الثلاثاء، 3 مارس 2015

الشــورى 11

الشــورى 11
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ

إن الله تعالى ليس كمثله شيء من حيث الكنه أو من حيث الذات أو من حيث الأسماء والسمات، أما من هم من دونه فلابد أن يشتركوا مع آخرين في شيء أو في أشياء، فهو سبحانه لا يشاركه من هم من دونه في شيء، فإن قالوا أليس هو السميع مثلا وثمة كائنات لديها حاسة السمع؟، فالجواب هو أن الاشتراك هنا إنما اقتضته طبيعة اللغة ليس إلا وإلا فإنه لا يدرى أحد ولا يمكن أن يدرك حقيقة اتسامه بتلك السمة، فهذا أمر فوق كل أدراك وتصور ولن يخطر أبدا ببال مخلوقٍ فان، فهو سبحانه يستعمل للحديث عن نفسه ما ألفه الإنسان من ألفاظ وما يمكن أن يبين شيئا من آثار سماته وإلا فكيف كان من الممكن للإنسان أن يعرف عنه شيئا، فنفى المثلية يعنى تنزهه التام عن كل ما يمكن أن يخطر يوماً ببال إنسان، فهو لا يدخل تحت مفهوم بشري ولا يخضع لأي إلزام كوني، ولا تجرى عليه القوانين والسنن التي يخضع لها كل من هم من دونه وما تلك القوانين إلا مقتضيات أسمائه فهي لا تحكم عليها وإنما تترتب عليها، فهي من آثارها ومقتضياتها، فالسمة الإلهية سمة واجبة ذاتية مطلقة بينما صفات من هم من دونه مخلوقة مقتضاه محدودة مقيدة.
وهو سبحانه ليس كمثله شيء من حيث أسماؤه وسماته وكذلك من حيث العلاقة بين سماته وذاته أو بين سماته وسماته أو من حيث الدلالات الحقيقية لتلك السمات، ولا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يقال إن سماته زائدة على ذاته إذ لا ينبغي قياسه على مخلوقاته، فإذا كانوا يتصورون مثلا أن العلم سمة زائدة على ذات الإنسان طبقا لما لديهم من مفاهيم وما ألفوه من تصورات فلا ينبغي تصور اطراد هذا الحكم عليه، ويجب العلم بأن كلمة "زائد" هذه لا تعنى شيئا، ذلك لأن العلم من لوازم الماهية الإنسانية فكيف يعد زائدا على ذات الإنسان؟ إن تصورهم هذا يعنى أنهم يخلطون بين العلم كملكة أو كصفة وبين العلم كمجموعة من المعلومات أو البيانات، والصفة لا تثنِّي الذات وإنما تثني صفة مثلها.
ويجب العلم بأن لدى الإنسان ملكة ذهنية له بها القدرة علي التجريد فهو يستطيع بامتلاكها وإعمالها أن يتصور مثلا العدد دون المعدود وأن يتعامل مع الأعداد ككينونات حقيقية وأن يجرى عليها عمليات جبرية كما أنه يستطيع أن يجرى أمثال تلك العمليات على المؤثرات الرياضية (Mathematical Operators) والتي لا معنى لها بدون الدوال (Functions) التي تؤثر عليها، ولكن تلك الإمكانية الذهنية لا ينبغي أن تضله عن حقيقة الأمر، أما الحق سبحانه فذاته أحدية صمدية، وهى في لطفها المطلق وبساطتها المطلقة لها حقيقة لانهائية مطلقة مفصلة بكل ما هو له من السمات.
والذات من حيث كل سمة اسم وجودي، وهو دائما على ما هو عليه، وكل ما هو مشهود من الكائنات والظواهر هي مظاهر تفصيل كماله المطلق، فهو ليس في سكون مطلق بل إنه كما قال عن نفسه: {كل يوم هو في شأن} فلا بد أن تتنوع تجلياته، ولما كانت تلك التجليات لا تتناهى ولما كانت الكائنات والكيانات والظواهر التي يقتضيها الظهور مقيدة محدودة كان لابد من خلق الإطار الزمكانى فوجد مع الكائنات، فالذي اقتضاه هو ضيق العالم المحسوس مع لا تناهى التجليات وتنوعها، ولما كانت الأسماء انساقا من حيث الإحكام والتفصيل كانت تجلياتها كذلك وكانت الوحدات الزمنية أو الأيام اللازمة لذلك كذلك، لكل هذا كان الزمان نسبيا، أما الذات من حيث حقيقتها الأحدية المطلقة فإنها الحاكمة على الزمان والمحيطة به من حيث كافة الأسماء، ولا قبل للإنسان المقيد المحدود بتصور كائن خارج ما ألفه من إطار زمكانى، وهو بالأحرى لا يمكن أن يتصور من أحاط بكل إطار وخلقه، فلا يمكن للإنسان أن يدرك كيفية إحاطة الذات بالوقائع الماضية أو الحاضرة أو المستقبلة، أما الذات فلها الإدراك الشامل بكل أمر من حيث أسماؤها ومن حيث آلاتها التي هي من مخلوقاتها، فلو تخيل الإنسان أن ثمة كائنا له أعين بعدد كل وحدات الوجود الأولية بحيث يستطيع الإحاطة بكل الصور الناتجة عن ذلك دون أن ينشغل بصورة عن الأخرى فإن الحق سبحانه أجل وأسمي من كل ذلك إذ هو سمع كله وبصر كله وعلم كله.
---------------
إنه حتى لا يظن ظان أن النفي الوارد في الآية يعنى أنه لا يتصف بأية سمات (صفات) فإنه أردفها بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} فوصف نفسه بسمات لا تتصف بها إلا ذات حية حقيقية، لذلك لا يصح استخدام الجزء الأول لنفى السمات، وإنما يستخدم الجزءان معا لنفى أن تكون ذاته كذوات الناس أو سماته كصفاتهم، فسماته واجبة بمعنى استنادها إلى ذاته التي لها الوجود المطلق والكينونة المطلقة وبمعنى لا تناهى كل سمة من حيث المدى والقوة والكمال والتأثير، أما صفات كل من هم دونه فهي ليست كذلك فهي من لوازم ماهيات محدودة شاءها وقدرها ثم أنعم عليها بأن أوجدها وأبرزها، فهي صفات كائنات ذات وجود لا يقارن بوجوده، كما أن تلك الصفات محدودة الأثر والمدى والكمال، أما ذاته سبحانه فلها اللطف المطلق الذي لا تجسد فيه ولا تفاوت وبه يكشف عن كل أمر لطيف فبه يعرف كل شيء ولا يعرف هو بشيء وإنما يعرف بتعريفه هو وتعرف سماته بمظاهرها وآثارها ومقتضياتها من القوانين والسنن وغيرها، وهو الحق المبين لأن به يتحقق ويظهر كل شيء، فبه يستدل علي الأشياء والقوانين فلا معني لها ولا مغزي إلا به.
إن كل ما ينسب إليه سبحانه إنما ينسب إليه كما يليق به مع الإقرار والتسليم بأنه ليس كمثله شيء، فلا يمكن أن يدركه الإنسان على ما هو عليه، وهذا أمر لا سبيل إلى رفعه أو نقضه أبدا، ذلك لأن الإنسان لن يرى أمرا منه إلا في مظهر ما ويبقى هو الباطن المطلق، أما المظهر فليس هو وإنما هو مقيد بهذا الإنسان ومدى سمو كيانه الجوهري، وهذا أمر لا سبيل إلى نفيه إذ بانتفائه ينتفي الإنسان نفسه.
