السبت، 31 يناير 2015

سورة المجادلة 12-13

سورة المجادلة 12-13

قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{12} أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ{13}}المجادلة.
الأمر الوارد في الآية 12 واضح تماما؛ على من أراد أن يناجي الرسول أن يقدم بين يدي نجواه صدقة، وهذه الصدقة كما هو معلوم كانت تُردّ عليهم، فلم يكن النبي يبيت وفي بيته أموال أو حتى دريهمات قليلة أبدا.
ومن المعلوم أن الإنسان مكلَّف بالحكم الشرعي بقدر وسعه واستطاعته، فغير المستطيع داخل في قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، ولكن من الواضح أن (الصحابة) بصفة عامة استثقلوا هذا الأمر وعصوه، ولا توجد أية غرابة في ذلك، فالقرءان يسجل عليهم اقتراف العديد من كبائر الإثم ومنها أخطاء جسيمة في حق الرسول.
لذلك تتضمن الآية التالية تأنيباً وتقريعاً بل وتهديدا مبطناً لمن لم يلتزم بالحكم مع استطاعته، فهي لا تعفي القادر من تقديم الصدقة، بل تعتبر ذلك ذنباً يستوجب التوبة وإلا فإن كل مسلم ملزم بإقامة الصَّلَاةَ وإيتاء الزَّكَاةَ وطاعة اللَّهَ وَرَسُولهُ، فأين النسخ هاهنا؟ إنه لكي ينسخ الحكم المذكور كان يجب أن يرد أمر النسخ كمثل هذا: (لا جناح عليكم ألا تقدموا بين يدي نجواكم صدقة)، والسؤال الوارد في الآية هو سؤال لم تُذكر إجابته، ذلك لأنه سؤال استنكار وتبكيت وتنديد بمسلكهم.
أما السلف الطالح ومن تابعهم من الخلف المنافق الفاسد فقد رأوا أنه من الأسلم لهم التطاول على الله وكتابه ورسوله فزعموا أن الآية الثانية نسخت الأولى بمجرد امتناع (الصحابة) عن تقديم الصدقة!!!! هذا مع أنهم يزعمون للناس عن طريق مروياتهم أن هؤلاء (الصحابة) كانوا ينفقون أكثر أموالهم إن لم يكن كلها في سبيل الله وأنهم كانوا هم الذين ينفقون على الرسول وأن الرسول كان يجلس في بيته يتضور جوعا إلى أن يأتيه بالغوث أبو بكر أو عثمان!!!
ولقد قال المضلون من المفسرين عبيد النسخ: "أشفق الصحابة أن يقدموا صدقة للنبي فأنزل الله لتوه {فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم} وهذا معناه أن المستطيع الذي لم يقدم الصدقة لم يأثم بذلك"، فمن أين أتوا بتفسيرهم هذا؟ أليس كل مسلم مأموراً بالطاعة المطلقة لله وللرسول؟ ألا تتضمن نفس الآية أمراً بطاعة الله والرسول؟ هل من يعصي أمراً إلهيا واضحاً بيناً لا يأثم بذلك؟ بلى، لقد أثموا بذلك ولكن الله الغفور الرحيم تاب عليهم وجدد أوامره لهم بالقيام بأركان الدين وذكرهم بأنه يجب عليهم دائماً طاعة الله ورسوله، قال تعالى: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}، وكيف يشفق كل من يسمونهم بالصحابة من أن يقدموا صدقة؟ إن الخطاب بالطبع كان موجهاً لمن لم يفعل مع استطاعته، وإلا فقد كان من بينهم من قدم ماله أو نفسه طواعية في سبيل الله تعالى.
وهل يعتقدون أن الله تعالى يكون ملزماً لتوِّه بتغيير أوامره ونسخ آياته لمجرد أن (الصحابة) أبوا أن يستجيبوا لأوامره؟ وكيف يكون القرءان إذاً هو كلام الله القديم غير المخلوق كما هي عقيدتهم؟ ومع ذلك فليعلموا أن القول بالنسخ باطل بطلاناً مطلقاً دون الحاجة إلى تلك التفاسير، ذلك لأن القرءان هو كلام الله وقوله وروح من أمره، ولا يوجد نص أعلى منه ليقرر أي شيء بخصوصه، ولا يجوز تحكيم الأدنى في الأعلى، وأهل السنة يؤمنون بأنه في لوح محفوظ وأنه أنزل إلى السماء الدنيا جملة واحدة، ولم يكن الله تعالى بحاجة إلى دراسة أحوال الناس ليغيِّر من أحكامه وينسخ من كلامه، فالقائلون بالنسخ لابد وأن يتورطوا في شيءٍ من الكفر، ولكنهم أشربوا في قلوبهم هذا القول فلم يعودوا يشعرون أو يبالون بالعواقب الوخيمة لسلوكهم.
ويجب التأكيد دائماً على أنه لا يوجد مصدر للمعلومات الدينية أعلى من القرءان ليقرر أي شيء بخصوصه، ولا يجوز الاحتجاج بالمصدر الأدنى لتقرير شيء بخصوص الأعلى، فللقرءان الهيمنة على كل المصادر الأخرى، والقرءان هو المصدر الأوحد الذي يمكن معرفة سماته منه.
إن القول بوجود آيات قرءانية منسوخة هو كفر جزئي مؤدٍّ إلى كفر كلي، لماذا؟ ذلك لأن المسلم ملزم بالإيمان بكتاب الله بكل سماته المذكورة فيه، وبكل ما وصفه القرءان به، وهذا القول -الذي هو أصلا لا دليل عليه- مضاد تماما لسمات القرءان، كما أنه مضاد تماما للمنهج القرءاني اللازم لاستخلاص القول القرءاني في أية مسألة، ومن يقولون بالنسخ يتصورون أنه يوجد تعارض بين الآيات واختلاف فيما بينها لا يزيله إلا القول بالنسخ، وهم بذلك يكذبون بالتأكيدات الإلهية بأنه لا اختلاف في القرءان، فهذا القول يتضمن خللا في مفهومهم عن الألوهية.
إن القائل بوجود آيات منسوخة في كتاب الله ما آمن بالإله الحقيقي ولا بكتابه الحقيقي ولا اتبع الإسلام الحقيقي!

*******


من القصة الحقيقية للمسيح عليه السلام2


من القصة الحقيقية للمسيح عليه السلام2


الكلام في المهد وكهلا

لقد تكلَّم المسيح عليه السلام في المهد بشأن مهمته، وهذا ما ذكره القرءان، قال تعالى:
{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)} مريم.
والفاء في العربية للترتيب والتعقيب، وهو تكلَّم من بعد أن أتت به قومها تحمله، أي إنه تكلم وهو مازال في السنّ التي يمكن لفتاة صغيرة أن تحمله.
ثم انقطعت أخباره تماماً من بعد، وصمت تماما عن كلام كهذا –أي في شأن رسالته- إلى أن آن أوان بدأ رسالته، قال تعالى:
{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)} الصف
فلقد أعلن عن رسالته وعن ملخص مضمونها من قبل أن يأتيهم بالبينات ومن بعد أن أراهم الآيات، قال تعالى:
{وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)} آل عمران
 فهو لم يستأنف الكلام بشأن مهمته إلا عندما بلغ مرحلة الكهولة (التي تبدأ عند سنّ حوالي30 سنة)، وهي المرحلة التي يكون فيها الإنسان في عنفوان قوته، وهذا على عكس المفهوم الشائع، فالكهولة هي التي تسبق مرحلة الشيخوخة، واكْتَهَلَ النبتُ يعني أنه طال وانتهى منتهاه، وفي الصحاح: تَمَّ طولُه وظهر نَوْرُه.
ومن معجزات القرءان تأكيده على كلامه للناس في المهد وكهلا، قال تعالى: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ }آل عمران46، {إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ}المائدة110.
ولمعرفة طبيعة الكلام كهلا المقصود في الآيات يجب معرفة طبيعة الكلام في المهد، وهذا يتبين من الآيات الآتية:
{فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً{26} فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً{27} يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً{28} فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً{29} قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً{30} وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً{31} وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً{32} وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً{33}}مريم.
فالكلام في الكهولة كان في هذا الإطار؛ أي كان تفصيلا وتحقيقاً لكل ذلك، والكلام الموجه للسيدة مريم بهذا الخصوص ليطمئن قلبها إلى أنه سيعيش إلى أن يبلغ مرحلة الكهولة مهما اشتدت المؤامرات عليه في المجتمع اليهودي الذي كان يتباهى بقتل النبيين، وكان ذلك من أسباب أمرهم بالهجرة إلى ربوة ذات قرار ومعين حيث الأمن، قال تعالى:
{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِين} [المؤمنون:50]
فالكلام في الكهولة لا غرابة فيه، فكل الناس يتكلمون في كهولتهم، ولكن المقصود الكلام بخصوص مهمته أي رسالته، ولكن من يريدون توثين المسيح وليّ عنق الآيات لتؤيد الخرافة التي ألقاها إليهم شياطين أهل الكتاب حمَّلوا الآيات ما لا تطيق وحرفوا الكلم عن مواضعه فضلوا وأضلوا وضلوا عن سواء السبيل! وهم يزعمون أن الكلام في الكهولة يجب أن يكون معجزة، وبذلك لابد أن يعود المسيح ليتكلم وهو كهل!!! وهم بالطبع لا يعرفون شيئا عن الكهولة وقولهم هذا يتضمن قطعهم بأنه توفى شابا، وهذا ما لا دليل عليه، فكل المعلومات تشير إلى أنه مارس الرسالة كهلا!! بل إنه لا يمارس الرسالة إلا من بلغ مرحلة الكهولة، والآية تعطف كونه عليه السلام من الصالحين على كل ذلك، فهي تقول: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ}، فهل ثمة معجزة بالضرورة في كونه من الصالحين؟ كما زعموا أنه يجب أن يعود ليؤمن به كل أهل الكتاب، مع أن الخرافة تقول إنه لن يقبل منهم الجزية!!!! وسيبيدهم إن لم يسلموا!!!!!
ولا يوجد أدنى علاقة بين الكلام في مرحلة الكهولة وبين ضرورة النزول إلى الأرض فضلا عن بقائه حياً بجسده في السماء (بجانب الرب) لآلاف الأعوام، فلا يجوز تحميل أساطيرهم على الآية، ولكنها الأهواء عمَّت فأعمت!
أما ما بين مرحلتي المهد والكهولة للمسيح الحقيقي فهي سنوات غامضة، لم يستطع أحد ممن أرَّخ له أن يعرف أسرارها إلى الآن معرفة وثيقة، وقدم الكثيرون بشأنها تفسيرات كثيرة، وهم يسمونها بالسنوات الضائعة (The Lost Years of Jesus)، حتى زعم بعضهم أنه هاجر إلى الهند وتعلم هناك أسرار دياناتهم، ولذلك أخذت تعاليمه سمات أديانهم من الرحمة والعطف والحب على عكس الديانة الإسرائيلية التي كانت تأخذ صورة وحشية قاسية غاضبة، وكان الرب فيها هو رب الجنود الذي لا يرحم أعداء قبيلته الأرضية ولا قبيلته نفسها، ويصب عليهم حيناً بعد حين جام غضبه، وهناك من قال إنه ذهب إلى بريطاني!! أو حتى اليابان!!!
فمعجزة القرءان هي في إشارته إلى صمت السيد المسيح طوال المرحلة بين المهد وبين الكهولة، فهي إلى الآن سرّ غامض! وليس لدى القوم أية إشارة ولو بسيطة لسبب الصمت طوال هذه الفترة!
والذي حدث في هذه السنوات هو ما أشار إليه أحد الأناجيل وهو أن السيدة مريم فعلت مثل أهل الشام قديما وبنو إسرائيل وأسلافها في مثل هذه الظروف ومثلما سيتكرر من بعد على مدى التاريخ، وهو الهجرة من فلسطين إلى مصر عند الخطر، وهذا ما فعله النبي إرميا عليه السلام عندما فر إلى مصر ومعه بقايا الأسرة المالة بعد الاجتياح البابلي لأورشليم بقيادة نبوختنصر سنة 586 ق.م.، فخوفاً على ابنها من بني إسرائيل من بعد كلامه في المهد هاجرت به إلى مصر بصحبة أحد أقاربها المتقدمين في السن ولم يكن خطيباً ولا زوجاً لها بل كان حامياً وراعيا لها، وهذا هو الأمر الطبيعي، أما من ظنُّوا أنهم هاجروا إلى الهند فقد ذهب بهم الشطط بعيدا، فكل الأنبياء لم يخرجوا عن هذه المنطقة من العالم والمعروفة بالشرق الأدنى فلقد بقيت النبوة في هذه المنطقة ولم تتأثر بأي تراث خارجي.
وقد كان اليهود قوما مجرمين شرسين في ذلك العصر، وكانوا يتباهون بقتل الأنبياء والمصلحين، فكان لابد من الاختفاء عنهم في منطقة كثيفة السكان، وقد قتلوا بالفعل النبي يحيى (يوحنان، وليس يوحنا) عليه السلام في ذروة شبابه بمجرد أن بدأ في التنديد بأفعالهم.

*******

الخميس، 29 يناير 2015

سورة النحل من 98 إلى 105

سورة النحل من 98 إلى 105

{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقرءان فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)
كان أهل الكتاب يظنون أن كتابهم هو آية الله التي لا يمكن أن تُنسخ أو تُبدل، وأن أي نبي جديد يجب أن يلتزم تماماً به، لذلك زعموا -وتابعهم في ذلك المشركون المتمسكون ببقايا ملة إبراهيم بعد أن تم تحريف الكثير منها على مدى التاريخ- أن الرسول قد افترى القرءان فتولى الله تعالى الرد عليهم في هذه الآيات، والسياق كله يتحدث عن القرءان.
والمسلم مأمور بأن يستعيذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم عندما يقرأ القرءان الكريم، ذلك لأن القرءان ليس كتابا محايدا، فهو إما أن يكون لك، وإما أن يكون عليك، وهو لا يكون عليك إلا لنقص في نفسك مترتب عليه آثار في قلبك، فهو كتاب مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِين، وهُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى، وهُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا، ولا يكاد يخلو إنسان من شيء من الفسق أو الكفر أو الظلم، ومن الظلم الشرك، والشيطان هو الأداة التي تستغل ما في الإنسان من هذه الأمراض ضده، وبالاستعاذة بالله تعالى منه عند قراءة القرءان فإنه يقي الإنسان شر كل ذلك.
ومن الواضح والجليّ والبيِّن أن الضمير في قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} إنما يعود على القرءان، لذلك فالآية الجديدة هي القرءان كله وهي التي استبدل بها الآية القديمة (ما كان لدى أهل الكتاب)، فآية القرءان قد أخذت مكان آية الكتاب السابق، وضمائر الغيب تعود على القرءان ككل واحد في الأفعال "نَزَّلَهُ، يُعَلِّمُهُ"، فالآيات وردت لتأكيد أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ لم يفترِ القرءان وأنه ليس من عنده ولم يتعلمه الرسول من أحد، وكل هذه الأقوال قد افتراها أهل الكتاب لتبرير عدم إيمانهم بخاتم النبيين الذي كانوا يتوقعون أن يكون منهم، فلما ظهر الرسول وانتصر استمروا في الكيد لرسالته، ولقد تمكنوا من استغلال بعض المغفلين الفضوليين من السلف الذين عصوا الله ورسوله وذهبوا ليتتلمذوا على أحبارهم وألقوا إليهم بالتفسير الذي يطعن في القرءان ويشكك فيه ويزعم أن الآية القرءانية كانت تنزل وبعدها بفترة يستبدل بها آية قرءانية أخرى، بل لقد أوهموهم أن ذلك من آيات ومآثر الشريعة الإسلامية!!!  
وكذلك استغرب المشركون تغير الأحكام وتبدلها أثناء التدرج في التشريع فرد عليهم الله تعالى بنفس آيات سورة النحل، فالقرءان يتميز بثراء ووفرة معانيه، وهذا من مقتضيات سمة التشابه الخاصة به.
ويجب العلم بأن كلمة آية لها معانيها العديدة في القرءان ولا تعني بالضرورة جملة قرءانية، بل إن كلمة آية المفردة لم ترد في القرءان أبداً بمعنى جملة أو عبارة أو فقرة قرءانية وإنما وردت كلمة آيات للدلالة على الجمل والعبارات القرءانية بصفة عامة، أما المفردة "آية" فمن معانيها في القرءان البرهان المبين والمعجزة الحسية والإنجاز المادي المعجز والأمر غير المألوف والدليل والكتاب السماوي وحكم من أحكام الشريعة.......الخ.
=======
قال تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} النحل101، إن اللفظ المفرد "آية" لم يأت في القرءان أبداً للدلالة على العبارة القرءانية الماثلة بين نجمتين، كما أنه لم يرد ما يدل على أن المقصود هو حكم الآية، ومع ذلك فقد تمادوا في الضلال وأصبح النسخ يعني عملياً نسخ حكم جزء من آية، وإني أقول لك مسبقاً:  إنه لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بآية من القرءان يقولون إنها كلها منسوخة لما استطاعوا
وإنه من الواضح أن أهل الكتاب كانوا يلقنون كفار قريش الحجج ليجادلوا المسلمين، ومن ذلك أنهم كانوا يقولون لهم إذا كان إلهنا وإلههم واحد كما يقولون فما الداعي لتبديل الرسالة؟ فنزلت الآيات: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ{101} قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ{102} وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ{103} إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ{104} إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ{105} النحل.
فالضمير في قوله تعالى {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} إنما يعود على القرءان كله.
وكان أهل الكتاب يلقنون المشركين الحجج ليجادلوا المسلمين، فلما هاجر المسلمون إلى المدينة تولى أهل الكتاب بأنفسهم أمر الجدال؛ ولذلك نزلت مجموعات كبيرة من آيات سورة البقرة للرد عليهم ودحض براهينهم وتفنيد حججهم، ومن تلك المجموعات المجموعة التي ورد في سياقها آية النسخ المعلومة، وهذه المجموعة تبين أن الملك لله سبحانه وأن له التصرف المطلق في مملكته وتكشف للمسلمين حقيقة مشاعر أهل الكتاب الذين عز عليهم أن تنسخ شريعتهم وأن يستبدل الله بهم قوماً غيرهم.
*******
يحتج عبيد النسخ بالآية: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ{101} (النحل) فيقولون إن التبديل يتألف من رفع الأصل وإثبات البدل (سواء أكان المرفوع تلاوة أو حكما)، وإذا ما سلم المرء بزعمهم بأن الآية هنا هي الآية القرءانية المعلومة -وهو أمر كان عليهم إثباته، ولم يتمكنوا ولن يتمكنوا- فإن الأصل كان ينبغي ألا يكون موجودا في الكتاب لأن البدل قد حل محله وأخذ مكانه، ذلك لأن المبدَّل بنص الآية التي يحتجون بها هو الآية نفسها وليس حكمها وليس جزءا منها، ولقد قال سبحانه بعد الآية المذكورة: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ{102} وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ{103} (النحل)، فمن الواضح والجلي أن الحديث هو عن القرءان ككل واحد فهو الآية التي أخذت مكان ما كان قبلها، فمن أراد دين الحق الآن فحسبه القرءان؛ فهو ليس بحاجة إلى الكتب التي بُدِّلت، ولا يمكن أن توجد في القرءان الذي جمع وحفظ للناس آية قد استبدل بها غيرها، ولقد صاغ الله كتابه بحيث لا توجد فيه آية منسوخة أو منسوخ حكمها (ذلك لأن القول بوجود آية منسوخة أي غير موجودة هو التهافت الفادح).
ويجب العلم بأن كل كتاب منزل هو آية من عند الله، وكذلك الأمر بالنسبة لقوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} النحل101، إن اللفظ المفرد "آية" لم يأت في القرءان أبداً للدلالة على العبارة القرءانية الماثلة بين نجمتين.
وكما هو واضح فالكتاب العزيز يستخدم كلمة آية مفردة بمعني الدليل أو البرهان أو الحجة أو العلامة أو الأمر المعجز أو الإنجاز المادي المبهر أو العظة أو العبرة أو الظاهرة الطبيعية أو الكائنات الحية أو الأمر المثير للتفكير والتأمل والتدبر، والآية تستعمل أيضا للدلالة على الكتاب المنزل ككل واحد كالقرءان أو التوراة، أما العبارات القرءانية فيشار إليها في القرءان بكلمة "آيات" والتي تدل أيضا علي المعاني التي تشير إليها العبارات، والتي يمكن أن يصل الإنسان إلي معرفتها بإعمال ملكاته فيها باتباع السبل والمناهج القرءانية.
*******
قال تعالى: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ{101} قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ{102} وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ{103} النحل
إن الآيات وردت في سياق الحديث عن القرءان ككيان كلى واحد، فالقرءان هو تلك الآية التي نزَّلها روح القدس لتثبيت الذين آمنوا ولتكون هدى وبشرى مسلمين، وهو الذي أُمِر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ  بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم عند قراءته، وهو الذي زعم كفار قريش أن الذي يعلمه بشر أعجمي، فالقرءان هو الآية التي استبدلت بآية الكتاب السابق، والمقصود بالكتاب المستبدَل هو ذلك الذي نُسب إليه أهل الكتاب، فالقرءان هو الآية التي حلت محل ما كان قبله من الكتاب، ولقد زعم الكفار ومن مالأهم أنه افتراه، فالأمر لا يتعلق بنسخ أحكام وإنما يتعلق بالقرءان ككل، فالكفار لا يعنيهم خصوصيات المسلمين ولم يكونوا يعلمون الكثير عنها وإنما كانوا يقاومون الأمر جملة وكأمر مبدئي، أما النسخ المزعوم فهو بحسب اصطلاحهم متعلق بالأحكام وكلها نزلت في المدينة وسورة النحل هي سورة مكية، والقرءان المكي يتضمن أسس العقيدة ومجالات الإيمان وأنبــاء الرسل السابقين مع أممهم وأوصاف اليوم الآخر وكلها أخبار وأنباء ولا مجال فيها للنسخ أصلا، لكل ذلك فليس من حق رجال الكهنوت ليّ عنق الآيتين ليفتروا على القرءان كذبا وليستخدموه لنسخ نفسه ولعدم إلزام الناس بكل آياته ولإفساح المجال لكهنوتهم لينمو وليستفحل علي حساب كتاب الله وليفرض نفسه علي الناس، إن الشيطان في واقع الأمر يستخدم رجال الكهنوت لإنجاز ما عجز عنه كفار قريش من قبل.
والآيات تنص على أن من مقاصد تنزيل القرءان بالصورة التي تمت هو تثبيت الذين آمنوا وليس إثارة الحيرة والبلبلة فيما بينهم مثلما أحدثه أولئك الذين أهلكوا الأمة بأسطورة الناسخ والمنسوخ.
=======
قال تعالى: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ{101} قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ{102} وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ{103}.
إنه يجب أولا العلم بأن الدين عند الله واحد، هو الإسلام، وأن الدين الذي شرعه الله للناس واحد، ولقد أخذ ينمو ويكتمل مع تطور البشرية وكانت الرسالة اللاحقة تنسخ بعض احكام الرسالة السابقة، فأما من ظل متمسكا بما نسخ من الأحكام السابقة فقد اختلفت شرعته ومنهاجه عمن آمن بالرسالة اللاحقة، فأصبح مطالباً بالوفاء بها، فالسنة الإلهية اقتضت أن من ألزم نفسه بأمور يظن أنه تقربه إلى الله تعالى حتى وإن لم تكن مكتوبة عليه أصلا فإنه سيطالب بها، لذلك تعددت الشرائع.
وأتباع الشريعة اللاحقة لذلك مطالبون بالإيمان بالشريعة السابقة ما لم تنسخ، ولما كان بنو إسرائيل يعلمون أن الدين واحد، وهذا ما أكده القرءان، وكان لديهم يقين بأن كتاب موسى ليس بقابل للنسخ، فقد تعجبوا أن ينزل القرءان بأحكام مختلفة عما لديهم واتهموا الرسول بافتراء القرءان، وأعلموا المشركين بذلك ولقنوهم الحجج، ولقد كان بنو إسرائيل يقيدون ربهم بتصوراتهم ويشبهونه بخلقه ويحسبون أنهم يمكنهم إملاء إرادتهم عليه، ولقد نزلت آيات سورة البقرة لتبين لهم الحقيقة التي أبوا دائما الاستماع إليها والإقرار بها، أن الكتاب الخاتم سينزل على أمة أخرى، والواقع هو أن وجود بنو إسرائيل في الحجاز واليمن هو حجة على تاريخ بني إسرائيل كما دونوه هم.
أما بالنسبة لهذه الأمة فإنهم ملزمون بالإيمان بالكتب السابقة، وهم ملزمون بأداء الشعائر من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والحج كما ورد فيها، ولذلك كان الأمر يرد بإقامة ومراعاة هذه المشاعر كما ولو أنها معلومة لديهم، وكان القرءان ينزل بالأمر المعدل أو المخفف لما هو معلوم لديهم مسبقا دون أن توجد آية تقرهم أو تفصل لهم ما هو معلوم لديهم، فلقد كانوا يتوجهون في صلاتهم إلى قبلة أهل الكتاب دون أن يرد أمر قرءاني بذلك، وإنما ورد الأمر المعدل والناسخ للأمر القديم.
لكل ذلك كان لابد من بيان موقف هذه الأمة من الكتب السابقة؛ فهم ملزمون بالإيمان بها، ولولا آيات البقرة والنحل المذكورة هاهنا لكانوا ملزمين أيضاً بالأحكام التفصيلية التي وردت فيها، فمن الناحية التفصيلية فإن أحكام الكتب السابقة إما أنها قد نُسخت أو أصبحت في حكم المنساة بالنسبة لهذه الأمة، ومن الناحية الإجمالية فإن آية القرءان حلت محل آية أي كتاب سابق، فالضمائر في آيات النحل تعود على القرءان ككل واحد كما هو بيِّن وجلي.
=======
إن آيات سورة النحل تقول: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقرءان فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ{98} إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ{99} إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ{100} وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ{101} قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ{102} وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ{103} إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ{104} إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ{105}
فمن الواضح الجليّ تماماً من السياق أن الحديث هو عن القرءان ككيان واحد، فهو الآية المنزلة وهو الذي نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ، وهو الذي يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ وهو الذي يجب على من يريد أن يقرأه أن يستعيذ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وهو الذي قال الناس بسببه للرسول: إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ، وهذا المعنى تكرر في آيات أخرى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}يونس38، {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }هود13، {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ }هود35، {بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ}الأنبياء5، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْماً وَزُوراً }الفرقان4، {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ }السجدة3، {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }الأحقاف8.
فلقد اتفقت كلمة أهل الكتاب والمشركين على أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد افترى القرءان، وهم لم يكن يعنيهم دقائق وتفاصيل الآيات بعد هذا الموقف الكلي الشامل، ويلاحظ أن كل هذه الآيات مكية، أما أهل الكتاب فقد كان محل عجبهم وإنكارهم أن ينزل كتاب من بعد موسى عليه السلام يحل محل كتابه، وهذا هو ما حكاه الله عنهم ورد عليهم ودحض حجتهم في هذه الآيات: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ{101} قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ{102} النحل.
أما مشركو قريش فقد ذكر الله تعالى قولهم ودحضه أيضاً: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ{103} النحل.
وهكذا لا يوجد دليل قرءاني لمحدثي إفك النسخ، ولا وجود لمصدر أعلى من القرءان ليقرر ويثبت أمرا خطيراً كهذا، ولا يجوز تحكيم آراء وأهواء الناس في كتاب الله تعالى.
وبعد كل هذا فإنهم لم يستطيعوا أبدا أن يأتوا بآية قرءانية تكون كلها منسوخة، فإذا أرادوا بمنسوخة مزالة فذلك يصبح المستحيل بعينه، إذ كيف تكون الآية مزالة وموجودة في المصحف في نفس الوقت؟ أما إذا أرادوا ما هو في الآية من أحكام، فهذا أيضاً ما لم يستطيعوا إثباته، وهم إنما أرادوا حكم جزء من آية، فهذا في الحقيقة ما يقصدونه وإن لم يعلموا أو لم يجرؤوا على التصريح به فإنهم لا يجدون دليلا عليه أصلا، فالآية التي أساءوا تفسيرها وألحدوا فيها تتحدث عن نسخ أو إنساء "آية" وليس "حكم جزء من آية"، وبافتراض جدلا أن لديهم ولو حجة واهية فإن من يحكم بأن حكما قرءانيا قد بطل العمل به إنما يكون قد افترى على الله كذباً وألحد في آيات الله تعالى وكفر بها وحكم برأيه الشخصي على آيات ربه، ولو كان لديه ولو مقدار ذرة من تقوى لما جرؤ على ذلك، فهو إما جاهل وإما لا يدرك خطورة ما أقدم عليه، إن المسلم الحقيقي هو الذي إذا تليت عليه آيات الرحمن خشع قلبه وسجد عقله وحاول أن يفقهها بدلا من أن يحاول تلمس اختلافات فيها.
وهناك من يقول إن نسخ الآية هو إثباتها، وهذا قول باطل أيضا، فكيف تكون الآية مثبتة ويأتي خير منها مثلها مثل الآية المنساة؟
=======
إنه لا يوجد أدنى مسوغ لتفسير هذه الآيات من سورة النحل لتوائم كلامهم في الناسخ والمنسوخ، ومن تلاعب الشيطان بهم أن جعلهم يستعملون الآيات التي تعلي من شأن القرءان كوسيلة لطعنه والنيل منه!!


*******

حكم الخمر

حكم الخمر

لا وجود في القرءان لآيات منسوخة بالمعنى الذي اصطلحوا عليه؛ أي إنه لا وجود في القرءان لآية أُلغي حكمها وبقي فقط رسمها، ذلك لأن القرءان هو المصدر الأوحد لكل أمور الدين الكبرى، ولا يوجد مصدر أعلى منه ليقرر شيئاً ما بخصوصه، والقرءان هو كلمة الله العليا فلا يحقق لكلام من هم من دونه أن يلغي شيئا منه، وهو كلمة الله التامة، فكلماته لا تبديل لها ولا تحويل.
لقد تكلَّم الله تعالى فكان هذا القرءان، فالقرءان هو كلام الله؛ أي هو جماع كلمات إلهية، فالكتاب العزيز هو من كلمات الله تعالى عندما مارس فعل الكلام، وكلماته سبحانه لا تبديل لها ولا تحويل، فهي لا تنسخ، ولقد نص القرءان وهو بذاته برهان ونور مبين على أن القرءان هو كلام الله وأنه عليٌّ حكيم وانه مهيمن على كل الكتب، كذلك نص على أن كلمة الله هي العليا، فلا يمكن أن يكون ثمة نسخ في القرءان لأنه لا مصدر أعلى منه ولا مرجع أعلى منه بل هو جماع كلمات الله العليا، كما أنه لا يحتوي على نص قطعي الدلالة يفيد بأن ثمة نسخاً فيه، كذلك لا يوجد فيه اختلاف يوجب القول بالنسخ.
فليس ثمة نسخ في القرءان بمعنى أن يلغي النص اللاحق النص السابق، فالكتاب العزيز ليس بمدونة قانونية، كما أن آياته قد صيغت بحيث تكون محصنة ضد النسخ بتضمنها أخباراً وأنباءاً لا يُمكن أن تنسخ أبدا، والمسلم ليس مطالبا بمعرفة ما هو النص اللاحق وما هو النص السابق، وليس مطالبا بمعرفة ما سُمِّي بأسباب النزول المبنية على مرويات ظنية، ولكنه مطالب بتدبر القرءان ككتاب كلي جامع وككيان واحد أحدي متسق اتساقا تاما Completely self-consistent.
وها هي الآيات التي عالجت موضوع الخمر والتي يقدمونها كمثال تقليدي على النسخ المزعوم:
1.      {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(67)} (النحل).
2.       {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ(219)} (البقرة).
3.       {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا(43)} (النساء).
4.       {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(90)} (المائدة).
بداية لا يجوز أبدا أن تسمى هذه الآيات بآيات الخمر، فكل منها تعالج أمورا كثيرة أخرى وتتضمن أنباء ومعلومات غير قابلة للنسخ وأحكام لا يقول بنسخها إلا ضال كافر، وهذا يكفي تماما لدحض القول بأنها منسوخة، وتوجد تفاصيل أكثر لبيان ذلك.
والآيات الأربع التي عالجت موضوع الخمر لا ينسخ اللاحق منها السابق، فكل آية من هذه الآيات قد بقي حكمها سارياً والأخبار التي جاءت بها صحيحة لا سبيل إلى تكذيبها، فالآية الأولى تبين أن الخمر ليست من الرزق الحسن، وهذا خبر صحيح غير قابل للنسخ أبدا، هذا بالإضافة إلي أن الآية كغيرها من آيات الكتاب تتضمن أخباراً أخري غير قابلة للنسخ أصلا، فهي تنص على أن في الثمرات وما يتعلق بها آيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وهذا خبر ومعلومة، والخبر أو المعلومة غير قابلة للنسخ، وهي بذلك تبيِّن أيضاً أن اللفظ "آية" لا يعني بالضرورة العبارة القرءانية، وهذا يقوض تفسيرهم للآية التي يحتجون بها لإثبات النسخ، وهذه الآية لم تقل أبداً بإمكانية نسخ جزء من آية، وإنما تحدثت عن نسخ آية كاملة.
والآية الثانية تبين أن الإثم في الخمر أكبر من النفع، وأن هذا الإثم كبير، وهذا أيضاً خبر صحيح غير قابل للنسخ فحكمه حكم كل ما ورد في الكتاب من أخبار وأنباء فكلها حقائق صادقة، والجواب الإلهي عن سؤال لا يُنسخ أصلا، والقول بذلك من الكفر والضلال المبين لأنه يتضمن تكذيباً لله نفسه، كما أن الإثم محرم بنص آيات سور مكية، قال تعالى:
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}الأعراف33، {وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ}الأنعام120، {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ}الشورى37، {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}النجم32.
فهذه الآية تنص على تحريم الخمر، هذا بالإضافة إلي احتواء تلك الآية علي أخبار أخري غير قابلة للنسخ أصلا، فهي تتضمن ردا على سؤالهم عن الإنفاق: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ}، كما تورد المقصد الإلهي مما قام به الله تعالى من تبيين الآيات: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}، فالمقصد هو حثهم على التفكر أي استعمال ملكاتهم الذهنية، وهذا من لوازم ركن "استعمال الملكات الذهنية والحواس الإنسانية للنظر في الآيات الكونية والنفسية وفي عواقب الأمم السابقة ولفقه واستيعاب السنن الإلهية والكونية والإفادة منها ولتحقيق المقاصد الدينية والوجودية"، والآية تذكر فعلاً من الأفعال الإلهية وهو تبيين الآيات للناس، كل هذا فضلاً عن أن هذا الخبر جاء جوابا إلهياً عن سؤال، والجواب لا يُنسخ. 
أما الآية الثالثة فهي تنهى الإنسان عن أن يقرب الصلاة وهو سكران لا يعلم ما يقول، وهذا نهى لا سبيل إلى نسخه أبداً، ذلك لأن نسخه يعنى السماح للإنسان بأن يصلى وهو سكران، وفحوى الخطاب يعني أيضاً أن على الإنسان ألا يقرب الصلاة حتى يعي ما يقول، وتلك الآية التي زعم المغضوب عليهم والضالون المضلون أنها منسوخة تتضمن ما يلي:
1-              أمراً بألا يقرب الإنسان الصلاة وهو سكران لا يعلم ما يقول.
2-              أمراً بألا يقرب الإنسان الصلاة وهو جنب إلا أن يغتسل.
3-              مشروعية التيمم وأحكامه وكيفته.
4-              بيان بأن الله عفو غفور أي أن من أسمائه الحسنى هذا المثنى.
فكل ما تضمنته الآية لا سبيل إلى نسخه أبدا، وحتى البند الأول الذي زعموا أنه منسوخ فليس بمنسوخ أصلاً كما تبين، كما أنه حتى وفقا لادعائهم فإن النسخ يكون لآية كاملة وليس لجزء منها، ولقد استجدت الآن أشياء كثيرة غير الخمر تجعل الإنسان لا يعي ما يقول مثل المخدرات مثلا، فهذه الآية تنطبق عليها، فالآية خاصة بأحكام الصلاة، وهي تؤكد على ضرورة أن يكون الإنسان على علم بما يقول، فالمقصد من الصلاة هو ذكر الله، فكيف يؤديها من هو غافل عن ذكره، ونسخ الحكم إنما يكون بإلغائه لا بتأكيده، وهذا ما لم يحدث، ولكن التفسيرات السلفية أصابت الناس بخلل في الإدراك!! وهذه الآية بالطبع لا تنسخ الآية التي تنص على أن في الخمر إثما كبيرا، فالخمر فيها بالفعل إثم كبير، والخبر لا يُنسخ أصلا، والنسخ –حتى في زعم الضالين المؤمنين بالنسخ- يكون للخبر لا للحكم، ولكنهم هاهنا يضربون بكلامهم عرض الحائط ويقولون إن هذه الآية نسخت الخبر الوارد في الآية السابقة!!
وبذلك، فهذه الآية ليست منسوخة بالآية الآمرة باجتناب الخمر، ولا يوجد أي تعارض يعطي للمبطلين الحق في هذا الزعم لما سبق بيانه!!
أما الآية الرابعة فهي أمر صارم باجتناب الخمر والانتهاء عن تعاطيها أو تداولها فهي أتت بأحكام جديدة ولم تنسخ شيئاً من الآيات السابقة، بل أكدت ما سبق، والآية تتضمن المقصد الديني من الأمر باجتناب بعض الأفعال: {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فالمقصد هو أن يتحقق للإنسان المقصد الديني الخاص بالفرد: أن يكون إنساناً صالحا مفلحا.
إن حكم القرءان على الخمر أن فيها إثما كبيرا وأنه يجب اجتنابها لأنها رجس من عمل الشيطان، وهذا ما تقول به الآيات القرءانية المتكاملة المتعاضدة التي لا يوجد فيما بينها أي تعارض يوجب القول بالنسخ، والآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا(43)} (النساء) تتضمن أمر بألا يقرب الناس الصلاة وهم سكارى، وهذا حكم دائم وملزم وغير منسوخ، فيجب ألا يصلي الإنسان وهو في حالة ذهول عما يقول، فالصلاة ذكر لا يستقيم مع حالة الغفلة والسكر، والذهول له أسبابه العدية ومنها كل المخدرات وعقاقير الهلوسة والصدمات النفسية والخمر، والقول بأن هذه الآية منسوخة رغم أنف كل ما فيها من المعلومات والأوامر هو كفر مثير للسخرية والازدراء، فحتى البهائم والمغضوب عليهم الذين يقولون بنسخها يلتزمون بما جاء فيها من أحكام!!! فإذا قلت لهم ذلك يقولون إنها ليست كلها منسوخة بل المنسوخ الجزء الأول فقط!!!! مع أن دليهم الذي يستندون إليه وهو آية البقرة المظلومة يتحدث عن نسخ آية كاملة وليس جزءاً منها!!! إنه الإصرار على التطاول على القرءان والعكوف على ما قاله السلف رغم أنف كل شيء!!! والأخطر هو أن الإيمان المطلق بكل ما قاله السلف يصيب الشخص بخلل في المنطق والإدراك والتصورات ويحوله إلى دابة كالأنعام بل أضل، وهذا هو المقصد الأعظم للمذاهب التي حلت محل الإسلام وصنعت على عين الشيطان!
إن الآيات التي تعرضت لموضوع الخمر تنص على أن الناس يتخذون مِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وتنهى المؤمنين عن أن يقربوا الصلاة وهم سكارى حتى يعلموا وتنص عل أن الخمر رجس من عمل الشيطان وتأمرهم باجتناب هذا الرجس، كل هذه الأخبار والأمر والنهي متسقة متضافرة لا يوجد فيما بينها أدنى تناقض ولا اختلاف ولا تمانع يوجب القول بالنسخ، بل لا يوجد الآن ما يستدعي معرفة ترتيب نزولها فلن يغير ذلك شيئا من المعلمات والأحكام الخاصة بالخمر وغيرها من الأمور الواردة في الآيات، ومع ذلك سيظل عبيد فهم السلف يقدمون هذه الآيات كمثال كلاسيكي لموضوع النسخ!!!
*******
إن حكم القرءان على الخمر أن فيها إثم كبير وأنه يجب اجتنابها لأنها رجس من عمل الشيطان، ومع ذلك يجب القول بأن شرب الخمر لا يخرج الإنسان من الإسلام كما هو معلوم بل لا يمنعه من أن يكون محباً لله تعالى ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ ومجاهداً في سبيله، ومثل هذا إذا أعيى الناس علاجه فلا أقل من أن يحثُّوه على ألا يقرب الصلاة وهو سكران وأن يؤدى الصلاة بوعي وحضور تام، وستنهاه صلاته يوماً ما عن تعاطى الخمر، فالصلاة الحقيقية تنهى عن الفحشاء والمنكر، فليست المشكلة هي في البحث عن العقاب الملائم لشارب الخمر بل هي في معرفة سبل علاجه المثلي، وهذا هو الفارق بين النهج القرءاني النبوي الذي هو رحمة للعالمين من ناحية وبين النهج الكهنوتي الذي هو نقمة على العالمين من ناحية أخري، فالكهنوت هو من أدوات الشيطان لصد الناس عن سبيل الرحمن.
وتبين الآيات بعض علل تحريم شيءٍ ما وهي:
1-              أن يكون هذا الأمر مضاداً ومناقضاً لأمر موصوف بالحسن.
2-               أن يكون الإثم المترتب عليه أكبر من النفع.
3-               أن يؤدى إلى عدم انتفاع الإنسان بملكاته وتدهورها.
4-              أن يوقع العداوة والبغضاء بين الناس.
إن التحريم سببه أن الأمر المحرم يؤدى إلى الإخلال بمقصد من مقاصد الدين، ولكن يجب أن يكون ثمة نص قطعي الدلالة على الأمر المحرم، فرغم أن الآيات الثلاث الأولى جعلت الكثيرين يجتنبون الخمر، فإن منعها القانوني والفعلي والتنفيذي لم يحدث إلا بعد نزول نص قطعي الدلالة، ولهذا يجب على أولى الأمر ألا يحرموا ما لم يرد نص قاطع بتحريمه إلا إذا كان مندرجاً تحت كبيرة من كبائر الإثم والفواحش، وإنما لهم استرشاداً بما سبق تأسيسه أن يمنعوا بقانون ما يلي:
1-          كل ما يؤدى إلى تدهور ملكات الإنسان وقدراته.
2-           كل ما يؤدى إلى انتهاك حق من حقوقه.
3-          كل ما يؤدى إلى انتهاك كرامته.
4-          كل ما يؤدى إلى إفساد العلاقات السوية بين الناس.
5-           كل ما يناقض مقاصد الدين العظمي ومنظومة القيم الإسلامية أي كل ما كان متفقاً مع المنظومة الشيطانية.
وتبيّن الآيات حقيقة شديدة الأهمية، وهي أنه لا أهمية البتة لترتيب النزول، فيمكن بكل يسر معاملة كل الآيات نفس المعاملة بغض النظر عن ترتيب نزولها، وهذا ما يجب عمله دائما؛ أن يتم تجميع كل الآيات ذات الصلة بالموضوع والنظر فيها ككيان واحد متماثل ومتسق ومتشابه لا اختلاف في ولا تعارض، بمعنى أنه يجب فقه الآيات واستنباط الأحكام مع أخذ كل ذلك في الاعتبار، أما من وجد اختلافا فليتَّهم نفسه وفقهه ولا يتهم كتاب الله العزيز.
=======
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً} النساء43
إن الآية ليست بمنسوخة كما يظن عملاء الشيطان وعباد إلقاءاته والذين زعموا أنها منسوخة بالأمر باجتناب الخمر، ذلك لأنه بحكم تعريفهم واصطلاحهم يكون النسخ لآية وليس لجزءٍ منها، والآية تتضمن أحكاماً لا سبيل إلي نسخها أبداً، هذا بالإضافة إلي أنها تنصّ علي اسم من أسماء الله الحسني وهو "العفو الغفور"، وهذا كافٍ تماماً لتحصينها ضد نسخهم المزعوم، أما العبارة {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فحكمها ثابت ولا سبيل إلي نسخه، وهي تنهي المسلم عن أن يقرب الصلاة وهو في حالة سكر، فمن أراد إقامة الصلاة يجب أن يعي تماماً ما يقول بمعني أن تكون له السيطرة علي ما ينطق به والتحكم فيه، فحد السكر أن يفقد الإنسان ولو جزئيا تلك السيطرة، وهو ليس بالضرورة بسبب الخمر فقد يكون بسبب أمر دهم الإنسان وأهمَّه وقد يكون بسبب المخدرات التي لم يكن للسلف عهد بها، فمن الخير عندئذ للإنسان أن يصبر حتى يذهب ذهوله و سكره ويسترد وعيه ويثوب إلي رشده، والآية أيضا تعني أن من غُلِب علي أمره بسبب إدمان الخمر أو غيرها عليه ألا يترك الصلاة بل عليه أن يجتهد حتى لا يؤدي الصلاة إلا وهو في كامل وعيه، فالآية تحثه علي جهاد نفسه ليتمكن من إقامة الصلاة، فكما لا يملك أحد أن يخرج إنساناً من الإسلام بسبب إدمانه الخمر فإنه لا يملك أن يمنع إنسانا مدمنا لها و يجد صعوبة في الإقلاع عنها من اعتناق الإسلام.
ويلاحظ أن الله سبحانه قد ختم الآية بالمثني العفو الغفور والذي من مقتضياته ولوازمه المحو التام لآثار مخالفة الأوامر الواردة في الآية إذا ما استغفر الإنسان ربه وتاب وأناب وحتى لا يتفنن رجال الكهنوت وهم آفة كل دين في تضخيم الأمر وتعقيده لحسابهم الشخصي كما سيحدث بالفعل.
وقد زعم المبطلون أن هذه الآية منسوخة رغم تضمنها أحكاماً يقرون بأنها ليست بمنسوخة ورغم نصها على اسم إلهي لا يمكن أن يتغير أو يُنسخ، سيقولون إن المنسوخ هو الحكم الوارد في أول الآية، ولكن هذا الحكم قائم وغير منسوخ، فكل إنسان ولو كان مدمناً للخمر أو يتعاطاها أحياناً هو مأمور وسيظل مأموراً بألا يقرب الصلاة وهو سكران، وقد يتعاطى الإنسان بعض الخمر ولكن لا تصل به إلى حالة السكر وفقدان السيطرة على ما يقول، فهو يكون ملزماً بأداء الصلاة لوقتها، وقد يكتشف الإنسان –بتقدم العلم- مادة غير الخمر تسبب السكر، وفي هذه الحالة يسري عليه الحكم الوارد في الآية، وقد عرف الإنسان مواد كثيرة تجعله لا يعلم ما يقول، وقد يتعاطاها حتى يُذهل عما يقول، وفي هذه الحالة هو ملزم بالحكم الوارد في الآية، هذا فضلاً عن أن الآية التي يحتجون بها على وجود النسخ لا تنص وفقاً لتفسيرهم على نسخ حكم جزء من آية قرءانية وإنما على إمكانية نسخ آية، والحق هو أنه لا يوجد في الآية أو في سياقها ما يقطع بأن المراد بالآية هو آية قرءانية، وثمة قاعدة منطقية تقول: الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال.
والحق هو أن محاولاتهم المستميتة لتحريف معنى آية قرءانية لتقول بإمكانية نسخ آية قرءانية هو من أعجب ما حدث في التاريخ، وموقفهم هو ما يشهد بصدق وحقانية الآيات الآتية:
{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً }الفرقان44، {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ}الأنعام116، {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}يونس36، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ{112} وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ{113}}الأنعام.
ولقد ختمت الآية بذكر أن من أسماء الله المثنى العفو الغفور، وأن هذا الاسم من لوازم كينونته، وهذا الاسم هو الذي يتولى أمر هذا التشريع حتى لا يتعنت الناس ويبالغوا في تضخيم شأن الأمور المذكورة فيشغلهم ذلك عن القيام بأركان الدين الكبرى لتحقيق مقاصده.
=======
ولا يجوز لأحد مثلا أن يشرب الخمر بحجة أن القرن الأول ظلوا يشربونها طوال العصر المكي وجزءا من العصر المدني، ومن البديهي أن أوامر الدين ونواهيه أخذت تزيد بمضيّ العصر النبوي، ونزول حكم جديد كان ملزما للقرن الأول بمجرد نزوله، وهو بالطبع ينسخ حكم الحالة التي كانوا عليها، وعلى سبيل المثال كانوا يتعاطون الخمر ثم نزلت الآية التي تنص على أن في الخمر إثم كبير ولما كان الإثم محرما منذ أن نزلت أول آيات القرءان فقد أصبحت الخمر محرمة بمجرد النص على أن فيها إثم كبير حتى وإن كان فيها بعض المنافع، ولكن لا توجد في القرءان آية تحلل للناس تعاطي الخمر حتى يقال إن الآية المحرِّمة نسختها، وكل الآيات التي نزلت بعد النص على أن الخمر فيها إثم كبير إنما هي للتأكيد والتذكرة والبيان وإضافة معلومات جديدة، ومن أساليب التأكيد المعلومة في القرءان التكرار مثلما هو الحال مثلا مع الأمر بإقامة الصلاة، فنزول آية لاحقة تحث على إقامة الصلاة لذكر الله لا تنسخ أبداً الآية السابقة التي تأمر أمرا محضا بالصلاة.
والآيات التي عالجت موضوع الخمر لم تتدرج بالناس من التحليل إلى التحريم ولا من درجات تحريم إلى تحريم مطلق ولا من تحريم جزئي إلى تحريم كلي، وإنما تدرجت بهم من التحريم بالإشارة أو بمفهوم النص أو بشيء من الاستنباط إلى التحريم بمنطوق النص، ولا توجد في هذه الآيات آيات منسوخة، فكل ما ورد فيها ملزم للناس إلى يوم القيامة!
إن الأمر هو كما يلي:
بما أن الإثم مُحرَّم، وبما أن الآية تنص على أن في الخمر إثما كبيرا، إذاً الخمر محرمة؛ لا يجوز أن يتعاطاها المسلم، ويأثم إن فعل، والأمر باجتناب الخمر هو تأكيد لذلك وليس إبطالا له، هل ثمة ما هو أوضح من ذلك؟
*******
إنه لا يجوز أن تسمى الآيات التي ذُكِر فيها الخمر بآيات الخمر، ورغم أن الإسلام قد أكد على تحريم الخمر لأنها محرمة أصلا في ملة إبراهيم فإنه لم ينزل لمجرد تحريم الخمر وإنما لتحقيق مقاصده العظمى، وما تحريم الخمر إلا وسيلة جزئية من وسائل تحقيق المقاصد العظمى.
أما الآيات التي تتناول فيما تتناول موضوع الخمر فهي متسقة متكاملة متعاضدة.
وعندما نزل الأمر باجتناب الخمر فإنه لم ينسخ ما سبق من آيات تحدثت عن الخمر أو تضمنت أحكاماً متعلقة بها، فما زال المسلمون مأمورين إلي الآن وسيظلون مأمورين بألا يقربوا الصلاة وهم سكارى ومازال في الخمر إثم كبير ومنافع للناس، وما زالت محرمة منذ أول آية نزلت بشأنها لأن الإثم محرم، والخمر ليست السبب الوحيد الذي يجعل الإنسان في حالة لا يعلم فيها ما يقول، وهناك الآن بعض المخدرات مثلا التي تسبب ذلك، ومدمن الخمر الذي لا يستطيع الامتناع عنها مطالب بألا يصلي وهو سكران، هذا فضلا عن أن الأمر بألا يقرب المسلمون الصلاة وهم سكارى قد ورد في آية تتضمن أحكاما لم يزعم أحد أبداً ولا يستطيع أن يزعم أنها نُسخت وهي الحكم بألا يقربوا الصلاة وهم جنب وأحكام التيمم، هذا فضلاً عن أن الآية قد ختمت بالقول: إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً{43} (النساء)، وكون الله عفوا غفورا هو أمر ثابت غير قابل للنسخ أصلا، ومن يقول بنسخ هذا الخبر هو كافر بلا ريب، ولقد حصَّن الله تعالي كل آية سيزعمون من بعد أنها منسوخة بتضمينها أمورا حقانية وأموراً ثابتة، لذلك فليس لأحد عليه حجة، وإنما قد أقيمت بذلك الحجة عليهم.
وقد أثبت العلم الحديث أن التأثير المسكر إنما يعود لوجود مادة الكحول فيما يسمى بالخمر، لذلك فإن أمر التحريم يصبح منصبا بالضرورة على تعاطي أي شيء يحتوي على الكحول مهما كانت صورة هذه المادة (طعاماً كانت أم شرابا)، كذلك لا يجوز تعاطي الكحول بأية صورة من الصور، ولأولي الأمر بيان كل ما يستجد من الصور وإعلان أنها محرمة أصلا.
*******
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ ....} النساء43.
لذلك لا يجوز أن يتعاطى الإنسان أية مادة تجعله لا يعلم ولا يعي ما يقول إلا مضطرا، وليس في ذلك إعطاء أية سلطة تحريم لأولي الأمر، وإنما عليهم أن يبيِّـنوا للناس هذا الحكم وكل ما ينطبق عليه هذا الحكم من الأمور الجزئية، وثمة فرقان هائل بين حق البيان وبين سلطة التحريم.  
وافتراض أن ثمة رجل أوروبي يريد أن يعتنق الإسلام ولكنه كان مدمناً للخمر، فهل يملك أحد أن يحول بينه وبين اعتناق الإسلام؟ كلا بكل تأكيد، ذلك لأن بوسعه اعتناق الإسلام دون إذن من بشر مثله، فليس في الإسلام سلطة كهنوتية تتولي أمراً كهذا أبداً، والناصح المسلم ملزم باتباع سنة الإسلام في التعامل معه والتي تقضى بالتدرج، فيذكره بما يعرفه من مضار الخمر وكيف أن إثمها أكبر من نفعها، ثم يحاول أن يقنعه بالكف عن تعاطيها قبل الصلاة بوقت كاف حتى يفيق، وليعلمه كيف يؤدى الصلاة بخشوع وإخبات تام حتى يتحقق بذكر الله والتقوى وعندها ستنهاه صلاته عن تعاطى الخمر، ويمكن اتباع نفس المنهج مع مسلم أدمن الخمر ويريد أن يتوب، فإدمان الخمر لا يمنع أحداً من اعتناق الإسلام ولا يخرج أحداً من الإسلام، ولقد كان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يبدأ بدعوة الناس إلي الإيمان بالله تعالي حتى إذا ذاقوا حلاوة الإيمان دعاهم إلي إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وإذا كان الإسلام قد أباح تأليف قلوب المذبذبين بالمال حتى يطمئن إيمانهم فكيف يقف الدعاة أو القائلون بالنسخ أو بالأحكام المرحلية والأحكام النهائية كعقبة كئود في سبيل انتشار الإسلام ويطالبون كل مسلم حديث عهد بالإسلام بكل تكاليف الإسلام كالمسلم العريق، بل إنهم يريدون أخذ تعهد عليه بأنه سيُقتل إذا ما ارتد!!!! ومن المضحك أن بعضهم يشترط ذلك على الغربي الذي يريد أن يسلم ذلك بينما هو يعيش في بلد هذا الغربي محكوماً بقوانينها ولا يملك بالطبع أن يقتله!!! إن الشيطان يتلاعب بهؤلاء الحثالة السيكوباثيين المضللين ويصد الناس بهم عن سبيل ربهم.
=======
إن القرءان مصوغ بحيث يتدرج بالناس من حيث التشريع والإلزام بالأوامر الدينية، ولذلك كان يترك الناس يعملون بما فقهوه إلى أن يتولد لديهم الاستعداد لنزول الحكم الملزم والذي هو قطعي الدلالة كما حدث في أمر تحريم الخمر والذي بدأ بأن نزلت آية تنص علي أن فيها إثما كبيراً فامتنع البعض عن تعاطيها لأن الإثم محرم في نصوص قرءانية قطعية الدلالة،  بينما استمر البعض في تعاطيها لأن الآية لم تكن في نظره قطعية الدلالة على التحريم، ثم نزلت الآية التي تأمر الناس بألا يقربوا الصلاة وهم سكارى فازداد امتناع الناس عنها وقل الوقت المتاح لتعاطيها، ولقد شق الأمر علي البعض ولكن أصبح الكل مهيئين لنزول حكم حاسم وقطعي الدلالة فأنزل، ومثل هذا هو ما سماه بعض المهرجين نسخا وانطلقوا يعبثون بكتاب الله، وليس ثمة نسخ في هذا الكتاب، والآيات اللاحقة لم تلغ الأحكام التي تضمنتها الآيات السابقة فضلا عن أن كل آية كانت تتضمن معلومات وأوامر أخري لا علاقة لها بالخمر، ولقد اكتمل الدين وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، فالمسلم الآن لا يعنيه هذا التفصيل التاريخي، وليس ملزماً بأن يعرفه، وبالنسبة للآيات الأربعة التي تناولت موضوع الخمر يمكن أن يضعها المسلم بأي ترتيب، وهو ملزم بالنظر فيها كذلك، ولا يجوز أن يتأثر فقهه للآيات بأي ترتيب ممكن لها، إنه يجب أن يقرأ القرءان مثلما يقرأ أي كتاب علمي الذي تتكافأ كل نظرياته ومعلوماته.
=======
إن الآيات التي تناولت أمر الخمر لم ينسخ اللاحق منها السابق، ذلك لأنه لا توجد آية منها اقتصر ما تعالجه وتقدمه من معلومات علي أمر الخمر، بل إن كل آية منها تتضمن معلومات لا يمكن أن تنسخ وأوامر لم تنسخ، ولا نسخ لأقل من آية طبقاً لاصطلاحهم، أما الأوامر المتعلقة بالخمر فلا تعارض بينها ولا تنافي ولا تمانع فليس ثمة تعارض بين الأمر باجتناب الخمر وبين الأمر بألا يقرب الإنسان الصلاة وهو سكران كما أنه ليس ثمة تعارض بين ألا يقرب الإنسان الصلاة وهو سكران وبين أن الخمر فيها إثم كبير ومنافع للناس، ولقد استعملت الآيات سنة التدرج في التشريع لمعالجة داء كان شائعا واستعملت عنصر الزمن كوسيلة من وسائل العلاج وأحالت كل إنسان إلي مدي تقواه وشدة عزمه وحزمه فأشدهم وأقواهم حزما وعزما بادر بالامتناع عن الخمر بمجرد الإعلان بأن فيها إثماً كبيرا، ذلك لأن اجتناب كبائر الإثم هو من أركان الدين ونصت عليه آيات قطعية الدلالة، أما المسلم الآن فتتكافأ عنده آيات القرءان وهو مطالب بتجميع كل الآيات التي عالجت أمر الخمر والنظر فيها ككيان واحد متسق متماسك لا اختلاف فيه ولا تفاوت.
=======
إن الخمر قد حُرِّمت منذ أن أعلن الله تعالي أن فيها إثماً كبيرا، ذلك لأن الإثم محرم بنص آيات قرءانية مكية، قال تعالي: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ(120)} (الأنعام)، {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ(33)}(الأعراف)، فطبقا لقواعد المنطق كان لابد من أن يمتنع الناس عن تعاطي الخمر لأن فيها إثما كبيرا، والإثم محرم، لذلك فالخمر محرمة، ولكن قبل نزول الآية التي تتضمن أمراً باتاً صريحا مباشرا باجتنابها تُرك الأمر لمدي تقوى وحزم كل فرد منهم، فلا شك أن بعضهم بادر بالامتناع عنها وبدأ البعض الآخر يطلب في شأنها نصاً قطعيا، وهذا يبيِّن أن سنة الله ورسوله هي الرحمة والتدرج ومراعاة أحوال الناس، ولو أدرك الدعاة ذلك لاجتذبوا إلي الإسلام طوائف عديدة ولما صدوا الناس عن سبيل ربهم، كما أن السنة المشار إليها هي إدانة لأولئك الذين احترفوا التكسب بالتحليل والتحريم.
أما ما لم يرد به نص كهذا ولو ثبت ضرره فإنه لا يجوز تحريمه وإنما يجوز منعه وتجريم تعاطيه بسن قانون بشري لا يزاد به الدين وذلك رغم أن الدين قد حرَّم أن يقتل الإنسان نفسه أو أن يؤذي بدنه لأنه ليس بملك له وإنما هو مستخلف فيه، أما ما ثبت أن أمر التحريم ينطبق عليه انطباق الكل على الجزء أو الأصل على الفرع أو ما ثبت أنه المسبب للتأثير الذي أشارت الآيات إلى أن التحريم كان بسببه أو ظهر ذلك من فحواها فهو محرم بنفس نصّ أمر التحريم، فشرب الكحول مثلا محرم لأنه ثبت بالعلم أنه هو العنصر المؤدي إلى السكر حتى لا يعلم الإنسان ما يقول، وبالطبع يمكن استعمال الاستقراء أو الاستنباط والعلم وغير ذلك من الوسائل لإثبات ما تم بيانه ولإعادة صياغة الأوامر الشرعية، فالأمر باجتناب الخمر هو الأمر باجتناب الكحول وليس هو مجرد الأمر باجتناب نفس نوع الخمر الذي كان يعرفه عرب القرن السابع الميلادي، وما هو ثابت بالنسبة للنواهي هو ثابت أيضاً بالنسبة للأوامر.
وكل عنصر آخر ثبت بالعلم أنه ينال من قدرات الإنسان الذهنية أو أنه مؤدٍ إلى الغياب عن الوعي مما يتعاطاه الإنسان لمجرد تحصيل لذة هو محرم أيضاً بمقتضى كل مقاصد الدين؛ فتعاطي المخدرات وعقاقير الهلوسة هو محرم لذلك، والمقصود بالاصطلاح محرم أنه مأمور باجتنابه والامتناع عن تعاطيه.
مثال: لقد ثبت أن التدخين ضار بالإنسان، ومن المعلوم أن كل صور تعمد إيذاء النفس أو إهلاكها وكل صور إيذاء الآخرين وكل صور التبذير وإهلاك المال منهي عنها تماما في القرءان، لذلك فعلي أولي الأمر تجريم تعاطي الدخان بسن قانون، ولكن هذا القانون يبقى تشريعا بشريا وضعيا، والناس ملزمون بطاعته لأن طاعة أولى الأمر هي من أركان الدين، وأولو الأمر هنا هم الأطباء والعلماء المختصون؛ فهم الذين يفصلون في أمر التدخين، وعلي أولي الأمور التشريعية والتنفيذية سن القانون اللازم وإلزام الناس به ومراقبة ذلك، وعلى الناس أن يعلموا السنن الشرعية والتشريعية التي أدت إلى منع التدخين، أما من لم يلتزم فهو يأثم بمخالفته لأولي الأمر ولتعمده إلحاق الضرر بنفسه وبجسمه وبغيره ولإهدار ماله وتبديده، وكلها أمور متناقضة مع مقاصد الدين.
أما الربا فهو الذي يتصف بما يتناقض مع ما ذكره الله تعالى: {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ}البقرة279، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }آل عمران130، فهو معاملة مالية يشوبها الظلم لأحد الطرفين –والذي كان قديما هو المقترض- ويتضاعف فيها رأسمال المقرض لعجز المقترض عن السداد إذا جاء الأجل المحدد والمتفق عليه، ووظيفة ولاة الأمر أن يبينوا للناس المعاملات المالية التي ينطبق عليها تعريف الربا انطباق الأصل على صوره أو الكل على جزئياته وتفاصيله.
=======
إن الآية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ }البقرة219، غير منسوخة ولا يمكن أن تكون منسوخة، أولاً لأنها مازالت في كتاب الله تعالى؛ تُتلى ويُتعبد بها، وثانياً لأنها تتضمن حقائق ومعلومات وأحكام لا يمكن أن تلغى أو تنسخ أبدا، فمازالت الخمر فيها إثم كبير ومنافع للناس، ومازال كل إنسان مطالباً بالإنفاق في سبيل الله وهو سبحانه مازال يُبيِّنُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ، ومجرد النص على أن في الخمر إثماً كبيراً يتضمن نهياً عنها وأمراً باجتنابها وتحريماً لها، قال تعالى: {وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ }الأنعام120، {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }الأعراف33، فها هو الإثم محرم تحريماً قاطعاً في آيات مكية نزلت قبل الآية المشار إليها.
وها هي الآيات التي عالجت موضوع الخمر والتي تقدمونها كمثال تقليدي علي النسخ المزعوم: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(67)} (النحل)، {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ(219)} (البقرة)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا(43)} (النساء)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(90)} (المائدة).
إنه يجب أولاً أن تعلم أن تكرار الأمر أو إصدار أمر جديد يتضمن القديم ويتوافق معه لا يعني أبداً نسخاً للحكم القديم وأنه لا خلاف في أن أوامر الدين لم تفرض جملة واحدة وأن بعض ما كان يلتزم به المسلمون بحكم اتباعهم لملة إبراهيم أو لأي سبب آخر قد نُسخ أو عُدل ولكن القرءان لا يحوي إلا الأحكام والآيات الناسخة وليس المنسوخة.
إن الآيات الأربع التي عالجت موضوع الخمر لا ينسخ اللاحق منها السابق، فإنه لا يمكن لآية قرءانية أن تنسخ الأخرى، بل يبقى حكمها سارياً والأخبار التي جاءت بها صحيحة، فالآية الأولى تبين أن الخمر ليست من الرزق الحسن وهذا خبر صحيح غير قابل للنسخ، هذا بالإضافة إلي أن الآية كغيرها من آيات الكتاب تتضمن أخباراً أخري غير قابلة للنسخ أصلا، والآية التي يحتجون بها في قولهم بالنسخ لم تقل أبداً بإمكانية نسخ جزء من آية، والآية الثانية تبين أن الإثم في الخمر أكبر من النفع وأن فيها إثما كبيرا، وهذا أيضاً خبر صحيح غير قابل للنسخ فحكمه حكم كل ما ورد في الكتاب من أخبار وأنباء فكلها حقائق صادقة، هذا بالإضافة إلي احتواء تلك الآية علي أخبار أخري غير قابلة للنسخ أصلا، ومجرد النص على أن في الخمر إثم كبير يعني أنها محرمة، وهذا أمر لا ريب فيه؛ فالإثم محرم تحريماً باتا وفق آيات مكية محكمة، أما الآية الثالثة فهي تنهى الإنسان عن أن يقرب الصلاة وهو سكران لا يعلم ما يقول، وهذا نهى لا سبيل إلى نسخه أبداً، ذلك لأن نسخه يعنى السماح للإنسان بأن يصلى وهو سكران، وفحوى الخطاب يعني أيضاً أن علي الإنسان ألا يقرب الصلاة –بصفة عامة- حتى يعلم أي يعي ما يقول، وذلك أيضاً لأن المقصد من إقامة الصلاة هو ذكر الله تعالى كما بينت آيات أخرى والقرءان يبيِّن بعضه بعضا، وشرب الخمر ليس السبب الوحيد الذي يؤدي إلى ذهول الإنسان عن نفسه وفقدانه لوعيه، فتعاطي المخدرات الآن يؤدي إلى تأثير أشد من تأثير الخمر، فحكم الآية يسري أيضاً على مثل هذا، بل هو يسري على كل من دهمه أمر أفقده صوابه فأخذ يهذي، فالآية تسري على كل ما يمكن أن يستجد مما يؤدي إلى ذهول الإنسان وغياب وعيه، وتلك الآية التي زعم المضلون أنها منسوخة تتضمن ما يلي:
أمراً بألا يقرب الإنسان الصلاة وهو سكران.
أمراً بألا يقرب الإنسان الصلاة وهو جنب إلا أن يغتسل.
مشروعية التيمم وأحكامه وكيفيته.
بيان بأن الله عفوّ غفور أي أن من أسمائه الحسنى هذا المثنى.
فكل ما تضمنته الآية لا سبيل إلى نسخه أبدا، وحتى البند الأول الذي زعموا أنه منسوخ فليس بمنسوخ أصلاً كما تبين، كما أنه حتى وفقا لادعائهم فإن النسخ يكون لآية كاملة وليس لجزء منها، أما الآية الرابعة فهي أمر صارم باجتناب الخمر والانتهاء عن تعاطيها أو تداولها فهي أتت بأحكام جديدة ولم تنسخ شيئاً من الآيات السابقة، وتكرار الأمر وتأكيده لا يعني أبداً نسخا له، ويجب القول بأن شرب الخمر لا يخرج الإنسان من الإسلام كما هو معلوم بل لا يمنعه من أن يكون محباً لله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومجاهداً في سبيله، ومثل هذا إذا أعيى الناس علاجه فلا أقل من أن يحثُّوه على ألا يقرب الصلاة وهو سكران وأن يؤدى الصلاة بوعي وحضور تام، وستنهاه صلاته يوماً ما عن تعاطي الخمر، فالصلاة الحقيقية تنهى عن الفحشاء والمنكر، فليست المشكلة هي في البحث عن العقاب الملائم لشارب الخمر بل هي في معرفة سبل علاجه المثلي، وهذا هو الفارق بين النهج القرءاني النبوي الذي هو رحمة للعالمين من ناحية وبين النهج الكهنوتي أو السلفي الذي هو نقمة علي العالمين من ناحية أخري، فالكهنوت هو من أدوات الشيطان لصد الناس عن سبيل الرحمن.
فالخمر قد حُرِّمت بالنص على أن فيها إثم كبير، وهذا الحكم كان ملزماً لأهل القرن الأول، فكيف فهمت من كلامي قولك التالي: "والآن إذا  نصحت شارباً للخمر هل ستقول له لا تشرب إذا جئت تصلى أم بالعموم لا تشرب الخمر وهذا يمنع أن يشربها قبل الصلاة"، إن مقتضى هذا الكلام المستمد من كتاب الله أنها محرمة ومنهي عنها ككل كبائر الإثم، ولكن وفق مذهب أهل السنة فإن اقتراف الكبائر لا يخرج الإنسان من الإسلام ولا يخلده في النار، فإذا كان ثمة مسلم لم يستطع لأي سبب من الأسباب أن يمتنع عن شرب الخمر فإنه لا يجوز تكفيره بسبب ذلك، كما لا يجوز أن يقال لمن يريد أن يسلم إنه يجب أن تمتنع توَّاً وفورا عن شرب الخمر وإلا فلا إسلام لك!
لقد قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }الأعراف33، {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }البقرة181، {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}البقرة188، {انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً }النساء50، {وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }المائدة62، {وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ }الأنعام120، {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ }النور11، {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً }الأحزاب58، {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ}الشورى37، {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى }النجم32، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ }المجادلة8، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }المجادلة9،........ألا تكفي كل هذه الآيات لإقناعك بأن الإثم منهيٌّ عنه ومحرم تحريماً باتا؟ والآن اقرأ هذه الآية: 
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ }البقرة219.
إن كل إثم منهي عنه ومحرم تحريماً باتاً، ولقد نصت الآية على أن في الخمر إثما كبيرا، إذاً الخمر محرمة تحريماً باتا، ألا يكفي ذلك لإقناعك؟ وإذا كان (الصحابة) كما تقول أنت قد استمروا في تعاطي الخمر رغم نزول تلك الآية فما هو ذنب الآية لتقول بنسخها؟ ولقد فر بعض (الصحابة) في معركتي أحد وحنين معرضين النبي لأشد الأخطار رغم أن الفرار من القتال هو من كبائر الإثم، ولقد نص القرءان على ذلك نصاً واضحا بينا، ولقد كان من مقاصد ذلك ألا يتخذهم البعض من بعد أرباباً من دون الله أو آلهة معه، ولقد عفا الله عنهم، فهل يعني ذلك أنهم لم يأثموا أصلاً؟ وهل ينهض ذلك حجة على الأوامر القرءانية المشددة بوجوب الثبات عند مواجهة الأعداء؟ أم أن الحقيقة هي أن الشيطان قد استزلهم ببعض ما كسبوا كما جاء في الآية: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ }آل عمران155، ربما كان بعض ما كسبوا هو استمرارهم في تعاطي الخمر، ولقد خاض بعضهم في حديث الإفك فاكتسب بذلك إثما استوجب جلده في تلك الدنيا، اقرأ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}النور11.
هل الإثم محرم ومنهي عنه؟
قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ }البقرة219، هل في هذه الآية نص على أن في الخمر إثم كبير؟ وهل نزلت آية من بعد تزيل هذا الحكم؟
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً }النساء43، هل في تلك الآية أي تعارض مع الآية السابقة يستدعي القول بأنها نسختها؟ وهل نزلت أية آية تزيل أي حكم ورد هاهنا أو حتى تبدله؟
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(90)} (المائدة)، هل في تلك الآية أي تعارض مع الآيتين السابقتين يستدعي القول بأنها نسختهما معا؟ أم أن كل المعلومات المقدمة عن الخمر متكاملة ولا تعارض فيها؟
هل أُنزِل القرءان على الرسول أولاً جملة واحدة؟
هل الله يغير أحكامه التي أنزلها في كتابه المحكم لمجرد أن بعض الناس قد عصوها أو أشفقوا منها؟
لقد وصف الله تعالى قرءانه بأنه كتاب مبين، فهل تعرف معنى كتاب مبين؟
بعضهم يقول: (إذا كانت الخمر محرمة تحريماً قطعياَ بذلك النص كما تقول فلم أنزل الله آية أخرى للتحريم؟)، والجواب: إنه كان ينبغي أن توجه هذا السؤال إلى الله تعالى وحده، أما الإجابة فهي في قوله تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ }الأنبياء23، ولقد قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }الأنعام105، {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقرءان لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً}الكهف54، ولقد كرر الله تعالى بعض الأوامر الأحكام مرات عديدة وكرر ذكر بعض القصص، بل إنه ثمة آيات تكررت بنصها في سور عديدة، ولا شك أنك تعلم مثلا أن الأمر بإقامة الصلاة قد تكرر كثيرا وأن النهي عن الزنا قد تكرر في صور عديدة، ألا فاعلم أن من خصائص وسمات القرءان تكرار الأمر وتصريفه من كافة جوانبه، ولقد تكرر في القرءان ذكر كثير من الأوامر والنواهي، ويمكنك أن تعرفها بنفسك، إنه يجب أن تعلم أن للقرءان أسلوبه الفريد. 
أما السلف، فإن القرون (الأجيال) الثلاثة الأولى هم خير المسلمين إجمالاً، وأفضلهم السابقون الأولون، ولكن لا يخلو عصر من السابقين المقربين، ولا يمكن أن تجتمع هذه الأمة على ضلالة أبداً، بل إن الخير هو في أمة الإسلام، فلابد في كل عصر من وجود السابقين ومن يعرف الحق ولو كانوا ثلة أو قلة، ولكن لا يمكن أن يعرف كل الناس الحق أبدا ولا أن يكونوا على أتقى قلب رجل واحد أبدا، بل لابد –كما نص على ذلك الكتاب العزيز-من وجود أكثرية من الفاسقين المشركين الكافرين الذين لا يعلمون ولا يسمعون ولا يعقلون ولا يتبعون إلا الظن ولا يؤمنون ولا يشكرون وهم للحق كارهون وهم لا عهد لهم وهم أضل سبيلاً من الأنعام، ولتعلم أيضاً أنه لابد على المستوى الجوهري من وجود القردة الخاسئين والخنازير والحمير الذين يحملون أسفارا والكلاب والشياطين والمنافقين والجراد القمل والضفادع.........، ولو تدبرت القرءان قليلاً لعرفت من هم.
*******
إن هذا القرءان يتضمن نهجا إصلاحياً فريدا، فتلاوة آياته تعمل عملها في النفوس وتزكيها، وهو يهدى للتي هي أقوم بخصوص أمر الإصلاح خاصة إذا كان الناس قد ألفوا وأدمنوا معصية ما كشرب الخمر مثلا، فالقرءان تدرج في تشديد النهي عنها حتى أوصل الناس إلى حالة أصبحوا فيها مهيئين لقبول الأمر باجتنابها والانتهاء التام عنها، وهذا التدرج كان خاصاً بأهل القرن الأول، ولقد تم ذلك دون أن اضطرار إلى إعمال النسخ في آيات القرءان، فبالنسبة إلي هذا الأمر لا يمكن أن تُعد الآية اللاحقة ناسخة للآية السابقة لأنها لا تتعارض معها ولا تلغي حكمها وإنما تؤكده وتضيف إليه، هذا فضلا عن أنها تتضمن أوامر أخرى ومعلومات غير قابلة للنسخ أصلا، فالآية الآمرة باجتناب الخمر لا تتعارض مع الآية الآمرة بألا يقرب الإنسان الصلاة وهو في حالة سكر ولا مع الآية التي تقرر أن في الخمر إثما كبيرا ومنافع للناس، فالخمر منهي عنها منذ أن أعلن القرءان أن فيها إثماً كبيرا، ذلك لأن الإثم محرم كما هو معلوم، والإنسان مأمور باجتنابه، ولكن الكتاب العزيز اتبع أسلوب التدرج في تشديد النهي رأفة بالناس حتى يأتم به المصلحون من بعد.
=======
إن إنزال القرءان في العصر النبوي كان بحيث يتدرج بالناس من حيث التشريع والإلزام بالأوامر الدينية، ولذلك كان يترك الناس يعملون بما فقهوه إلى أن يتهيئوا لنزول الحكم الملزم والذي هو قطعي الدلالة كما حدث في أمر تحريم الخمر والذي بدأ بأن نزلت آية تنص علي أن فيها إثما فامتنع البعض عن تعاطيها لأن الإثم محرم في نصوص قرءانية قطعية الدلالة،  بينما استمر البعض في تعاطيها لأن الآية لم تكن في نظرهم قطعية الدلالة على التحريم، ثم نزلت الآية التي تأمر الناس بألا يقربوا الصلاة وهم سكارى فازداد امتناع الناس عنها وقل الوقت المتاح لتعاطيها، ولقد شق الأمر علي البعض ولكن أصبح الكل مهيئين لنزول حكم حاسم وقطعي الدلالة فأنزل، ومثل هذا هو ما سماه بعض المهرجين نسخا وانطلقوا يعبثون بكتاب الله، وليس ثمة نسخ في هذا الكتاب، والآيات اللاحقة لم تلغ الأحكام التي تضمنتها الآيات السابقة فضلا عن أن كل آية كانت تتضمن معلومات وأوامر أخري لا علاقة لها بالخمر، فما من آية قالوا إنها منسوخة إلا وهي تتضمن من الأمور ما لا يمكن نسخه؛ فمنها أسماء إلهية ومنها سنن كونية، وهذا ما يدحض دعوى النسخ، وعلى سبيل المثال فالآية التي تأمر المؤمنين بألا يقربوا الصلاة وهم سكارى تتضمن أوامر تشريعية خاصة بضرورة التطهر من الجنابة وكذلك أحكاما خاصة بالتيمم كما أنها تنص على أن الله كان عفوا غفورا، وكل ذلك لا سبيل إلي نسخه، ذلك لأن الآية التي أساءوا تفسيرها ابتغاء الفتنة أي لإثبات قولهم بالنسخ تتحدث عن نسخ آية لا عن نسخ جزء منها، ولذلك فلا يجوز تحكيم المرويات الظنية وآراء الناس في آيات الكتاب بأية صورة من الصور، بل يبقي للكتاب دائما الحكم علي المرويات وغيرها ويبقي هو المرجع الأوحد للموازين ولمعاني المصطلحات.
وما حدث مع أهل القرن الإسلامي الأول كان أمراً خاصاً، والمسلم الآن ليس ملزماً بمعرفته، ويمكنه بكل بساطة ألا يأخذه في الاعتبار، وبالفعل قد تكون أسباب النزول التي ألحقوها بهذه الآيات ملفقة، وهي في أحسن أحوالها مرويات آحادية ظنية، ويمكن معاملة الآيات الأربعة التي عالجت أمر الخمر وكأنها نزلت معاً دون حرج ودون أن يتغير أي شيء، وذلك هو الاتجاه المتسق مع دين الحق، ويجب العلم بأن آيات القرءان التي تعالج مسألة ما من ضمن ما تعالجه هي متكافئة من حيث هذه المسألة، ويجب أخذها جميعا في الاعتبار عند الرغبة في استنباط القول القرءاني في هذه المسألة.
=======
لقد كُتب الصيام علي المسلمين كما كتب علي الذين من قبلهم، وتعين أن يصوم كل مسلم أياماً معدودات، ثم أُمر المؤمنون بصوم رمضان أي تم تحديد وتوحيد أيام الصيام كما تم تحديد وتوحيد أوقات الصلاة، فليس ثمة نسخ بالمعني الذي اصطلحوا عليه وإنما كان ثمة تدرج في مطالبة القرن الأول بالتكاليف، أما الآن فالأيام المعدودات التي يتعين على المسلم أن يصوم فيها هي شهر رمضان نفسه، فآيات القرءان يبين بعضها بعضا، والمسلم ليس ملزما بمعرفة التاريخ الدقيق لأهل القرن الأول بمثل ما أن الدارس لعلم كالكيمياء مثلا ليس ملزما بمعرفة تاريخه، وإنما يمكنه دراسته مباشرة في صورته المكتملة التي هو عليها الآن.
أما الآيات التي تناولت أمر الخمر فلم ينسخ اللاحق منها السابق ذلك لأنه لا توجد آية منها اقتصر ما تعالجه وتقدمه من معلومات علي أمر الخمر، بل إن كل آية منها تتضمن معلومات وأخبارا لا يمكن أن تنسخ وأوامر لم تنسخ، ولا نسخ لأقل من آية طبقاً لاصطلاحهم، أما الأوامر المتعلقة بأمر الخمر فلا تعارض بينها ولا تنافي ولا تمانع فليس ثمة تعارض بين الأمر باجتناب الخمر وبين الأمر بألا يقرب الإنسان الصلاة وهو سكران كما أنه ليس ثمة تعارض بين ألا يقرب الإنسان الصلاة وهو سكران وبين أن الخمر فيها إثم كبير ومنافع للناس، ولقد استعملت الآيات سنة التدرج في التشريع لمعالجة داء كان شائعا واستعملت عنصر الزمن كوسيلة من وسائل العلاج وأحالت كل إنسان إلى مدي تقواه وشدة عزمه وحزمه فأشدهم وأقواهم حزما وعزما بادر بالامتناع عن الخمر بمجرد الإعلان بأن فيها إثماً كبيرا، ذلك لأن اجتناب كبائر الإثم هو من أركان الدين ونصت عليه آيات قطعية الدلالة.
*******
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً} النساء43.
من الواضح تماما أن الآية تبين أحكاما متعلقة بالصلاة، ولكن أبى بعض ما يسمى برجال الدين إلا أن يقولوا بنسخها بحجة وجود آية تأمر الناس بأن يجتنبوا الخمر!!!؟؟؟ إن الآية تأمر المسلم بألا يقرب الصلاة وهو سكران، وقد أوضحت أن السكر يعني أنه لا يعلم ما يقول، وأسباب الذهول عن معاني ما ينطق به الإنسان عديدة، منها بالطبع تعاطي كمية كبيرة من الخمر ومنها تعاطي المواد المخدرة بكافة أنواعها المعلومة والتي يمكن أن تستجد، ومنها أن يكون في حالة نفسية تجعله في ذهول عما يقوله، فيجب أن يكون الإنسان على وعي كامل بما ينطق به أثناء الصلاة حتى تحقق المقصد منها، وهذا الحكم لا يمكن أن ينسخ أبدا، هذا بالإضافة إلى أن الآية تتضمن أموراً أخرى من أنكرها هو كافر، منها أن الله كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً ومنها أحكام متعلقة بالصلاة، ولكن أبى أعداء القرءان ومن اتبعهم من الجهلة والمغفلين إلا كفورا، إن القول بنسخ بعض الآيات القرءانية الموجودة في القرءان الآن هو إفك مبين أحدثه بعض المجرمين وتابعهم فيه بعض الجهلة والمتخلفين ووجد هوى لدى الطغاة المجرمين إذ أمكن لهم بذلك أن يلغوا كل الآيات التي تحض على العفو والتسامح وتقرر الحرية الدينية وتنهى عن العدوان والإكراه في الدين فأصبح مشروعا لهم أن يعتدوا على الآخرين بدعوى نشر الدين.
=======
إذا كان (الصحابة) قد استمروا مثلا (كما تقول كتب التفسير) في تعاطي الخمر رغم نزول الآية التي تذكر أن فيها إثماً كبيرا فما هو ذنب الآية ليقولوا بنسخها؟ ولقد فرَّ بعض كبار (الصحابة) في معركتي أحد وحنين معرضين النبي لأشد الأخطار رغم أن الفرار من القتال هو من كبائر الإثم، ولقد نص القرءان على ذلك نصاً واضحا بينا، فهل أخطأت الآيات التي تأمر بالثبات في القتال أم أخطأ من ولَّى الكفار دبره؟ ولقد كان من مقاصد ذلك ألا يتخذهم البعض من بعد أرباباً من دون الله أو آلهة معه، ولقد عفا الله عنهم، فهل يعني ذلك أنهم لم يأثموا أصلاً؟ وهل ينهض ذلك حجة على الأوامر القرءانية المشددة بوجوب الثبات عند مواجهة الأعداء؟ أم أن الحقيقة هي أن الشيطان قد استزلهم ببعض ما كسبوا كما جاء في الآية: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ }آل عمران155، ربما كان بعض ما كسبوا هو استمرارهم مثلا في تعاطي الخمر، ولقد خاض بعضهم في حديث الإفك فاكتسب بذلك إثما استوجب جلده في تلك الدنيا وتوعده ربه بالعذاب الأليم في الآخرة، اقرأ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}النور11
والآية هي حجة على من غالى في تقديس من يسمونهم بالصحابة وهي تفند حجج من زعم أنهم كانوا ينفقون على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، وهي تكشف الأمر للناس لعلم الله تعالى المسبق بما سيلهج به الظالمون من بعد الذين سيتطاولون على الرسول لرفع شأن من يسمونهم بصحابته.
=======
إن الآيات التي تعرضت لمسألة الخمر كلها آيات محكمة قطعية الدلالة، وكل خبر جاء فيها هو صادق، وكل أمر ورد فيها هو ملزم للمسلمين كافة، وكلها آيات متسقة لا اختلاف فيها ولا تناقض.

*******