الاثنين، 30 يونيو 2014

الشكـر

الشكـر
إن الشكر هو بالأصالة سمة إلهية رحمانية:
قال تعالى:
وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ }البقرة158  *  وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً }النساء147  *  {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ }فاطر30  *  {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ }فاطر34  *  وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ }الشورى23  *  {إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ }التغابن17
والشكر كصفة إنسانية هو من مقتضيات هذه السمة الإلهية، والإنسان بعمله على التحلي بها واكتسابها يقترب من ربه، ولذلك كان الشكر من صفات المصطفين الأخيار:
قال تعالى:
{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً}الإسراء3  *  اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ }سبأ13  *  {شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }النحل121  *  {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ }الأعراف144
والشكر هو الإقرار لله عزَّ وجلَّ بما هو له من السمات والأفعال والنعماء والآلاء والعمل بمقتضى ذلك، فهو علم وعمل مصدق لهذا العلم، وهو من الأخلاق الإسلامية العظمى ومن مقاصد الدين كما أنه يقتضي أفعالاً هي من لوازم الإسلام الحقيقي، والشكر هو الإقرار بأن النعمة من الله واستعمالها كما يريد الله أي كما تقتضي الأوامر الدينية الشرعية، وهذا يقتضي فرحا بالمنعم وعملا يعبر عن الإقرار له بالنعمة وإظهارَ الامتنان له.
فالشكر هو من الصفات اللازمة للإنسان الرباني الفائق، ومن المعلوم أن إعداد هذا الإنسان الرباني هو المقصد الديني الأعظم على المستوى الفردي.
إن الشكر هو من أمهات القيم والصفات الإسلامية، وهو من لوازم وتفاصيل أركان دينية عديدة، فالشكر كصفة قلبية جوهرية هو من أركان المنظومة الأمرية الرحمانية والتحلي به هو من ركن التزكي، وهذه الصفة تقتضي عملا ويترتب عليها عمل، هذا العمل هو الشكر أيضاً، والشكر كفعل هو ركن فرعي من لوازم وتفاصيل عدة أركان دينية، وخاصة ركن إقامة صلة وثيقة بالله، والتحلي بالشكر والعمل بمقتضى ذلك من لوازم تحقيق المقصد الديني الأعظم الثاني أي من لوازم أن يكون الإنسان إنساناً ربانياً صالحا مفلحا، وهو من أفضل العبادات الموجبة لدخول الجنة، لذلك فالشيطان يسعى دائما لمنع الإنسان من اكتساب تلك الصفة أو العمل بمقتضاها.
والشكر هو النقيض الفعال والصفة المضادة لكل من الكفر والشرك، وهو العمل المضاد لهما أيضا، فهو الإقرار لله بما هو له من الأسماء والسمات والشؤون والنعماء والآلاء، وهو العمل بمقتضي ذلك، وهو من الأخلاق والأعمال العظمي ومن أركان منظومة القيم الرحمانية، وبالعمل بمقتضاه أُمِر الناس بما فيهم الأخيار منهم.
-------
والشكر يقتضي معرفة قدر ما استخلف الإنسان فيه وحسن استعماله للقيام بحقوق الأسماء الحسني وتحقيق مقاصد الدين العظمي، والشكر هو النقيض الفعال لكل من الكفر والشرك، فهو الإقرار لله بما هو له من الأسماء والسمات والشؤون والنعماء والآلاء والعمل بمقتضي ذلك، وهو من الأخلاق والأعمال العظمي.
-------
إن الشكر يعني الإقرار بأن النعمة هي بالأصالة من الله عزَّ وجلَّ وحده والعمل بمقتضى ذلك، لذلك فإنه يضاده الكفر الذي يعني إنكار أن النعمة من الله أصلا وكذلك يضاده الشرك الذي يعني نسبة النعمة لمن هم من دون الله تعالى.
-------
إن الشكر كصفة هو من أركان المنظومة الأمرية الرحمانية، وهو بذلك من أركان منظومة القيم الإسلامية، أما كعمل فهو ركن فرعي من لوازم وتفاصيل عدة أركان دينية مثل ركن إقامة صلة وثيقة بالله تعالى وركن العبادة وركن التزكية، والتحلي بالشكر والعمل بمقتضى ذلك من لوازم تحقيق المقصد الأعظم الثاني أي من لوازم أن يكون الإنسان إنساناً ربانياً صالحا، وهو من أفضل العبادات الموجبة لدخول الجنة، والتحقق بالشكر أعلي مرتبة من التحقق بالتقوى بل هو من مقاصدها، فالتقوى وسيلة إلى التحقق بالشكر، لذلك فالشيطان يسعى دائما لمنع الإنسان من اكتساب تلك الصفة أو العمل بمقتضاها.
فالشكر هو صفة، وهو أيضاً عمل بمقتضى هذه الصفة، وهو النقيض الموضوعي والحقاني والفعال للكفر والشرك، والشكر من مقاصد الأفعال الإلهية ومن مقاصد الإنعام على الإنسان وتزويده بالحواس والملكات ومن مقاصد العبادات ومن مقاصد تصريف الأمور والآيات الكونية وهو مضاد للكفر، والشكر يتضمن الإقرار بالنعمة وبأنها من عند الله، ولذلك يقابله الكفر وهو جحود وإنكار النعمة، والشكر يرقي بالإنسان ويساعده على الإفادة من الآيات الكونية ومن الوقائع التاريخية.
إن الشكر هو أفضل رد فعل أو استجابة يمكن أن يقابل بها الإنسان ابتلاءً نزل به، والشكر هو أعلى مرتبة من التقوى، بل هو منها بمثابة الغاية من الوسيلة والمقصد من العمل:
قال تعالى:
عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) النمل، وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) آل عمران

والشكر لله هو ركن فرعي من أركان الدين، بل يمكن اعتباره ركناً أصليا، وهو المضاد للكفر والشرك، فهو الإقرار لله بالنعمة والفضل وبأن النعمة بالأصالة هي منه وحده وتجنب نسبة ما هو له إلى غيره، والآيات الآتية تبين كل ما يتعلق بالشكر بأجلى بيان، وهي تبين أن التحقق بالشكر من مقاصد تدبير الأمور وتصريف وتبيين الآيات ومن مقاصد الأوامر والأركان الدينية والعبادات:
قال تعالى:
{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ }البقرة152  *  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ }البقرة172  *  {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}البقرة52  *  {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }البقرة185  *  {إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ }البقرة243  *  {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }آل عمران123  *  {مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً}النساء147  *  مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }المائدة6  *  كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }المائدة89  *  {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ }الأعراف10  *  {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ }الأعراف58  *  {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }الأنفال26  *  إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ }يونس60  *  {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ }إبراهيم7  *  وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ }إبراهيم37  *  {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }النحل14  *  {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }النحل78  *  {فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ }النحل114  *  كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }الحج36  *  {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ }المؤمنون78  *  رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ }النمل19  *  {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ }النمل40  *  {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ }النمل73  *  {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }القصص73  *  فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }العنكبوت17  *  {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }الروم46  *  {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }لقمان12  *  {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ }لقمان14  *  {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ }السجدة9  *  اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ }سبأ13  *  {كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ }سبأ15  *  {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }فاطر12  *  {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ }يس73   *  {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}الزمر7  *  {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ }غافر61  *  {اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }الجاثية12  *  رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ }الأحقاف15  *  {لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ }الواقعة70  *  {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ }الملك23  *  وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ }آل عمران144  *  {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ }آل عمران145  *  {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ }الأنعام53  *  {ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ }الأعراف17  *  {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ }الأعراف144  *  {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ }الأنبياء80  *  {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ}الزمر66  *  {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً }الإنسان3  *  {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً }الإسراء3  *  {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ }لقمان31  * 

*******

السبت، 28 يونيو 2014

حقيقة مصطلح الجزية

حقيقة مصطلح الجزية

إن الجزية هي من الجزاء، فهي الغرامة الحربية التي يفرضها جيش المؤمنين على من اضطروه إلى القتال من الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر من أهل الكتاب، وهي مفروضة لوضع حدٍ للقتال، فهي البديل عن التطهير العرقي أو العقائدي أو الاستئصال الذي كان غايةَ الحروب العقائدية الدينية، ولذلك فمن الظلم والبغي أن تُفرَض الجزيةُ على طائفة مسلمة أو على المسالمين غيرِ المحاربين، ولا يجوزُ أن تؤخذ من إنسان مقابل تركه يمارس حقاً من حقوقه الإنسانية مثل حقه في اختيار دينه أو مذهبه.
والجزية مرتبطة أساسا بالقتال والذي ينبغي أن يكون مشروعاً وليس طلباً لغلبةٍ أو توسعٍ أو مغانم دنيوية، والقتال الشرعي له شروطه المعلومة؛ فهو لا يكون إلا لردع العدوان أو للتصدي لأهل البغي أو لدرء الفتنة أو لضمان حرية الدين أو للدفاع عن دور العبادة وعن المستضعفين في الأرض، فإذا ما اعتدت طائفة من أهل الكتاب على المؤمنين وجب على الأمة قتالهم ليس بهدف إبادتهم أو لإكراههم على اعتناق الإسلام وإنما لكف بأسهم وحتى يذعنوا للأمة المسلمة ويدخلوا في السلم كافة ويتكفلوا بدفع تكاليف الحرب التي  تكبدتها الأمة مع غرامة عادلة وتلك هي الجزية؛ فهي جزاء لهم على بغيهم وعدوانهم يدفعونه دون قيد أو شرط.
وحرية الإيمان هي حق من حقوق الإنسان المقدسة في دين الحق، فلا يجوز أخذ جزية من إنسان مقابل تركه على دينه، بل إن الدفاع عن كل مكان يُذكر فيه اسم الله تعالى هو من القتال في سبيل الله؛ أي هو من القتال المشروع، وكون السلف الصالح قد أخطئوا في إدراك مفهومها السليم لا يجوز أن يُتخذ حجة ضد الإسلام والإنسانية، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل! وكم أخطأ السلف في إدراك مفاهيم قرءانية غاية في الخطورة!! وقد حدث ذلك في أحيانٍ عديدةٍ عمداً مع سبق الإصرار!
لذلك لم يكن من حق السلف أن يُسموا الأموال التي كانت تُفرض على العراقيين والشوام والمصريين باسم الجزية، فلم يكن لهم أن يعتدوا على مصطلح قرءاني، وهذه الشعوب كانت أصلا شعوبا مسالمة تدفع ضريبة من مواردها للمتغلب على بلادها، فقد كانت مصر مثلا تدفع ضريبة للبيزنطيين، والذي حدث أنها استمرت في دفع مثلها ثم أكثر منها للمتغلبين الجدد، وهذا أمر لا شأن للإسلام به، فالجزية بالمصطلح القرءاني كان يجب أن تؤخذ من الروم المحاربين المهزومين وليس من سكان البلاد المسالمين، أما هذه الأموال التي أرغم العرب سكان البلاد التي استوطنوها على دفعها سنويا فكان يجب البحث لها عن أي اسم آخر يناظر الاسم الروماني لها!
والإسلام لم يأمر أحداً بمقاتلة المسالمين والاستيلاء على أموالهم واستيطان بلادهم، وكون السلف قد فعلوا ذلك أو كانوا يتبارون فيه فهذا كان من مقتضيات عصرهم ولا يعني الإسلام الآن في شيء، ولا يلزم المسلمين الآن في شيء، ولا يجوز القول بأنهم عندما كانوا يفعلون ذلك كانوا ينفذون أوامر إلهية! فلمبادئ الإسلام وقيمه الأصلية والكلية العلو عل سلوك وتفسيرات البشر، ذلك لأنها من مقتضيات الأسماء والشئون الإلهية، فالعدوان هو إثم خطير مبين، ذلك لأنه يتضمن اقتراف ما لا يحبه الله تعالى، وهو لن يثيب من اقترف ما لا يحبه، وإنما يلقيه في جهنم إن لم يتب! قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)} البقرة، ولا يجوز القول بأن هذه الآية منسوخة لما يلي:
1.     حقيقةُ أن الله تعالى لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ هي سمة إلهية لا تتغير أبدا، فالله سبحانه لا يتغير عما هو عليه أبدا، فلا يجوز القول بأن الله تعالى كان لا يحب المعتدين ثم أصبح يحبهم، هذا القول هو خطأ جسيم وتجديف خطير في حق الله تعالى.
2.     لا وجود أصلاً لآيات قرءانية منسوخة.
وبعد هذا البيان لا يجوز لعبد من عبيد السلف أن يقول لنا: "أتقصد أن فلانا وفلانا وعلانا كانوا مخطئين"؟
ولا يوجد كيان الآن يتحمل مسئولية ما اقترفه السلف من أخطاء في حق الإسلام وفي حق البشرية، وإلا لوجب عليه الاعتذار عما اقترفه أسلافه، أما من يعلن مسئوليته عن هذه الاعتداءات والأخطاء ويعد بإحيائها وتكرارها فيجب على المسلمين قبل غيرهم التصدي له.
والأموال التي أخذها السلف من الناس تحت مسمى الجزية لم تكن تحل لهم، فلا تحل أموال كهذه لأولئك الذين فرضوها واستباحوا لأنصارهم وأعوانهم ومداحيهم نهبَها والاستمتاعَ بها، وكان عليهم أن يسموها بأي اسمٍ آخر وألا يعتدوا على مصطلح قرءاني،  وكذلك لا تحل  لهم أموال الزكاة التي لم يوجهوها إلى مصارفها الشرعية المعلومة، ومن المعلوم الآن أن كل تلك الأموال التي نزحت إلى المدينة ومن بعدها إلي العواصم الأخرى كانت في الأغلب  نقمة على الأمة وأدت إلى فتنة الكثيرين وإلى الاختلاف  والتناحر والتنازع والتنافس وإلى تقوية جانب المنافقين ورقيقي الدين من الطلقاء على حساب المؤمنين الصادقين، ولم تستخدم تلك الأموال لإقامة أو تمويل مشاريع إنتاجية أو لزيادة تحصين مكة والمدينة مثلاً، وكان لابد من الصدام الدامي الذي فرضه الطلقاء والمنافقون على الأمة التي لم تأخذهم بها رأفة ولا رحمة.
فالجزية تُفرض على من قاتل وهو معتدٍ مثل الروم ومن ظاهرهم ولكنها لا تفرض على المسالمين غير المقاتلين وإن كان من الممكن أن يدفعوا ضريبة عادلة لتمويل نفقات الدفاع وإقرار الأمن وتسيير أمور الدولة، وما كان ينبغي أن تُسمَّى تلك الضريبة بالجزية، فالجزية لا تفرض إلا على من قاتل من أهل الكتاب بغيا وعدوانا فهُزِم، ولا تُفرض إلا مرة واحدة، أي أنها لا تفرض إلا على المقاتل المحارب بعد هزيمته، وفي ذلك ردع له ولغيره، وهذا يوفر البديل عن استعباده أو قتله.
أما الضريبة التي فرضت على الشعوب المفتوحة في مقابل الدفاع عنها وكمساهمة في تمويل مؤسسات الدولة فلقد سُميت خطأ بالجزية، والحق هو أن ما سموه بالجزية هو في الحقيقة نظام منقول عن الروم الذي نقلوه عمن سبقهم من الشعوب، وكان هذا خطأ تاريخيا أوقع الناس في لبس وجنى على الإسلام والمسلمين بل على البشرية جمعاء خاصة بعد استيلاء الأمويين على مقدرات الأمور وإعادتهم أحكام الجاهلية إلى مركز السيطرة والصدارة.
-------
إن الجزية هي غرامة حربية يدفعها أهل الكتاب الذين اعتدوا على المسلمين وقاتلوهم في الدين، وكانوا هم المعتدين البادئين بالقتال، يدفعونها وهم صاغرون، وهم يدفعونها مقابل إنهاء القتال، لذلك يجب أن يدفعوها مرة واحدة، ولا يجوز أن تؤخذ من أحد مقابل تركه على دينه، فلا إكراه في الدين، والقرءان يقرر حرية الدين، فهي حق طبيعي للإنسان فلا يجوز أن يؤخذ منه مالٌ مقابل ممارسةِ حق من حقوقه كما لا يجوز أن يؤخذ منه مالٌ لقاء تركه يعيش.
أما من لم يقاتلوا المسلمين في دينهم ولم يخرجوهم من ديارهم فمن كبائر الإثم الاعتداءُ عليهم، بل إن المسلمين مأمورون ببرهم والإقساط إليهم! أما من خالف عن ذلك من سلف أو خلف فهو –وليس الإسلام- الذي يتحمل وزر عمله!! ولن تنقلبَ الجرائم والآثام فضائلَ واجتهاداتٍ إذا كان الذي اقترفها بعض السلف، فللقرءان الحجةُ على الجميع، وليس للناس عليه حجة!
وبناء على ما سبق لم يكن يهود المدينة مثلا يدفعون جزية للمسلمين، بل كانوا يتعايشون معهم وفق عهد وميثاق.
أما القتال فهو مقيد بشروطه المعلومة فإذا ما نشب فإنهاؤه له أيضاً شروطه المعلومة!
-------
إن الجزية المذكورةَ في النص القرآني هي بمثابةِ غرامةٍ حربية يلتزم بدفعها المعتدون من أهل الكتاب كوسيلة لإنهاء القتال مع بقائهم على دينهم وضمان كافة حقوقهم، وهي تُدفع مرةً واحدة، وهي غير الأنواعِ الأخرى من الضرائب التي التزم بدفعها المغلوبون على أمرهم من شعوب الشرق المسالمين الذين انضموا بحكم الأمر الواقع إلي الدولة الإسلامية فصار لزاماً عليها الدفاعُ عنهم وكفالةُ كافة حقوقهم والقيام بأمورهم، ولقد سميت تلك الضريبةُ خطأ أو عرضاً بالجزية، ولا يلزم بالضرورة بعد إلحاق الهزيمة بالمعتدين احتلالُ أو استيطان بلادهم.
وكل أنواع المظالم التي ألحقها العرب بالشعوب المفتوحة يتحملون هم مسئوليتَها وأوزارَها ولم يأمر الإسلام بها، ولا يجوز أن تكون موضع فخر، بل موضع عارٍ وخجل! ويجب العلم بأن العرب الفاتحين -ورغم كل شيء-كانوا أرحم من غيرهم، وأنه لم يكن لديهم نظام للدعوة والتبشير بل لم يكن يعنيهم أمرُ الدعوة إلى الإسلام كثيرا، وإنما كانوا أميلَ إلى اتباع سنن بني إسرائيل بالاحتفاظ بالدين لأنفسهم، فهم لم يحاولوا أبدا فرض دينهم على الآخرين أو إبادة من خالفهم في الدين، ولم يكن ذلك لتحليهم بفضيلة التسامح بصفة عامة أو لعملهم بأوامر دينهم وإنما حرصاً على مواردهم!
وبقيام الدولة الأموية تحول الأمر بشدة إلى احتلال واستيطان لا هم له إلا استنزاف ونزح خيرات الشعوب المقهورة، ولم يُظهر الأمويون باستثناء عمر بن عبد العزيز أية رغبة في نشر الإسلام بين هذه الشعوب حرصا على مكاسبهم المادية وإنما انتشر الإسلام رغم أنوفهم،
إنه يجب التخلص والتبرؤ من المفهوم الخاطئ للجزية، وأن يعلن المسلمون ذلك على رؤوس الأشهاد، فمصلحة الإسلام والحقيقة والإنسانية مقدمةٌ على كل اعتبار آخر!



الأربعاء، 25 يونيو 2014

حقيقة الخلافـة (ج1)

حقيقة الخلافـة

 

إن الخلافة فى الأرض هى المهمة المنوطةُ بالإنسان من حيث أنه إنسان، فهو لا يملك مع ربه شيئا وإنما هو مستخلف فيما جعله ربُّه مستخلفاً فيه، والإنسان خليفةٌ لأنه هو الذى حمل الأمانة، ومن لوازمها الإرادةُ الحرة والاختيار، كما أن لديه الملكات التى اقتضتها المنظومة الكلية للأسماء الحسنى.
فالإنسان مستخلف فى الأرض بمعنى أنه الظاهر فيها بمقتضيات وآثار الأسماء الحسنى، ولذلك فقد سُخِّر له كلُّ ما فيها وأوكل إليه حقُّ الانتفاع بها والقيامِ بشؤونها والتصرفِ فى مقدراتها، والمقصد الدينى الأعظم على المستوى الفردي هو إعدادُ الإنسانِ المؤهلِ لهذا الاستخلاف العارفِ بحقوقه وواجباته القادرِ على أدائها على أفضل وجهٍ ممكن، فمن الاستخلافِ فى الأرض أن يظهرَ الإنسان فيها بالتحكم والسيطرة والتصرفِ واستغلال الموارد واستعمارِ الأرض والسيادة على الكائنات الأرضية.
إن الخلافةَ في الأرض لا تكون إلا بالجعل الإلهي، فهي مهمةٌ كونية يقوم بها الإنسان بأمرٍ إلهي وبمقتضى سننٍ إلهية، فالإنسان هو الخليفةُ في الأرض، بمعنى أن له التقدمَ والعلوَّ على كل ما فيها من الكائنات الأرضية، وذلك كخليفةٍ من بعد من كان قبله من الكائنات في هذه المهام، وكل قرنٍ من الناس هو يخلف من كان قبله من القرون، ولقد استخلف الله تعالى آدمَ في الأرض وحمَّله الأمانة من بعد من كانوا قبله ممن كانوا يسفكون الدماء ويفسدون في الأرض.
والخليفةُ هو أيضاً الظاهرُ بملكٍ ما أو بولايةِ أمرٍ ما، وليس له ذلك بالأصالة وإنما بالجعل، والإنسان خليفةٌ في الأرض من حيث أن له الظهورَ بالتحكم في كل ما فيها، ولقد أعلن الله سبحانه ذلك في الملأ الأعلى، واستخلاف الإنسان في الأرض هو السبيل الذي اختاره الإله الأعظمُ ليتم به الظهورُ التفصيلي للكمال المطلق، ولذلك جَعل الإنسان مؤهلا ليعلم كل الأسماء بأن جعل في حقيقته أو ماهيته ما يوافق كلاً منها وما هو من مقتضياتها، إذ لا سبيل إلى معرفة اسم ما إلا بالملكة التي اقتضاها، وبذلك أيضا كُرِّم الإنسان وفُضِّل على كثير من الخلق تفضيلا، فالإنسان الخليفة هو الظاهر لسائر الكائنات بمقتضيات وآثار الأسماء الحسنى.
والخلافة ليست رخصةً للإنسان ليختلس لنفسه سماتِ ربه، ولا ليعلو في الأرض، ولا ليطأ الناس أو يفترسهم ولكنها أمانةٌ ومسؤولية، ولذلك تضمنت آيات الاستخلاف تهديدا ووعيدا، قال تعالي: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(165)} (الأنعام)، {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُه}ُ (فاطر: 39)}.
ولما أعلن الله سبحانَه لداود عليه السلام وهو من عبادِه الأخيار أنه جعله خليفة في الأرض أمره أن يحكم بين الناس بالحق وألا يتبع الهوى وحذره من الضلال عن سبيله، ولم يقل له تصرفْ في الناس كيف تشاء أو احكم عليهم بما تشاء أو ضع قدمك فوق أعناقهم، كذلك لم يجعلْه فوق القوانين والسنن، وإنما حذَّره وأنذره بعد أن ابتلاه وفتنه، قال تعالي:
{يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ(26)} (ص).
وكذلك عندما استخلف موسي عليه السلام هارونَ في قومه وكان رسولاً نبياً مثله قال له:
{اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ(142)} (الأعراف).
ولم يغضب هارون، ولم يقل له: "كيف تقول لي هذا الكلام وأنا نبيٌّ مثلك؟"
والخلافة هي أيضاً العملُ بمقتضى السننِ والأوامرِ الشرعية الدينية عند القيام بأي أمر من الأمور، وهي حق لكل مؤمن مؤهَّلٍ التأهيلَ الكافي، والخلافة في أمور الأمة الكبرى لابد لقيامها من توفر الحد الأدنى من التزام ذوي الحيثية والنفوذ والقوة بالدين وإيمانهم به، وهذا يقتضي الرجوع إليهم أو إلى طائفة منهم عند اختيار القائم بالأمر.
قال تعالى:
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }البقرة30، {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ }ص26، {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }الأنعام165، {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ }يونس14، {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ }يونس73، {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَاراً }فاطر39.
-------
والخلافة الراشدة هي التي تكون وفق الأوامر الإلهية وما سنَّه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ كولي أمرٍ لقومه، أما الملك العضوض فهو في اتباع سنن المتسلطين على أمور الناس دون مشاركةٍ فعلية من هؤلاء الناس في تقرير أيِّ أمرِ من أمورهم بل إنهم يعاملون كتراث تتوارثه أسرة واحدة، فهو حكم الغلبة والتسلط والقهر، ولقد كان من أكبر الخدع والمخازي التاريخية المثيرةِ للازدراءِ والاشمئزاز اعتبارُ النظمِ الأموية والعباسية والعثمانية خلافات إسلامية، وهذا من أكبر الأسباب التي صدَّت الناس قديما عن سبيل الله، ومازالت أفعال هذه الخلافات أمضى سلاح يوجهه أعداء الإسلام إلى الإسلام والمسلمين.
والإسلام يلزم المسلمين بتكوين أمةٍ تحكمُ نفسها بنفسها وتكون السيادة فيها لكلمة الله تعالى؛ أي تكون كلمة الله فيها هي العليا، وهذا يعني أن يكون كتاب الله تعالى هو مصدر الشرعية والسلطات بالنسبة لهذه الأمة، وكل فرد في هذه الأمة آمر وحاكم في مجال تخصصه وتأهيله وما يعطيه له وضعه الاجتماعي، وهو مأمور ومحكوم في غير ذلك، هذه الأمة تكون ملزمة بالقيام الأركان الملزمة للأمة في دين الحق ومأمورة بالعمل على تحقيق مقاصد الدين العظمى، وهي بذلك ملزمة بالتعايش السلمي مع الأمم الأخرى وباحترام حقوق وكرامة الإنسان.
والأمة ليست هي الدولة، والدولةُ وشكلُها من الأمور المتروكة لظروف العصر والمصر، والإسلام باعتباره الدينَ العالميَ الشامل الصالح لكل العصور والأمصار لم يكن ليلزم الناس بشكل معين لنظام إدارة شئونهم ولا يجمد ما هو بطبعه سيال متطور.
ولا يوجدُ ما يلزم المسلمين بالاندماج السياسي في كيان واحد، وكل من حاول ذلك بالطرق الحربية فقد خاض خوضاً في دماء المسلمين وقتل منهم عمداً ما لا يُحصى عدده، ومن حاول ذلك لم يكن يبغي أبداً إلا توسيع سلطانه وملكه ليورث ما يستولي عليه لأبنائه من بعده.
فالخلافة ليست شكلا من أشكال الدولةِ بالمعنى الحديث، ولم يكن نظام الخلافة منذ أن تسلط أهل البغي على الحكم إلا نظاما إمبراطورياً وراثيا كنظام الإمبراطورية البيزنطية أو الإمبراطورية الفارسية مثلا، بيد أن نظام الخلافة كان يتفوق على سائر النظم في العتوّ والاستبداد والإجرام والإفساد في الأرض وازدراء حقوق الإنسان.
أما خليفة الرسول في مهامه فهو من يقوم بالمهام التي كانت منوطة به مثل الدعوة إلى الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم الناس آيات الكتاب وتزكيتهم والتبشير والإنذار والحكم بين الناس بالقسط .... الخ، وهذه المرتبة متاحة لكل من يسعى للقيام بها إذا كان حقاً أهلا لها.
-------
إن تعريف الخلافة بأنها موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا هو محض اجتهاد ممن وضعه، وهو مناقض للتعريف القرءاني للخلافة ولتعريف النبوة ويتضمن إحداثاً في الدين، كما أن الخلافة غير الإمامة، ولا يجوز الخلط بينها وبين الإمامة.
فالخلافة بالمعنى المذكور هي مصطلح محدث توصل إليه القرن الأول باجتهاد منهم ولقبوا به من يقوم بأمورهم وأمور دولتهم الوليدة، وهي ليست بالطبع مصطلحاً دينيا، وكان المقصود به خليفة الرسول من حيث أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ كان ولي أمر الأمة الوليدة، وبالطبع فإن مهام الرسول الأصلية كانت تفصيلا لكونه رسولاً نبيا، فلا يمكن أن يكون له خليفة في كافة مهامه، ولم يكن من الجائز تحويلُ مصطلح الخلافة إلى أمر مطلق أو إضافته إلى الله، ولقد كان الشاعرُ النصراني الأخطل هو أول من لقب متسلطاً أمويا بخليفة الله عندما وصف أحدهم في بيت شعر نصفه يقول: "خليفة الله يُستسقى به المطر"!!! ، ولقد عدل عمر بن الخطاب من قبل عن هذا اللقب وفضَّل أن يلقب بأمير المؤمنين.
-------
إن عصور الخلافة المحسوبة ظلما على الإسلام أي العصور الأموية والعباسية والعثمانية كانت بصفة عامة عصور ظلم وجور وبغي وعدوان وسفالة وانحطاط عام وجواري وغلمان وشذوذ وخمر وجهل ونفاق وجشع وانتهاك لكافة حقوق الإنسان وكرامته وقتل للإنسان بأبشع الطرق، إن الإسلام بريء من هؤلاء الطغاة الظلمة المجرمين الذين كانوا عار هذا الجنس البشري.
-------
إنه لا يجوز اعتبارُ ما كان يسميه المسلمون بالخلافة نظاماً إسلاميا، فقد كان نظاماً إمبراطوريا طغيانيا استبداديا وراثياً دمويا لا علاقة له بدين الحق من قريب أو بعيد، ولا يجوز لأحد الآن الخوض في دماء المسلمين بحجة أنه هو أو حزبه قد نيط بهم من دون الناس إحياء هذه الخلافة.
والمؤمنُ الحقيقي لا يسعى أبدا إلى التسلط على الناس ولا إلى تولي أي أمر من أمورهم، ولكن إيمانه وصلاحه وتقواه وتأهيله وقوته كل ذلك هو الذي يزكيه ويجعل ولاية الأمر هي التي تسعى إليه، فولاية الأمر هي أمانة ومسئولية جسيمة وليست وسيلة للتربح ولا لتمكين المحاسيب والأقارب والعشيرة من مفاصل الدولة، وليست بوسيلة للعلو في الأرض والإفساد فيها وخيانة الأمانة والتحالف مع أعداء الأمة والتعهد بحماية مصالحهم والرضوخ لمطالبهم.
-------
عندما تولى أبو بكر الأمر بعد السقيفة احتاروا في اللقب الذي ينادونه به ثم اختاروا له لقب خليفة رسول الله، فلما تولى عمر بقرار منفرد من أبي بكر (قرار لم يشرك فيه أحدا) أرادوا أن يسموه خليفة خليفة رسول الله فقال هذا أمر يطول وعدلوا عنه إلى لقب أمير المؤمنين، فلم يكن مصطلح الخليفة بمعنى حاكم سياسي معلوما للقرن (الجيل) الإسلامي الأول!!!!! وبذلك فكل المرويات التي تعتبر الخلافة مرتبة سياسية دينية لا أصل لها، وتم وضعها لاعتبارات سياسية مذهبية، وهي في كل الأحوال تاريخ وليس دين!
أما عبيد (الصحابة) فبدلا من أن يسموا الأشياء بأسمائها ويقولون إن هذا القرار الاستبدادي مخالف للشريعة فقد جعلوه من الشريعة بحجة أن أفعال (الصحابة) من الدين؛ أي بتعبير أكثر صراحة اعتبروهم أربابا مشرعين!!
هذا رغم الإقرار بأن اختياره كان الأفضل في الظروف التي وضع هو الناس فيها، وغفر الله للجميع!!
والنجاح في القيام بمقتضيات الخلافة لا يبرر مخالفة الأوامر القرءانية الملزمة، فأمور المؤمنين يجب أن تكون شورى بينهم، وليس لأحد أن يفرض على الناس من يلي الأمور من بعده ولا أن يورث الأمة لقريب أو بعيد، فالمؤمنون هم أمة من الأحرار.
*******
مقتضيات الاستخلاف
إن الله تعالى هو الذي له الكمالُ المطلقُ الذي من لوازمه الأسماء الحسنى، والإنسان قد جُعل خليفةً في الأرض بسبب قابليته لتعلم الأسماء وقبول آثارها والإظهار التفصيلي لكمالاتها، لذلك فهو مستخلف في الصفات التي تشير إليها الأسماء الحسنى، وعليه أن يظهر بآثارها بالنسبة لغيره من البشر ولما هو دونه من كائنات الأرض، فهو بذلك مأمور بالاتصاف ما أمكن بصفات الكمال الممكن، وأصل تلك الصفات هو الأسماء الحسنى، فعلى سبيل المثال عليه أن يظهر بالحكمةِ والعلم والرحمة واللطف والود لتلك الكائنات، ومن لوازم الاستخلاف أن يتعرف الإنسان على ما جُعِل مستخلفا فيه وأن يعظم ما استخلفه ربُّه فيه، فذلك إجلال لمن استخلفه وشكر لعظيم نعمته، ولا يليق بمن تلقى إحسانا كبيرا أن يعرض عما تلقاه أو أن يزدريه أو ألا يأبه به فإن ذلك من إساءة الأدب مع الرب الجليل الذي سخر كل شيء للإنسان وأسجد له ملائكته وطرد من أبى السجود له، فالإنسان مطالب بأن يعلم ما هو مستخلف فيه وبأن يقوم بواجبات الاستخلاف ومقتضياته وإلا فإنه يخلع نفسه بنفسه ويتحول إلى دابة من الدواب التي كان عليه أن يقوم بحقوقها.
والاستخلاف في الأرض يقتضي أن يحترم الإنسان كل صور الحياة وكل ما خلقه الله تعالى وأن يتعرف عليه وأن يطالع آيات الله تعالي فيه، ويترتب على ذلك ضرورة الإحجام عن الإفساد في الأرض، قال تعالي: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ(56)} (الأعراف)، {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(85)} (الأعراف)، {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ(205)} (البقرة)، والكف عن الإفساد في الأرض يقتضي الكف عن الإسراف في الصيد أو إبادة دواب الأرض بدون مبرر أو حق، كما أن عليه ألا يضيِّق على تلك الدواب أسباب عيشها وموارد رزقها بتجفيف الأنهار وإبادة الغابات، وعليه أيضا ألا يقدم على ما من شأنه الإخلال بالتوازن البيئي، وكذلك عليه أن يرحم دواب الأرض التي يستأنسها وأن يوصل إليها رزقها برفق، كما أن عليه الحفاظ على البيئة وعلى نباتات الأرض، فالعدوان منهيٌّ عنه نهياً باتاً، والإفساد في الأرض بتلويث البيئة والقضاء على موارد الأرض هو عدوان بشع على حقوق الأجيال القادمة من البشر فضلا عن حقوق سائر الكائنات الأرضية، والله سبحانه الذي خلق كل شيء وأتقن صنعه لا يحب من يفسدُ ما خلق.
*******
الرفق بدواب الأرض
إن الرفق بدواب الأرض هو من لوازم تحقيق المقصد الديني الأعظم الخاص بالإنسان فهو من مقتضيات قيام الإنسان بحقوق الخلافة، فعلى الخليفة حقوقٌ تجاه كل ما هو مستخلف فيه، ولقد استخلف الله سبحانه الإنسان في الأرض، وذلك يرتب علي الإنسان حقوقاً تجاه كل ما خلقه الله فيها من كائنات حية وجمادات، فهو مطالب بأن يعامل دواب الأرض بالرحمة فيحسنُ إليها، ولا يضيق عليها أسباب عيشها، وكذلك هو مطالب بمعرفة الحكمة من وجودها ومطالعة آيات الله فيها، قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ(38)} (الأنعام).
ولذلك وجب على أمة الإسلام من حيث أنها خير الأمم أن تكون كذلك في التعامل مع دواب الأرض وطيور السماء، لقد صرحت الآية بوضوح أن كل الدواب والطيور هي أمم أمثالنا فتأمل قوله تعالى: {أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} فإنه يستحث الإنسان على أن يعاملها بما يرتضيه لمن هو مثله، وفي هذا القول أيضا بيان بأن دواب الأرض تشبه الإنسان، وبالتالي يمكن للإنسان بدراستها أن يزداد معرفة بنفسه وبجسمه، وفيه أيضاً بيان بأن لكل أمة من الدواب خصائصها المميزة وعلومها الفطرية والتي يمكن للإنسان أن يفيد منها لو عرفها ودرسها، ولو تنبه السلف إلي ذلك لتحقق لهم الوعد الإلهي: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(53) (فصِّلت)}، ولتحققت الطفرة العلمية الهائلة علي أيديهم لا علي أيدي علماء الغرب، وهناك تهديد مبطن في قوله تعالى: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}، أي أن لهذه الأمم من الدواب والطيور ربا يرجعون إليه فهو قائم بمصالحهم يمدهم بما يحفظ عليهم أسباب وجودهم، وهو لا يرضى لهم أن يعاملوا بقسوة كما لا يرضى لهم الظلم، هذا الرب هو رب كل شيء وخالق كل شيء وهو الرحمن الرحيم.
ولقد رويت أحاديث عديدة تأمر بالرفق بالحيوان وتبشر من يحسن معاملته بالغفران والنعيم المقيم وتنذر من يسئ معاملته بالعذاب الأليم، كما أن الإنسان برفقه بالحيوان إنما يعمل لما فيه صلاح أمره فإن القضاء على بعض الدواب استجابة للمعايير والموازين والمقاييس البشرية القاصرة هو من باب الإفساد في الأرض، وسيكون الإنسان أول من سيدفع ثمن ذلك غاليا، ويجب العلم بأن الرفق بالحيوان وحسن معاملته هو من مقتضيات أسماء إلهية عديدة مثل الرحمن والرحيم والرحمن الرحيم والرحيم الودود والرءوف الرحيم واللطيف، ولذا فبالرفق بدواب الأرض يرقي الإنسان وتسمو ملكاته الوجدانية، فالمسلم مأمور بالرحمة بالدواب والرفق بهم من حيث :
1-          أنه خليفة في الأرض فهو متخلق بأخلاق من استخلفه من رحمة ورأفة ورفق.
2-          أن دواب الأرض وطيور السماء هم أمم أمثالنا فلها علينا حقوق الأمم فيجب كف البأس عنها وعدم العدوان عليها كما يجب رعايتها والرأفة بها.
3-          أن إبادة الدواب وسفك دمائهم بلا مبرر هو من الإفساد في الأرض المحرم تحريما قاطعا.
4-          أن الحفاظ على دواب الأرض هو من الإصلاح في الأرض وإعمارها.
5-          أن كل فعل يصدر عن الإنسان من حيث التزامه بما سبق سيعود نفعه عليه في الدنيا وسيؤدى إلي رقي باطنه بما يرفع درجته في الآخرة.
6-           أن كل دابة في الأرض هي آية من آيات الله تعالى يجب النظر إليها ومعرفتها ودراستها.
7-          أن الله تعالى لم يخلق شيئا عبثا وإنما بالحق.
ويجب العلم بأن الله سبحانه ما خلق شيئا إلا بالحق، ولقد سميت سور عديدة في الكتاب بأسماء دواب الأرض مثل البقرة والأنعام والنحل والنمل والعنكبوت والفيل، وأخبر سبحانه بأنها تسبح بحمده وأنه يوحى إليها، كذلك أمر بالنظر إلى الإبل وأقسم بالعاديات ضبحا، وكل ذلك تنويه بشأن ما خلق الله تعالي من الكائنات، ولذا فالقيام بحقوق دواب الأرض هو من التعبد لمن خلقها واعتني بأمرها.
إن الخليفة يجب أن يتحلى بكل مقتضيات الأسماء الحسنى وأن يتطهر من كل ما يناقضها، لذلك وجب عليه الرحمة والرأفة والرفق بكل دواب الأرض.
*******
مقتضيات الاستخلاف تجاه ما في السماوات والأرض والجماد
إن ما يسميه الإنسان جمادا في السمـوات والأرض إنما هو مسبح بحمد ربه ساجد له، وهو من آيات الله تعالى التي أمر بمعرفتها والنظر إليها وتدبرها والتفكر في خلقها، ولقد سميت بعض سور الكتاب بأسماء تلك الجمادات مثل الطور والحديد والشمس والقمر، وكذلك سميت سور عديدة في الكتاب بأسماء الظواهر الطبيعية في السمـوات والأرض مثل: الرعد والذاريات والنجم والتكوير والبروج والفجر والليل والضحى والعصر، كما أقسم سبحانه ببعض هذه الظواهر التي هي من آياته التي أمر الناس أن ينظروا إليها وأن يتفقهوا فيها وأن يروا فيها مقتضيات أسمائه الحسني وصفاته.
فللجماد على الإنسان حقوق باعتباره من آيات الله تعالى التي أبدعها وجعلها دالة على أسمائه وباعتبار أن الإنسان مستخلف في الأرض مأمور باستعمارها وإصلاحها ممنوع من الإفساد فيها، إن الإفساد في الأرض يؤدي إلى اختلال الميزان الذي وضعه الرحمن فمن سعي إلي الإفساد ارتضي أن يكون كالشيطان، والانتهاء عن الإفساد في الأرض هو من مقتضيات مقاصد الدين العظمى فالإنسان مستخلف في الأرض وكل ما هو فيها مسخر له، ولذا فمن السفه أن يفسد فيها وأن يقضي بنفسه على مقومات وجوده وأسباب رزقه ومجال خلافته وأسباب بقاء ذريته، والإفساد في الأرض يعنى ارتكاب أي شيء من شأنه الإخلال بالتوازن البيئي كإبادة أمم من الدواب أو الحشرات أو تجفيف الأنهار أو تلويث البيئة أو إبادة الغابات...الخ.
أما حق ما في السمـوات من أجرام لا يملك الإنسان لها ضرا أو نفعا وكذلك ما يحدث فيها من ظواهر فهو أن يعرفها وأن يفقه القوانين التي تسيرها حتى يستمد من ذلك مزيدا من العلم بآيات ربه، إن ما في السمـوات وما في الأرض هي الأسباب التي ترتب عليها الوجود الإنساني ولذا فلها على الإنسان حق الأسباب على النتائج؛ فعليه ألا يفسد فيها وعليه أن ينظر ما في السمـوات وما في الأرض من آيات ربه.


*******

الخميس، 19 يونيو 2014

الْبَـرُّ الرَّحِيـمُ

الْبَـرُّ الرَّحِيـمُ


المثنى (البـرُّ الرحيـم) والاسم (البـرُّ)

 

قالَ تعالى: {إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}الطور28

ولذلك فالمثنى (الْبَرُّ الرَّحِيمُ) هو من أسماء النسق الأول من الأسماء الحسنى.


أما الاسم (البـرُّ) فلم يرد بمفرده وإنما ورد للإشارة إلى سمة يمكن أن يفصل إليها المثني البر الرحيم.
فهذا الاسم من لوازم وتفاصيل أسماء النسق الأول، فهو بذلك من أسماء النسق الثاني؛ أي نسق الأسماء الحسنى المفردة.

والمثنى (البـرُّ الرحيـم) هو من أسماء الرحمة الخالصة والبر والإنعام الخالص، وأولى الناس به هم المتقون الذين وطَّـنوا أنفسهم على الإحساس الدائم بالحضور الإلهي معهم بالأسماء الحسنى؛ فامتنعوا عن مخالفة أوامره خوفا من عقابه واتقاءً لبطشه وعظيم سطوته وقهره وحياءً منه وحبا له وهيبة منه وإجلالا لأمره، فلم يغفلوا أبداً عن التعلق به والالتجاء إليه والتوكل عليه وتفويض كل أمورهم إليه، فهذا الاسم يشير إلى سمة واجبة لله سبحانه؛ تفصيلها البر والرحمة، فهو يعامل عباده المتقين بتلك السمة فيتجاوز عن ذنوبهم وعصيانهم ويرحم ضعفهم وقصورهم ويحسن إليهم ويتفضل عليهم، قال تعالى في سياق حديثه عن المتقين: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ(17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ(18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(19)مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ(20)} (الطور) ، إلي أن قال: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ(25)قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ(26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ(27)إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ(28)}، فأعظم ظهور لهذا الاسم إنما هو على مستوى باطن الإنسان وجوهره ولبه أي على مستوى قلبه، والذي سيظهر للمتقين في الجنة في اليوم الآخر، ولذا فإنهم سيدركون هناك أن ما هم فيه من فضل ورحمة ونعيم مقيم إنما هو من تجليات هذا الاسم في اليوم العظيم؛ فينطقهم بالثـناء عليه من أنطق كل شيء.
وللقيام بحقوق هذا الاسم يجب أن يكون الإنسان بارّاً بمعنى ان يتسم بالبر كما بينه القرآن، قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ(177)} (البقرة)، فلا عبرة في البر بالظواهر السطحية للأمور، ولكن البر يتضمَّن ما يلي :
  1. الإيمان، فلابد من يصدق الإنسان بكل ما أتى به القرآن وخاصة الأركان العظمى للإيمان وعلى رأسها الإيمان بالله تعالى كما تحدث عن نفسه فى القرآن، فذلك الإيمان هو الشرط اللازم لكي ينتـفع الإنسان بثمار عمله، ويكون عمله دائما سببا لرقى نفسه، فالإيمان يشكِّـل الأساس المنطقي السليم لعمل الإنسان.
  2. عدم الاستـئـثار بالمال فامتلاكه ليس بوسيلة للتعالي على الناس أو امتهان كرامتهم، ولكنه وظيفة اجتماعية ومسؤولية ملقاة على عاتق من استخلفه الله تعالى فيه ومكن له من أسبابه، وهو من وسائل ابتلاء الإنسان.
  3. فذلك الاسم من الأسماء التي كان الله بها دياناً للعباد ومن أسماء منظومة الرحمة والهدى والإرشاد، لذلك به تتعين وتفصل أبواب الخير.
  4. إقامة شعائر الدين والتي ذكرت الآية منها إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وبإقامة الشعائر تعلن الأمة المسلمة عن هويتها.
  5. التحلِّي بمكارم الأخلاق، ولقد ذكرت الآية منها الوفاء بالعهد والصبر في البأساء والضراء وحين البأس، فالبار يعلم أن الأمور تجرى بقوانين الله وسننه لتحقيق الغاية التي من أجلها خلق الأكوان، فهو لهذا يحيا مطمئناً ثابت الجنان.

فالبر هو الصفة الإيجابية العظمى التي تدفع الإنسان إلى أداء كل ما عليه من الحقوق بالحسنى أو بالتي هي أحسن.
ولقد بينت الآية أن البارَّ هو الصادق التقى، فهو الصادق لأن أعماله الظاهرة جاءت متَّـسقة مع معتقداته الباطنة، وهو التـقي لأن كل ذلك يبين حرصه علي القيام بالحقوق الواجبة والآداب اللازمة تجاه الحضور الإلهي مع العباد، وتبين الآية بوضوح أن الاستخدام السليم للمال مقدم علي إقامة الشعائر، كما تبين أن التحلي بمكارم الأخلاق هو ركن من أركان البر كإقامة الشعائر، وكان لزاماً علي المسلمين أن يعطوا لتلك الآية حقها، وأن يقدروها حق قدرها، وأن يعملوا بمقتضياتها، فإن أركان البر الواردة في القرآن لا تـقـلُّ في أهميتها عن كافة أركان الإسلام.
ومن وطنوا أنفسهم على الاتصاف بالبر والرحمة والعمل بمقتضى أن الله عزَّ وجلَّ حاضر معهم هم الذين سيجدون أنفسهم عنده في الدنيا والآخرة.   
وهذان الاسمان من أسماء منظومة الرحمة والهدي التي اقتضت كل ما يلزم لصلاح الإنسان من قيم وأوامر وسنن، وسمة البر مقترنة ومرتبطة بالرحمة، والظهور الأكمل لهذا الاسم سيكون للمؤمنين في الجنة.
والاسم البر الرحيم من أركان منظومة الرحمة الإلهية التي وسعت كل شيء وكذلك الرحمة التي كتبها الله على نفسه للذين يتبعون ما أنزله عليهم من البينات والهدى.
والرمز (بر) يشير إلى أن منه سبحانه بدأ كل خير وإنعام وود وحنان وانتقل كل كيان خلقي أو أمري من باطن إلي ظاهر، والراء المشددة إشارة إلى تتابع كل ذلك وتكراره، وهو يشير أيضاً إلى أن إليه مرجع ومآب كل من لاذ به من الأبرار.
والرمز يشير إلى أن به كان بدء وتعين كل خير وتكراره وتفصيله وعودته وصعوده إليه.



*******