السبت، 14 مارس 2015

الركن الديني الخامس (ج)1

الركن الديني الخامس (ج)1
الإيمان بالقرءان والعمل بمقتضى هذا الإيمان

هذا الركن يعني الإيمان بكتاب الله والعمل بمقتضى هذا الإيمان، وهذا الإيمان هو التصديق الإيجابي بكل ما أورده الكتاب من علوم وأوامر وتعليمات؛ فهو الذي يدفع الإنسان إلى العمل وفق مقتضيات ما آمن به،
فهذا الركن يعني القيام بحقوق الكتاب العزيز بالإيمان به، وتلاوته باتِّباعه واتخاذه إماما، وتلاوة آياته وتعلمه وتعلم ما يتضمنه من الحكمة وقراءته وتذكره وتزكية النفس به وتعظيم قدره وتدبر آياته والتفكر فيها وإعمال كافة الملكات القلبية الذهنية والوجدانية فيها والعمل بمقتضى ما يتضمنه.
وهذا الركن هو ركن ركين من أركان الدين، ولقد قدم الله تعالي مقتضياته وتفاصيله على ما تواتر أنه من الأركان (مثل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة) كلما ذكر معها.
=======
إن القيام بحقوق القرءان يقتضي الإيمان به وتلاوة آياته وترتيله وتعلمه وتعلم ما يتضمنه من الحكمة وقراءته وتذكره وتدبر آياته وتزكية النفس به وتعظيم قدره واتخاذه إماما والعمل بمقتضى ما يتضمنه، كما يقتضي اتخاذه المرجع الأوحد في كل أمور الدين الكبرى والمرجع الرئيس في الأمور الثانوية، وهذا بدوره يقتضي أن يستمد كل مرجع شرعيته ومصداقيته من القرءان وحده.
=======
إن هذا الركن يستلزم تلاوة آيات الكتاب وتعلمه وتعلم ما يتضمنه من الحكمة بمعناها الحقيقي وقراءته وتذكره وتدبر آياته، والتلاوة تكون بالاتباع؛ أي بتقديم القرءان واتخاذه إماما، كما تكون التلاوة باللسان مع التركيز وحضور الذهن واستحضار المعاني بقدر الاستطاعة، وهذا هو الحد الأدنى اللازم لكل مؤمن، ويعلو ذلك القراءة مع إعمال الملكات القلبية الذهنية والوجدانية في الآيات والقيام بحقوقه فلا يقدم شيئاً عليه، ومن ذلك ترتيل القرءان وخاصة أثناء قيام الليل والاستماع والإنصات لقراءة القرءان وأن يكون الكتاب هو المرجع الرئيس لكل أمور حياته.
وعلي المؤمن أن يعرف أسس التعامل مع الكتاب العزيز وأن يلتزم بها وأن يوجب علي نفسه الالتزام بقدر الاستطاعة بكل ما نص عليه الكتاب، فيجب عليه مثلاً أن يحب المحسنين والمتقين وأن يسلِّم علي العباد المصطفين وأن يلعن الشياطين والظالمين والمفسدين والكافرين والكاذبين، ويجب أن يربَّي الطفل المؤمن علي ذلك فينشأ كارهاً لكل من اتصف بهذه الصفات ومحباً للصلاح وللصالحين، وعلي كل مؤمن عندما يقرأ آية من القرءان أن يعرف ماذا تريد منه الآية وماذا يجب أن يفعله أو أن يتصف به، ومن كبائر الإثم المضادة لهذا الركن هجران القرءان الكريم والإعراض عنه وعن ترتيل آياته وعن إعمال الملكات فيها وكذلك الإعراض عن اتخاذ هذا الكتاب إماما أو تقديم أي مصدر آخر من مصادر المعلومات عليه ومحاولة تأويل الآيات ابتغاء الفتنة أو الكفر ببعض الآيات؛ ومن ذلك الكفر القول بالنسخ بالمعنى الذي اصطلحوا عليه.