إن كل كيان خلقي أو أمري هو متميز عن غيره وإن ماثله في النوع أو الجنس، فالإنسان مثل لإنسان آخر من حيث الإنسانية وإن اختلفا في كثير من الأمور من بعد ذلك، أما الحق سبحانه فالمثل منفى عنه نفيا ذاتيا مطلقا فليس كمثله شيء في ذاته أو سماته أو سننه أو أفعاله، ولا يجوز إطلاق لفظ الشيء عليه صراحة وإن جاز ذلك أحيانا من الناحية اللغوية فقط، ذلك لأن الشيء هو ما كان عن مشيئته، فهو مترتب على المشيئة وتالٍ لها في حين أن المشيئة ذاتها هي جماع القوانين والسنن التي هي مقتضيات أسمائه وسماته، ولذلك فإن أسماءه وبالأحرى ذاته ليس مجالات لمشيئته، أما ذاته فهي ليست مجالا لأسمائه وسماته، بل إن تلك الأسماء هي من لوازم ذاته.
*******
إن هذه الآية تنفي أية مشابهة بين الله تعالى وبين مخلوقاته، والإنسان يرى ببصره مخلوقات مثله، فهو يرى ببصره الأشياء، ولذلك لا يمكن أن يرى ربه ببصره، وهذه بديهية، فآلية عمل الجهاز الإنساني البصري معلومة، وهو بحكم تكوينه لا يلتقط إلا حيزا صغيرا من الموجات الكهرومغناطيسية، فالعين البشرية النموذجية تستجيب لأطوال موجية في الهواء من حوالي 380 إلى 750 نانومتر، وهذا المجال من الطيف الكهرومغناطيسي يقابل 400-790 تيرا هيرتز، ولله تعالى الإحاطة المطلقة بكل الطيف الكهرومغناطيسي، وهو ليس بجسم لينعكس من عليه الضوء، فيجب ألا يتصور إنسان أنه يمكن أن يرى ربه في ذاته بعيني رأسه.
والله سبحانه لم يتجل بذاته لموسى في صورة النار، وإنما أراه بقدرته المطلقة نارا، كما أسمعه نداءً من الشجرة ليجذبه إلى الوادي المقدس طوى، ولقد كلَّم الله تعالى موسى، وهذا الكلام هو فعل من أفعاله، لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى، ولذلك وردت له صيغ متعددة موزعة على بعض سور القرءان، فهو كلام يعطي أكثر من صيغة ممكنة، وكلام الله لعباده هو من الآيات المتشابهات التي لا يمكن للإنسان أن يحيط بها أصلا ولا أن يعلم تأويلها.
والحق هو أن النفوس الراقية تنتابها حالات من الإحساس القوي بالحضور الإلهي يترتب عليها سماع كلام تدرك بالضرورة أنه لله تعالى، واختص موسى بأنه بلغ به هذا الأمر ذروته وكماله، وكان هذا حدثا سعيدا في التاريخ الجوهري للبشرية، لذلك احتفى به القرءان.
وقد يبلغ الإحساس بالحضور الإلهي إلى أن تمثل الملائكة والنفس للإنسان هذا الحضور في أسمى وأجمل ما تعرف النفس من الصور، فيجب العلم بأن هذه الصور ليست هو وإنما تشير إليه.
والاسم "السَّمِيعُ البَصِيرُ" هو من المثاني الذاتية العظمى، فهو خاص بالكيان الإلهي، والله تعالى يسمع ويرى من حيث هذا الاسم، وبه يجب أن يستعيذ الإنسان من شر الناس وخاصة ذوي الكبر منهم. 
فالاسم "السَّمِيعُ البَصِيرُ" من الأسماء التي تشير إلى أن لله سبحانه كياناً حقيقياً فعالاً، وأنه أجلّ من أن يكون مجردَّ معنى أو نسقاً من القوانين أو نظاماً من النظم، والحق هو أن له سبحانه الإحاطة بكل المعاني والقوانين والنظم، فهي من مقتضيات أسمائه وسماته.
*******


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق