الأربعاء، 11 مارس 2015

سورة هود1

سورة هود1

{الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} هود1.

فكل آية من آيات الكتاب كانت أصلا كياناً أمرياً محكما وكانت بذلك أيضاً في غاية الإتقان، ثم فُصِّلت بحيث يمكن أن يدركها الإنسان، وهذا التفصيل يأخذ زمنه المعلوم، فهو يتم شيئاً فشيئا بعد التفصيل الأول الذي ترتب عليه أو الذي كان من لوازم الإنزال، والإحكام والتفصيل يتم بفعل الاسم الإلهي الحكيم الخبير، ولقد كان الكتاب محكما، وكذلك كان إنزاله الأول، ثم توالى تفصيله، والتفصيل الأول تضمن جعله قرءاناً عربيا من بعد أن كان في أم الكتاب عليِّاً حكيما، وهو مازال كذلك هناك.
والإحكام هنا هو المقابل للتفصيل فهو الحالة السابقة عليه فلقد كان القرءان في أم الكتاب علياً حكيما، ولقد كان هنالك أيضا غاية في الإحكام والإتقان والإجمال بحيث يأخذ شكل القانون الكلى العام الذي له السريان المطلق في كل شيء، والإحكام والتفصيل إنما كان من لدن الحكيم الخبير، وهذا يبين أن التفصيل المسبوق بالحرف (ثم) كان مترتبا على الإحكام وتاليا له، فالتفصيل استلزم وجود مجال للمثنى "الحكيم الخبير" أو استلزم استكمال مجالات عمله، ولذا كان لابد من وجود العالمين لإتمام التفصيل واكتمال الدين وكان لابد من الخبرة لكي يتم التفصيل.
لقد بينت الآية بما لا يدع مجالا للشك أن تفصيل المحكم يستلزم الخبرة والتي تستلزم بدورها مجالا هو الأمة والوقائع والأحداث المصاحبة للبعثة، ومن قبل ذلك أحوال الأمم السابقة، ولقد تولى المثنى "الحكيم الخبير" إحكام الآيات وتفصيلها، واقتضى التفصيل استعمال الآلات والأدوات من الملائكة والرسل.
والحق سبحانه لم يكتب القرءان في لحظة موغلة في القدم قبل خلق الخلق ثم انتظر حتى جاء زمن الوحي فأنزله إلى مكان ما ثم أنزله من بعد منجما، فإن كل ذلك يقيده بالزمان الذي خلقه، ولقد خلط المتكلمون بين كلامه كفعل يمارسه وبين ما يترتب على هذا الفعل من كلمات، التي يُعبَّر عن جماعها في العربية بـ"الكلام" أيضا، فالكلام بالنسبة إليه هو أمر منزه عن الزمان، ولذلك فهو فعل دائم ومستمر ويظهر في كل عالم وفق مقتضيات هذا العالم.
وما ينزله على عباده يأتي من أنساق أسمائية متعددة تتفاوت من حيث الإحاطة والإحكام، فهو سبحانه يتكلم من حيث منظومة أسمائه الحسنى والتي تصوغ الكلام (جماع الكلمات) بنفس اللغة التي يعلمها الرسول  وبالألفاظ التي يعرفها، وهذا كان فعلاً حياً متجددا أثناء فترة الرسالة، وتلك الصياغة هي عمل يليق بالحق وبمنظومة أسمائه، لذلك تحقق فيه التوازن والاتساق والانسجام فهو الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان، ولا بد أن تظهر فيه صفات الكمال التي اقتضته.
ولا يجوز وصف الحق أو كلامه بالقديم لأن الحق هو الذي أبدع الزمان فلا يتصف بوصف يوهم ارتباطه به وإنما هو سبحانه الأول والآخر، والقول بأنه سبحانه كتب القرءان في لحظة ما في الزمن السحيق وانتهي الأمر يعنى ارتباطه سبحانه بالزمان ويعنى أيضا تعطيلا، والحق أنه يكلم عباده متى يشاء بكلام يليق به ويظهر سمات كماله، وهو يكلم عباده باللغة التي يفقهونها، وهو قد ضمَّن هذا الكتاب الرسالة الخاتمة والدين الكامل فله على كل كلام آخر منسوب إليه سبحانه شرف الهيمنة، وهو الذي فضل هذا الكتاب على كل كتاب آخر منسوبا إليه وتمت به كلماته واكتمل الدين، فكان كتابه مبينا ومبيِّنا وتبيانا لكل شيء، فالتفاضل إنما هو في الكلمات الصادرة وليس في فعل الكلام ذاته الذي هو فعل من أفعاله، فكما فضَّل سبحانه بعض النبيين على بعض فلقد فضل هذا الكتاب على سائر الكتب، وآيات الكتاب الواحد تتفاضل أيضا فيما بينها بحكم الأسماء التي اقتضتها وللمجال الذي تتحدث عنه، فكلما كان الاسم أعظم إحاطة كان المجال أشرف وكانت الآية أفضل، فالآيات التي تتحدث عنه سبحانه هي احسن الحديث، ولها التقدم على سائر الآيات ولقد تكلم بها من قبل خلق السماوات والأرض، وثمة آيات تكلم بها بالنظر إلى أحوال الأمم الخالية، وثمة آيات تتضمن إشارات وتعليقات وتوجيهات بخصوص الوقائع اليومية الخاصة بفترة البعثة، وكذلك أوامر وشرائع جزئية خاصة بتلك الدنيا، فتلك الآيات صاغتها الأسماء المراقبة، وذلك في حين أن الأنساق العليا من الأسماء هي التي اقتضت الآيات التي تتحدث عن أسماء الله تعالى وسماته وأفعاله.
والله سبحانه هو الذي فضَّل هذا الكتاب وجعله مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه وتحدى به ولم يتحد بغيره ولم يستحفظ عليه غيره بل تكفل هو بحفظه وأعلن أنه به تمت كلماته صدقا وعدلا فلا تبديل ولا نسخ لها بل هو الناسخ لما تقدم من كتب وآيات، وكما يتفاضل رسله من حيث مرتبة كل منهم فكذلك يتفاضل كلامه من حيث ما يعبر عنه، فالكلام المعبر عن أسمائه وسماته وشئونه ليس كالكلام المعبر عن صفات وأفعال عباده، وكما لا يصح أن يوصف القرءان بالقدم أو أنه صفة أزلية كذلك لا يصح القول بأنه مخلوق، فهو سبحانه لم يذكر أبدا أنه خلق القرءان، وإنما هو تكلم فكان هذا القرءان الذي هو روح من أمره فأوحى به إلى نبيه، والقرءان لذلك قابل للجعل الإلهي والذي يمكن أن يترتب عليه صياغته بالعربية المفصلة بعد أن كان مدونا في أم الكتاب بلغة علوية محكمة.
وهذا الآية تبين شيئا من مقتضيات الاسم الإلهي "الْحَكِيم الْخَبِير"، وبداية فهذا الاسم متقدم بالضرورة على ما أحكمه وفصَّله، وفي ذلك حسم للجدل الذي وقع فيه المتكلمون وأوقعوا فيه الأمة وضلوا فأضلوا، ويجب العلم بأن لهذا الاسم القهر فوق العباد، لذلك كان للكتاب المستند إليه الهيمنة على سائر الكتب؛ فتضمَّن الدين الكامل، وتمت به كلمة الله صدقا وعدلا، فلا مبدل له، ولا يمكن أن يأتي بعده ما ينسخ شيئا من آياته.



*******

هناك تعليقان (2):

  1. «وهذا التفصيل يأخذ زمنه المعلوم، فهو يتم شيئاً فشيئا بعد التفصيل الأول الذي ترتب عليه أو الذي كان من لوازم الإنزال،»
    هل معنى ذلك أن التفصيل يختلف باختلاف الزمان؟ كان التفصيل الأول في زمن الرسول عليه السلام، وهو آخر الأنبياء. فهل كان هذا التفصيل تحت رعاية الله (إذا جاز لنا أن نقول هذا). والتقاصيل في العصور التالية من يقوم بها وقد انتهى الوحي؟

    ردحذف
  2. والتفصيل هو عمل حيّ متجدد، فأسماء الله تعالى لا تكفُّ عن العمل، وهو يتجلى في التأويل الذي ألمح الله تعالى في كتابه أنه سيأتيهم، وهو يستلزم ما يكفي من الخبرة، والمنوط بهم تلقي التأويل اللازم لكل عصر بعد تحقق التقدم والتطور المطلوبين هم المجددون الذين هم آلات وأدوات الاسم الإلهي "الْحَكِيم الْخَبِير"، أي بلغة عالم الحقائق من كان ربهم هو هذا الاسم، وهم يعلمون ذلك في أنفسهم بطريقة خفية غير مألوفة، ولكن ما يقدمونه غير ملزم لأحد ما لم يقدموا بين يديه ما يلزم من البراهين، فلقد خُتم مقام من يحق للناس أن يقول: "اتبعوني".

    ردحذف