*******
والمسلم ملزم بالإيمان بأن القرءان مبين ومبيِّن وتبيان لكل شيء كما قال الله تعالى، وأن الله تعالى قد فصَّله على علم وذكر فيه كل الأمور الكبرى التي يجب الإيمان بها أو العمل بها، وأن ما سكت عنه هو أقل أهمية أو ثانوي بالنسبة لما ذكره في نصوص محكمة.
إنه بإدمان قراءة وتدبر القرءان وإعمال ملكات القلب فيه يترقى كيان الإنسان الجوهري ويبرمج للعمل وفق المنهج والمنطق القرءاني ويجد في القرءان البينات التي يمكن الاستناد إليها والانطلاق على هديها، ولا يمكن أن يفلح من لم يكن له زاد يومي من القرءان.
ومن لوازم وتفاصيل ركن الإيمان بالقرءان والقيام بحقوقه: تلاوته-قراءته-الإنصات لقراءته-إعمال كافة الملكات القلبية فيه ومن ذلك تدبره والتفكر فيه-اتخاذه المرجع الأوحد في كافة الأمور الدينية الكبرى والمرجع الرئيس في الأمور الثانوية-اتباعه وحده وعدم اتباع أولياء من دونه-عدم جعله عضين بل الأخذ به كله-اختيار ما اختار الله فيه-عدم اتباع ما تشابه منه ابتغاء الفتنة-ألا يجد الإنسان في صدره حرج منه...
ولقد أطلق الله على القرءان أسماء من أسمائه منها النور والمبين والحكيم والحق والمجيد والعزيز والعلي الحكيم والعظيم والكريم والحق والمهيمن، كما أعلن أنه روح من أمره، كما سماه بأسماء بعض القيم العليا مثل الحق والصدق والرحمة والهدى والذكر والفرقان والشفاء، ويجب على المسلمين تقدير ذلك والعمل بمقتضاه.
ويجب على المسلم معرفة منظومة السمات القرءانية والعمل وفق مقتضياتها، وكل ذلك يقتضي اتخاذ القرءان المرجع الأوحد في أمور الدين الكبرى والمرجع الرئيس والمهيمن في الأمور الثانوية، والآيات الآتية تبيِّن وتفصِّل هذا الركن:
{وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً}الكهف27، {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}العنكبوت45، {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }البقرة121، {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ }فاطر29، {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقرءان}، {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} المزمل 20، {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}ص29، {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ}المؤمنون68، {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقرءان وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}النساء82، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقرءان أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}محمد24، {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ(121)}البقرة، {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ }الأنعام25، {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون }التوبة127، {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقرءان وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً }الإسراء46، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً }الكهف57، {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }الأنعام97، {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }الأنعام105، {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }التوبة11، {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قرءاناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }فصلت3، {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِين} (الأعراف: 2)، {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقرءان مَهْجُورًا} (الفرقان: 30)، {وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ{170}} (الأعراف)، {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ(151)} (البقرة)، {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ(164)} (البقرة)، {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ(30)} (الرعد)، {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ(91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقرءان فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنْ الْمُنذِرِينَ(92)} (النمل)، {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ(2)} (الجمعة)، {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا(10) رَسُولا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا(11)} (الطلاق)، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ{57} قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ{58}يونس.
والآيات تبين كيف أن تفاصيل هذا الركن مقدمة على إقامة الصلاة.
*******
إنه لا يجوز التعامل مع القرءان بحياد بارد، فهو كتاب الله الذي يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ، فمن أراد أن يطالع القرءان لينتقده وليلبس على الناس أمر دينهم فسيقضي على فرصته في النجاة ولن يبوء إلا بالخسران المبين، إنه لن يهتدي بالقرءان إلا من أراد الهدى، أي من كان يبحث عن الحق ليتبعه، قال تعالى:
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقرءان مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً }الإسراء82، {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقرءان وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً }الإسراء46، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً }الكهف57، {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ{124} وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ{125} }التوبة124، {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ }الأنعام25.
