الثلاثاء، 10 مارس 2015

أسس التعامل مع القرءان الكريم

أسس التعامل مع القرءان الكريم

إنه لكي يتعامل المرء مع كتاب الله العزيز يجب أن يعرف ما يلي وأن يعمل بمقتضياته:

1.         إن من أركان الدين العظمي والأساسية الإيمان التفصيلي بالقرءان ووجوب اتباعه وتلاوته وترتيله وإعمال الملكات القلبية الذهنية والوجدانية فيه وتزكية النفس به.
2.         إن القرءان هو كلام من هو القاهر فوق عباده ومن له العلو الذاتي المطلق على كل ما خلق وأوجد، لذلك يجب الحذر والتزام الأدب عند الحديث عنه أو التعامل معه.
3.         إن القرءان هو كلمة الله التامة والرسالة التي اكتمل بها الدين الإلهي الواحد، وسيظل كذلك، فلقد ختمت النبوة، وبختمها خُتمت الرسالات.
4.         إن هذا الكتاب هو المرجع الأوحد في الأمور الدينية الكبرى، ولذلك كان من أركان الدين العظمي الإيمان التفصيلي به ووجوب اتباعه وتلاوته وقراءته وترتيله وإعمال الملكات القلبية الذهنية والوجدانية فيه وتزكية النفس به، والأمور الدينية الكبرى هي:
a.    أسماء الله الحسني وكذلك السمات والأفعال والشؤون والسنن الإلهية.
b.   أمور عالم الغيب الضرورية للإنسان واللازمة لتحقيق مقاصد الدين.
c.    مقاصد الدين العظمي والفرعية وسبل تحقيقها.
d.   أركان الدين الكبرى، وتفاصيلها من الأمور الكبرى.
e.    سمات وخصائص الدين.
f.     السمات والخصائص القرءانية.
g.    أسس التعامل مع كتاب الله.
h.   منظومة القيم والمعاني والسنن الإسلامية (المنظومة المعنوية الإسلامية أو المنظومة الأمرية الرحمانية).
i.     منظومة السنن الخاصة بالإنسان المخير.
j.     منظومة الأوامر الشرعية.
k.    منظومة السنن التشريعية.
l.      المصطلحات الشرعية أو الدينية.
m. موازين الأوامر والأعمال.
5.         إن هذا الكتاب هو بلسان عربيٍّ مبين بكل ما يعنيه ذلك، فلابد لمن يريد التعامل معه من أن يكون لديه السليقة العربية وأن يعلم وأن يفقه الأساليب العربية والقواعد النحوية واللغوية العربية.
6.         إن هذا الكتاب هو المرجع الرئيس في أمور الدين الثانوية وقواعد اللغة العربية ومعاني كلمات اللغة العربية المستعملة فيه، لذلك فله الهيمنة على سائر المصادر أو المراجع الأخرى؛ فلا يجوز تقديمها عليه ولا يجوز الحكم عليه بها.
7.         إن للقرءان منظومة سمات ثابتة بما هو فيه من الآيات، لها الحكم والهيمنة على كل ما يختص به، فلا يحق لأحد أن يقول فيه ما يتعارض معها، ولها الحكم على كل ما هو من دون القرءان من مصادر للعلوم الدينية، ومن المنظومة أنه أحسن الحديث، وهو أحسن القول، وهو أحسن تفسيرا، فيجب أن يؤخذ في الاعتبار دائما منظومة سمات القرءان.
8.         بمقتضى سمات القرءان فللقرءان الهيمنة علي سائر المصادر أو المراجع الأخرى وهي إنما تستمد شرعيتها ومصداقيتها منه فلا يجوز تقديمها عليه ولا تحكيمها فيه، وبالأحرى لا يجوز القول بأنها تبطل بعض أحكامه، والمصادر التي لا ذكر لها فيه لا حجية لها أصلا، والمصادر الأخرى هي: السنن العملية المنقولة بالتواتر الحقيقي، وما نُسِب إلى الرسول من سيرة أو أقوال أو أفعال بشرط إمكان اندراجه في الإطار العام لدين الحق المستخرج من القرءان؛ فهذا هو المعيار الحاكم، وآيات الله في الآفاق والأنفس والسنن التاريخية هي من مصادر المعرفة الدينية لأنها تشير إلي سنن الله التي هي مقتضيات أسمائه، وهي التي يمكن أن تحسم أمر كثير من المرويات الظنية، ومشروعية ما هو منسوب إلى الرسول تستند إلى الأوامر القرءانية له بأن يعلِّم المؤمنين وأن يزكيهم، فلابد أنه صدرت منه أقوال بمقتضى ذلك، وكذلك تستند إلى الأمر الإجمالي باتباع ملة إبراهيم وإلى الأوامر بالتأسي به وبطاعته.
9.         هذا الكتاب يتضمن كلمات الله وآياته وسننه التي لا تبديل لها ولا تحويل.
10.      لذلك الكتاب الهيمنة على سائر المصادر أو المراجع الأخرى وهي إنما تستمد شرعيتها منه فلا يجوز تقديمها عليه.
11.      إن للقرءان منطقه الخاص وموازينه الخاصة وتلك هي أصدق الموازين، ولقد أُنزِل بالحق والميزان، لذلك فهو الذي يعطى لكل أمر وزنه الحقيقي.
12.      إن القرءان هو الصدق وهو أحسن الحديث وهو أحسن القول، وهو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
13.      إن القرءان الكتاب تضمن الأصول الكبرى وسكت عن بعض الأمور، ولكنه ما فرَّط في شيء مما هو لازم لتحقيق مقاصده، فما سكت عنه إما لأنه تركه في دائرة العفو والإباحة وإما لأنه بيَّـن للناس سبل العلم به وجعل من مهامهم البحث عنه، ولكيلا يكون على الناس في الدين من حرج، ولكي يكون في ذلك ابتلاء لهم، ولكي يُعملوا ملكاتهم فتتزكى بذلك أنفسهم، ويجب أن يؤمن الجميع بأنه سبحانه لا يضل ولا ينسى، فهو ليس بحاجة إلى من يستدرك عليه.
14.      من علامات صحة المنهج وكونه قرءانيا حقيقيا أنه بإعماله يجد القرءان بالفعل تبيانا لكل أمور الدين. 
15.      إن القرءان يتضمن أنساقا من التعليمات، وعلى كل فرد أن يدرك ذلك حتى يعلم ما هو مطلوب منه بالنسبة إلى مرتبته فلا يحمِّل نفسه ما لا طاقة لها به ولا يقصِّر فيما هو منوط به، فلا يجوز أن يحمِّل الفرد نفسه بنسق الأوامر الخاص بالأمة، فما يتعلق بعقاب السارق مثلا هو أمر منوط بالأمة جمعاء لا إلى كل فرد على حدة، وبالنسبة إلى القائم على الأمر فإن العبادات الفردية لن تجديه نفعا إذا ما طغى وبغى وظلم وأفسد ولم يقم بالقسط ولم يحكم بين الناس بالعدل وبخسهم أشياءهم وانتهك حقوقهم ولم يترك الأمر شورى بينهم، فمن تولى أمر الناس فالأركان الملزمة له تجاههم تتقدم على الأركان الفردية.
16.      إن كاتب وقائل القرءان الذي أحكم آياته وفصَّلها وبيَّنها هو الله تعالى نفسه، فلابد لذلك من تجلي سماته فيه إن صفات القرءان هي من سمات قائله، فالقرءان هو الحق، وهو العلى الحكيم والعزيز والحكيم والمجيد والعظيم والكريم والحكيم والمبين والمهيمن، وذلك يقتضي أن يكون تام التناسق؛ لا اختلاف فيه، وأن يكون مجمعا للحقائق التي يجب التسليم بها وأن يكون عزيز الجناب مهيمنا على كل ما هو سواه من مصادر العلوم الدينية، كذلك فإنه لا يعطي أسراره إلا لمن تأدب معه وعرف له قدره.
17.      إن هذا القرءان هو روح من عالم الأمر كما أن هذا الكون الظاهر هو من عالم الخلق، والخلق والأمر لله تعالى، والعالمان من مقتضيات أسمائه الحسنى، وهي تشكل منظومة واحدة متسقة لا تعارض فيها ولا تضاد ولا تناقض فلا يمكن أن تتعارض آيات عالم الخلق مع آيات عالم الأمر، كذلك لا يمكن أن تتعارض مدلولات الآيات، ذلك لأن الأسماء تشير إلى سمات هي لوازم الحقيقة الواحدة الأعظم أي الحقيقة الإلهية.
18.      إن الكيان الأمري قابل للجعل، ولقد كان القرءان في أم الكتاب عليا حكيما، ثم تمَّ تفصيله وإنزاله قرءانا عربيا، وهو مازال أيضا في أم الكتاب عليا حكيما.
19.      إن الآية هي صياغة باستخدام مفردات العالم المعنيّ، فهي إما أن تتكون من كلمات لغوية أو من كلمات وجودية، وهي تشير إلى السمة الإلهية التي تستند إليها وهى أيضا علامة عليها، لذلك ختمت كثير من آيات القرءان بالأسماء المفردة أو المثاني.
20.      إن من يظن أنه يمكن أن يكون ثمة تعارض بين آية من آيات الكتاب وبين آية من آيات الكون هو مخطئ في ظنه وعليه أن يعالج جهله وأن ينزه القرءان عن سوء ظنه وأن يزكى نفسه حتى يهتدي إلى الصواب.
21.      إن الكتاب العزيز باعتباره من مقتضيات منظومة الأسماء الحسنى التي هي لوازم من له الوجود المطلق والحسن المطلق والأحدية والتي هي بذلك منظومة متسقة لا يمكن أن يكون فيه أي اختلاف أو نسخ ولا يمكن أن تتناقض آياته، فمن ظن وجود شيء من ذلك فليتهم نفسه وتفسيره أو تفسير شيخه، وعليه ألا يهرع إلى القول بالنسخ، وليعلم أن الآيات التي تعالج موضوعا واحدا لا يمكن أن تتنافى أو تختلف، وإنما يبيِّن بعضها بعضا ويفصِّل بعضها بعضا.
22.      إن هذا القرءان هو في ذاته برهان مبين، فهو بنفسه يبين صدق نفسه ويقدم الدليل على صحة ما ورد فيه ويصدق بعضه بعضا فهو حق من لدن حق، لذلك فإن نصوصه الواضحة تقدم أحكاما مسبقة وبينات على الناس أن يسلموا بصحتها وأن يبدؤوا منها إذا أرادوا أن يوفروا على أنفسهم الوقت والمجهود وأن يصلوا إلى الحقيقة من أفضل طريق.
23.      إن للقرءان منطقه الخاص وموازينه الخاصة وتلك هي أصدق الموازين، ولقد أُنزِل بالحق والميزان، لذلك فهو الذي يعطى لكل أمر وزنه الحقيقي حتى لا يتضخم أمر جزئي فرعى على حساب أمر كلى أصلى.
24.      إن للقرءان نظمه الفريد وأسلوبه الخاص في معالجة الأمور وتناولها، فهو مصوغ بحيث يقدم ما لا يتناهى من المعلومات في حيز معقول وبأسلوب ميسر للذكر.
25.      إنه لابد من تفسير الآية أولا من حيث السياق الذي وردت فيه ومن حيث العبارة التامة التي تتضمنها ومن حيث القرءان كله ككتاب كلي متشابه متسق، فإن ذلك من دلائل إدراك أن هذا الكتاب من لدن حكيمٍ عليم وفى ذلك المسلك تبجيل وإجلال لتلك الحكمة، فإذا ما أحكم الإنسان هذا الأمر فليتدبر الآية كنص مطلق.
26.      الآيات القرءانية التي تشترك في معالجة مسألةٍ ما كلها متكافئة وكل آية منها لها حجيتها الكاملة، وهي أشبه بمصابيح موصلة على التوالي، وهي بذلك تضيء كافة جوانب المسألة؛ لا يجوز لأحد فصل أحدها أبدا ولا استبعاد أحدها أبدا، وإلا فلن يرى حقيقة المسألة، فلا يجوز إهمال أو استبعاد أية آية تحت أية حجة من الحجج، فمن الحجج الباطلة الزعم بأن الآية منسوخة أو إنها تتضمن حكما مرحليا، أو إنها من القصص التاريخي الذي انتهى حكمه أو دوره.
27.      إن القول بوجود آيات منسوخة في القرءان يعني بالضرورة الكفر بهذه الآيات وجحد مضمونها، ومن كفر ببعض الكتاب فقد كفر به كله، ومن قال بمثل ذلك فإنما تصور في وهمه أنه يوجد اختلاف في القرءان لا سبيل إلى دفعه إلا بإلغاء آيات منه، وهو بذلك إما أن يكون مكذبا بما وصف الله به كتابه أو يظن أنه من عند غير الله أو يكون متبعا لغير سبيل المؤمنين أو جاهلا لا يعي تبعات أقواله.
28.      إن القرءان كتاب متسق متشابه تتكامل آياته فيوضح بعضها مشكل البعض الآخر ويبين مبهمه ويقيد مطلقه ويفصِّل مجمله، وإلا فإن الآية تبقى كما أرادها الله لها، فثمة آيات متشابهات، وثمة آيات سيأتيهم تأويلها عندما يتقدم بهم العصر، أو عندما يحين وقتها، وهذا من طبيعة هذا الكتاب الذي هو صالح لكل عصر.
29.      ما أوحاه الله تعالى للنبي الخاتم له أسماء عديدة، والاسم يشير إلى سمة، وكل سمة من سمات هذا الوحي لشدة تجليها ولجلال ورسوخ حقانيتها أصبحت بمثابة علم عليه، فهو القرءان وهو الكتاب وهو الذكر وهو الفرقان، وهو الهدى وهو النور وهو الحق وهو الصدق، فكلها أسماء الوحي من حيثيات متعددة، ولا يجوز القول بأن آياتٍ منه هي من الكتاب وليست من القرءان.... الخ.
30.      إن القرءان هو الذكر، وهو الذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وهو ميسر للذكر، فالقرءان هو المجد والشرف الرفيع لمن اتخذه إماما، وهو سبيل الإنسان للتحقق بذكر ربه.
31.      إن التقصير في حق كتاب الله بأية صورة من الصور هو من كبائر الإثم، لذلك فمن الآثام الكبرى اتخاذه مهجوراً أو تقديم المصادر الثانوية عليه أو التكذيب بآياته ولو بلسان الحال أو إبطال آياته بالزعم بأنها منسوخة أو من القصص أو بأنها تاريخية وانتهى مفعولها.
32.      إن للكتاب العزيز نهجه الخاص في تقديم المعلومات؛ ولقد اتبع منهج التدرج في تقديمها للناس، فلم يكشف لهم مثلا عن الأسماء الحسنى دفعة واحدة ولم يسردها كلها في موضع واحد أو في سورة واحدة، بل ذكر كل اسم في سياق آية أو آيات هي من مقتضياته أو تبين بعض معانيه أو السنن التي اقتضاها، كذلك لم يسرد كل أركان الدين في موضع واحد منه وذلك للأسباب الآتية:
a.         لأن الله سبحانه ليس كمثله شيء وكذلك كتابه الخاتم كان لابد ألا يكون ثمة مثله كتاب.
b.        لأسلوبه الإعجازي الفريد وتميزه ككتاب.
c.        حثاً للإنسان على استعمال ملكاته الذهنية والوجدانية لاستنباط الأسماء والأركان فتتحقق مقاصد الدين العظمى.
d.        لأنه ليس المراد من الآية أو السورة القرءانية مجرد سرد مجموعة من المعلومات كما هو شأن الكتب الأخرى، وإنما لكي تعمل القراءة عملها في كيان الإنسان، فتلاوة القرءان هي ركن ركين من أركان الدين، وكما أنه لابد للدواء الفعال أو المطهر القوى من تركيب معين كذلك كان لابد من أن يأتي النمط القرءاني هكذا ليحقق مقاصد عديدة في نفس الوقت، فالسورة القرءانية لا تهدف فقط إلى مجرد تقديم معلومات أو تشريعات، بل هي كيان أمري كامل له مهامه ومقاصده
e.         لأنه أتى لكي يزكى الإنسان ككيان كلى واحد، وكونه أتى كذلك يؤدى إلى إيقاظ واستثارة وتنمية ملكاته الباطنة.
f.          لأنه -كما قال الله تعالى- كتاب متشابه، ولقد اقتضت منظومة الأسماء الحسني ألا يفيد منه وألا يهتدي به إلا من كان أهلاً لذلك وسعي إليه، ومثل هذا سيتلقى التأويل اللازم لعصره والذي يمكنه الإفادة منه، أما الفاسق فلن يزداد به إلا ضلالا.
g.        لأنه ثمة توازنات عددية على مستويات متعددة يتصف بها القرءان ستتكشف للناس حينًا بعد حين وهي من دلائل إعجازه الدائم رغم أنف رجال الكهنوت.
33.      القرءان لا يستمد مصداقيته وشرعيته وحجيته من مرويات ظنية ولا من سلاسل إسناد ملفقة أو واهية وإنما يستمدها من ذاته وإنما تصح المروية باستنادها إلى ركن ركين من القرءان الكريم، فهو المهيمن على غيره من المعلومات والكتب.
34.      يجب العلم بأنه لو دوِّن كل ما يتعلق بعصر البعثة تدويناً شرعيا موثقا ومُحِّص تمحيصا دقيقا لما نتج عن ذلك أمر لم يتضمنه الكتاب العزيز أو يخالفه في شيء ما، فدين الحق محفوظ بحفظ القرءان الكريم.
35.      إن القرءان كافٍ تمامًا لتحقيق مقاصده لو عمل الإنسان بمقتضى أوامره.
36.      الكتاب العزيز تبيان لكل ما أراد بيانه وتحقيقه من أمور الدين، فما فيه يهدي للتي هي أقوم وهو كافٍ تماما لإخراج الناس من الظلمات إلي النور.
37.      لقد أعلن الله سبحانه بكل جلاء أن هذا القرءان هو قرءان عربي وبلسانٍ عربيٍّ مبين؛ أي إنه قد صيغ وفقا لقواعد وألفاظ وأساليب ومقتضيات تلك اللغة، فلابدٍ من إلمامٍ كافٍ باللسان العربي لفقه آيات القرءان، وهذه بديهية لا يجوز لأحد أن يماري فيها، ومن المعلوم أن اللغات قد وضعت أصلا للدلالة على ما في العالم الطبيعي المعروف والمألوف للإنسان مثل أعضاء جسمه وما هو شديد الالتصاق به من الأمور والكائنات وكذلك للدلالة على أحاسيسه البسيطة، وكلما ارتقت الحضارة كلما اشتدت الحاجة إلى استخدام المألوف من الألفاظ للدلالة على مستحدثات ومعانٍ وأحاسيس أكثر تعقيدا، ومن البديهي أنه ليس لدى الإنسان من ألفاظ للدلالة على ما هو في عالم الغيب، كما أن من أَلِـف هذا العالم ولديه ألفاظ للتعبير عما هو فيه ليس لديه ألفاظ للدلالة على الشؤون الإلهية، ولكنه سبحانه تنزل واستعمل الألفاظ المألوفة في عالم الشهادة للدلالة على أسمائه وسماته وأفعاله حتى يساعد الناس على تحقيق سعادتهم وكمالهم، ومن هنا كانت الآيات المتشابهات؛ فهي الآيات التي تعبر عن أمور الغيب المطلق أو النسبي بما هو مألوف للإنسان من الألفاظ المستعملة للتعبير عما هو في العالم المألوف.
38.      الإعلان بأن هذا القرءان هو قرءان عربي يعني أنه قد صيغ وفقا لقواعد وألفاظ والأساليب البلاغية والفنية ومقتضيات تلك اللغة، ومن البديهي أنه ليس لدى الإنسان من ألفاظ للدلالة على ما هو في عالم الغيب، كما أن من ألف هذا العالم ولديه ألفاظ للتعبير عما هو فيه ليس لديه ألفاظ للدلالة على الشؤون الإلهية، ولكنه سبحانه تنزل واستعمل الألفاظ المألوفة في عالم الشهادة للدلالة على أسمائه وسماته وأفعاله حتى يساعد الناس على تحقيق سعادتهم وكمالهم، ويلزم القول أيضا بأن لأسماء أعضاء الإنسان كالرأس والوجه واليد مثلا استخداماتها المجازية وخاصة إذا ما استخدمت في تركيبات لغوية معينة، فإذا ما استعمل الله سبحانه تلك التركيبات فينبغي أن تفقه في هذا الإطار، ويجب العلم بأن الله سبحانه إذا ما أراد النص على انتساب اسم ما أو سمة ما إليه فإنه يستخدم أساليب تقريرية خاصة مثل: واعلم أن الله عزيز حكيم، إن الله على كل شيء قدير، إن الله لقوي عزيز، فهو لم يقل أبدا إن لله يدين أو إن لله سـاقا، وفي كل الأحوال يجب العلم بأن الله تعالى قد تعالى علواً مطلقاً فوق كل ما لدى الإنسان من مفاهيم وتصورات.
39.      يجب العلم أن القرءان هو في أم الكتاب عليٌّ حكيم، وأن إنزاله يتضمن تفصيله وجعله قرءانا عربيا، والحروف المقطعة الموجودة في أوائل بعض الصور تشير إلى أصله العلوي، ويتفق اللفظ العلوي واللفظ العربي لبعض الأسماء الحسنى، والباقي يتضمن لفظه العربي من الحروف ما يشير إلى أصله العلوي.
40.      الكلمات التي نسبها الله تعالى لنفسه أو أضافها إليها في آيات متشابهات لها معانيها في اللغة العلوية، فمن يدرك ذلك يفقه أنه لا مجاز في مثل هذه العبارات، ومثل هذا هو في حكم النادر الذي لا يقاس عليه، ولكن هذه الآيات –كما سبق القول- تستعمل المجاز المشهور في اللسان العربي، فالأمران متسقان تمام الاتساق، والمعاني المجازية متسقة مع المعاني العلوية، هذه العبارات لا ظاهر لهل لتُصرف عنه بالتأويل، فلا يجوز تصور أنه توجد فما يُسمَّى هاهنا بالمعنى المجازي هو الأصل، ومعاني الآيات المتشابهات المطلوب العلم بها موجودة في السياق الذي وردت فيه، ولا يجوز تصور أنه تنبعث من الكيان الإلهي جوارح كاليد أو الساق أو القدم ....الخ. 
41.      الكتاب يتضمن آيات متشابهات، ولقد نشأ مفهوم التشابه من استعمال الألفاظ المألوفة للناس والتي لها دلالات معينة أكثرها حسي عنده للدلالة على ما ليس مألوفًا له، فمن المعلوم أن اللغات قد وضعت أصلا للدلالة على أعضاء جسم الإنسان وما هو شديد الالتصاق به من الأمور والكائنات وكذلك للدلالة على أحاسيسه البسيطة، وكلما ارتقت الحضارة كلما اشتدت الحاجة إلى استخدام المألوف من الألفاظ للدلالة على مستحدثات ومعان وأحاسيس أكثر تعقيدا، ومن البديهي أنه ليس لدى الإنسان من ألفاظ للدلالة على ما هو في عالم الغيب، كما أن من أَلِـف هذا العالم ولديه ألفاظ للتعبير عما هو فيه ليس لديه ألفاظ للدلالة على الشؤون الإلهية، ولكنه سبحانه تنزل واستعمل الألفاظ المألوفة في عالم الشهادة للدلالة على أسمائه وسماته وأفعاله حتى يساعد الناس على تحقيق سعادتهم وكمالهم، فعلى الإنسان أن يعي هذه الحقيقة جيدا وألا يحاول إلزام الآيات المتشابهات بأفكاره وتصوراته ومفاهيمه، وأن يعلم أن تصوراته ومفاهيمه ستتحسن بالرقي والتقدم فيمكنه عندها إدراك واستيعاب تأويل أفضل للآيات المتشابهات.
42.      إن القرءان هو كلام الله أي يتضمن كلماته، وكلمته هي العليا، وهذا الكتاب يتضمن الشريعة التي أُمِر الناس بها والسنن التي يجب عليهم العمل بمقتضاها، ولا يمكن أن يصدر عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ ما يخالفها وقد عرفها الناس به، ولا يمكن أن يصدر عن السابقين الأولين أيضاً ما يخالفها، فإن نسب إليهم شيء من ذلك فقد يكون غير صحيح، وإلا فإنه ليس ثمة نص على أنهم كانوا معصومين من الخطأ، ولقد قصَّ الكتاب علي الناس كيف خالفوا وعصوا أحيانا وكيف كان يؤدبهم ويلزمهم الجادة، إن هذا الكتاب يعلو ولا يُعلى عليه ومنه تستمد المقاصد والقيم والسنن والأسس والقواعد لا من غيره وهو الأعلى أيضا من حيث الثبوت.
43.      إن هذا القرءان هو كلام الله، فهو يتضمن من كلماته، وكلمته هي العليا، وهذا الكتاب يتضمن الشريعة التي أمر الناس بها والسنن التي يجب عليهم الأخذ بها، ولا يمكن أن يصدر عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ ما يخالفها وقد عرفها الناس به، فهو الذي تلقاها من عالم الغيب، ولا يمكن أن يصدر عن السابقين الأولين أيضا ما يخالفها، فإن نسب إليهم شيء من ذلك فقد يكون غير صحيح، وإلا فإنه ليس ثمة نص على أنهم كانوا معصومين من الخطأ، ولقد قص الكتاب علي الناس كيف خالفوا وعصوا أحيانا وكيف كان يؤدبهم ويلزمهم الجادة، إن هذا الكتاب يعلو ولا يُعلى عليه ومنه تُستمد المقاصد والقيم والسنن والأسس والقواعد لا من غيره وهو الأعلى أيضاً من حيث الثبوت، ولقد زعم البعض أن ما يسمونه بالسنة (المرويات والآثار) قاضية على الكتاب ؟! وأن حاجة الكتاب إلى السنة أشد من حاجة السنة إلى الكتاب؟! وهكذا افتعلوا صراعات ومباريات وتنافساً بين الكتاب وبين ما أسموه بالسنة مع أن الحق سبحانه أعلن أنه جعل الكتاب تبياناً لكل شيء وتفصيلاً لكل شيء وأنزله مفصلاً وفصل فيه ما حرم عليهم، فمن هو الأصدق؟ ومن أصدق من الله حديثا؟ ولم يكتفوا بذلك بل إن ما أسموه بالسنة تتضمن مرويات تشكك في الكتاب العزيز وتنال من قدسيته ومن التعهد الإلهي بحفظه؛ فتزعم أن آياتٍ كثيرة بل سوراً لم تدون، وأن القرءان لم يجمع كله، وأنه قد أدخل عليه ما ليس منه، وأن فيه لحناً ستقيمه العرب بألسنتها، وأن داجن الحي أكلت بعض آياته وكان علي كل من وضعوا هذه المفتريات ومن فرضوها علي الأمة من الأسلاف والكهنوت أن يعلموا أنهم بذلك يكذبون بالوعد الإلهي بحفظ الذكر للناس وأن يعلموا أنه بقدر علو الله على خلقه فإن لكلامه العلو على كلام خلقه ولسننه أيضاً العلو والسيادة على سنن خلقه، فكل كلام إنما يتناسب مع قدر المتكلم ومرتبته، ولذا فإن الذين يحاولون جعل كلام الله مساويا لكلام غيره إنما يقترفون إثما مبينا ويكذبون بآيات الكتاب التي نصت على أن هذا الكتاب مهيمن على غيره وحاكم عليه، ولكن وجد من استبد به الحماس حتى زعم أن المرويات التي أسموها السنة حاكمة على الكتاب وقاضية عليه، إن الكهنوت يريدون إيهام الناس أن للكتاب العزيز مِثْل وهو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بينما هم يقرون ويعلمون أن المرويات قد أتاها الباطل من أقطارها وأحاط بها من بين يديها ومن خلفها حتى أصبحت نسبة الصحيح إلى الباطل أقل من واحد في المائة.
44.      وبالنسبة إلي كيفية الأداء العملي للشعائر مثلاً فإن القرءان ألزم الناس بالتأسي بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ وبطاعته فيما صدر بالفعل عنه وليس فيما نُسب إليه بالباطل، وكذلك أثنى على أخلاقه وأفعاله، كما أمره باتباع ملة إبراهيم، والرسول كان مجسدا لأوامر القرءان، ولذلك كانت سيرته وأخلاقه وأوامره من مصادر المعلومات والتعليمات، ولقد حرص الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ علي أن يتواتر عنه ما هم ملزمون به من أفعالٍ وسنن، فقولهم بأنهم ضربوا أكباد الإبل ليحصلوا على خبر منسوب إليه من أقصى الأرض هو حجة على خبرهم، وليس له!! كذلك أحال القرءانُ الناس إلى الآيات النفسية والآفاقية أي إلى الآيات الكونية فيجب اعتبار تلك الآيات مصادر للمعرفة والمعلومات، وهذا في الحقيقة إحالة إلى العلوم الطبيعية والإنسانية بلغة العصر الحديث، كما أمرهم بالنظر في عواقب الذين من قبلهم فجعل من التاريخ أيضا مصدرا للمعلومات.
45.      إن الله سبحانه قد فَصَّل ما حرَّم على الناس في أمر النكاح وفصَّل البيوت التي يحل لهم الأكل منها وكذلك فصل من يحل للمرأة أن تبدى لهم زينتها وكذلك فصَّل للرسول نفسه من تحل له من النساء كما فصَّل أمر الوضوء وآداب الاستئذان.....إلخ، لذلك فهو لم يكن ليعجز عن تفصيل كيفية أداء الصلاة أو غيرها من الشعائر في آية أو في بعض آية، ولكنه سبحانه لم يفعل لأن هذا الكتاب أريد به أن يكون الوثيقة الملزمة للناس إلى يوم الدين، وقد يأتي أقوام لن يكون لديهم من الوثائق الدينية غيره، لذلك فإنه رحمة بهم لم يقص عليهم ولم يلزمهم إلا بما يمكنهم الالتزام به وكان ذلك من أسباب التركيز على ذكر المقاصد والأركان الكبرى والسنن الهامة علهم يعملون على التحقق بها والعمل بمقتضياتها وإن لم يعرفوا أو لم يتمكنوا من أداء الصلاة مثلا لأي سبب من الأسباب، هذا مع العلم بأن مقاصد إقامة شعائر كالصلاة هي أركان دينية متقدمة عليها، ويلاحظ أيضاً أن الكتاب العزيز لم يتضمن كيفيات محددة للأركان التي هي أعظم من إقامة الصلاة مثل أركان ذكر الله وتزكية الكيان الإنساني أو إقامة صلة وثيقة بالله والإنفاق في سبيله وإنما نص فقط علي لوازمها الكبرى كي لا يكون علي الناس من حرج في الدين وحثاً لهم علي الاجتهاد والإبداع والإحسان في أدائها حتى تتحقق لهم مقاصدها..
46.      لا حاجة إلى معرفة ما يسمى بأسباب النزول لأن هذا الاصطلاح يتضمن تناقضا ذاتيا لا سبيل إلى دفعه وهو يتضمن مخالفة منطقية ومحاولة لإخضاع المطلق للمقيد والنص قطعي الثبوت للنص الظني، وكذلك لا حاجة إلى معرفة تواريخ نزول الآيات ذلك لأن الآيات متكافئة من حيث درجة المصداقية والحجية ومن حيث دلالاتها على الأحكام ومن حيث ما تتضمنه من الهدى، فمن أراد معرفة ما يريده الكتاب بخصوص أمرٍ ما فعليه أن يأخذ في اعتباره كل الآيات التي ورد فيها ذكر لهذا الأمر وعليه استقراؤها وتدبرها جميعا آخذا في الاعتبار أنه لا اختلاف في هذا الكتاب ولا تعارض وأنه ليس ثمة ما يوجب القول بالنسخ، والكتاب الذي يتضمن بينات وبديهيات ومعارف حقيقية يمكن للإنسان أن يقرأ أي جزء منه دون التزام بترتيب معين، وكتب العلوم مثلا يدرس الإنسان ما فيها من النظريات وفقا لمنطقها الخاص بغض النظر عن الترتيب التاريخي لاكتشاف النظريات، فللكتاب منطقه الخاص في ترتيب آياته وعلي الناس التعامل معه علي هذا الأساس، وهذا لا يتضمن نهيا للناس عن البحث مثلاً في الترتيب التاريخي لنزول الآيات، ولكن هذا البحث هو أمر أكاديمي يقوم به المختصون لاستكمال المعرفة التاريخية والأمة ليست ملزمة بانتظار نتائجه.
47.      إنه لا يجوز التعامل مع القرءان بحياد بارد، فهو كتاب الله الذي يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ، فمن أراد أن يطالع القرءان لينتقده وليلبس على الناس أمر دينهم فسيقضي على فرصته في النجاة ولن يبوء إلا بالخسران المبين، إنه لن يهتدي بالقرءان إلا من أراد الهدى، أي من كان يبحث بإخلاص عن الحق ليتبعه، قال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـذَا الْقرءان لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا} [الإسراء:41]، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقرءان مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً }الإسراء82، { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقرءان جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقرءان وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)}الإسراء، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً }الكهف57، {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ{124} وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ{125} }التوبة124، {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ }الأنعام25، {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قرءانا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيد} [فصلت:44]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين} [يونس:57]، {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين} [النحل:89]، {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51)} الحاقة.
48.      إن قاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لا تصلح كقاعدة عامة للتفسير، وإنما إذا أراد الإنسان معرفة الحكم العام أو المضمون القرءاني لأمر ما  فعليه أن يُجمِّع كل ما ورد في القرءان بخصوص هذا الأمر ثم يعمل ملكاته ويتدبر الآيات عاقدا العزم على الوصول إلى الصواب مستعيناً الله تعالى ومستعيذا بالسميع العليم من الشيطان الرجيم وداخلاً إلى حضرة القرءان متعلما وليس ناقدا، كما يجب أن يسترشد بما ثبت من كل عناصر الدين وقيمه ومنظوماته، أما ما يُسمى بخصوص السبب فهو لا يصلح إلا للاستئناس لأنه في الأغلب إنما ورد في مروية ظنية غير مقطوع بصحتها، ومن العجيب أن من أنكروا السببية في كل شيء قد أخضعوا لها القرءان الذي قالوا إنه صفة إلهية قديمة، وهكذا تبنوا دائما بإرشاد الشيطان كل ما يمكن أن يؤدى إلى القضاء على الأمة ومنع تحقيق مقاصد الدين العظمى، وذلك كان دائماً دأب الكهنوت في كل دين.
49.      إن ما سُمِّي بأسباب النزول لا يمكن أن يسمَّى أصلا باسم كهذا إذ كيف يكون اللاحق سببا للسابق؟ وكيف تكون المروية الظنية التي هي نفسها في حاجة إلى إثبات تفصيلا وبيانا لما هو ثابت ثبوتا قطعيا وهو أيضا تبيان لكل شيء؟ إن المرويات التي تتضمن ما يسمى بأسباب النزول كان من الممكن ألا تدون أصلا، ولقد تصدى الخلفاء الراشدون بكل قوة لكل محاولات تدوينها، ولقد أثارت تلك الأسباب من الحيرة والبلبلة أكثر مما قدمت من حلول حتى لقد اضطروا إلى الزعم بأن ثمة آيات أنزلت أكثر من مرة !!! ، إنه يجب القول بأن القرءان كافٍ تماما ومكتمل تماما ما فرط الله تعالى فيه من شيء يلزم لبيان ما يتضمنه، وهو بنفسه مصدق لنفسه وبرهان على صدقه ومفصِّل لنفسه، ولو امتثل الناس لأمره تعالى بتدبره لما هجروه ولما فروا منه إلى كل ما هو من دونه ولاكتفوا به عما سواه.
50.      يلاحظ أنه في الآيات المكية قد جرى التركيز الشديد على بيان حقوق الله تعالى وعلى توكيد العلاقة بينه وبين خلقه وعلى بيان أسمائه الحسنى وقربه من عباده وإحاطته بهم وعلى كيفية الوصول إليه والإخبات التام له وعلى سبل تزكية النفس أي جرى التركيز على كل ما يؤدى إلى تحقيق المقصدين الأول والثاني من مقاصد الدين، وما جرى التركيز عليه هاهنا هو ما يطالب به كل مسلم فرد أو جماعة مسلمة في كل الظروف حتى ولو كانت لا تملك بالكامل زمام أمورها بأن كانت مثلا تشكل أقلية في بلد غير إسلامي، والجماعة المسلمة ينبغي أن تكون مصدر هداية ورحمة ودعوة وإبلاغ وقدوة حسنة لغيرها من البشر، وليس لتلك الجماعة أن تعطى لنفسها من السلطات ما لم يعطه الله تعالى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ عندما قال له: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ} الأنعام66، {وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ }الأنعام107، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ}يونس108، {إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ }الزمر41، {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاء اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ }الشورى6، {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقرءان مَن يَخَافُ وَعِيدِ} ق45، {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ }الغاشية22، لذلك فأمر هؤلاء من حيث هم كذلك أن يلتزموا بنسق السنن الخاص بالدعوة وأن يعلموا أن الله تعالى يريد من البشر المخيرين أن يأتوه طوعا فإن أبوا فأمرهم موكول إلى ربهم وهو الرقيب عليهم وليس للجماعة الإسلامية أن تحاسبهم ولا أن تجعل من نفسها سوط نقمة أو أداة ترويع لهم، أما الآيات المدنية فقد تضمنت تفاصيل للأمور الكبرى بالإضافة إلي ما يلزم لتحقيق المقصد الأعظم الثالث وما يلزم لتصريف أمور الأمة الخيرة الفائقة.
51.      إن كل سورة قرءانية هي كيان أمري واحد متميز، ويؤدى ككيان واحد وظائف محددة، ويخاطب جوانب خفية من الذات الإنسانية ويمس فيها أوتارا حساسة ويوقظ فيها ما غفلت عنه، ولذا قد يتناغم كيان أحد الناس مع سورة بعينها أو مع مجموعة من السور، أما أسعد الناس فهو من يستطيع أن يتناغم كيانه مع القرءان كله كما يتناغم مع كل سورة من سوره، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ هو أسعد المخلوقات وأعلاهم مرتبة لأنه هو الذي تلقي القرءان كاملا مفصلا في قلبه ولبه، وهو الذي بينه للناس بسلوكه وسيرته وخلقه.
52.      إنه لمنظومة السمات القرءانية التقدم والأسبقية على كل الأمور الأخرى، فلا يمكن أن يتضمن الدين أي أمر يتعارض مع سمة قرءانية ثابتة.
53.      ترك القرءان التفصيل الدقيق والمصاديق لكثير من المصطلحات مفتوحا وقابلا للتطور والتغير مع ظروف كل عصر ومصر.
54.      إن المقاصد العظمى القرءانية يؤكد بعضها بعضا ويعضد بعضها بعضا، فالمقصد القرءاني الأول هـو تقديم العلم اللازم بأسماء الله الحسنى وبسماته وشؤونه وأفعاله ومقتضياتها من القوانين والسنن وأمور عالم الغيب، وهذا أمر لازم لكي يتحقق للإنسان المقصد الأعظم الثاني وهو أن يكون إنسانا ربانيا صالحا شاكرا مفلحا فائقا، أما تحقيق المقصد الرابع وهو إعداد وبناء الأمة الخيرة الفائقة فيستلزم وجود نصاب يعتد به من الربانيين الفائقين، وتلك المقاصد واضحة وبينة لمن يقرأ الكتاب ويتدبر، ومن الجدير بالذكر أن تلك المقاصد تشكل حلقة تغذية موجبة مستمرة وصاعدة.
55.      إن الكتاب يتضمن أنساقا من التعليمات، وعلى كل فرد أن يدرك ذلك حتى يعلم ما هو مطلوب منه بالنسبة إلى مرتبته فلا يحمِّل نفسه ما لا طاقة لها به ولا يقصر فيما هو منوط به، فلا يجوز أن يحمل الفرد نفسه بنسق التعاليم الخاص بالأمة، فما يتعلق بعقاب السارق مثلا هو أمر منوط بالأمة جمعاء لا إلى كل فرد على حدة، وبالنسبة إلى ولي الأمر فإن العبادات الفردية لن تجديه نفعا إذا ما طغى وبغى وظلم وأفسد ولم يقم بالقسط ولم يحكم بين الناس بالعدل وبخسهم أشياءهم وانتهك حقوقهم ولم يترك الأمر شورى بينهم.
56.      إن هذا الكتاب من لدن حكيم عليم كما أن آياته قد أحكمت ثم فصلت من لدن حكيم خبير، وهو تنزيل من الله العزيز الحكيم…، فالحكمة سارية وظاهرة في آياته، لذلك فلا بد لكل نسق من الآيات من حكمة أو مقصد على الإنسان أن يجتهد لمعرفته وعليه أيضا أن يعلم أن الغايات والحِكم والمقاصد مقدمة من حيث المرتبة على المظاهر والشكليات فضلا عن الوسائل.
57.      من الكتاب آيات محكمات هن أم الكتاب، فهي المرجع  وهى التي يُطالب بها كل فرد كما تطالب بها الأمة، وهى قطعية الدلالة على موضوعها لا تحتمل شكا ولا عذر لمن لا يأخذ بها، والآيات المحكمات ليست هي فقط الجمل والعبارات القرءانية بل إنها هي أيضا المعاني المحكمة التي تشير إليها الآيات أو مجموعات منها، كما أن الآيات يمكن أن تعطى معاني جديدة في كل عصر وأن يعلم منها الأواخر ما لم يعلمه الأوائل وأن يتفوق الخلف على السلف في إدراك دلالاتها وهذا لا يقلل من قدر السلف وإنما هو ما تمليه السنن الإلهية وما اقتضته من سنن كونية.
58.      من الكتاب آيات متشابهات مجالها هو الأمور الغيبية غير المألوفة للإنسان، فلا يستطيع الإنسان بالأصالة من حيث تقيده بأمور هذا العالم أن يدرك حقيقة تأويلها وإن كان يمكن أن يأتيه تأويلها في وقته المعلوم بأمر الله تعالى، وهذا لا يتنافى مع حقيقة أن لهذه الآيات تفسيرها الظاهر الذي يجب الالتزام به والإفادة منه، ويجب العلم بأن الكتاب ككل هو أمر متشابه، لذلك لن يأتي تأويله للناس في أي عصر إلا بقدر ما يستطيع أهل هذا العصر استيعابه والإفادة منه وبقدر ما يتراكم لديهم من المعارف وما يألفوا من أساليب التعبير، وللتشابه معنى آخر هو التوافق والاتساق التام الساري في القرءان، فلا يمكن أن تتعارض الآيات ولا مدلولاتها إلا في أذهان الضالين المضلين ومنهم القائلون بالنسخ.
59.      إن هذا الكتاب هو كتاب متشابه وأنه يتضمن آيات متشابهة، وهذا يتضمن أن هذه الآيات تتحدث عن أمور غيبية؛ أي خارج نطاق الخبرة البشرية وفوق كل المدارك والتصورات البشرية، كما يتضمن أنه متسق اتساقا ذاتيا مطلقا؛ فآياته تتعاضد وتتكامل وتتآزر ويبين بعضها بعضا، فيجب أن يبحث الإنسان عن تأويل ما غمض عليه فيه نفسه، فمن آمن بذلك وعمل بمقتضاه سيهتدي، أما من سلك سبيل التربص بالقرءان ومحاولة تلمس أي اختلافات فيه فسيكون عليه عمى وسيضل، فالقرءان هو َتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ وَهُو حَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ.
60.      إن هذا الكتاب هو مثانٍ، فطبيعته تلك هي من سماته الذاتية؛ فلا يثنِّـيه غيره، فهو ليس بحاجة إلى مصدر آخر كظهير.
61.      إن هذا الكتاب بصورته هذه وببنيته هذه وبموسيقاه الداخلية وبتركيبته الصوتية هو الأداة والوسيلة الأمثل لتحقيق مقاصده العظمى، فبه يمكن أن يتزكى الإنسان ويخرج من الظلمات إلى النور ويتحقق بكماله المنشود، فهو ليس مجرد سرد لبعض المعلومات أو الأخبار بل إنه يبين العلاقات بين الأسماء الحسنى ومقتضياتها من الآيات والقوانين والسنن، لذلك جاءت كثير من المعلومات والأوامر المتعلقة بموضوع واحد موزعة علي الآيات والسور، وكذلك تضمنت كثير من الآيات سننا إلهية أو كونية وأوامر تشريعية وختمت بما اقتضاها من الأسماء الحسني وخاصة من المثاني.
62.      إن الكتاب العزيز يتضمن نهجا إصلاحيا فريدا، فتلاوة آياته تعمل عملها في النفوس وتزكيها، وهو يهدى للتي هي أقوم بخصوص أمر الإصلاح خاصة إذا كان الناس قد ألفوا وأدمنوا معصية ما كشرب الخمر مثلا، فالقرءان تدرج في تشديد النهي عنها حتى أوصل الناس إلى حالة أصبحوا فيها مهيئين لقبول الأمر باجتنابها والانتهاء التام عنها، ولقد تم ذلك دون أن يضطر إلى إعمال النسخ، فبخصوص هذا الأمر لا يمكن أن تعد الآية اللاحقة ناسخة للآية السابقة لأنها لم تلغ حكمها وإنما أكدته وأضافت إليه وتضمنت أوامر أخرى ومعلومات غير قابلة للنسخ أصلا، فالآية الآمرة باجتناب الخمر لا تتعارض مع الآية الآمرة بألا يقرب الإنسان الصلاة وهو في حالة سكر ولا مع الآية التي تقرر أن في الخمر إثما كبيرا ومنافع للناس، فالخمر منهي عنها منذ أن أعلن القرءان أن فيها إثما كبيرا، ذلك لأن الإثم محرم كما هو معلوم، والإنسان مأمور باجتنابه، ولكن الكتاب انتقل بهم من التحريم الضمني إلى النهي المشدد الصريح، واتبع أسلوب التدرج رأفة بالناس حتى يأتمَّ به المصلحون من بعد.
63.      إن القول بأنه ثمة آيات منسوخة في القرءان بالمعنى الذي اصطلحوا عليه هو من كبائر الإثم التي وقعت فيها الأمة والتي أدت إلى اتخاذ القرءان مهجورا واستحداث طبقة كهنوتية عنكبوتية احتكرت لنفسها أمر الدين وحالت بين الناس وبين كتاب ربهم ثم حالت بينهم وبين ربهم، لكل ذلك يلزم العلم بأن القول بأن ثمة آيات منسوخة في الكتاب لا يعمل بها ولا يحتكم إليها هو إفك عظيم وكفر بواح ويجب على من يقول بذلك أن يبادر بالتوبة.
64.      إن الكتاب يتضمن منظومات الشؤون والسنن اللازمة لصلاح أمر الإنسان والأمة وكذلك منظومات الأوامر الشرعية.
65.      إن الكتاب يتضمن المنظومة الأمرية الرحمانية وهي تتضمن القيم ومكارم الأخلاق التي يجب على كل مؤمن أن يعرفها وأن يتحقق بها ويجب على الأمة جمعاء أن تجعلها هي المنظومة السائدة.
66.      إن الكتاب هو المرجع الوحيد لمعرفة المصطلحات الشرعية أو الدينية، ويلاحظ أن الكتاب يمكن أن يستخدم اللفظ إما بمعناه اللغوي وإما بمعناه الاصطلاحي.
67.      إن هذا القرءان مصاغ بحيث يمكن لمن يتخذه إماما أن يحقق مقاصد الدين العظمى بالنسبة إليه، فبه وحده يمكن أن يكتسب الإنسان المعرفة الحقيقية بربه وبه وحده يمكن أن يكون إنسانا ربانيا فائقا، فعلى المفسر أن يأخذ ذلك في اعتباره، وهذا الكتاب يحقق ذلك للإنسان بتنمية ملكاته القلبية الذهنية والوجدانية، لذلك فإنه مصاغ بحيث يدفع الإنسان إلى إعمال ملكات الفكر والفقه والتدبر والتذكر، وهو مصاغ أيضا بحث يزكى الإحساس بالجمال والجلال ويطرب النفس بموسيقاه العلوية وأساليبه الراقية السامية.
68.      القرءان مبين ومبيِّن وتبيان لكل شيء، فمن أراد القول القرءاني في أي أمر ديني يمكنه أن يجده في القرءان؛ إما منصوصا عليه صراحة وإما أنه يمكن استنباطه منه وإما أنه يتضمن كيفية استنباطه، ولكن المصحف الموجود على المنضدة أو في المكتبة لن يقوم بذلك بنفسه، لابد ممن هو مؤهل ليفعل ذلك، فلا يمكن لمن لا يجيد اللسان العربي مثلا أن يفعل ذلك، فلابد ممن لديه السليقة العربية، ولابد من توفر منهج قرءاني لاستخلاص القول القرءاني، ومن البديهي أن هذا المنهج لا يعرفه تماما ولا يجيد استعماله إلا الصفوة من أولي الألباب، وأن هؤلاء الصفوة أنفسهم متفاوتون فيما بينهم، ولا شيء في ذلك، فذلك أمر تحكمه السنن الإلهية الكونية، والتي تقتضي أن يتفاوت الناس في كل شيء، فليس كل علماء الطبيعة في درجة أينشتين مثلا! وليس كل الموسيقيين في درجة بتهوفن أو موزارت مثلا، كما يجب العلم بأن القرءان باعتباره الرسالة الخاتمة تضمن أمورا كثيرة قابلة للاتساع واستيعاب ما يستجد باطراد التقدم، ولذلك كانت الحاجة ماسة إلى مجددين حقيقيين للدين في كل قرن أو في كل مجموعة قرون!
69.      إن هذا القرءان إنما أنزل ليكون منهاج عمل وحياة وليخرج به الناس من الظلمات إلى النور وليتذكر الناس ما فيه وليدَّبروا آياته ولم ينزل ليُتخذ أداة للزينة أو التبرك، لذلك فعلى من يتلو الآية أن يكون مبلغ همه معرفة ما تقتضيه منه الآية وما يلزم عمله ليتحقق وليقوم بمقتضياتها، وهذا هو أول واجبات من يتصدى لتفسير الآيات.
70.      لفقه آيات القرءان ينبغي الاسترشاد بما ثبت ورسخ من معاني آياته الأخرى، ومن ذلك أنه يمكن معرفة بعض معاني الآيات المتشابهات بالرجوع إلى المعاني الثابتة للآيات المحكمات.
71.      ينبغي الاسترشاد بوقائع التاريخ الثابتة وحقائقه الدامغة عند تفسير الآيات، ذلك لأن الوقائع التاريخية خير كاشف عن السنن الإلهية المتعلقة بالجماعات والأمم، والمؤمنون مأمورون بالنظر في تلك الوقائع لمعرفة السنن، والأوامر بالنظر في عواقب الذين خلوا أكثر من الأوامر بالصيام والحج، لذلك فليس من حق المفسر أن يستعرض جهله بالوقائع عند التفسير فضلا عن أن يفخر بجهله هذا، ويلزم القول بأنه لا يمكن أن تتعارض حقيقة تاريخية مع آية قرءانية.
72.      ولذلك أيضا ليس من حق أحد أن يمنع الناس من النظر في التاريخ وأخذ العبر منه، ولا يجوز له أن يسيء استعمال الآيات لإلزام الناس بذلك، ومن الآيات التي يسيئون استعمالها: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)} البقرة، فهذه الآية لا تمنع دراسة التاريخ الحقيقي للسلف وإنما تقرر مبدأ مسئولية كل كيان عن أفعاله المنصوص عليها في آيات عديدة منها: {...وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)} الزمر
73.       ينبغي الاسترشاد بالحقائق العلمية والسنن الكونية التي أصبحت معلومة عند تفسير الآيات، والمؤمنون مأمورون بالنظر في الظواهر الكونية لمعرفة السنن والإفادة منها.
74.      إن القرءان بذاته يحمل براهين صدقه، وهو ليس بحاجة إلى كتب تكميلية أو تفسيرية، فهو كتاب ملهم ومزكِّي، وقارئ القرءان بتدبر وتأمل وإجلال يستقى منه مباشرة كل ما يلزمه لتحصيل كماله الدنيوي والأخروي، فمن اعتصم بالقرءان بشرط الإيمان فهو داخل في رحمة الله وفضله وهو مهتد إلى الصراط المستقيم وإلى ربه.
75.      لا حاجة لمن يريد أن يتدبر القرءان وأن يفقهه إلى معرفة تواريخ النزول أو ما يسمى بأسباب النزول ولا إلى التقيد بما ألفى عليه أسلافه.
76.      إنه لا يمكن لقرن واحد أن يحيط بكل ما في القرءان علما أو أن يعرف كل تأويله.
77.      إن كل ضمير لم يذكر ما يعود عليه إنما يعود على القرءان نفسه خاصة إذا ما ذكر في مطلع السورة.
78.      يجب العلم بأنه لو دُوِّن كل ما يتعلق بعصر البعثة تدوينا شرعيا موثقا ومحص تمحيصا دقيقا لما نتج عن ذلك أمر لم يتضمنه الكتاب أو يخالفه في شيءٍ ما، فدين الحق محفوظ بحفظ القرءان الكريم.
79.      إن القرءان قد صدر عنه سبحانه من حيث الأسماء الحسنى كما أُنزل وفصِّل بفعل أسماء مذكورة في القرءان ومنها رب العالمين والرحمن الرحيم والعزيز الرحيم والعزيز العليم والعزيز الحكيم والحكيم الخبير والغفور الرحيم، وكذلك تلقاه الرسول من حيث أسماء مذكورة أيضا مثل الحكيم العليم، وهو ليس بمخلوق وإنما تكلم الرب سبحانه فكان القرءان،  فالقرءان كلام الله تعالى، وهو صادر عنه من حيث  ممارسته لفعل من أفعاله الإيجابية وهو الكلام (بالمعنى المصدري)، فهو يتكلم عن إرادة وقصد فيكون الكلام (بمعنى جماع كلمات)، ولقد نسب الله سبحانه إلى نفسه فعل الكلام، فهو يكلم من يشاء بالطرق التي أوضحها، أما خطأ من قال بأن القرءان مخلوق فكان بسبب أنهم ظنوا أن الخَلْق هو الفعل الإيجابي الوحيد لله تعالي، والحق هو أن الخلق فعلٌ من أفعاله وليس بفعله الإيجابي الوحيد فإن له سبحانه بالإضافة إلى الخلق أفعالا كالمشيئة والإرادة والقول والكلام والجعل والاستواء على العرش والتقدير والتدبير والتفصيل والإنزال والحساب والهدى والقبض والبسط والإحياء والإماتة والبرء والتصوير والرضي والغفران وهكذا، ولكل فعل من تلك الأفعال نواتج وآثار في عالم الأمر، فكما أن لله سبحانه الأسماء الحسنى فإن له أفعالا لا تتناهى عددا هي من مقتضيات ولوازم تلك الأسماء، فالقرءان هو روح من عالم الأمر، لذلك فهو قابل للجعل والتفصيل والإنزال، ولقد كان قبل إنزاله في أم الكتاب عليا حكيما ثم كان قرءانا كريما في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون ثم جُعل قرءانا عربيا لقوم يعقلون ويعلمون ويتقون، ثم كان في قلوب المؤمنين، وهو أيضا آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم، ولقد كانت الصورة الأولي للقرءان هي كونه عليا حكيما؛ أي عليا علي المدارك لإحكامه، ثم فصِّلت آياته فنزِّلت وأنزلت، ولقد كان القلب المحمدي هو الوسط الأصلح المهيأ لتلقي القرءان مفصَّلا، وكان ذلك من مقتضيات الأسماء الحكيم العليم والحكيم الخبير والحكيم الحميد والعزيز الرحيم.
80.      إن الله سبحانه قد صاغ واقتضى المعاني الأساسية للقرءان من حيث منظومة أسمائه الحسنى وأودع تلك المعاني الخزائن التي هي مظاهر تلك الأسماء وآلاتها وهى حوافظ الملائكة المقربين الموكلين بالأمر، أما هؤلاء فلقد دونوها بلغتهم عن أمر ربهم في كتب مطهرة وهى للطفها رفيعة وليست بمادية كثيفة، وكانت الصياغة بلغة علوية محكمة غير مفصلة، فمصادر القرءان الرئيسة هي منظومة الأسماء الحسنى وبخاصة المثاني كالرحمن الرحيم والحكيم العليم والعزيز الحكيم والعزيز الرحيم والعزيز العليم والحكيم العليم وكذلك الأسماء التي تشير إلي سمات جامعة محكمة كالرحمن ورب العالمين، فلما بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ بدأ إنزال القرءان أي تفصيله وجعله مدركا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ كذات تحيا في هذا العالم وكان إيتاؤه المثاني من لوازم إيقاظ وتزكية الاستعداد لديه لتلقى القرءان العظيم، ولقد اقتضى ذلك جعل القرءان عربيا أي إعادة صياغته باستخدام المفردات اللغوية التي يعلمها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ مع الإبقاء على حروف تلمح إلى اللغة الأصلية التي كان مدونا بها من قبل، وكان محل ذلك التفصيل وآلاته هم الملائكة السفرة الكرام البررة عن أمر ربهم وبعلمه، ويتضمن الكتاب العزيز أيضا تلك الآيات المتعلقة بالتشريعات الجزئية أو الأحداث والوقائع اليومية التي صاحبت العصر النبوي أو زمن البعثة، والتشريعات الجزئية كانت تستلزم ذوقا بشريا بواسطة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ نفسه الذي أرسل رحمة للعالمين، ذلك لأنه لا ذوق ولا خبرة للملائكة بالأمور البشرية البحت، ولذا قال علي لسانهم أحيانا (حتى نعلم)، ومن تلك الحيثية كان تجدد المعلومات والتشريعات، وسمة العلم إنما تتعلق بالأمور التفصيلية المتحققة، فالآيات المتعلقة بأحداث ووقائع هذا العصر كان لابد أن تتعين بعد تحقق الأمور بالفعل وليس قبلها عندما كانت أمورا محتملة؛ أي بعد انتقال الوقائع من عالم الإحكام والتقدير إلى عالم التحقق والظهور والتفصيل، ويجب العلم بأن الإنسان أعطى إرادة حقيقية واختيارا، فتلك النوعية من الآيات إنما كانت تفصيلا لآيات كلية محكمة وكان التفصيل يتم لتوه بواسطة الحق سبحانه، وكان ذلك يتنزل على الملائكة السفرة الكرام البررة بالطريقة التي عهدوها فيتولون الصياغة وفقا لما فطروا أو برمجوا عليه أو وفق القواعد الكلية التي تقتضى أن يأخذ النسق القرءاني أنماطا معينة بحيث يكون آيات للعالمين أي لكي يكون معجزا لهم من كل الحيثيات ولكي لا يكون ثمة اختلاف فيه، وكان جبريل عليه السلام هو السفير الأعظم الذي ينزل بالوحي بأمر ربه، لقد تكلم الله تعالي، وكلم عباده، وكان من نواتج كلامه هذا القرءان، فالقرءان جماع كلمات إلهية.
81.      رغم أنهم يقولون إن القرءان كلام الله وإنه قديم وغير مخلوق وإنه بذلك صفته سبحانه فإنهم أخضعوه لقولهم بالنسخ كما أخضعوه لما أسموه بأسباب النزول رغم إنكارهم للسببية أصلا، وهكذا اقترفوا كل ما يخالف المنطق وجعلوا من اللاحق سببا للسابق، وجعلوا لمرويات ظنية مضطربة الحُكم والقضاء على كلام العزيز الحكيم، كما أنهم صدوا الناس بذلك عن التفاعل المباشر مع آيات الكتاب ومنعوهم من تدبرها، وفتحوا في الجدار الإسلامي ثغرة هائلة تسلل منها الشيطان وآلاته من رجال الكهنوت وفرض سيطرته وحال بين الناس وبين مصدر الهدى والنور، ذلك لأن أمر تمحيص الركام الهائل من المرويات الظنية والألوف المؤلفة من رواتها الموزعين على حوالي ستة أجيال على مدى ما يربو على مائتي عام والمتعلقة بما يسمى بالتفسير وأسباب النزول يصعب القيام به على أي مسلم يعمل بمفرده ويتطلب هيئات حاشدة للقيام به، ومع ذلك فلقد ارتضوا أن يقبلوا هذا الزعم من عدد قليل من الأعاجم وأن يفرضوا على الناس علي مدي العصور القبول به.
82.      إن الكتاب العزيز يخاطب كافة الملكات الإنسانية، فهو يخاطب الإنسان ككيان كلي واحد كما يخاطب قلبه كذلك، ويخاطب أيضا ملكات هذا القلب الذهنية والوجدانية، ويعامل كافة الكيانات بالمنطق الملائم لها، كما أن له منطقه الخاص، فهو ليس كالكتب العلمية الحديثة التي تخاطب الملكات الذهنية فقط ولا تعتمد إلا المنطق العلمي والرياضي، وليس كالشعر الذي يخاطب المخيلة والملكات الوجدانية، ولذا كان لابد من توفر الجمال والجلال اللفظي والمعنوي والذي يتبدى في موسيقاه الظاهرة والباطنة واتساقه الكلي الشامل.
83.      إنه يجب الإيمان بهذا القرءان وبأنه الآية الكبرى الذي تضمن آيات منطوقة ومكتوبة وآيات تشير إليها آيات وتشير هي بدورها إلى آيات، وهذا الكتاب هو المرجع الأوحد لكليات الدين ومقاصده ومنظومات أركانه وقيمه وقوانينه وسننه، فهو بحر الحقائق الهائل، ومحيط الأسرار الهادر، وهو المرجع الأوحد لأمور الدين الكبرى، ومنها المصطلحات الشرعية، ولا يجوز استحداث مصطلح شرعي لا أصل له في الكتاب، ولا يجوز إلزام الكتاب بمصطلح مستحدث، وهذا الكتاب يتضمن المعايير والموازين فلا ينبغي أن يتضخم أمر ليس له وزن كبير في الكتاب ولا أن يهمل أمر احتفل به الكتاب احتفالا شديدا، ومن ذلك أنهم احتفوا احتفاءً شديدا بصور وجزئيات وشكليات الشعائر وكذلك بصور وكيفيات عذاب القبر والتي لم يذكرها الكتاب إلا ذكرا يسيرا في حين أنهم أهملوا  تماما دلالات ومقاصد قصة موسى وفرعون التي أفرد لها الكتاب الصفحات الطوال.
84.      إن كتاب الله تعالى قد تجلَّت فيه سمات قائله، لذلك فإن هذا الكتاب عليٌّ حكيم وعظيم وعزيز ومجيد وكريم وحق ومهيمن، فأحدية الله تعالى تقتضى أحدية الكتاب وصمديته سبحانه تقتضى تماسكه وتوافق واتساق آياته مع بعضها البعض، فلا يمكن أن تتعارض آية مع أخرى إذا كانتا تعالجان أمرا واحدا، ومن تصور ذلك فإن تصوره باطل ووهمي، وهذا يعنى أيضا أن الكتاب يفصِّل بعضه بعضا ويبين بعضه بعضا، وهذا يدحض أيضاً القول بالنسخ بالمعنى الذي اصطلحوا عليه، وهو وجود آيات معطلة الأحكام تتلى ولا يعمل بها، بل إن قولاً كهذا هو من الكفر بكتاب الله تعالى، ذلك لأنه حتى ولو استبعدوا الحكم الوارد في الآية فإنهم لا يمكنهم استبعادها كلها، فما من آية قالوا بنسخها إلا وهي تتضمن أخبارا ومعلومات لا يمكن أبداً نسخها.
85.      ولما كان هذا الكون هو أيضا بنص الكتاب معرضا لآيات الله الكونية، ولما كان الكتاب قد أحال الناس إليها واعتبرها وأمر الناس بالنظر فيها وحثهم على فقهها فهذا تكليف واجب، وهذا يعنى أن الآيات الكونية هي من مراجع المعرفة الدينية، ذلك لأن هذه الآيات هي آثار السمات الإلهية ومقتضياتها هي والسنن التي تحكمها وتسرى عليها، فكل معرفة بها تؤدى إلى معرفة أفضل وأعمق وأشمل بالأسماء الإلهية، وهذا من لوازم تحقيق المقصد الديني الأعظم الأول، وهو أن يعرف الإنسان ربه المعرفة اللازمة ليكون إنسانا ربانيا صالحا، فالإنسان مطالب بإعمال ملكاته لفقه آيات الكتابين المقروء والمشهود، وهذان الكتابان متاحان للإنسان في كل زمان ومكان، أما مصادر المعرفة الدينية الأخرى فلا يمكن أن تعارض هذين الأصلين، ومنها تلك الآثار المنسوبة إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، ولا يوجد نص قطعي الدلالة يلزم الناس باتباع ما نسبه بعض الرواة باجتهادهم إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ في القرن الثالث الهجري، ولكن الإنسان مطالب بالالتزام بسنة الله تعالى التي ضمَّنها كتابه والتي اتبعها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ نفسه وأظهرها وكان منفذاً لها فنسبت إليه.
86.      إنه يحلو للكثيرين ترديد ما نقل إليهم من أقوال السلف على أنها حقائق ثابتة دامغة مستغلين في ذلك عواطف ومشاعر الناس دون أن يقدموا برهانا مبينا على صحة مزاعمهم، ومن ذلك زعمهم أن القرن الأول كانوا أعظم الناس إدراكا لمعاني الكتاب العزيز وأن ما قالوه في التفسير هو الحق المحض الصراح، وأنهم لم يدعوا مزيدا لمستزيد، وأنهم لم يتركوا للأواخر شيئا، فمن أين أتوا بهذه المزاعم؟ وما هو برهانهم عليها؟ هل ثمة نص قطعي الدلالة يقول بذلك؟ إن نصوص القرءان القطعية تقول بخلاف ذلك، وكيف يمكن أن يحيط جيل واحد في زمن وجيز بكلمات الله تعالى التي لا تتناهى معطياتها؟ ألا يعلمون أنهم بذلك قد كذبوا بالآيات القائلة بأن الآيات ستتكشف للناس شيئا فشيئا، وأنهم بذلك قد حجروا واسعا؟ وكيف يمكن أن يُجامَل جيل ما على حساب الكتاب العزيز؟ وهل ثمة إثبات شرعي قاطع بأن ما دوِّن من أقوالهم بعد ما يربو على مائتي سنة من صدورها عنهم هو عين ما قالوه؟ وأين هو تأويلهم وتفسيرهم الذي لا يأتيه الباطل لآيات القرءان كلها؟ إن المبالغات بشأن القرن الأول قد جنت على الأجيال اللاحقة ولم تنتفع بها الأجيال السابقة، ويجب القول بأن عطاء هذا الكتاب دائم ومتجدد وسيظل يرى الناس فيه من الآيات حتى يعرفوها وحتى يتبين لهم أنه الحق وحتى يأتيهم تأويله، ولن يحيط جيل واحد بكل ما فيه من العلوم، أما القرن الإسلامي الأول فلقد كانوا أناسا شرفاء مخلصين وكانوا أقل الناس تكلفا وأصدقهم فطرة، ولم يزعم أحد منهم أنه أحاط بكل ما في القرءان من العلوم، بل نقل عنهم التوقف حتى عند المعاني المباشرة الظاهرة لكثير من الكلمات مع أنهم كانوا عربا أقحاحا، ولقد كان سر نجاحهم هو في بساطتهم وتواضعهم وعدم تكلفهم، وكذلك في حسن أدائهم للمهام العظمي التي نيطت بهم.
87.      إن بيان القرءان وتفصيله هو أمر قد تكفل به الله سبحانه، وبالتالي فقد جعل آيات الكتاب مبينة لبعضها البعض ولم يجعل فيها اختلافا ما وبالأحرى لم يجعل بعضها ناسخاً لبعضها، ولقد علَّم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ أهل القرن الأول ألا يشتغلوا بما لا يعنيهم وألا يكثروا من السؤال في الأمور الجزئية الفرعية لأن ربهم ما كان نسياً، كذلك نهاهم الكتاب عن ذلك، ولذا فإن السؤال عن أمثال هذه الأمور هو من سوء الظن بالله تعالى ومن سوء الأدب معه وذلك يستلزم عقاباً صارماً ومزيداً من التضييق عليهم، ولقد أمرهم الكتاب بألا يسألوا في نص بيِّـن واضح، ومن الواضح أن شغل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ الشاغل كان تحقيق مقاصد الدين العظمى وإبلاغ الرسالة، وذلك يستلزم تلاوة آيات الكتاب وتعليمهم إياها وتعليمهم الحكمة وتزكية أنفسهم وبناء الأمة الخيرة التي ستحمل الرسالة إلى الناس أجمعين وتحفظها لهم، والنهى عن السؤال إنما كان لأن أكثر الناس إن فتح لهم هذا الباب لن يسألوا إلا في أمور الحلال والحرام، وبسبب ما ذكر آنفا فإن مثل هذه الأسئلة تستوجب عقابا صارما، وسبب ذلك أيضا أن السائل عن مثل هذه الأمور سيكشف بذلك عن سوء ظنه بربه، وسيكون مخالفاً لمقاصد الدين العظمى ومنظومة القواعد التشريعية التي تؤكد على جعل الدين يسراً وتضع الحرج والإصر والأغلال عن كاهل الناس، إن هذا الكتاب هو بالفعل تبيان لكل شيء يلزم الناس من الناحية الدينية ولقد بينت آياته بعضها بعضا، وقد يقول قائل: إن كثيرا من الأحكام الشرعية لم يتضمنها الكتاب وإنما استنبطها (الفقهاء)، فالجواب هو أن ما استنبطوه ليس بأحكام دينية شرعية وإنما هي أحكام اجتهادية بشرية يلزم أن يأخذ بها الناس من حيث وجوب طاعة أولى الأمر، فإن قيل فما بال الصلاة؟ فالجواب هو أن الكتاب بين للناس أن إقامة الصلاة هي أمر ديني واجب وبين لهم مقاصدها والحكمة منها وأومأ إلى أركانها من قيام وتلاوة آيات الكتاب وركوع وسجود وكذلك أشار إلى أوقاتها ، وأمرهم بطاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ في شأنها، قال تعالى :{ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(56)} (النور)، وثمة أمر نبوي واجب الطاعة (صلوا كما رأيتموني أصلي)، فهو لم يقل لهم (كما أصلي)، ولذا فلقد بين لهم بفعله كيفية أداء الصلاة، ولقد كانت الصلاة معروفة إجمالاً للعرب الذين ظلوا متمسكين بملة إبراهيم، والمسلمون كانوا مأمورين باتباع ملة إبراهيم، فالشكل الخارجي لها لم يكن مفاجئا لهم، ومقاصد الصلاة والحكم المذكورة في الكتاب هي أعظم درجة من شكلها الخارجي، وتلك المقاصد هي أن يتحقق الإنسان بذكر الله تعالى وأن ينتهي عن الفحشاء والمنكر وأن يتلو آيات الكتاب، أما الشكل الخارجي للصلاة فلقد حفظ ونقل إلي الناس بالتواتر العملي؛ فلقد تلقاها الآلاف المؤلفة عن الآلاف، ونفس الأمر صحيح بالنسبة إلي الصيام والحج، فلا يجوز أن يتخذوا من ذلك ذريعة لفرض مرويات آحادية ظنية علي الناس واستخدامها لنسخ القرءان أو للقضاء عليه أو لصياغة الدين كما يحلو لهم، ولقد أجمع رجال الدين على أنهم وجدوا النزر اليسير من الأحكام منصوصا عليه في الكتاب، في حين أن الوقائع تتعدد وتتجدد ولذا لزم إيجاد أحكام شرعية جديدة، وهم في مسلكهم هذا يكذبون بقوله تعالى أنه جعل الكتاب تبيانا لكل شيء، ويستقلون الأحكام المنصوص عليها فيه، ألم يعلموا أنه سبحانه أراد بالفعل أن تكون الأحكام المنصوص عليها قليلة حتى لا يظن الناس أن الدين مجموعة من اللوائح التشريعية والعقوبات وأن الاقتصاد في التشريع هو من مقاصد الكتاب، وأنه سبحانه شاء أن يعمل الناس ملكاتهم لاستنباط ما يلزمهم بعد أن بلغت البشرية رشدها ولكي يتحقق بالنسبة إليهم المقصد الديني الأعظم الثاني، ألم يعلموا أنه بذلك أراد ألا يوقعهم في مزيد من الحرج بالنص على تشريعات عديدة فيزداد احتمال مخالفتهم لها فيتعرضون للعقاب في حين أنه سبحانه أراد أن يجعل الدين الخاتم رحمه للعالمين، ولما كانت الأحكام الشرعية المنصوص عليها في الكتاب قليلة في نظرهم فإنهم انطلقوا يبحثون عن كل شاردة وواردة تسمح لهم بإيجاد أحكام شرعية جديدة يستكملون بها الدين الذي هو كامل دونما حاجة إلى مجهوداتهم، وكل هذا من التباس الأمر عليهم ومن أثر النزعة التلمودية التي انتقلت إليهم، فليس المقصد من إنزال الكتاب إيجاد مدونة قانونية صارمة لا تترك صغيرة ولا كبيرة دون إخضاعها لتشريع ملزم بل الهدف هو تحقيق المقاصد العظمى، فالشريعة جعلت لصالح الناس وللبلوغ بهم إلى كمالهم المنشود بإحياء ضمائرهم وتزكية أنفسهم، فالكتاب العزيز لم يكثر من الأوامر التشريعية رحمة بالأمة، ذلك لأن عاقبة عصيان الأمر المباشر شديدة، ولذا حرص الكتاب على الإقلال منها أو على أن تصل إلى الناس بطريقة غير مباشرة إما بأن يسند الأمر بالقول إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ في الكتاب، وإما بأن يوحي إليه بها فيأمرهم بها، وحتى في أبسط الأمور مثل الوضوء والتيمم فلقد كان الرب سبحانه رحيماً بعباده وحريصًا على أن يبين لهم أنه ما أراد بهم الحرج وإنما أراد ما هو خير لهم، حتى أنه ليكاد أن يعتذر إليهم عن هذه الأوامر، أما الكهنوت فلقد جعلوا دأبهم إيجاد حكم شرعي لكل كبيرة وصغيرة وشاردة وواردة دون أن يدركوا أنهم بذلك يقوضون مقاصد الدين ويتقدمون بين يدي رب العالمين، ويجب العلم بأن الأمر إذا كان منصوصا عليه في الكتاب بطريقة قطعية الدلالة فإنه يجب الأخذ به والاكتفاء به عما سواه واجتناب النظر فيما هو دونه من المصادر الأخرى، كما يجب العلم بأن العبادات لم يتم تفصيلها إعمالا للمبدأ المعلن وهو أن الله سبحانه ما أراد أن يجعل على الناس في الدين من حرج وإنما أراد بهم اليسر وأراد أن يطهرهم وأن يزكيهم، ولذا فإن إقامة الصلاة وتحقيق مقاصدها كذكر الله تعالى والتقوى والانتهاء عن الفحشاء والمنكر هي الأمور اللازمة الواجبة، أما التفاصيل فهي تلي ذلك في الأهمية، ولو نص عليها بكل دقة لكان في ذلك حرج على الناس ولأوخذوا عند عدم التزامهم التام بها.
88.      إن أساس كل الأحكام والأوامر الشرعية الواردة في القرءان هو أنها تؤدي إلى تحقيق مقاصد الدين العظمى أي إلى ترسيخ المنظومة الأمرية الرحمانية والعمل وفق مقتضياتها أي إلى تقويض أسس ومقتضيات المنظومة الشيطانية، فالنهي عن أكل أموال الناس بالباطل يمنع العدوان على حق من حقوق الإنسان، والعدوان من كبائر الإثم ومنعه يعني تقويض ركن من أركان المنظومة الشيطانية، كما أن منعه يساعد على تحقيق مقاصد الدين، والتعاون على البر والتقوى وليس على الإثم والعدوان يؤدي إلى إحباط أمور من المنظومة الشيطانية لحساب أمور من المنظومة الرحمانية مما يساعد على تحقيق المقصدين الثاني والرابع، والانتهاء عن تشبيه الله تعالى بخلقه والتقول عليه بغير علم يحبط كيد الشيطان ويساعد على تحقيق المقصدين الأول والثاني، أما إرادة اليسر ورفع الحرج والعسر فذلك حتى لا ينشغل الإنسان عن مقاصد الدين العظمى فإنه كلما اشتد تعقيد الطقوس كلما انشغل الإنسان بها عن تحقيق تلك المقاصد، لذلك لم يفصِّل الكتاب أبداً كيفيات الصلاة.
89.      إن قولهم بالنسخ يعني أنهم وجدوا في الكتاب اختلافا لا سبيل إلى رفعه إلا باللجوء إليه، وهم بذلك يكذبون الرب سبحانه الذي نفى أن يكون في كتابه اختلاف وجعل ذلك برهانا على أنه من عنده، والقائلون بالنسخ هم في الحقيقة الذين تشابهت عليهم الآيات فاتبعوا ما تشابه منه، ومن إمعانهم في الضلال وتعمقهم فيه أنهم يجعلون وجود آيات منسوخة في كتاب الله من مفاخر هذا الدين والقرءان الكريم، هذا مع أنه لا يوجد مشرع بشري يقبل أن يكون في مجموعة القوانين التي يعدها قانونين متعارضين، وإذا ما اكتشف الناس أو الخبراء تعارضا بين قانونين فإنه يسعى فورا لتصحيح الخطأ ولتعديل الأمر.
90.      إن النسخ الذي اصطلح عليه المبطلون يعنى وجود آيات أثرية في الكتاب العزيز لا يعمل بها وإنما تُقرأ للتبرك فقط، ذلك لأنهم اعتبروا تلك الآيات منسوخة إما بآيات أخرى أو بمرويات آحادية منسوبة إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ أو بما يسمونه بالإجماع، وما قالوا بذلك إلا بعدما هان عندهم شأن الكتاب فتجرئوا عليه وأخذوا يتبارون في اكتشاف الآيات المنسوخة في زعمهم واستعراض عضلاتهم الكهنوتية والجهلوتية على القرءان والنيل من قدره لحساب ما لديهم من مرويات وآراء وظنون وأوهام، والحق هو أن القول بالنسخ بهذا المعنى هو الكفر المبين، ويجب على القائل به أن يبادر بالتوبة لأن التطاول على الكتاب من فرد أو جماعة تدعى الإيمان به يستوجب عقاباً أليماً، وما ألجأهم إلى القول بهذا النسخ إلا ظنهم أن ثمة اختلافاً في الكتاب فسعوا إلى دفعه، ولو صدقوا بكلمات ربهم لعلموا أنه ليس ثمة اختلاف في الكتاب أصلاً وإنما الاختلاف في فقههم له، أما الآيات التي حاولوا تأويلها بحيث تكون سنداً لزعمهم بوجود النسخ فلا علاقة لها بمزاعمهم أو هي علي الأقل ليست بقطعية الدلالة عليها، ومن قالوا بنسخ آية ما ظنوا أن الآية لم تنزل إلا لإنشاء حكم، وغفلوا عما في الآية من أنباء أو أخبار أخري هي بالضرورة أعظم أهمية من الأحكام التي يعشقونها والتي أرادوا أن يجعلوا من الكتاب مجرد سجل لها، فلما عز عليهم ذلك تولوا هم صياغة الدين ليأخذ صورة مدونة قانونية لا مكان فيها لجوهر الدين أو لبه أو مقاصده العظمي، ولقد صيغت آيات الكتاب لتكون بمنأىً عن النسخ، فلم تنسخ آية منه أبدا، فالكتاب العزيز قد صيغ بحيث لا يمكن أن تكون فيه آية منسوخة حتى لو فهم منها أن ثمة تدرجاً في التشريع أو أنزلت بحيث توحي إلى الناس بذلك رحمة بهم، ولذا لم يفصِّل الكتاب كيفيات ولا عدد الصلوات والتي تعرضت لكثير من التعديلات إلى أن اكتملت، كما لم توجد آية مثلا تأمرهم بالصلاة إلى بيت المقدس وإنما توجد آيات تأمرهم بأن يولوا وجوههم شطر المسجد الحرام، فلحماية الآيات من أن تتعرض للنسخ لم يطالبوا بالأحكام الشرعية دفعة واحدة ونزل القرءان منجما، ولقد كان من أسباب نزوله على هذا النمط تربيتهم وتزكيتهم.
91.      والسنن بمعنى القوانين والمناهج العامة والقواعد التشريعية والمبادئ الأخلاقية الخاصة بالإنسان المخير إنما تنمو وتكتمل وتتطور بتطور الإنسان وتقدمه الجوهري ورقيه، ولقد بلغت أوج كمالها في الدين الخاتم الذي رضيه الله تعالي للعالمين، وكذلك الأمر بالنسبة إلى السنن بمعنى السلوكيات والأمور العملية، فهي تتغير وتتطور إلى أن يكتمل الدين، لذلك فالسنن التي يتضمنها الدين الخاتم الكامل لا يمكن أن تُنسخ أبدا.
92.      إن الكتاب العزيز هو من كلمات الله تعالى عندما مارس فعل الكلام، وكلماته سبحانه لا تبديل لها ولا تحويل وبالأحري فهي لا تُنسخ، ولقد نص القرءان وهو بذاته برهان ونور مبين على أن القرءان هو كلام الله وأنه على حكيم وانه مهيمن على كل الكتب، كذلك نص على أن كلمة الله هي العليا، فلا يمكن أن يكون ثمة نسخ في القرءان لأنه لا مصدر أعلى منه ولا مرجع أعلى منه بل هو جماع كلمات الله العليا، كما أنه لا يحتوي على نص قطعي الدلالة يفيد بأن ثمة نسخا فيه، كذلك لا يوجد فيه اختلاف يوجب القول بالنسخ.
93.      لأن القرءان كلام الله تعالى ولأن صفات المتكلم تظهر في كلامه فإنه موصوف أيضا بسمات إلهية فهو العليّ الحكيم والحق والنور والعزيز والحكيم والمجيد والعظيم والكريم والمصدق والحكيم والمبين والمهيمن على سائر الكتب، وهو الصدق والهدى، وهو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكل هذا يعنى بالضرورة أنه غير قابل للنسخ، وكذلك لا يمكن أن تنسخ آياته لأن ما ينطبق على الكل لابد من انطباقه بالضرورة على الجزء، هذا بالإضافة إلى أنه لا يوجد مصدر معرفة أعلى من الكتاب ليقرر ذلك وذلك لعلوه المطلق فإنه كما علا الله على خلقه كذلك علا كلامه على كلامهم، ولذا فبطلان النسخ الاصطلاحي مستند إلى أسس كلية راسخة وليس بحاجة إلى التحليل الجزئي لكل ما زعموا أنه منسوخ من الآيات، هذا بالإضافة إلى أن كل آية من آياته التي زعموا أنها منسوخة محصنة تماما ضد كل مزاعم النسخ لتضمنها أحكام ومعلومات وأنباء لا يمكن أن تنسخ ولا يمكن أن يقول بنسخها إلا من كان من عتاة الكافرين، والمؤمنون ملزمون بالنظر في الكتاب ككيان كلى واحد لا اختلاف فيه، وملزمون بتدبره وتدبر آياته آخذين ذلك في الاعتبار، وعندها ستعطيهم الآيات أسرارها وأحكامها التي حرم منها من اجترأوا على الكتاب ولم يوقروه التوقير اللائق به، ورغم خطورة الخوض في أمر كهذا فإن البعض أبوا إلا أن يتنافسوا في اكتشاف الآيات التي يمكن في زعمهم أن تكون منسوخة وضرب الأرقام القياسية في ذلك والإغراب والتفنن حتى زعم بعضهم أن ثمة نسخاً لجزء من آية دون الآخر، أو أن آخر الآية ينسخ أولها، أو أن الآية السابقة تنسخ اللاحقة؟! والحق هو أن هذا المسلك يكشف حقيقة نظرة هؤلاء السلف إلى كتاب الله العزيز.
94.      ولا نسخ في السنن أيضا بالنظر إلى تعريفها القرءاني الأصلي وذلك لوجود نصوص قطعية الدلالة على ذلك من ناحية وبحكم طبيعة السنة من ناحية أخرى؛ أي من حيث أنها هي القوانين والمبادئ والمناهج، فسنة الله لا تبديل لها ولا تحويل، فالنسخ الذي اصطلحوا عليه باطل فلا يوجد حكم استخرج من نص قطعي الورود ينسخه حكم آخر من نص قطعي مثله أبدا، ولا يقال إن القرءان ينسخ السنة لأن السنة إما أن يكون منصوصاً عليها فيه وإما أن تكون مستنبطة منه أو بياناً وتفصيلاً له فكيف ينسخ الأصل فرعه ولوازمه، وبالأحرى لا يقال إن السنة تنسخ القرءان، ذلك لأنها إما أن يكون منصوصا عليها فيه وإما أنها مستنبطة منه فكيف ينسخ الفرع أصله ؟ ولقد أدى القول بالنسخ إلى جعل الناس يتجرؤون على الكتاب أو يسلمون بوجود اختلاف فيه أو يشككون في مصداقيته، كما أدي إلى حرمان الناس من الاستفادة والانتفاع بكثير من الآيات وإلى الإعراض عن الكتاب وهجره وإلى تكريس تمزق الأمة واختلافها وإلى ترسيخ الكهنوت وإلى حرمان الناس من التفاعل المباشر مع الكتاب، وبالإضافة إلى كل ذلك فلقد أدى القول بالنسخ إلى ظهور طوائف صاغت الدين كما يحلو لها فقال بعضهم مثلاً إن الكتاب قد تضمن أحكاماً مرحلية وأحكاماً نهائية اختاروها كما يتفق مع نفسياتهم وآرائهم واتجاهاتهم فجعلوا من أنفسهم حرباً على أنفسهم وعلى أمتهم وعلى البشرية جمعاء، إنه يجب توقير وإجلال كتاب الله والكف عن القول بالنسخ، وعلي الكهنوت والجهلوت والكفروت الكف عن حديث الإفك هذا.
95.      إن القول بالنسخ يعنى أن ثمة آيات يجب ألا يعمل بها، وهذا يعنى أن ثمة لغوا أو باطلاً في الكتاب وذلك محال، والنسخ يعنى الإزالة والآيات التي قالوا إنها منسوخة مازالت في الكتاب تتلى ويتدبرها الناس، أما الآية الكبرى الناسخة لكل ما سواها فهي القرءان الكريم، أما المحو والإثبات فهما فعلان يمارسهما الحق من مقتضيات ألوهيته ومجالهما هو عالم الخلق، وهما يستندان إلى القوانين والسنن المدونة في أم الكتاب أي هي القوانين والسنن الأصلية لأنها من مقتضيات أعلى أنساق الأسماء، فالكتاب العزيز الذي هو كيان أمري ليس بمحل لهذين الفعلين، وما قال بقابلية ما فيه للمحو إلا من لم يعرف له قدره أو من يريد أن يستعرض عضلاته الكهنوتية على كتاب ربه.
96.      أقام البعض صراعاً مفتعلاً بين ما أسموه بالنص وبين ما أسموه بالعقل مع الاختلاف التام بين الأمرين بحيث لا يمكن أن يستويا أبدا أو أن يقارن بينهما أصلاً، فالنص هو كيان أمري لا يقوم بذاته، ولابد له من كيان خلقي ليقوم به وليحل فيه، والمقصود بالكيان الأمري هو المعاني والدلالات التي يحملها، أما العقل فهو ملكة قلبية ذهنية إنسانية، وهو لازم لإدراك هذا الكيان الأمري واستيعابه، وهو أيضاُ الوسيلة الحاملة له إلى الكيان الخلقي ولإعماله، ولكي يتم النص دوره لا بد له من العقل الذي هو وسيلة الإنسان لاستيعاب النص وإعماله والإفادة منه ونقله إلى الآخرين، ولذا فلا مجال للمقارنة بين هذين الأمرين المختلفين كما لا يجوز مثلاً المقارنة بين ثلاث ثمرات وبين ثلاثة كيلومترات أو المقارنة بين عشرين دقيقة وبين عشرين أوقية، ولكن الذي يجوز هو المقارنة بين معانٍ مباشرة ظاهرة يعطيها النص ومعان أكثر عمقاً يمكن الوصول إليها بإعمال أوسع مدى وعمقاً للملكات الذهنية والوجدانية، ومن المقطوع به أن آيات الكتاب مصوغة بحيث يتجدد عطاؤها فى كل زمان ومكان، وفى تلك الحالة لابد من برهان مبين يؤيد تلك المعاني والدلالات، لكل هذا لا يجوز لبعضهم أن يقول مثلاً إن أصول التشريع هي الكتاب العزيز ثم العقل أو أن يقدم العقل، أو أن يقول أنها الكتاب ثم السنة ثم الإجماع ثم القياس فهو جمع بين أمور متباينة ومتفاوتة تفاوتاً هائلاً إذ كيف يجعلون آراءهم مقارنة للكتاب العزيز، وإنما يمكن القول بأن مصادر المعلومات هي الكتاب العزيز ثم ما ثبتت نسبته إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ من سيرة أو قول أو فعل أو خلق والآيات الكونية والوقائع التاريخية وكذلك الآثار المنسوبة إلى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان، وشرط الثبوت الأول هو التوافق والاتساق التام بين كل ذلك وبين دين الحق المتجسد في القرءان، ولا يجوز التسوية بين مصادر المعلومات وبين آليات الاجتهاد أو بين تلك المصادر وبين آلات الاجتهاد، فمصدر المعلومة قد يكون مثلا آية من آيات الكتاب، وآلة الاجتهاد أو وسيلته هي العقل أو الوجدان، أما آلية الاجتهاد أو منهجه فقد تكون القياس مثلاً، فالقياس هو آلية ذهنية لاستنباط حكم فيما لا نص فيه مثله في ذلك مثل الاستنباط والاستقراء، أما الإجماع فلا وجود له وليس بآلية ممكنة، وإنما يمكن بدلاً منه اعتماد آلية أخرى هي الشورى، فهي آلية لتبادل الآراء بين أولى الأمر وتمحيصها واختيار أفضلها أو أرجحها، أما العقل فهو الملكة القلبية الذهنية التي لدى الإنسان والتي بها يمكنه تدبر آيات الكتاب ومعرفة معانيها وكذلك فحص وتمحيص ما في عداه من مصادر المعلومات بخصوص أمر ما، ولما كانت مصادر المعلومات تتضمن المعرفة التاريخية وكذلك المعرفة بالآيات والسنن الكونية بالإضافة إلى معرفة لغوية كافية فإن الرأي أو التفسير الذي يصل إليه الإنسان سيبقى أمراً نسبياً لأنه سيظل مرتبطاً بزمانه ومكانه، أما القول بأنه لا اجتهاد مع النص فيعنى رفضاً تاماً للأوامر الإلهية وعصياناً لرب العالمين، ذلك لأن الله سبحانه هو الذي أمر الناس بأن يتدبروا آيات كتابه وأن يعقلوها وأن يفقهوها وأن يذَّكروها، وكل ذلك من لوازم الاجتهاد وتفاصيله، فإن قالوا إن النص هنا هو النص الاصطلاحي أي ما دل بصيغته علي المعني المقصود أصالة من البيان فإنهم حتى بخصوص هذا النص قد أقروا بأنه يقبل التخصيص والتأويل بل والنسخ بمعني إلغاء حكم النص وفحواه ودلالته، فإذا كانوا قد أقروا بذلك ألا يستلزم ما أقروا به اجتهادا؟ أما العقاب الأمثل لأمة أجمعت على إهمال عقول أبنائها وتجريم استخدامها فهو أن يتسلط عليهم من أعملوا عقولهم من أهل الغرب ليقهروهم بالأسلحة التي كانت من ثمرات هذا الإعمال، أما في شريعة الحق فإن العقل ليس فقط مناط التكليف الذي تميز به الإنسان على المستوى الوظيفي بل هو من لوازم حمله الأمانة واستخلافه في الأرض وهو سلاحه الحاسم الذي تسيد به على الكائنات الأرضية وكرِّم بسببه وحمل في البر والبحر والجو، أما من رفض استعمال عقله فله الخزي في الدنيا وعذاب السعير في الآخرة، ومقاصد الدين العظمي تقتضي أن يزكي الإنسان ملكاته الذهنية وأن ينميها إلي المدى الأقصى.
97.      يجب اتباع القرءان واتخاذه إماما، قال تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ{91} وَأَنْ أَتْلُوَ الْقرءان فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ{92} النمل، فأمر الله لرسوله هاهنا هو بالفعل أن يتلو القرءان بمعنى أن يتبعه وأن يتخذه إماماً، قال تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}الأنعام106، {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}يونس109، {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}الأحزاب2، {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ }الجاثية18، ولذلك كان يتعين على المسلمين أن يتخذوا القرءان المرجع الأوحد في أمور الدين الكبرى والمرجع الأعلى في الأمور الثانوية، وكونه المرجع الرئيس في الأمور الثانوية يفسح مجالا لما تبقى من ملة إبراهيم التي كان الرسول مأمورا باتباعها أيضا، وهي متعلقة بالسنن العملية مثل الصلاة والحج، قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }النحل123، {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء }إبراهيم40،  {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}الحج27، ولكن كان الرسول مفوضا في تحديد بعض ما يتعلق بها فاختار لأمته الأيسر مثل الحج مرة واحدة، كما اختار ما يُقرأ في الصلاة وما يقال في الركوع والسجود بناءاً على الهدي القرءاني، وبالطبع فالتلاوة غير الاتباع، فاختلاف المبنى يؤدي إلى اختلاف المعنى، ولكن الكلام هو على العبارة اللغوية ككل والتي يظهر فيها الفعل وليس اسم المعنى وصيغة الحصر والتأكيد الواردة وفحوى الخطاب وظلاله، فكل ذلك يؤدي معنى أن الرسول مأمور بأن يقدم القرءان أمامه وأن يتخذه إماما، وهذا هو معنى الاتباع والذي أكدته وصدقته آيات أخرى، وهذه الآية هي بالفعل حجة على عبيد المرويات الظنية.
98.      القول بأن آيات القرءان متكافئة يعني القول بأن لكل آية حجيتها ومصداقيتها التامة، لذلك عند الرغبة في استخراج القول القرءاني في موضوعٍ ما يجب استخلاص كل الآيات التي تذكر شيئا عن هذا الموضوع، والنظر فيها على هذا الأساس، فكل واحدة منها تلقي بعض الضوء على الموضوع، فالقرءان هو المرجع الأوحد (وأكرر الأوحد) في الأمور الدينية الكبرى والمرجع الأعلى في الأمور الثانوية، ولكن لابد من منهج علمي منطقي لاستخلاص قول القرءان في أي أمر من الأمور أو شأن من الشئون، ومن أركان هذا المنهج أن آيات القرءان التي تذكر شيئا عن موضوعٍ ما كلها متكافئة فيما يختص بهذا الموضوع وكل منها يضيء جانبا من جوانبه، فلا يجوز القول بأنها متعارضة ينسخ بعضها بعضا كما يقول سدنة المذاهب، وما أشبه آيات القرءان التي تتحدث عن أمرٍ ما بمصابيح متصلة على التوالي، فلا يجوز فصل أحد المصابيح، لابد من وجودها جميعا لكي يتحقق كشف وإظهار هذا الأمر.


*******

هناك تعليق واحد: