاته فيها للتعرف علي السنن الحاكمة عليها والسارية فيها وللعبور منها إلى العلم بالأسماء الحسنى التي اقتضتها.
*******
إن المقصد الديني الأعظم الثاني يعني باختصار إعداد الإنسان الفائق The super human، والإنسان الفائق هو أيضاً الذي يسعى لتحقيق مقاصد الدين بالقيام بأركان الدين الحقيقية الملزمة للفرد، فثمة حلقة تغذية موجبة Positive feedback loop بين المقصد وبين الأركان التي هي وسائل تحقيقه، فكلما قام الإنسان بالأركان كلما ارتقى واقترب من تحقيق المقصد الديني الخاص بالفرد، وكلما انتفع بآثار ذلك مما يساعده على قيام أفضل بالأركان...، وهكذا، ومراتب الكمال لا نهاية لها، لذلك تضمن تعريف الإنسان الفائق القيام بالأركان.
إن الإنسان الصالح ينبغي أن يقوم حق القيام بما طلبه الله منه وخلقه له وناطه به وهو الخلافة في الأرض، فكل إنسان هو خليفة في الأرض، ومما يجب القيام به بمقتضى ذلك سعيه في حق من يرعي وفي حق أمته وفي حق كل البشر بل في حق كل الكائنات؛ فيكون محض خير ورحمة مهداة أينما سار وأينما وُجد، فهو في حين يكد في طلب الرزق ينوي بذلك القيام بحق تلك الخلافة فينوي أن يعول نفسه وأهله وأن يقوم بحق كل إنسان غير قادر علي الكسب وكل دابة لا تستطيع طلبا للرزق، وهو يجود بالعلم ويعمل على محو الجهل ويسدي النصح ويميط الأذي عن الطريق ويبدد الظلام ويرفض الظلم والاستكبار والطغيان والعدوان ويعين علي نوائب الدهر، ويتصدى للانحطاط والتخلف والجهل، فهو أينما سار يسعي نوره بين الناس بل يكون هو نورا يسعي بين الناس يضيء لهم سبل الرشاد ويتذكرون به الله ويعظم جلاله في قلوبهم.
إنه لكي يكون الإنسان ربانيا فائقا يجب أن يبدأ بما يلي:
1.        العلم بمنظومات الأسماء الحسنى وما صاحبها من آيات فى الكتاب العزيز.
2.        العلم بمنظومات الشؤون الإلهية.
3.        العلم والتحقق بمنظومة القيم الرحمانية
4.        العلم بمنظومات السنن والعمل وفق مقتضياتها وعليه أن يتحقق بمقتضيات معرفته تلك وأن يسير على هديها وأن يزكى نفسه بها.
5.        أن يقوم ما استطاع بأركان الدين الحقيقية وهي أوامر الدين الكبرى والعظمى وفقا لكتاب الله العزيز.
وبذلك تتحسن نفسه الجوهرية الباطنة فلا تتضخم ملكة على حساب الأخرى مما يؤدي إلي انحراف فى العقيدة أو شطح، وبكل ذلك يصبح الإنسان إنساناً ربانيا قويا عزيزا يرفض الظلم والبغي وينتصر للحق والعدل ويرفض الشرك أى يرفض أن يستعبد نفسه لغيره أو للأشياء كما يرفض أن يستعبد غيره ويعرف أنه إنسان مكرَّم عند ربه ومستخلف في الأرض، أما من رفض كل ذلك فسيتحول بمحض إرادته إلى دابة في قطيع تبحث عمن يركبها أو يقودها ثم يذبحها ويكون بذلك من أصحاب السعير أو يتحول إلي طاغية مجرم من المفسدين في الأرض يعيش حياته وهو يرتعد فرقاً ممن ظلمهم وأكل حقوقهم ويوم القيامة سيطئونه بأقدامهم.
إن الإنسان الفائق هو الإنسان الصالح المفلح الشاكر المحسن طبقا للمصطلح القرءاني، والإنسان الصالح هو مصدر للأعمال الصالحة أي المسببة لنفع العديد من الكيانات الإنسانية بما فيها نفسه، ومحل نتائج وآثار العمل الصالح بالأصالة هو الإنسان الذي صدر عنه العمل، وتتعدى آثار العمل الإنسان لتشمل بعض الكيانات الإنسانية الأخرى، ويعتمد مدي وعمق وشمول آثار العمل علي المقصد من الفعل وطبيعته وعلي عمق الكيان الذي كانت بواعث الفعل الأصلية ماثلة فيه، وقد يكون الأثر الآني أو الفوري للعمل الصالح أكبر علي الكيانات الأخرى، فالإنسان الفائق هو الذي آمن وأسلم وأحسن وعمل بمقتضى كل ذلك.
فالإنسان الصالح هو الذي يسعى بجد وإخلاص لتحقيق مقاصد الدين بالقيام بقدر استطاعته بأركان الدين، وهو الذي في الطريق لتتحقق له ثمرات ذلك، ومن تلك الثمرات التحقق بذكر الله تعالى وإقامة صلة وثيقة به وتزكية النفس والقلب، ومن مظاهر ذلك التحلي بمكارم الأخلاق.
والحق هو أنه لو قام الإنسان حق القيام بأركان الدين الحقيقية لتحقق بالنسبة إليه المقصد الأعظم الثاني أي لأصبح إنساناً ربانياً فائقاً صالحا، فالإنسان الصالح هو من يحاول القيام حق القيام بأركان الدين، ولقد أوضحت آيات الكتاب العزيز أن جعل الناس يعقلون ويعلمون ويفقهون ويؤمنون ويتقون ويتفكرون ويتذكرون ويوقنون ويتدبرون من مقاصد إنزال الكتاب وتبيين وتفصيل آياته ومن مقاصد إيجاد وإبداع وتصريف الآيات الكونية والكتابية ومن مقاصد سن الأوامر الدينية والوصايا الشرعية ومن مقاصد تقدير القوانين والسنن والنواميس ومن مقاصد تدبير الوقائع والأمور علي المستوي الكوني ومن مقاصد تقليب الإنسان في أطواره المختلفة وتسخير ما في السمـاوات وما في الأرض له ومن مقاصد قص القصص وضرب الأمثال، كما أن الآيات جاءت آمرة بطلب الزيادة من العلم وحافلة بالإشادة بمن يعلمون وبالتنويه بعلو مراتبهم ودرجاتهم، وكذلك جاءت الآيات لتتوعد من أهملوا استخدام حواسهم وملكاتهم ولتندد بهم، كما أوضحت الآيات أن المؤمن ينبغي أن يتحلى بالسمو الخلقي وبمتانة البنيان النفسي والذي يتمثل في السلوك الراقي وفي اتزان ردود الأفعال وفي الصبر.
*******
إن المقصد الديني الأعظم على المستوى الفردي On the individual level هو إعداد الإنسان الفائق (الرباني الصالح المفلح المحسن)، هذا الإنسان هو الذي تتجانس كافة كياناته ومكوناته، هذا بمعنى أنه يعمل على أن ينميها كلها ويزكيها كلها، ولا ينحاز لكيان على حساب الكيانات الأخرى.
والمقصد الأعظم على المستوي الإنساني هو محور مقاصد الدين، وهو يعني إعداد الإنسان الرباني الأرقى والأسمى بالمفهوم المرتضى عند الإله الأعلى، وهذا الإنسان الرباني هو كما يلي:
1-            يعرف ربه بأسمائه الحسنى الواردة في القرءان الكريم ويعتصم به ويعبده من حيث تلك الأسماء بالعمل بمقتضياتها، كما يعرف كل ما نسبه الحق إلى نفسه في الكتاب من صفات وأفعال وشؤون وسنن.
2-            يتخذ القرءان الكريم إماما يعتصم به ويتقرب إلي الله بتلاوة آياته وبإعمال ملكاته القلبية فيها ويتعلم الأسس اللازمة للتعامل معه.
3-            يتأسى بخاتم النبيين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ في إقامة شعائر الدين والتحلي بالخلق العظيم.
4-            يعرف منظومات القيم والسنن والمقاصد والأوامر الدينية ويتوافق معها ويعمل وفق مقتضياتها.
5-            يعمل بمقتضيات كل الأوامر الإلهية فيكون على علاقة صحيحة بمبدأ الوجود وأصل كل كمال يدور في فلكه ويوقر قوانينه وسننه ويستشعر كينونته ووجوده وحضوره وقربه فيكون ذاكرا تقيا.
6-            يعمل على أن يكون ذا ملكات ذهنية ووجدانية فائقة ويعمل على تزكية تلك الملكات بالاستعمال المستمر والاستعمال السليم، ومن لوازم ذلك ومقتضياته أن يكون على درجة عالية من الذكاء القلبي الذهني والوجداني.
7-            يتحقق بذكر الله تعالى وهو الإحساس الحقيقي الصادق بالحضور الذاتي الإلهي.
8-            يتحقق بالتقوى وهي جماع كل ما يستلزمه هذا الإحساس على مستوى الشعور والوجدان.
9-            يتحقق بالفقه وهو جماع ما يستلزمه ذكر الله تعالى على المستوى الذهني فهو إدراك مقتضيات الأسماء الحسني من سنن وقوانين وآيات ومظاهر.
10-        يكون ملماً بمنظومة القيم الرحمانية وأن يتوافق معها وأن يعمل وفق مقتضياتها.
11-        يكون على دراية ووعى بالأمانة التي يحملها وبأنه مستخلف في الأرض فيسعى لصالح أمته والإنسانية جمعاء ويحترم حق غيره من الكائنات في الوجود والبقاء ويقوم بمسؤولياته تجاهها، وهذا يقتضي أيضا أن يحترم حقوق الأجيال القادمة فلا يسرف في استهلاك الموارد ولا يعمل على تلويث البيئة أو الإفساد في الأرض.
12-        يزكي نفسه بالتحلي بمكارم الأخلاق التي هي مقتضيات الأسماء الحسني علي المستوى النفسي الصفاتي والمعنوي وكذلك بالتخلي عن الأخلاق الذميمة وهي كل ما يناقض ما سبق.
13-        يعمل على أن يكون جديراً بالتكريم الإلهي بأن يزكي كل ما كُرِّم بسببه من ملكات وإمكانات ومعارف.
14-        يكون لديه رصيد كافٍ من الصلابة ومتانة البنيان النفسي وكذلك رصيد أخلاقي بحيث يتمكن من مواجهة كل الأزمات وتخطى كل الصعاب والعقبات.
15-        يقوم ما استطاع بأركان الدين الحقيقية واضعا نصب عينيه دائماً مقاصد الدين العظمى.
16-        يكون على درجة كافية من القدرة على إدراك أنماط التفاعل الممكنة بين الناس وأن تتوفر لديه القدرة على التفاعل البناء معهم والتأثير الإيجابي فيهم.
17-        يقوم بكل ما يجب عليه من واجبات تجاه الكيانات الإنسانية الأدنى والأعلى.
18-         يؤمن بانتمائه إلى أمة واحدة لها عليه حقوق والتزامات فعليه أن يجيد من الأعمال ما ينفعها وما يؤدى إلى زيادة منعتها وقوتها ويعلم أنه على ثغرة من ثغورها فيحذر أن تؤتي من قبله.
19-        يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة وبالجدال بالتي هي أحسن وبأن يكون هو أسوة حسنة للناس.
20-        تكون علاقته بكل ما في الوجود وفق قوانين الله وسننه وأوامره وبذلك يجد من كل شيء عوناً ونصيرا له.
21-        يكون على وعي بحقيقة نفسه ونقاط قوته وضعفه وإمكاناته الحقيقية فلا يخجل منها وإنما يعمل على توظيفها التوظيف الأمثل لصالحه وصالح أمته، وعليه أن يعلم أن صفاته الذاتية الأولية هي التي كان بها هو هو ولو تغير شيء منها لبرز غيره إلى الوجود ولظل هو في طي العدم وأن تلك الصفات هي لوازم ماهيته التي تعينت وفق كل ما سبقه من وقائع وظروف وملابسات وما وجد من كائنات وما يحكم الأكوان من القوانين والسنن.
22-        يتحلى بالمعارف والإمكانات التي تكفل له أن يواجه كل أمر أو واقعة بالاستجابة الملائمة.
23-        يكون عنصراً فعالا بناءاً إيجابيا يواجه كل الصعاب وهو على ثقة من أنه يعتصم بمن بيده أمر كل شيء.
24-        يعلم أن كل ما يواجهه من كائنات آلات بيد الحق يتعرف إليه من خلالها ويواجهه بها فلا يحتجب بها عمن خلقها ولا يقف عندها ولا يفتتن بها ولا يخشاها وأن يواجهها بالأدب اللائق من حيث معرفته بذلك.
25-        يرى أن كل ما يواجهه من وقائع وأحداث هو في النهاية من تدبير الرحمن وذلك بهدف دفعه إلى التحقق بكماله المنشود.
26-        يعلم أن الاتساق سارٍ في كل أمور هذا الوجود الظاهر وأنه لا بد من وجود كل ما وجد ووقوع كل ما وقع بل إن وجوده ذاته هو نتيجة لازمة وواجبة لكل ذلك، فعليه ألا يأسى على ما فاته وألا يفرح بما أوتي وألا يسهو قلبه عن الإحساس بوجود ربه وحضوره وألا يغفل عن ذكره وأن يتوافق مع كل الكيانات الوجودية فيبدأ بالتوافق مع نفسه ثم مع أسرته ثم مع أمته ثم مع البشرية جمعاء وكل الكائنات.
*******
إن الإنسان الرباني المفلح يكون كما يلي:
a.      أهلاً لحمل الأمانة وهي القيام بحقوق ومقتضيات الأسماء الحسنى.
b.     جديرا بالتكريم الإلهي.
c.      قادرا على القيام بمتطلبات الاستخلاف في الأرض.
d.     ساعياً نحو التحقق بكماله المنشود.
e.      صالحاً للعيش السعيد في العالم الأعلى والأرقى.
f.       حريصاً على القيام بأركان الدين لتحقيق مقاصده.
g.     مؤمناً بانتمائه إلى أمة واحدة ومؤدياً لواجباته نحوها.
h.     حريصاً على القيام بواجباته الشرعية تجاه كافة الكيانات الإنسانية.
*******
لو قام الإنسان حق القيام بأركان الدين الحقيقية لتحقق بالنسبة إليه المقصد الأعظم الثاني، ولقد أوضحت آيات القرءان أن جعل الناس يعقلون ويعلمون ويفقهون ويؤمنون ويتقون ويتفكرون ويتذكرون ويوقنون ويتدبرون من مقاصد إنزال الكتاب وتبيين وتفصيل آياته ومن إيجاد وإبداع وتصريف الآيات الكونية والكتابية ومن سن الأوامر الدينية والوصايا الشرعية ومن ضرب الأمثال ومن تقدير القوانين والسنن والنواميس ومن تدبير الوقائع والأمور علي المستوي الكوني ومن تقليب الإنسان في أطواره المختلفة ومن تسخير ما في السمـاوات والأرض للإنسان ومن قص القصص وضرب الأمثال، كما أن الآيات جاءت آمرة بطلب الزيادة من العلم وحافلة بالإشادة بمن يعلمون وبالتنويه بعلو مراتبهم ودرجاتهم، وكذلك جاءت الآيات لتتوعد من أهملوا استعمال حواسهم وملكاتهم ولتندد بهم، كما أوضحت الآيات أن المؤمن ينبغي أن يتحلى بالسمو الخلقي وبمتانة البنيان النفسي والذي يتمثل في السلوك الراقي وفي اتزان ردود الأفعال.
إن إعداد الإنسان الفائق هو لب المقاصد الدينية، والإنسان الفائق هو الإنسان الرباني الصالح المفلح الشاكر المحسن طبقا للمصطلح القرءاني، والإنسان الصالح من يعمل علي تحقيق مقاصد الدين الحقيقية؛ أي هو من يقوم بأركان الدين الحقيقية، وهو مصدر للأعمال الصالحة (A source of righteous deeds)، هذا الإنسان هو عبد خالص ومخلص لربه، وتكون كل أعماله ابتغاء وجهه.
والإنسان الرباني الفائق هو الذي يري بأكبر عدد من الأعين ويسمع بأكبر عدد من الآذان ويفكر ويفقه ويعقل بأكبر عدد من القلوب ويزداد في كل لحظة علما وفقها وعقلا ويسمو إلي ربه، ومن وسائل ما ذُكر الشورى والقراءة والتعلم.
والإنسان الصالح هو الذي يجب أن يعمل لاستعادة وحدته الذاتية، والقرءان -لأحدية المتكلم به- يخاطب الإنسان ككيان واحد كما يخاطب الأمة كذلك، فقراءته وتدبره خير ما يساعد الإنسان علي استعادة وحدته، والإنسان كيان واحد لأنه تجسيد لأنية واحدة حتى إن اقتضي الأمر تقسيم نفسه تقسيما فنيا ليسهل عليه فهم نفسه، وربه يخاطبه كما يخاطب كيانا واحدا له لوازم عديدة من الصفات والملكات والكيانات، ولكن الإنسان الذي يسلم بانقسام نفسه ويألف ذلك لن يستطيع أن يفهم نفسه أو غيره من الناس، فرغم طبيعة الإنسان كأداة للتفصيل المطلق فعليه ألا يغفل عن وحدته حتى يتماسك كيانه، وقراءة الكتاب العزيز بتدبر من وسائله لاستعادة وحدته ودعمها.
إنه لكي يكون الإنسان ربانيا فائقا يجب أن يبدأ بمعرفة منظومة الأسماء الحسنى وما صاحبها من آيات فى الكتاب ثم يعرف منظومات الشؤون الإلهية ويعرف ويتحقق بمنظومة القيم الرحمانية ومنظومات السنن وعليه أن يتحقق بمقتضيات معرفته تلك وأن يسير على هديها وأن يزكى نفسه بها، وبذلك تتحسن نفسه الجوهرية الباطنة فلا تتضخم ملكة على حساب الأخرى مما يؤدي إلي انحراف فى العقيدة وشطح، وعلي هذا الإنسان أن يقوم ما استطاع بأركان الدين الحقيقية والمذكورة في هذا الكتاب، وبكل ذلك يصبح الإنسان إنسانا ربانيا قويا عزيزا يرفض الظلم والبغي وينتصر للحق والعدل ويرفض الشرك أي يرفض أن يستعبد نفسه لغيره أو للأشياء كما يرفض أن يستعبد غيره ويعرف أنه إنسان مكرم عند ربه ومستخلف في الأرض وأن الآخرين كذلك مثله، أما من رفض كل ذلك فسيتحول بمحض إرادته إلى دابة في قطيع تبحث عمن يركبها أو يقودها ثم يذبحها ويكون بذلك من أصحاب السعير أو يتحول إلي طاغية مجرم من المفسدين في الأرض يعيش حياته وهو يرتعد فرقاً ممن ظلمهم وأكل حقوقهم ويوم القيامة يدوسونه بأقدامهم.
إن المقصد الأعظم هو إعداد الإنسان الفائق الذي وصل على المستوى الجوهري إلى أعلى درجة ممكنة من الكمال والرقي، وهذا يستلزم ويترتب أيضا على وجود الأمة الخيرة الفائقة، فبوجود تلك الأمة يمكن لأعداد أكبر من البشر الوصول إلى المستوى المطلوب كما أن وجود تلك الأمة مترتب أصلا على وجود نصاب يعتد به من البشر الفائقين.
فالمقصد الأعظم بالنسبة للإنسان أن يكون إنسانا فائقاً أى إنساناً صالحا محسنا ربانيا أى منتمياً إلى ربه الذى خلقه والذى هو أولى به من نفسه لا أن يكون منتمياً إلى صاحب مذهب ما، قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ(79)} (آل عمران)، {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا(65)} (الإسراء)، {وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا(63)} (الفرقان)، ولقد أعلن سبحانه أنه ولى المؤمنين وأنه كفى به وليا وأنه ليس لهم من دونه من ولي، قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ (البقرة: 257)، {أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} (الشوري: 9)، {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا(45)} (النساء: 45)، {مَالكُم مِنْ دُونِه منْ وليٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذكَّرُون} (السجدة: 4)، وأمر بالاعتصام به وبحبله وباتباع ما أنزله ونهي عن اتباع أولياء من دونه، قال تعالى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(101)} (آل عمران)، {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ(78)} (الحج)، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (آل عمران: 103)، {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ(2)اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ(3)} (الأعراف)، وبالإضافة إلى الانتماء فإن الإنسان الربانى يكون متحققا بمقتضيات سمات ربه وهذا يقتضى أن يعرف أسماءه الحسنى وأن يدعوه بها.
ومن لوازم إعداد الإنسان الفائق الصالح الحفاظ على حقوق وكرامة الإنسان وحمايتة من الإذلال والامتهان، ومن لوازم الإنسان الفائق القيام بمقتضيات الاستخلاف فى الأرض من إعمار وحفاظ على البيئة والدفاع عن الحرية الدينية احتراماً وإجلالاً لقوله تعالي: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }البقرة256، {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ }يونس99.
فالمقصد الديني الأعظم هو إيجاد الإنسان الرباني الفائق، ولو تأمل الناس في تاريخ القرن الإسلامي الأول أي الأمة التي رباها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ بنفسه وزكاها وعلمها الكتاب والحكمة لعرفوا أنه تمكن في زمن قصير جدا من إعداد ما يربو على الألف من هؤلاء غير بهم وجه التاريخ البشرى تغييرا ثابتا دائما، لقد ربى رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه وكان كل فرد منهم رجل دين ورجل دولة وقائدا وجنديا وفارسا وقاضيا وتاجرا وراهبا ومشرعا وعالما وفقيها.
ورقىّ الملكات الذهنية والوجدانية يستلزم تهذيب وتزكية الغرائز الجسدية وحسن استخدامها لتحقيق الغايات المنوطة بها، وهى إنما وجدت لحفظ النوع الإنساني ولإيجاد دوافع للسعي والسير في الأرض مما يؤدي إلي نمو الملكات والقدرات الإنسانية وللتعارف بين الناس واستحداث روابط وثيقة وتفاعل مستمر فيما بينهم مما يؤدي إلي إبراز وتفصيل مشاعر ذوقية راقية كالود والحب والرأفة والرفق واحترام الكبير والعطف علي الصغير والبر والشعور بالأخوة والمصير المشترك، فالغرائز لازمة لتحقيق الغاية من خلق الإنسان وهي الظهور التفصيلي للكمال المطلق، وبالوفاء بمقتضياتها يتذوق الإنسان مشاعر لازمة لاكتماله ولا سبيل لمعرفتها إلا بالذوق المباشر، وتلك أمور أصلية وليست بعارضة وهي تؤهل الإنسان للعيش السعيد في العالم الأرقي، ولذا فلقد حدد لها الإسلام مصارفها الشرعية حتى لا يطغي الإنسان فينشغل بها عن تحقيق مقاصد الدين الأخرى، فالإسلام الذي هو دين الفطرة يتعامل مع الإنسان علي أساس ما هو عليه لا على أساس ما ينبغي أن يكون عليه في تصور البعض، ويجب العلم بأن جسد الإنسان من آيات الله الكبرى ومن أكبر الدلائل علي وجود إله له الأسماء الحسني.
والتقدم العلمي والتكنولوجي من وسائل إيجاد الإنسان الفائق، ذلك لأنه يؤدى إلى:
1.        علاج الآفات التي يمكن أن تصيب الإنسان.
2.        تحسين القدرات الجسدية والذهنية للإنسان.
3.        مد نطاق عمل حواس الإنسان من حيث المدي والاتساع والشمول والعمق.
4.        زيادة تعرف الإنسان على القوانين والسنن والآيات مما يؤدى إلى ازدياد معرفة الإنسان بالأسماء الحسنى ومقتضياتها وآثارها وزيادة اتساع المجالات التى يمكن أن تعمل فيها ملكات الإنسان.
5.        توفير وقت الإنسان وجهده وطاقته واستخدام كل ذلك فيما هو أسمى.
6.        دفع الإنسان إلى استعمال ملكاته الذهنية العليا.
7.        مساعدة الإنسان على إدراك جوانب من الغيب النسبي.
8.        الرقي بالتصورات والمفاهيم البشرية مما يؤدي إلى إدراك أفضل للآيات المتشابهات.


*******

هناك تعليقان (2):