ويجب أن يقرأ المسلم هذه الآيات بعناية شديدة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ{41} لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ{42} مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ{43} وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قرءاناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ{44} وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ{45} مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ{46}}فصلت
*******
إن المسلم ملزم بالإيمان بالقرءان العظيم وبأنه كلام الله وهديه الذي أنزله وفصَّله وبيَّنه للعالمين، وهو ملزم بالإيمان بأن الله قد حفظ كتابه من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان وبالإيمان بأن القرءان هو َكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، فالقرءان هو الكتاب الوحيد الذي يستمد براهينه من ذاته ويبين نفسه بنفسه ويقيم الحجج على صحة ما فيه بآياته.
أما الكتب السابقة فقد كانت تستمد مصداقيتها وحجيتها مما يقدمه الرسول النبي من آيات مادية خارجية أي من أمور خارقة، أما سائر المصادر أو الأصول الأخرى كما يسمونها فإنها لا تستمد مصداقيتها فيما يتعلق بالأمور الدينية إلا منه وهو الحاكم والمهيمن عليها.
والقرءان هو كتاب مبين ومبيِّن وتبيان لكل شيء، ولقد جعله الله تعالى تفصيلا لكل شيء، والتفقه في القرءان وتدبره ليس مقصوراً على المتكسبين بالدين ولكنه ركن ديني ملزم لكل مسلم، ولو عمل المسلمون على القيام به حق القيام لما انهاروا ولما تفرقوا شيعا ولاختفى الجهل، وما حدث ذلك إلا من بعد أن اتخذوا القرءان مهجورا، وما اتخذوه مهجورا إلا بفعل أنساق من شياطين الإنس والجن ظل بعضهم يوحي إلى بعض زخرف القول غرورا منذ بداية الدعوة إلى الآن، ولن يكفوا عن ذلك إلا من بعد أن يستقروا في الدرك الأسفل من النار!
*******
إن القرءان هو الكتاب المبين والمبيِّن وهو تبيان لكل شيء، وهو مفصَّل على علم، لذلك فإنه هو المرجع الأوحد لكل المصطلحات القرءانية، فأي لفظ استخدمه القرءان استخداماً اصطلاحياً أي أعطاه معنى دينياً بالإضافة إلى معناه اللغوي يجب الرجوع إليه بخصوصه لمعرفة دلالاته الحقيقية، ولتحقيق ذلك يجب الرجوع إلى كل الآيات التي ورد المصطلح فيها مع العلم بأن لكل آية نفس الدرجة من الحقانية والمصداقية والحجية، ولا يجوز أن يُصادَر المعني الذي تشير إليه آية لحساب أي رأي مسبق أو أي رأي مبني على نظرة من اتخذوا القرءان عضين، ويجب أن يؤخذ في الاعتبار السياق الذي وردت فيه كل آية، ويجب أخذ كل البينات القرءانية الأخرى ذات الصلة بهذا المصطلح في الاعتبار.
*******
إن هذه الأمة ما قدرت كتاب الله حق قدره وما عرفته حق معرفته، فمنهم من حاول إخضاعه إخضاعا مطلقا لقواعد النحو التي استخرجوا أكثرها من الشعر الجاهلي فلما عز عليهم ذلك في بعض الكلمات والجمل قالوا إن في القرءان لحناً بدلا من الإقرار بأن القواعد المستنبطة ليست صادقة صدقاً مطلقا أو الإقرار بأن في الأمر سراً يجب تدبر القرءان والاجتهاد لمعرفته، وهناك من تفنن في إعراب الكلمات حتى شغل بذلك عن تدبر المعاني، ومنهم من أهمل المعاني الظاهرة البينة لحساب معانٍ قال إنها باطنة ولم يضع لها مقياسا إلا ذوقه وذاته، ومنهم من نفي أي معني ممكن للآيات لم يسبقه إليه السلف حتى ولو كان متسقا تماما مع الدين ويعضده فقه من يجيد العربية، ومنهم من حاول صرف الناس عن تدبر القرءان واستنباط المعاني الجديدة بحجة أن ذلك منهي عنه في مروية فسرها وفق هواه، فلماذا إذاً أمر الله الناس أمراً عاماً مطلقاً بتدبر القرءان والتفكر في آياته وتعقلها؟ إن معاني القرءان لا يحاط بها ولا يمكن لجيل واحد أن يحيط بها، ومنها ما أدركه الأولون ومنها ما ادخر للآخرين، ولا يعني ذلك نقصاً في الأولين فإنهم أدركوا من القرءان ما هو لازم لعصرهم وما هو كاف لتحقيق كمالهم، ولو أدركوا مثل ما سيدركه الآخرون لما وجدوا سبيلاً إلي التعبير عنه ونقل معرفتهم إلي غيرهم كما هو الحال بالنسبة إلي أعرابي كان يعيش منذ عدة قرون عندما يري صاروخا مثلا، كما أن القرءان يتضمن كثيرا من النبوءات بعضها تحقق مثل انتصار الرسول ومن آمن معه واستخلافهم في الأرض ومثل غلبة الروم وبعضها في سبيله إلي التحقق، وأغلب تلك النبوءات مرموز لها، وإلا فكيف استطاع أحد علماء المسلمين تحديد تاريخ استرداد بيت المقدس من الصليبيين وتحقق تماما ما تنبأ به، ولم يكن من الحكمة التصريح بتطورات الأمور وإلا لظهرت الحجة ظهورا بالغا بطريقة تقتضي المعاجلة بإيقاع العذاب بالمنكرين ولتنافي ذلك مع المقاصد الدينية والكونية، وإن كثيرا من الاكتشافات العلمية والتاريخية الحديثة لتفسر كثيرا من آيات القرءان أو تفتح مجالا لفقه جديد فيها، كما أن تلك الاكتشافات لم تأت بما يتنافى مع القرءان وإنما بما يتنافى مع غيره من الكتب المزيفة والمحرفة المحسوبة علي الأديان الأخرى، والمسلمون المتخصصون في كل فرع من فروع العلوم الطبيعية والإنسانية مدعوون إلي فقه ذلك وبيانه للأمة، أما المعارضون لهذا الاتجاه فليس لهم أن يقصروا معاني الآيات علي ما توارثوه عن أسلافهم، فالقرءان بالإضافة إلي كونه كتاباً عربياً بليغا يتضمن الأحكام الشرعية هو كتاب أنزل لهداية الناس كافة ولإخراجهم من الظلمات إلي النور في كل عصر من العصور ولابد له من تأويل سيأتي حينا بعد حين كلما اصبح الناس لذلك مهيئين، ومن الجدير بالذكر أنه لابد لفقه القرءان الكريم من القيام بأركان الدين، لذلك فكما يهتدي به الباحثون الجادون المخلصون سيضل به المهرجون والظالمون والفاسقون والكافرون.
*******
إن القرءان ليس بكتاب تاريخي مقيد بزمانه ومكانه وإلا لكان من اللازم ترتيب آياته وفق تواريخ نزولها، إن ترتيبه المأمور به هذا هو من سمات طلاقته وعالميته وتحرره من قيود الزمان والمكان، ومن ذلك أيضاً كونه لم يذكر أسماء الناس والأماكن إلا للضرورة القصوى، ولم يدرك السلف شيئاً يعتد به من خصائص القرءان وسرعان ما بدأوا يتخذونه مهجورا ويحاولون القضاء على سماته المميزة.
أما عبيد السلف فقد حاولوا حصر القرءان وتقييده وتحجيمه بإحاطته بسياج من تفسيرات ومقولات السلف، والحق هو أن كل جيل لا يستطيع أن يفقه من القرءان إلا بقدر ما تسمح به ظروفه وإمكاناته وسقفه الحضاري، ومن الشرك محاولة تأبيد تفسير أو رأي بشري تجاوزه العصر، إن السلف لن يغنوا عن عبيدهم شيئا ولا يملكون لهم ضرا ولا نفعا.
*******
إن النص القرءاني ينبغي أن يفقه في ضوء العلم بأنه أنزل بلسان عربي مبين، وفي ضوء الجمع بين النصوص جميعها والتي وردت في المسألة المراد فقهها، ثم يجب الأخذ بالفقه الناتج في كل الأمور القرءانية ذات الصلة.
ولا يجوز اقتطاع عبارة قرءانية من سياقها ثم محاولة تفسيرها معزولة عن سياقها وعن العبارات الأخرى التي تعالج نفس الموضوع الذي تعالجه الأولى ولا عن السياق العام للقرءان بمنظومات سماته وقيمه وسنن، إن تجاهل آية أو عبارة واحدة أو القول بنسخها يعادل تكذيبها أو الكفر بها، كما أنه يؤدي إلى تنكب النهج القرءاني والقول بآراء ضالة.
*******
إنه لا يجوز ضرب آيات القرءان ببعضها البعض ولا يجوز جعله عضين أي قطعاً متفرقة، فالقرءان كل متكامل متسق، فمن أراد أن يفقه أمراً أو أن يستخرج حكماً من كتاب الله فليجمع كل الآيات التي تتناول المسألة المنظور فيها، ثم يتفكر في الأمور التي تشير إليها كل الآيات علي أن يسلم لكل آية بالحجية الكاملة، ولا يجوز مطلقا أخذ بعض الآيات وترك البعض الآخر أو القول بنسخ آية أو بنسخ حكم آية، ويجب أن يسترشد الإنسان بمنطوق ونص وفحوى كل ما له صلة بموضوعه من آيات.
*******
إن من أفضل سبل تحقيق المقصد الأعظم الثاني –وهو إعداد الإنسان الرباني الصالح المفلح-  قراءة القرءان بحضور ذهن وتركيز وتدبر، فلقد صيغ هذا الكتاب ليدفع الإنسان دفعا إلي استعمال ملكاته القلبية الذهنية والوجدانية وليثيرها وليحركها وليحييها وليزكيها، فالآيات تتتابع وتترى وتنتقل من أمر الي آخر بسرعة فائقة حتى لقد يخفى الترابط بين الآيات علي الفطاحل والجهابذة، فانتقال الذهن والوجدان السريع من أمر الي أمر من وسائل تحريكهما وإحيائهما وتزكيتهما، أما الثبات علي أمر واحد أو علي فكر واحد كما يفعل المتريضون فقد ينمى ملكة الحفظ أو التركيز أو الخيال، وكل ذلك قد يلزم في بعض الأحيان وليس في كلها ولا ينبغي أن يكون علي حساب تزكية الملكات القلبية العليا، وكذلك قد تتناثر المعلومات المتعلقة بأمر واحد في سور ومواضع شتى من الكتاب، وهذا من لوازم دفع الإنسان لاستعمال ملكاته الذهنية وتدبر وترتيل القرءان.
وقراءة القرءان هي ركن لازم لاكتساب الحكمة وما يلزم الإنسان من العلم النافع ولتزكية الكيان الإنساني، بيد أنه يجب العلم بأن القرءان كتاب حقاني فعال، لذلك لابد من التطهر لقراءته، فقراءته خطر على الفاسق وعلى الظالم الراضي عن نفسه، ذلك لأن آيات الكتاب تلعنه، فالتطهر هو إعداد النفس للدخول إلى الحضرة الإلهية الخاصة والتلقي منها.
*******
إنه يجب علي المؤمن عندما يقرأ آية من القرءان أن يعمل كل ملكاته القلبية فيها بهدف أن يعرف ما المراد من الآية في حقه وماذا يجب عليه أن يعلمه وماذا يجب عليه أن يفعله، كما يجب علي المؤمن أن يعلم مرتبة هذا الكتاب مما ذكره الله عنه، ومن ذلك:
ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين. كتاب انزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكري للمؤمنين. اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء. وإنك لتلقى القرءان من لدن حكيم عليم. وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم. إنا أنزلناه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون. كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب. إن علينا جمعه وقرءانه. إن علينا بيانه. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم. تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين. تنزيل من الرحمـن الرحيم. وإنه لكتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. إنا جعلناه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون، وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم. تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم. ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين. حم، والكتاب المبين. والذي أنزل إليك من ربك الحق. ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون. وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم. قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين، قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون. كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد. إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور. أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما. وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين. إنه لقرءان كريم، في كتاب مكنون، لا يمسه إلا المطهرون. إنه لعلم للساعة. تنزيل من رب العالمين. اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة. ورتل القرءان ترتيلا. وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون. قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا، فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما. إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون. اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين. فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك علي صراط مستقيم. واتبع ما يوحي إليك واصبر حتى يحكم الله. واتبع ما يوحي إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا. إن أتبع إلا ما يوحي إليَّ وما أنا إلا نذير مبين. إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين.  تبارك الذي نزل الفرقان علي عبده. الحمد لله الذي أنزل علي عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. تبارك الذي نزل الفرقان علي عبده. تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق.  وإنه لذكر لك ولقومك. تلك آيات الكتاب الحكيم. تلك آيات الكتاب وقرءان مبين. تلك آيات القرءان وكتاب مبين. لقد أنزلنا آيات مبينات. إنا أنزلناه قرءاناً عربياً لعلكم تعقلون. يس، والقرءان الحكيم. ص، والقرءان ذي الذكر.
والآيات تبين أن الرسول الذي أرادوا أن يجعلوا مما نسبوه إليه مثلاً للقرءان وقاضياً عليه وناسخا لبعض آياته كان هو نفسه مأموراً باتباع القرءان، ولقد سجل الله تعالي إقراره بذلك في القرءان لتبرئة ساحته من مزاعمهم وحتى يقيم بذلك الحجج عليهم، وكذلك ذكر في الكتاب أن هذا القرءان هو ذكر له ولقومه، ولقد تحقق ذلك بالفعل.
والقرءان ليس بشعر، فهو لم يأت تحت تأثير ضرب من الانفعال الوجداني وليس فيه افتعال أو اصطناع أو تكلف، بل هو الحق من لدن الحق، لذلك فهو يتضمن كلمات الله وسننه التي لا تبديل لها ولا تحويل، وهو يتضمن قوانين علمية وسنناً كونية ومعارف حقيقية وشرائع ربانية ونواميس أخلاقية وأوامر ونواهي، وكل ذلك إنما أنزل بالحق، والرب سبحانه منزه عن ملكات الإنسان الوجدانية وعن تصوراته الذهنية وإن كان له الإحاطة بها وإنما هي آلاته وأدواته، وهو سبحانه ليس كمثله شيء، والإنسان الفذ الفريد الذي كان من الممكن أن يتلقى القرءان هو سيدنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ.
ويجب على كل إنسان أن ينظر في آيات الكتاب وأن يعمل ملكاته القلبية الذهنية فيها أثناء تلاوتها وترتيلها، وإذا ما أوتي فقهاً في آية من الآيات فله أن يعلنه على الناس دون أن يفرضه عليهم إلا بسلطان الحجة والبرهان وليس استنادا إلى أمور ذاتية غير موضوعية.
إن القرءان الكريم هو علم للساعة ومهامه ممتدة إلي الدار الآخرة؛ فهو المصدر المعتمد الوحيد لكل ما يتعلق بتلك الدار وبمنازل يوم القيامة ولكل ما يتعلق بعالم الغيب.
*******
إن تسمية الكتاب العزيز بالقرءان تتضمن ضرورة تدبره وجمع الهمة والعزم أثناء تلاوته أو أثناء متابعة تلاوته والتي تعنى سرد آياته واحدة تلو الأخرى، فالإنسان مأمور بالاستماع والإنصات أثناء القراءة سواء منه أو من غيره، والاستماع هو محاولة التقاط المعاني والإنصات هو تركيز الحواس اللازم لذلك، والذي طُلب من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ عند بدأ الوحي هو القراءة باسم ربه الذي خلق، وليس مجرد التلاوة، إنه علي المسلم أن يعتصم بكتاب الله وأن يتخذ منه وسيلة لذكر ربه ولإقامة صلة به ولتعلم ما فيه من الآيات والحكمة ولتزكية ملكاته به.
*******
إن الكتاب العزيز يخاطب كافة الكيانات الإنسانية فهو يخاطب الفرد والأسرة والمجتمع والأمة والبشرية جمعاء، وبالنسبة لكل فرد فهو يخاطبه ككيان كلى جامع كما يعالج كافة كياناته وملكاته وما يمكن أن يكتسب من ملكات واستعدادات ويعامل كل مفردة مما ذكر بالمنطق اللائق بها، فهو ليس بكتاب تاريخ يلتزم بنمط ونهج معين لتقديم المعلومات ولا بكتاب من كتب العلوم الطبيعية التي لا تعتمد إلا المنطق العلمي المعروف ولا تخاطب إلا الملكات الذهنية ولا يحتمل المصطلح فيها إلا معنى واحدا محددا بكل صرامة، ولا كالموسيقى التي تستحث وتثير فقط الملكات الوجدانية، ولذلك فإن القرءان يتضمن قدرا هائلا من المعلومات والمعارف والبينات والقوانين والسنن والأوامر والتعليمات والقصص والحكم والعبر وهى مصوغة بحيث يتوفر فيه الجلال والجمال اللفظيان والمعنويان وبحيث تسرى فيه موسيقى ظاهرة وباطنة، وجمال الكتاب يتمثل في اتساقه التام فلا اختلاف فيه، ولقد حرص الله سبحانه علي إعلان ذلك، ولكي يخاطب القرءان الإنسان في كل أحوال تطوره ورقيه على كافة المستويات فإنه نزل متشابها يتضمن أنساقا من المعاني التي تتكشف حينا بعد حين برقى البشرية ككل وبرقي كل إنسان على حده وباكتسابه ملكات واستعدادات جديدة.
------------
إن تشابه الكتاب يعنى أنه يتضمن كنوزاً مخبأة وخيرات موقوتة وبرامج تنتظر اللحظات المناسبة لتفعيلها، لذلك لابد للإنسان أن يكتشف فيه في كل عصر ما يجلب المزيد من السعادة وما يعين الإنسان على التحقق بكماله المنشود، ولذلك أيضا فإن السلفية تتضمن شركا وكفرا بطبيعة هذا الكتاب إذ تحاول تقييده وتحجيمه وتجاهل طبيعته وتلبس على الناس أمور دينهم وتتخذ من الأسلاف أربابا من دون الله تعالى، وهم يحاولون أيضاً تضخيم شأن كل ما سلف من التأويل على حساب كل ما يمكن أن يستجد منه.
وكتاب الله وحده هو الذي يجب أن يتلى وأن يرتل وأن يفسر، وهو الكتاب الوحيد الذي يمكن أن يتعبد به الإنسان بمجرد تلاوته.
*******
إنه يجب العلم بأن القرءان تبيان لكل شيء:
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين} [النحل:89]
لذلك من سمات المسلم الحقيقي أن يجد في القرءان الهدى والرحمة والبشرى.

والقرءان مبين ومبيِّن وآياته بينات مبيِّنات:
{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِين}[الشعراء:2] {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِين}[النمل:1]، {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِين}[القصص:2]، {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِين}[النحل:103] {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِين}[النور:34]، {لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم}[النور:46]، {رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا}[الطلاق:11]
والله تعالى هو الأصدق حديثا، ولكن السلف الطالح كفر بكل ذلك وآمن بعكسه تماما، وتابعهم في ذلك الخلف الضال الفاشل، وهم يرددون بلا كلل ولا ملل المقولة التي ألقاها إليهم الشيطان، وهي أن القرءان مبهم يحتاج إلى بيان، مشكل يحتاج إلى إيضاح، مطلق يحتاج إلى تقييد، غامض يحتاج إلى تفسير .... الخ، هذا بالإضافة إلى أن فيه آيات منسوخة، ولذلك قالوا بأنه أحوج شيء إلى السنة (المرويات الظنية) لتؤدي كل هذه المهام وبين ناسخه من منسوخه، والحق أن سبب المشكلة هي ما نشروه من جهل وتخلف جعل الناس يفقدون السليقة العربية ويتعاملون مع القرءان وكأنه شفرات أو مجموعة من الألغاز.    

والقرءان مفصًّل:
{وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون} [الأعراف:52]، {أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِين}[الأنعام:114].
وميسَّر للذكر
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِر} [القمر:17]، {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا} [مريم:97]، {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون} [الدخان:58]
إن الله تعالى الذي نحن ملزمون بعبادته هو الذي أنزل هذه الآيات على رسوله الذي نحن ملزمون بطاعته في رسالته، فمن لا يعجبه حكم الرحمن فسوف يتولاه الشيطان.
*******
ما أوحاه الله تعالى إلى النبي هو روح من أمره وهو نفسه الكتاب وهو نفسه القرءان وهو نفسه الفرقان وهو نفسه الذكر وهو نفسه النور...الخ، فكل هذه سمات لنفس الروح الأمري الذي تلقاه الرسول من حيثيات مختلفة.
وعندما يكون الكيان ظاهرا بسمةٍ أو بصفةٍ ما ظهورا جليا يشهد الله تعالى له به فعندها يمكن أن تكون السمة علماً عليه، ويمكن عندها أن توصف!
فهذا الروح الأمري هو الكتاب مطلقا وهو الكتاب المبين وهو القرءان المبين وهو القرءان الحكيم وهو القرءان الكريم وهو القرءان العظيم وهو القرءان المجيد وهو النور المبين وهو في أم الكتاب عليٌّ حكيم...الخ.
ويتبقى للناس التدبر لمعرفة مقتضيات هذا السمات، بمعنى لماذا سُمِّي ما أوحاه الله تعالى إلى النبي كتابا أو قرءانا أو ذكرا، ولماذا سُمِّي القرءان تارة بالمبين وتارة بالحكيم.... الخ.
أما الحديث عن مصحف بين دفتين يتضمن آيات من الكتاب وليست من القرءان أو العكس، فهذا هو الضلال المبين، ولا يمكن أن ينتج عنه خير، وإنما هو وسيلة كالنسخ للتملص من بعض الأوامر الإلهية أو التهوين من قدرها.
ويجب العلم بأن الآية القرءانية قد تتضمن سنة كونية أو أمرا دينيا أو اسما إلهيا أو قصصا أو توليفة من بعض ذلك مثلا ثم تُختم بالاسم الإلهي الذي اقتضى كل ذلك، فلا يجوز أبدا ولا يمكن أبداً تقسيم الآيات وفقا للطريقة التي اقترحها بعض المجتهدين والتف حوله زمرة من الدراويش والمطبلين، ومن الضلال المبين القول بتاريخية بعض القرءان أو إنه من القصص المحمدي الذي انتهى أجل العمل به، وهذا القول هو أيضاً وسيلة للتملص من بعض الأوامر الإلهية أو التهوين من قدرها.
وخطورة مثل هذه الاتجاهات أنها تقوض المنهج القرءاني السليم لاستخراج الأحكام، كما أنها تستخف العامة وأشباه المثقفين وتصرفهم عن جهود الإصلاح والتجديد الحقيقية، وهي في النهاية ستترك البنيان الديني مهلهلا لا يصلح للسكنى ولا لتحقيق مقاصد الدين الحقيقية.


*******

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق