الأربعاء، 30 مارس 2016

جهلوت بن كفروت بن إرهابوت الدموي

جهلوت بن كفروت بن إرهابوت الدموي

كان جهلوت بن كفروت بن إرهابوت الدموي من خيرة دواب همجستان، ظهرت وميوله ومهاراته الجهادية منذ صغره، دخل حظيرة الدجاج ذات مرة على حين غفلة من أمة واقترف مجزرة مروعة في حق الدجاج والكتاكيت، عندما اكتشفت أمه الأمر أخذت تلطم لمدة ساعة كاملة ثم انهالت عليه بالضرب حتى كلَّت وسقطت من الإعياء، لاحظت أنه كان يستمتع بالضرب ويحملق فيها ببلاهة.
عندما كبر قليلا أصبح ينزل إلى الشارع ليصطاد القطط الضالة، وكان يستمتع بخنقها، أخذ من بعد ذلك يتطلع إلى تحقيق هدفه الأكبر؛ كان يهاجم الكلاب الضالة ويرجمها بالحجارة، كانت تفر من أمامه مما شجعه على التمادي في ذلك.
رأى في إحدى المرات كلبا ضخم الحجم، هنَّأ نفسه على هذا الهدف الثمين، أمسك بحجر ضخم وقذف به الكلب، فوجئ بالكلب ينقض عليه، ويمزق ملابسه ويثخنه بالجراح، لم ينقذه منه إلا احتشاد الناس.
تلقى درسا قاسيا، لم يخفف من وطأة نزعة الدموية الإجرامية، ولكنه ازداد خسة ونذالة، لم يعد يهاجم إلا ما يتوسم فيه الضعف.
أخذت تنتابه رغبة لا تقاوم في قتل البشر، كان يستمتع في خياله وأحلام يقظته ومنامه بذلك ويتمنى أن تتاح له الفرصة للتنفيد، ذات مرة انتهز فرصة خلو البيت وهجم على أخته الصغيرة وأطبق على عنقها بكل قوته، أنقذها الجيران منه، عادت أمه لتجد الحشد الكبير من الجيران في المنزل لتتلقى صدمة جديدة كادت تودي بها.
رأوا أن يقتادوه إلى الشيخ الهمجستاني الشهير، رأى فيه صيدا ثمينا في هذه الظروف الحرجة التي تنتاب الأمة الهمجستانية، علمه أن من الأفضل له استثمار ميوله الجهادية هذه لخدمة قضية همجستان المقدسة، أعده إعدادا جيدا، علمه المذهب الهمجستاني العتيد، أسعد قلبه عندما أخبره أن كل مسلم غير همجستاني هو هدف مشروع ويمكن الفوز بالجنة بسفك دمه.
اكتسب كراهية رهيبة لكل المسلمين غير الهمجستانيين، أصبح كل أمله أن يتحول إلى قنبلة ذرية تنفجر في بلادهم فلا تبقي منهم أحدا حتى يضم كافة بلادهم رسميا إلى همجستان.
لم تتخلص أسرته من شره إلا عندما افتُتِح أوكازيون الجهاد في أحد بلدان الشرق العربي، لم يصدق نفسه، ذهب إلى هناك لتوِّه، أخذ يتفنن في قتل المسلمين وتقطيع أعناقهم وأكل قلوبهم وأكبادهم والتمثيل بجثثهم ولعب الكرة برؤوسهم، ثم أخيرا حقق حلم عمره الأكبر عندما فجَّر نفسه في حشد كبير للمسلمين كانوا في طريقهم إلى أداء الصلاة في المسجد الجامع، وأخيرا استطاعت أمه أن تنام مطمئنة قريرة العين لأول مرة منذ أن ابتليت به.
أما أهالي همجستان فقد أصبح يُلقب عندهم بالمجاهد الشهيد، وأصبحوا يضربون به المثل لأطفال همجستان، وهكذا لم يمت جهلوت، لقد أصبح يتجسد في أشخاص جدد يتأسون بسيرته ويُصنعون على عينها.


*******

الشجاع الأقرع

الشجاع الأقرع

حقيقة الشجاع الأقرع العدو اللدود للمجتهدين الجدد
آثار أعمال الإنسان إما أن تشكل تغيرات في كيانه الجوهري فتتحسن صورته أو تسوء وإما أن تتحول إلى كيانات حقيقية يتنعم بها أو يُعذَّب ويظل يرقى بها أو يتدهور وفق أنساق من السنن الإلهية الكونية، وإما أن يتحقق له الأمران معا، والنفس تكون في حياتها مخدرة بتأثير الجسم الطبيعي الطيني، وبسبب انشغالها الشديد به.
والنفس هي كيان لطيف جدا من حيث البنيان، وهي مثل الريح؛ شديدة التأثر بكل ما تمر عليه أو يمر بها، وهي تتأثر أيضا بما يصدر عنها أو يُلقى عليها، وهي طالما كانت مرتبطة بالجسم فإنها لا تحس ولا تعمل إلا بحواسه، فلا تدرك إلا قليلا شيئا من آثار أعمالها.
ولكنها بمجرد أن تذوق الموت بانعزالها عن تدبير الجسم تبدأ في استعمال حواسها الخاصة بها، وعندها يشتد إدراكها لآثار أعمالها، فتتمثل لها آثار أعمالها في صورة حسية بالنسبة لها في عالمها البرزخي، هذه الصور تتناسب مع طبيعة الآثار ومع طبيعة النفس أيضا.
وأشبه شيء بذلك هو الكوابيس الليلية، فيوجد عامل مزعج بالنسبة للجسم يتمثل للنفس بصورة مخيفة مشكلة مما هو موجود في حافظتها، وهي تتألم وتصرخ وتتعذب بهذه الصورة.
فكذلك الأمر تتمثل للنفس صفاتها السيئة وآثارها في صورة كائنات مخيفة، ولكن لا يوجد للنفس الآن أمل في الخلاص منها بالاستيقاظ!
وفي المقابل تتنعم النفس الطيبة بصفاتها الحسنة وبآثار هذه الصفات.
ولذلك لا غرابة في أن تكون المشاهد في البرزخ مرعبة لذوي الصفات سيئة، وأن تتجسد الصفة السيئة بما يناسبها من كائنات كان الإنسان يعرفها، أو تكونها له مخيلته من كائنات كان يعرفها.
فالنفس لا تنعدم بالموت، أما البعث فهو عودتها إلى الجسم بعد أن نبت وأصبح مهيأً لها، وبهذه العودة تحس بنفس شعور من تنبه واستيقظ من نومه، فالحياة الآخرة هي الحياة الحقيقية التي تبدو بالنسبة لها حياة البرزخ كحلم أو كخيال.
إنه يجب العلم بما يلي:
1.     النفس الإنسانية التي هي الكيان الجوهري لا تنعدم، وإنما تذوق الموت كما تذوق أي شدة أخرى أو أي ألم آخر.
2.     لا يستطيع أحد أن يماري في ترتب النتيجة على السبب.
3.     النفس تكون في عالم برزخي هو حقيقي بالنسبة لها، بل إنها تنظر من خلاله إلى عالم الدنيا كعالم خيالي.
4.     أحوال النفس في البرزخ هي النتائج الطبيعة للحالة التي آلت عليها وفق آثار أعمال الإنسان كما يترتب العطش على فقدان الماء أو الشبع على تناول الطعام.
5.     الأنبياء والصديقون والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، فالعبرة هي بالنفس الحقيقية.
6.     القبر هو من عالم الدنيا هو وما يضمه من جسد، وتسري عليهما قوانين العالم المادي، أما عالم البرزخ فشيء آخر.
7.     عالم البرزخ له أبعاده الخاصة وطبيعته الخاصة، وهو متداخل مع هذا العالم لذلك، والنفس أصلا متعينة فيه، وهي لا تتقيد بالعالم المألوف إلا من حيث ارتباطها بالجسم.
القول الذي لم نفصح عن أسبابه أو لم نقدم براهينه يكون الناس مخيرين بشأنه، وكما قالوا: ليس كل ما يعرف يُقال!
المتمذهبون والمجتهدون الجدد ودراويشهم لم ولن يتقبلوا ما يخالف ما ألفوا عليه أسلافهم أو ما يخاف ما يعرفونه حتى لو أيقنوا أنه سيقودهم إلى الدرك الأسفل من النار، والكلام ليس موجها لهم! بل هو موجه إلى الباحثين عن الحقيقة!


******* 

الاثنين، 28 مارس 2016

الصلاة والتسليم على النبي

الصلاة والتسليم على النبي

قال تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} الأحزاب56
إنه من أركان الدين أن يؤمن الإنسان بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ من حيث أنه خاتم النبيين والمبعوث رحمة للعالمين، وهذا يقتضي أن يقر بعظمة قدر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وألا ينكر أي فضل منسوب إليه طالما لم يناقض ذلك شيئا مما ورد في الكتاب العزيز، كما ينبغي عليه وأن يوقره توقيرا يفوق توقير المسلمين في العصر الأول، ذلك لأن خلقه العظيم وحياءه وحرصه على نقاء العقيدة وظهور بشريته كل ذلك ربما جرَّأ عليه بعض الأعراب الذين لم يعرفوا قدره فحدثت منهم في حقه بعض التجاوزات أو ربما أساء بعضهم الأدب معه كما ورد في الكتاب أو على الأقل لم يوقروه التوقير اللازم، أما الآن فلا عذر لمسلم ولا ينبغي أن يقصر في هذا الأمر، إن المسلم بذلك إنما يؤدى ما أمره الله تعالى به، ويجب علي المسلم أن يعرف سيرته وأن يتأسى بهديه وأن يثني عليه بالفضائل الحقيقية والأخلاق العظيمة التي اتصف بها والبطولات الهائلة التي أظهرها والإنجازات الرائعة التي حققها، وعليه أن ينزهه عن أوهام القصاص ورواة الموالد، ومن لوازم هذا الركن الديني أن يداوم الصلاة والسلام عليه، فالصلاة والسلام عليه بأية صيغة يكون فيها تعظيم لقدره وبيان لفضله وعلو شأنه أمر واجب بل هي من أفضل الوسائل لتزكية النفوس، ولقد دأب بعض المجتهدين الجدد على الطعن في هذا الأمر والتشكيك فيه، دون أن يحيطوا علما بحقيقة الأمر!
وللقيام بحقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يجب إنصافه وتبرئته من كل المرويات الشائعة والمقررة والتي وضعت للنيل من قدره وللتطاول عليه وللسخرية من غفلة المسلمين.
والصلاة عليه تؤدي إلى إحداث آثار كونية حقيقية إذ يترتب عليها إيجاد كيانات لطيفة تشكر لمن كان سبباً لوجودها وتستغفر له ويترتب على ذلك جلاء وجه قلبه وتنزل الرحمات عليه واكتسابه استعدادات لتلقي مزيد من الكمالات.
والصلاة على النبي هي من لوازم ركن ديني ملزم، هذا الركن هو: "الإيمان بمحمد كخاتم للنبيين والقيام بحقوقه، والعمل على إقامة صلة وثيقة به"، والتوجه إلى الله تعالى بالصلاة على النبي هو كالتوكل على الله وتفويض الأمر إليه، وهو إقرار من المؤمن بعجزه عن القيام بأمر الصلاة عليه، والوفاء بما هو للنبي من حقوق على العالمين من حيث كونه مرسلا رحمة للعالمين، ولقد أمر الله تعالى عباده بأوامر كثيرة من حيث أنه لديهم الإرادة الحرة والاختيار، ولا شيء عليهم إذا أقروا بعجزهم له وفوضوا أمورهم إليه، بل إن ذلك هو عين العبودية! فالمؤمن الحق هو الذي يستطيع أن يقول لربه صادقا: إني فقير إليك، عاجز عن القيام بأوامرك، وقد فوضت إليك الأمر، وقد اخترت ما اخترته أنت لي!
والمسلم يجب أن يؤدي بحضور تام وباستشعار أن النبي معه فيصلي ويسلم عليه كأنه حاضر معه، ويترتب على ذلك أن يتشرف الإنسان بالمعية المحمدية فيحظى بشفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويجد آثارها في حياته الأولي وفي الآخرة.
فالصلاة على النبي هي سعي من المؤمن لإقامة صلة وثيقة به، ومن وسائل ذلك الحرص على التأسي به في ذكره لربه ورجائه إياه وذكر الصيغ اللسانية المعلومة للصلاة عليه، وتوجه المسلم إلى ربه بالصلاة عليه هو إقرار بعجزه عن القيام بهذه الصلاة القيام الأوفى، فهو من باب تفويض الأمر إلى الله تعالى، وهذا ما لم يدركه بعض المجتهدين الجدد وشنعوا على سائر المسلمين بسببه، هذا مع أن تفويض الأمر إلى الله هو من الأوامر القرءانية ومن عناصر دين الحق ومن أركان منظومة الصفات الإسلامية.
إن الأمر بالصلاة على النبي يعني الأمر بالعمل على إقامة صلة به، وهذا يتضمن دعمه وتأييده ومناصرته هو والرسالة التي حملها من ربه إلى الناس كافة، والتوجه إلى الله تعالى ليصلي عليه هو من لوازم هذا الركن الديني الملزم.
أما الأمر بالتسليم على النبي فهو يعني القبول به وبالرسالة التي أتي بها بامتنان وعرفان وإقرار بالفضل وعدم منازعته في أي شيء يتعلق بها، وذلك أيضا من لوازم القيام بهذا الركن، والطلب من الله أن يسلِّم عليه هو لنفع العبد المسلِّم، والله تعالى يسلم بالفعل على الصفوة من عباده المرسلين.
وصلاة المؤمنين علي النبي تتضمن كل سعي منهم لإقامة صلة به ويترتب عليها استمدادهم منه، ولقد كان السماح بها فضلاً إلهياً على هذه الأمة، وهي تقوم بهذا الواجب بالنيابة عن البشرية جمعاء
أما من يسيء الأدب مع خاتم النبيين زاعما أنه بذلك غير واقع في الشرك فقد جمع إلى شركه الأصلي الذي هو مغمور فيه ما يوجب قطع الصلة بينه وبين خاتم النبيين، ولن يفلح بذلك أبدا، بل يُخشى عليه من سوء الخاتمة.
وهو بذلك تمرد أيضا على الأمر الإلهي بالتسليم عليه وله.
ويجب العلم بأنه لا حرج في ترديد الأذكار بصيغة الماضي، فلا مشكلة في القول: "صلى الله على النبي وسلَّم" بمثل ما أنه لا مشكلة في أن تقول لأحد الناس: "غفر الله لك"، فهذه صيغ دعاء، واستعمال صيغة الماضي تتضمن الثقة بأن الدعاء مقبول، وهذا من آداب الدعاء، ومن يفقه اللسان العربي يعلم أن:
"صلى الله على النبي وسلَّم" = "صلى الله على النبي وسلَّم عليه".   

*******



التسليـم

إن الله تعالى هو السلام، وهو بذلك مصدر السلام، وهو الذي يحقق في الأكوان التي خلقها الاتساق والانسجام، وهو مصدر الشعور بالطمأنينة عند بني الإنسان، فكل إنسان يدرك في أعماق نفسه أن هناك من يمكنه الركون إليه والاعتماد عليه عند الشدائد والمحن.
والله تعالى يلقي أيضا السلام على من شاء من عباده، فيمنحهم بذلك الأمن والطمأنينة الداخلية، فلا يرتابون أبدا في أنه سينجيهم وينصرهم.
ومن السلام المنسوب إلى الله تعالى ما أنعم به على كل المرسلين، قال تعالى:
{وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} الصافات181، {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ}النمل59، {وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:33]
وهو الذي أمرنا كما تبين الآية بالتسليم عليهم، فالقول: "سَلِّمَ"  عليهم يعني اتباع سنة إلهية؛ أي هو محاكاة للفعل الإلهي وتذكره، فهو الذي يسلم على عباده الذين اصطفى، وهو عمل بأمر إلهي ودعوة مستجابة في حق الرسل، أما المنتفع بالتسليم على المرسلين فهو المسلِّم نفسه، وهو لذلك ملزم أيضاً بإعطائهم السلام من نفسه، فيجب أن يتجنب الشقاق والمنازعة معهم وأن يكف عنهم شر نفسه الذي لن يضر غيره.
والتسليم يؤدي إلى السلام كما يؤدي التطهر إلى الطهر والتذكر إلى الذكر.
والفعل "سَلَّمَ" في القول "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ"، له معانٍ عديدة، فهو أولا إقرار بما هو حق للنبي من حيث أنه رسول، وهو توطين للنفس على الإيمان بأنه رسول، وهو اتباع لسنة إلهية؛ أي هو محاكاة للفعل الإلهي وتذكره، وهو عمل بمقتضى الأمر القرءاني الوارد في الآية: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} الأحزاب56، وهو أيضاً إعطاء المسلم للرسول السلام من نفسه، فهو يتجنب بذلك الشقاق والمنازعة معهم ويكف عنه أذاه وشر نفسه الأمارة بالسوء، وكل ذلك لمصلحة المسلِّم؛ فهو المنتفع الأساسي بالتسليم على الرسول.
فطوبى لمن تولوا الرسول وعملوا على توثيق صلتهم به وصلوا وسلموا عليه طبقا للأمر الإلهي، والصلاة عليه تتضمن اتخاذه إماماً واتِّباعه، والسلام عليه أن يكف المرء أذاه عنه وأن يكون سلما له، فهم ملته الحقيقية وحزبه.
إن الأمر بالصلاة على النبي يعني الأمر بالعمل على إقامة صلة به، وهذا يتضمن دعمه وتأييده ومناصرته هو والرسالة التي حملها من ربه إلى الناس كافة، والتوجه إلى الله تعالى ليصلي عليه هو أمر قرءاني ملزم، وهو يتضمن إقرارا من المسلم بعجزه عن القيام بما للنبي الخاتم من حقوق عليه، أما الأمر بالتسليم للنبي فهو يعني القبول به وبالرسالة التي أتي بها بامتنان وعرفان وإقرار بالفضل وعدم منازعته في أي شيء يتعلق بها، وذلك أيضا من لوازم ركن ديني ملزم يتضمن كل ما يجب على المسلم القيام به تجاه أعظم الرسل وخاتم النبيين، وترديد الصيغ المعلومة للصلاة على النبي هي كالدعاء والاستغفار وكل الأذكار اللسانية، فهي تمارين ورياضات روحانية وجدانية للرقي بالإنسان على المستوى الجوهري.
أما تسليمك عليه فيعني بالإضافة إلى إلقاء السلام أن تكفيه شر نفسك الذي لن ينالَ منه أصلا وعدمِ منازعته أو التهوين من قدره وألَّا تحاول تعمد إيذائه كما يفعل أكثر المغضوب عليهم من أتباع المذاهب السلفية وأكثر المجتهدين الجدد.
ولقد نص القرءان على أن الله تعالى ألقى السلام على المرسلين وعلى أصحاب الجنة وعلى عباده المصطفين والمؤمنين، وإلقاء السلام من رب العالمين على طائفة من الناس هو أمر فوق تصورات ومفاهيم البشر، فهو مثله مثلُ صلاته عليهم من الأمور المتشابهات لا يُعرف كنهها وإنما تُعرف آثارها ومقتضياتها، ومن آثارها الثقة بالله تعالى واطمئنان القلب إليه والسلام الداخلي والحياة الطيبة.
ومن معاني القول: "سلَّم عليه": ألقى السلام عليه، وهذا دعاء للمخاطب أيضا بالسلام، ومن الأوامر القرءانية أن يسلم المؤمن على عباد الله الذين اصطفى، وأن يسلم على خاتم النبيين، والتسليم على النبي يتضمن أن تلقي السلام إليه وأنت تكف أصوات نفسك وشيطانك عنه، وألا تنازعه فيما هو له وفي المكانة التي ارتضاها ربه له، وأن تسلم بصدق ما جاءك به.
وعلى المستوى الوجودي فمحمد الرسول هو بعينه محمد النبي، لذلك فالمؤمنون مطالبون بأن يصلوا عليه ويسلموا تسليما في كل أحواله ومراتبه، أما في القرءان فالخطاب الموجه إليه من حيث هو رسول ليس كالخطاب الموجه إليه من حيث هو نبي، فللأوامر القرءانية مراتبها ودرجاتها.
أما من يسيء الأدب مع خاتم النبيين زاعما أنه بذلك ينأى بنفسه عن الشرك فقد جمع إلى شركه الأصلي الذي هو مغمور فيه ما يوجب قطع الصلة بينه وبين خاتم النبيين، ولن يفلح بذلك أبدا، بل يُخشى عليه من سوء الخاتمة.
ومن حيل الشيطان أن يحمل الناس على إساءة الأدب مع النبي وعلى رفض القيام بما له من الحقوق بحجة أن ذلك مقاومة للشرك، هذا مع أن المتبع لدين الحق يعلم علم اليقين أن النبي هو العبد المحض المطلق لله تعالى، وأنه ما استحق أعلى مرتبة من مراتب الكمال إلا لكونه كذلك، فهو عبد الله من حيث ذاته ومن حيث كافة أسمائه وسماته، لذلك فهو المقصود بالأصالة بالمصطلح "عبد الله"، وهو المقصود بالأصالة بالمصطلح "عبده" أينما ذُكر مجردا في كتاب الله العزيز.
إنه لن يفلح مسلم ليس له ورد يومي من الصلاة والتسليم على النبي، لا تستمعوا إلى أمثال هؤلاء.
*****
قال تعالى:
{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)} النمل
وقال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} الصافات
فالمسلم مأمور بأن يسلِّم على عباد الله الذين اصطفاهم، وهو بذلك يتبع سنة إلهية، فعليه أن يقوم بهذا الأمر بقدر وسعه، وعليه أيضًا أن يفوض الأمر إلى ربه وأن يوكله في القيام عنه بهذا العمل، فهو مأمور بأن يتخذ ربه وكيلا.
ومثلما أذن الله لعباده المؤمنين أن يقولوا نيابة عنه: "سمع الله لمن حمده"، فلهم أن يفوضوا الأمر إليه وأن يتخذوه وكيلا في القيام ببعض ما أمرهم به مثل الصلاة على النبي والتسليم عليه وعلى عباده الذين اصطفى.
*****
دأب بعض المشايخ وتابعهم المجتهدون الجدد في السخرية من الأذكار اللسانية التي يلتزم بها المسلمون في حياتهم، وقال بعضهم: "إذا كان ذكر الله يعني ترديد أسمائه فإن ذكر نعمته يعني أن يذكر الإنسان أسماءها فيقول مثلا: لحم، خبز، تفاح... الخ" وقالوا: إذاً فيجب أن تكون الاستجابة للآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} آل عمران200 القول: "صبرنا وصابرنا وربطنا واتقينا الله، ونكررها مرات كثيرة ونجعلها ورداً يُذكر صباحاً ومساء"! وقالوا: إذًا يجب أيضاً أن تكون الاستجابة للآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} الأنفال20 القول: "أطعنا الله ورسوله"، وتكرارها غناء وإنشاداً، وجعلها ورداً يُذكر في الصباح والمساء!
وكذلك استهجنوا أن تكون الاستجابة للآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} الأحزاب56 القول لفظاً: "اللهم صلِّ على النبي وسلم تسليماً"
لذلك يجب العلم بما يلي:
1.            أوامر القرءان موجهه إلى قوم يسمعون ويفقهون ويعقلون.
2.            لكل أمر مجاله الخاص الذي تبينه آيات القرءان، ولكل مصطلح معناه الذي تبينه أيضا آيات القرءان، ولا يجوز الخط بين الأمور.
3.            لا يجوز لأحد إهمال فحوى آيات القرءان ولا مقتضياتها.
4.            لا يجوز الانحياز إلى معنى ممكن للأمر القرءاني على حساب معنى آخر، فكل المعاني الممكنة للأمر متسقة متماسكة، فالذكر اللساني لأسماء الله لا يتعارض مع ذكر القلب له بل هو من الوسائل إليه، ويجب تذكر دائماً أن الوسيلة لا تغني عن الغاية.
5.            ذكر الله هو الإحساس القلبي الصادق بحضوره بذاته وأسمائه، وتسمية ترديد الصيغ اللسانية التي ترد فيها أسماؤه بالذكر هي من باب تسمية الشيء بمآله، فمن يوطن نفسه على الذكر المنتظم لبعض الأسماء مع محاولة التركيز والتفكر فيما يردده بلسانه من وسائل التحقق بهذا الذكر.
6.            الأذكار اللسانية هي من مقتضى الوصول بالإنسان إلى كماله من حيث أنه كائن ناطق، فمن يكرر صيغ حقانية يرقى بذلك لكونها تشير إلى حقائق إلهية وكونية، فالنطق من قوى وإمكانات الإنسان التي هو ملزم بأن يزكيها بذكر الله وذكر نعمه وسننه لا أن يدسيها باللغو أو بالفاحش أو بالباطل من القول.
7.            إقامة صلة وثيقة بالله تعالى هي من أركان الدين الجوهرية، وهي تستلزم أقوالا وأعمالا عديدة، ومن هذه الأعمال التوجه إليه بالدعاء في كل حال، ولقد علَّم الله تعالى الناس بما ذكره في القرءان كيف يدعونه بذكره صيغ الدعاء التي توجه بها إليه عباده المصطفون الأخيار.
8.            أصل معنى الصلاة واحد وهو عمل اختياري من كائن لإيجاد صلات له بكائن آخر لتحقيق مقاصد معينة، ثم بعد ذلك يعتمد المعنى على حقيقة الطرفين، فصلاة الله على الناس يترتب عليها إخراجهم من الظلمات بكل معانيها الممكنة إلى النور بكل معانيه الممكنة، ومن مظاهر هذه الصلاة إرسال الرسل، فهم رحمة لمن أرسلوا إليهم، أما خاتمهم فهو رحمة للعالمين بما فيهم الناس كافة.
9.            أما صلاة الله على النبي فلها بالإضافة إلى معانيها العامة معانٍ خاصة، ومنها مد يد العون إليه والالتزام بنصره وتأييده ومن وسائل ذلك مثلا التأليف بين قلوب المؤمنين رغم ما كانوا عليه من تعصب قبلي مقيت.
10.       وصلاة الملائكة على النبي هي إقامتهم لصلات به يترتب عليها أن تعمل القوانين والسنن الكونية لصالحه ولصالح دعوته فيتحتم انتصاره، وهذا ما تحقق رغم أنه بدأ فردا في مواجهة أشرس مجموعة من البشر، وفي مواجهة قوى عظمى متسلطة لم يكن يوجد من يتصور إمكان الخلاص منها في ذلك العصر!
11.       أما الصلاة التي يجب على المؤمنين أن يقيموها فتشمل ما سبق الإشارة إليه من وجوب أن يعملوا على إقامة صلة وثيقة بالله وأن يعملوا على دعمها وترسيخها، والصلاة بصورتها المعلومة هي من الرموز المكثفة لما يلزم لذلك، وكل أوامر القرءان هي من لوازم ذلك، ومنها إقامة صلات مع المؤمنين ومع البشرية جمعاء.
12.       وصلاة النبي على المؤمنين هي بالإضافة إلى ما يجب على المؤمن بصفة عامة تجاه المؤمنين الآخرين هي أيضا من لوازم كونه نبيا مرسلا، فهو يقيم صلات بهم من حيث ذلك يمدهم من خلالها بما يطمئمن قلوبهم ويهدئ من جيشان نفوسهم.
13.       "المصلون" المذكورون في سورة الماعون الذين تتوعدهم السورة بالويل هم المصلون المراؤون، أي المصلون ظاهريا فقط، أما على المستوى الجوهري فهم يكذبون بالدين، بكل ما يعنيه ذلك، ومن المعاني الجزاء الأخروي، فهم لا يؤمنون فعليا باليوم الآخر، ويحيون بمقتضى ذلك، فهم ساهون عن حقيقة الصلاة وعن ضرورة إقامة صلة وثيقة بالله، وتصدر عنهم أفعال مصدقة لذلك، فأعمالهم الخارجية تكشف تكذيبهم بالدين وتعمدهم مخالفة أوامره، فمن يرائي بشكليات الصلاة هو بالفعل يجعل للناس مكانة في قلبه أعلى من مكانة ربه، وربما لم يكن له في قلبه أية مكانة! وكثير من الناس أساؤوا فقه هذه السورة وقدموا مثالا تقليديا لخطورة انتزاع القول من سياقه ونظمه وتفسيره بمعزل عنه وعن القرءان بصفة عامة.
14.       الصلاة المعلومة هي حشد مكثف من الأقوال والأفعال التي ترمز إلى حقيقة الصلات بين العبد وربه.
15.       وبذلك فإن معنى الصلاة كمصدر أو فعل إنما يتحدد ويتعين بالسياق القرءاني مع الالتزام بالمعنى المشار إليه وهو جماع الصلات الممكنة بين كائنين أو أكثر.
16.       الصلاة على النبي هي سعي من المؤمن لإقامة صلات مع النبي من حيث أنه نبي، وهذه الصفة تعني ذاته وكيانه كبشر على صلة بالعالم القدسي الغيبي، فهذه الصلة هي أمر آخر غير طاعة الأوامر الواردة في الرسالة.
17.       الصلاة اللفظية أو اللسانية على النبي هي لتوطيد الصلة بالنبي على المستوى الجوهري، فالمؤمن لا ييأس من النبي كما يئس الكفار والمجتهدون الجدد والسلفية من أصحاب القبور.
18.       الاستجابة للأمر بالصلاة على النبي بالطلب من الله تعالى أن يصلي على النبي ليست من باب العبث وإنما هي من باب الأدب والإقرار بالعجز عن كيفية القيام والعمل بمقتضى هذا الأمر، والاستجابة من الله لها هي بتحقيق المطلوب بقدر إخلاص المصلي وهمته، ولمن يقولون إن هذا الدعاء هو بمثابة تحصيل الحاصل لأن الله يصلي بالفعل على النبي فجوابنا هو أن كل الأذكار التي يرددها الإنسان هي من باب تحصيل الحاصل، فمن يقول "لا إله إلا الله" فهو إنما يردد حقيقة ثابتة، ولكن هذا الترديد قد جعله الله وفقا لسننه من وسائل نجاة الإنسان وتزكيته والرقي به.
19.       ولا شيء في أن يطلب المؤمن من ربه أن يسلم على النبي، فالله تعالى يسلِّم بالفعل على النبي وعلى عباده الذين اصطفى، فكأن المؤمن يدعو ربه أن يبلغ النبي سلاما منه، فهذا من وسائل التقرب إلى الله تعالى وتوطيد الصلة برسوله، والمنتفع هو المؤمن، ومعنى الفعل بالعربية مرتبط بحرف الجر التالي له، والعربي بالسليقة يعرف الفرق بين "سلَّم على فلان" وبين "سلَّم لفلان" أو "سلَّم إلى فلان.
20.       المسلم مأمور بأن يسلِّم على عباد الله الذين اصطفاهم، وهو بذلك يتبع سنة إلهية، فعليه أن يقوم بهذا الأمر بقدر وسعه، وعليه أيضًا أن يفوض الأمر إلى ربه وأن يوكله في القيام عنه بهذا العمل، فهو مأمور بأن يتخذ ربه وكيلا، ومثلما أذن الله لعباده المؤمنين أن يقولوا نيابة عنه: "سمع الله لمن حمده"، فلهم أن يفوضوا الأمر إليه وأن يتخذوه وكيلا في القيام ببعض ما أمرهم به مثل الصلاة على النبي والتسليم عليه وعلى عباده الذين اصطفى.
*****
يعتبر القرءانيون والمجتهدون الجدد من فتوحاتهم الكبرى إبطالهم ما دأب عليه المسلمون من الصلاة والتسليم على الرسول بالصيغ اللفظية المعلومة، ومنها مثلا الصلاة الإبراهيمية، ويقولون ما معناه: "إن الله يأمرك بالصلاة على النبي وليس بأن تطلب أنت منه أن يصلي عليه خاصة وأنه يصلي عليه بالفعل"، وهم يقصدون إنه لا معنى لصيغ الصلاة اللفظية وأنها تحصيل حاصل، وللصلاة بالفعل معان جليلة، ولكن لا حرج على المسلم في أن يسأل الله أن يصلي على النبي، وذلك منه تفويض إلى الله أن يقوم عنه بما هو أعجز عن القيام به، فهو عبادة متضاعفة، وكل صيغ الذكر هي في الحقيقة تحصيل حاصل، وهي لن تنفع الله في شيء، وهي لن تنفع الرسول في شيء، وإما المنتفع هو الذاكر نفسه، أمثلة:
1.     من يقول "لا إله إلا الله"، لن يغير شيئا من الحقيقة، فقوله تحصيل حاصل، فهو لم يجعل آلهة متعددة إلها واحدا، وإنما هو يطهر نفسه من توهم ذلك، ويبرمج نفسه وكياناته على تلك الحقيقة فيتصرف بمقتضاها.
2.     من يقول "الله أكبر" استجابة للأمر القرءاني: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} لن يغير شيئا في الذات الإلهية، وإنما هو يبرمج نفسه وقلبه على حقيقة أن الله أكبر من كل مخلوقاته، فتكون له بذلك المكانة الكبرى في قلبه، فلا يقصد بأعماله إلا وجهه.
3.     من يطلب من الله تعالى أن يصلي على النبي كاستجابة للأمر بأن يصلي هو عليه إنما يفوض الأمر إلى ربه ويوكله، وهذه دعوة مستجابة ومحبوبة.



*******

لحوم مسمومة ج3

لحوم مسمومة ج3

ولقد لمس حشاد مدى تغير نظرة الناس إليه عندما التحق بالمعهد الديني، وعندما كان يسافر إلى قريته كان لا يمل من استعراض معلوماته عليهم، كان يستدرج الناس للدخول في جدال بخصوص موضوعات دينية أصبح متمكناً منها، كان يبزهم بكمية محفوظاته التي يجيد توظيفها لإبهار الآخرين، اكتسب مكانة كبيرة عندهم، وجد من كانوا يستمتعون بصفعه على قفاه أو لطمه على خديه يقبلون يديه وربما قدميه، لقد عرف الطريق للوصول إلى أعلى درجات الوجاهة والثراء، يجب ألا يسمح لأي شيء أن يجعله يحيد عنه قيد أنملة، عليه هو نفسه ألا يتلكأ في سيره، عليه أن يسير بأقصى ما يستطيع من سرعة، وعليه أيضًا أن يوسع نطاق الإعجاب به والطلب عليه.
لكل ذلك لم يكن يكتفي بما كان يلقيه عليهم المشايخ في قاعات الدراسة، كان يتودد إلى بعض المشايخ الطيبين لكي يجودوا عليه بالمزيد من المعلومات في مواضيع ذات صلة بما يدرسه من مناهج، كان هؤلاء بالطبع يسعدون به وبحرصه على العلم ولا يبخلون عليه بأي شيء يطلبه بل ويبادرون إلى إرشاده إلى ما يشبع طموحاته.
أدرك جيدًا مدى قوة تأثير الدين على الناس، إنه مرتبط بذكريات آبائهم وطفولتهم، إن تعصبهم له أقوى بكثير من رغبتهم في العمل به، ولكنهم يعانون بالطبع من الضعف البشري، وهم يعتبرون أن فشلهم في العمل بالدين سيجلب عليهم العذاب الأليم في الدنيا والآخرة، سبب ذلك لهم نوعا مما يمكن تسميته بالمازوشية الجماعية، وتعويضا عما يظنونه تقصيرا هائلا منهم في حق الدين لم يكن أمامهم إلا سلوك الطريق الأسهل؛ أركان هذا الطريق هي:
الاستمتاع بسماع من يندد بقصورهم في العمل بالدين، سكب الدمع الهتون إظهارا للتقصير، التعصب الشديد له، التعصب الشديد لكل رموزه ولمن جعلوا من أنفسهم رموزا له، تقبل كل ما يُلقى عليهم كأمر ديني أو معلومة دينية بدون أدنى نقاش، تقديس المؤسسة الدينية وطلب مضاعفة سلطاتها عليهم، التعصب ضد كل ما يقول لهم المشايخ إنه خطر على الدين، كان هذا الخطر يتمثل لدى المشايخ ليس فيما يهدد الدين أو مصالح الناس بل فيما يهددهم هم أنفسهم، وما يهددهم هو كل ما يختلف عن مذهبهم، ولذلك أصبح لهم طابور من الأعداء والاتجاهات يشمل ما لا حصر له من الأديان الأخرى والمذاهب الإسلامية الأخرى والاتجاهات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلا عن كل رموز الثقافة والفلسفة والأدب والفن.
كان العامة يجدون راحتهم في أن يجدوا من يتملق عقدهم النفسية ويداعب غرائزهم ومركبات النقص لديهم ويزودهم بما يجعلهم يتطاولون على نجوم المجتمع والشخصيات العامة ويسلقونهم بألسنةٍ حداد، وبذلك أدرك جيدا من هم جمهوره الحقيقيون؛ إنهم قطعان الجهلة المتخلفين، وكذلك الطلبة المراهقون المغيبون، عرف نفسياتهم جيدا بنقاط ضعفها وقوتها، وتعلم وأجاد كيف يمكن أن يسخرهم لتحقيق مآربه.
كما أدرك بغريزته وذكائه أن ثمة عقدا غير مكتوب بين نظام مبارك الاستبدادي وأجهزته وبين النظام الذي يدافع عنه مشايخه ممن سبقوه على الدرب؛ بموجب هذا العقد هم لا يذكرون من قريب أو بعيد أي شيء يهدد جديا هذا النظام، ولكن عليهم أن يشغلوا الناس دائما بما لا جدوى منه ولا طائل من ورائه، وبذلك أدرك معنى المعارك المفتعلة مع كل شيء والقضايا الخرافية التي يشغلون الناس بها بين حين والآخر، وتعلم كيف يتربص بالكتاب المشهورين والمثقفين وقادة الفكر وكيف يتسقط كلامهم ويؤلب الدهماء والغوغاء عليهم.
إن عليه أن يستثمر كل ذلك لصالحه، هو يعلم جيدا أنه يستند إلى أعتى القوى على الساحة: قوة التعصب الديني لدى العامة والدهماء، وقوى الجهل والانحطاط والتخلف لدى هؤلاء، وقوة النظام الشيطاني المتسلط عليهم.

وهكذا انقلبت كل الأمور أمام ناظريه، لم تعد مقاصد الدين عنده توثيق الصلة بالله وتزكية الأنفس وتنقية الضمائر وتعليم الناس مكارم الأخلاق بل أصبحت تكريس وترسيخ كل ما يخدم قضيته وقضية طائفته، أي تكريس الشعور بالنقص والدونية لدى الناس، منعهم من استعمال عقولهم في الأمور الدينية، حملهم على تقديس السلف وكل الأوهام والخرافات المتعلقة بهم، شغلهم بكل تافه وشكلي من أمور الدين.
(يتبع)

لحوم مسمومة ج2

لحوم مسمومة ج2

أخذت سنوات الدراسة تمضي بهما، تلقيا قدرا هائلا من العلم بالتراث، كان كل ما يريده مبروك مما يدرسه أن يلتقط منه ما يؤدي إلى تزكية نفسه والرقي بذاته وتحسين إمكاناته الحقيقية؛ الذهنية والوجدانية، عندما كانوا يضربون المثل بمن كان متصفا بخلق كريم معين لم يكن يكتفي بإبداء الإعجاب الظاهر بل كان يبادر على الفور إلى السعي إلى التحلي بهذا الخلق، كان يوحي إلى نفسه دائما بهذه الرسالة:
"واجبي أن أقوم بكل وجباتي الدينية وأن أحقق المثل العليا في نفسي قبل أن أشتغل بأمر غيري".
وهكذا كانت أمور العبادة عنده أمورا جادة، يحاول أن يمارسها بكل كيانه وأن يتفاعل معها إلى المدى الأقصى، ولم يكن يغتفر لنفسه أية غفلة أو هفوة، بل كان يحاول أن يجعل من كل أفعاله عبادة يؤديها بأعلى درجة ممكنة من الإتقان.
أما حشاد فلم يجد فيما يقرأ ما يلفت نظره أو يلزمه على تغيير نفسه، كان راضيا تماما عن نفسه ويعرف جيدا هدفه، كان كل همه استيعاب ما يتلقاه والتمكن منه والتفوق فيه، ساعده على ذلك حافظته القوية التي تلتقط بسهولة كل ما تسمعه فضلا عن قدرات تمثيلية هائلة، هو يعلم جيدا أن التمكن من العلوم التي يدرسها هو سبيله ليخرج من العدم الذي يحيا فيه إلى الوجود الحقيقي من وجهة نظره، لذلك تعلم أن ينظر إلى ما يدرسه بحيادية تامة، تعلم كذلك كيف ينحي عقله ومشاعره جانبا، كان يوحي إلى نفسه دائما بهذه الرسالة:
"واجبي هو حفظ واستيعاب كل ما أتلقاه من معلومات والتمكن التام منها، يجب ألا يشغلني أي شيء عن ذلك، في سبيل هذا الواجب يجب تسخير كل إمكاناتي".
وهكذا أصبح دور كل ملكاته هو الوصول إلى أفضل السبل للتمكن مما يتلقاه من معلومات والسيطرة عليها والمناورة بها، لم يكن غريبا إذًا أن يتفوق على كل أقرانه تفوقا شجعه على التمادي فيما هو فيه.
وهكذا أيضاً أصبحت ممارساته الدينية محض أعمال آلية، لقد كان يقتل في نفسه في الحقيقة الوجدانيات والمشاعر والقدرة على الفقه والتفكير السليم، أخذ كيانه الإنساني يتلاشى لحساب صورة يريد أن يبدو بها للآخرين، لم يخطر بباله أبدا وهو يصلي أنه يخاطب إلها حيا عليما بالسر وأخفى وأن الصلاة هي وسيلته لتوطيد صلته به، كان أداء الصلاة بالنسبة له هو منتهى الأمر، هي عمل روتيني يؤديه كما يؤدي أي موظف وظيفته ليحصل على الأجر في نهاية مدة معلومة، كان يستثمر وقت صلاته أيضا في التفكير في خططه المستقبلية أو مراجعة معلوماته الدينية، وهكذا كان صوم رمضان مجرد امتناع عن الطعام والشراب لوقت معلوم، من بين ما احتفظ به من ذكريات طفولته الفرح بقدوم رمضان، ولكن اختلف سبب الفرحة، كان رمضان بالنسبة له هو الموسم الذي يشتد الطلب فيه عليه وترتفع فيه قيمته.
كان يدرك مدى جدية وصدق وإخلاص صاحبه مبروك، أدرك أيضا تفوق صاحبه عليه في الأخلاق والذكاء والملكات الذهنية والوجدانية والشفافية، كان يلجأ إليه دائما لشرح ما استعصى عليه فقهه من كلام المدرسين، رغم أنه كان يفوقه من حيث المقدرة على حفظ المعلومات إلا أنه كان يجد حفظها أسهل والقدرة على تذكرها أسرع عندما يشرحها له مبروك، كان حسن فقهه للمحفوظات الذي يأخذه عنه هو الذي لفت أنظار المدرسين إليه وهو الذي ميزه عن أقرانه الذين يتمتعون مثله بحافظة قوية، لذلك سلَّم بينه وبين نفسه بحاجته الماسة إلى مبروك رغم كل الاختلافات فيما بينهما.

وكان مبروك يراقبه وهو يتباهى أمام المدرسين بما تعلمه منه في صمت، ويمنعه حياؤه من بيان الحقيقة للناس، وهو لم يتوقع أبدا من حشاد أن ينصفه أمام الناس أو أن يقر له بفضله عليه، ولكن لم يحمله ألمه وازدراؤه لتصرفات حشاد على الامتناع عن مساعدته، كان يقول دائما لنفسه: "إذا اضطررت لمعاملته بالمثل سأجعله بذلك إماما لي ومتقدما عليّ، وسأعطيه زمام المبادرة والفعل، وأجعل من نفسي مجرد تابع وردّ فعل، وسأتدهور إلى مستواه، يجب أن يكون ردّ فعلي من وسائلي للرقي بنفسي، لذلك يجب أن أتحلى بالحلم والصفح والإغضاء والترفع".
(يتبع) 

الأحد، 27 مارس 2016

لحوم مسمومة ج1

لحوم مسمومة ج1

نشأ حشاد البهيمي في أحد المناطق العشوائية في القاهرة، كان "البهيمي" هو اسم عائلته التي هاجرت إلى القاهرة من الصعيد بحثا عن الرزق، كان هذا بعد أن ضاقت بهم السبل في قريتهم وأدركوا استحالة العيش فيها، كان لقب العائلة هو البهيمي، لا يدري أحد هل كان هذا هو اسم جد العائلة أم إنه لقب أطلقه أحد الناس عليه واشتهر بعد ذلك به!
بالطبع قاسى الأولاد الأمرين بسبب هذا الاسم، كانوا دائمًا موضع تندر صبية وشباب القرية الذين لم يرقبوا فيهم إلَّا ولا ذمة، وفي كل مكان كان الويل لمن يُضطر إلى ذكر اسمه كاملا لأحد من الناس لأي سبب من الأسباب.
في الحي العشوائي بالقاهرة بدأت الأسرة حياتها الجديدة، عمل والداه في شتى المهن المتواضعة والشاقة ليعولا أبناءهما، ذاق معهما مرارة الفاقة والجوع.
في بيتهم العشوائي في الحي العشوائي في أطراف المدينة كانت تقاسمهم العيش أسر عديدة، تعرف من بينهم على مبروك، كان يماثله تقريبا في السن، نشأت بينهما صداقة بحكم الجيرة، التحقا معاً بذلك المعهد الأزهري الذي تمَّ إنشاؤه حديثا بالقرب من المنطقة بناءً على طلب الجماهير وإلحاحهم، كان يعاني مثله من البؤس وقسوة الحياة.
لاحظ أن صديقه يأخذ أمور الدين بجدية شديدة، سمعا معا مرة مدرس إحدى المواد الدينية يقول إن أحد الخلفاء العباسيين كان يصلي كل ليلة مائة ركعة، أبدى حشاد دهشة شديدة، وأخذ يترضى عنه بصوت عالٍ، نظر إلى صديقه، وجدَه يصغي باهتمام شديد دون أن ينطق بحرف.
أثناء عودتهما كالعادة سيرا على الأقدام بدأ مبروك الحديث:
-        هل سمعت ما قاله المدرس
-        بالطبع
-        وما رأيك؟
-        ماذا تقصد؟ لقد أبديت رأيي أثناء الدرس بينما ظللت أنت صامتا!
-        كنت أفكر في مدى صدق ما قاله المدرس
-        وما الذي يضطره للكذب؟
-        أقصد صدق القصة التي رواها.
-        وما الذي يضطر من نقلها ليكذب؟
-        إذًا لماذا لا نفعل مثل ذلك الخليفة خاصة وأن التهجد مذكور في القرءان؟
-        أوووه، كيف نفعل مثله؟ إنه كان خليفة!
-        بل يجب لذلك بالذات أن نفعل مثله، رغم أنه كان خليفة يحكم أكثر العالم في وقته لم يقصِّر في واجباته تجاه ربه، ونحن مازلنا في مطلع الشباب ودون مسئوليات.
-        دون مسئوليات؟ ألا تعلم أنني أساعد والديّ في شتى أعمالهما بعد عودتي إلى البيت؟
-        لا تكن كسولا، أداء مائة ركعة قد لا يستلزم إلا ساعة واحدة، أتبخل على نفسك بساعة؟ من طلب العلى سهر الليالي، ما رأيك أن نصليها معاً ويشد كل منا أزر الآخر؟
-        دعني أفكر
-        الموضوع لا يحتاج أي تفكير، يمكننا الاستيقاظ قبل الفجر بساعة لنصليها أو نصليها قبل النوم، ماذا تختار؟
-        لماذا لا نؤجل هذا الموضوع إلى الصيف بدلا من الاستيقاظ في هذا البرد القارس؟
-        يبدو أنه لا فائدة تُرجى منك، سأنتظرك قبل الفجر!
-        لا تنتظر شيئا، فحتى لو تمكنت من الاستيقاظ قبل الفجر فسأنفق الوقت المتاح فيما هو أجدى وأنفع!
-        وما هو؟
-        مراجعة دروس اليوم السابق وقراءة ما تيسر من دروس اليوم الجديد، لابد من التفوق الحاسم في الدراسة، أما أنت، فلا تنسنا من دعائك!

أظهر هذا الحوار لكلٍّ منهما طبيعة الآخر، إن مبروك يأخذ كل أمور الدين بجدية شديدة، يحوِّل كل ما يسمعه إلى برنامج عمل يلزم به نفسه قبل أن يلزم به غيره، لم تكن المكاسب المادية تعنيه كثيرا، بينما كان حشاد ينظر إلى الدين كمهنة يتعلمها في المعهد ليحصل بها رزقه من بعد.
(يتبع)