الجمعة، 21 أغسطس 2015

حقيقة العصمة




حقيقة العصمة


قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} المائدة67
إن العصمة هاهنا هي الحماية والوقاية من الناس وشرهم، وهي العصمة في تبليغ ما أُنزل إليه، فلا يمكن لأحد أن يلقي فيما أًنزل إليه شيئا من عنده، والرسول الكريم لا يعصي الله تعالى أبدا، ليس لأنه ليست لديه القدرة على اقتراف المعاصي كالملائكة مثلا -فهو بشر له إرادة حرة واختيار- ولكن لسموّ نفسه وعلوّ مرتبته، والإنسان الذي يتزكَّى كما أمره ربه يصل إلى مرتبة لا يمكن أن يعصي الله تعالى فيها أبدا، وذلك لشدة إحساسه بالحضور الإلهي المطلق، فهذه مرتبة يمكن للمؤمنين المخلصين التحقق بها بفضل الله تعالى، ولقد علا الرسول على كل هذه المراتب، وكان هو الذي يزكِّي نفوس من اتبعه بأمر ربه، فتزكية الناس كانت من مهامه العظمى، قال تعالى:
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ }الجمعة2، {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ }البقرة151، ومن البديهي أن الأستاذ المتمكن لا يمكن أن يخطئ خطأ لا يقع فيه تلميذه الصغير، ومن أعطاه الله تعالى درجة مزكٍّ هو معتمد عنده من قبل لذلك، فمن يزكي النفوس لا يمكن أن يقع فيما يقع فيه الناس العاديون.
وكل من أراد الله تعالى منه إيصال رسالة معينة إلى الناس سيتكفل بعصمته أثناء تبليغها، فلا تتأثر بأهواء نفسه أو أقوال غيره.
ولا يجوز الغلوّ في أمر العصمة ولا تحميل ما يتعلق بها ما لا يحتمل، ويجب العلم بأن الأئمة المجددين الحقيقيين لم يعودوا ظاهرين للناس منذ أن اختار الناس الملك العضوض وفضلوا الخضوع لأئمة البغي وتخلوا عن الأئمة الراشدين المهديين، والأئمة المجددون الحقيقيون يكونون مؤيدين بروح من الله تعالى ويعلمون ذلك في نفوسهم، وهؤلاء يكتسبون عصمة من الخطأ فيما يتعلق بمهامهم، وهذا من لوازم التأييد الإلهي لهم وكونهم على بصيرة من أمرهم، ولكنهم لا يجوز لهم التكسب بذلك ولا فرض ما يصلون إليه على الناس بإعلان ذلك، وإنما هم ملزمون بتقديم الحجج والبراهين وهم غير معصومين فيما دون ذلك من التصرفات والأفعال.


وموضوع العصمة من الذنوب أمر غير مطروح أصلا في القرءان، ولا يجوز أن يُلزم المسلم بعقيدةٍ ما بخصوصه، القرءان يتحدث عن العصمة من الناس، أما الرسل فهم يعملون تحت رقابة إلهية مشددة تعصمهم من أي تأثير عليهم في البلاغ، وعباد الله الصالحون تمنعهم تقواهم من تعمد المعصية.
-------
والشيعة يقولون بعصمة عدد محدود من الناس من عترة النبي، بينما يدعي أهل السنة العصمة بطريقة لولبية نفاقية لعدد غير معلوم وغير محدد من البشر يسمونهم بالصحابة رغم أنف كل الآيات القرءانية والمنطق والحقائق الثابتة التاريخية، وهم يسمون هذه العصمة على سبيل النفاق المستفحل بالـ"العدالة"، وهذا النوع من العصمة هو الأخطر، ذلك لأنه يترتب عليه اتخاذهم أربابا مشرعين في الدين يكون كل ما يُنسب إليهم نصوصا دينية يسمونها بالسنة يقضون بها على القرءان الكريم ويبطلون منهجه وأحكامه، ورغم أنهم يزعمون أنهم يعتبرون "الصحابة" بشرا، فهم عندهم في الحقيقة الرب الأعلى، والويل كل الويل لمن يذكر عنهم حقيقة ثابتة بالقرءان لا تروق لهم، والمؤسسات الدينية السنية لا تهتز لها شعرة لوجود ملحدين ومرتدين يتطاولون على الله وكتابه ورسوله، ولكنهم يزمجرون وينطحون ويرفسون إذا ذكر أحد المجتهدين حقيقة معلومة عن أحد (الصحابة) أو البخاري وأسلافه شركائه الذين اختلقوا إفك عدالة (الصحابة) ليتغلبوا على عدم شرعية ما لديهم من مرويات.
وحصر العصمة في عدد محدود من عترة النبي المعروفين أفضل من اتخاذ كيان مبهم ربا معصوما ومشرعا في الدين.
أما نحن فلا نتبع إلا دين الحق الذي لا إله فيه إلا الله حقا وصدقا، ولا علاقة لنا بالمذاهب التي حلت محله.

ولقد خلق الله تعالى الإنسان ذا إرادة حرة واختيار، وكلما ارتقى الإنسان كلما اكتسب بأعماله الصالحة المزيد من التقوى التي تمنعه من أن يتعمد المعصية، وبذلك يزداد رقيا وسموا، والقول بأنه مخلوق بحيث لا يعصي ليس تكريما له بل إنزالا له عن مرتبته، هذه هي مرتبة الإنسان، ولدى الله تعالى ملائكة ليست لديهم إمكانية المعصية أصلا، هم الملائكة، هؤلاء هم عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ، حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، فالملائكة فُطروا على تلقي الأوامر الإلهية والمبادرة بتنفيذها، فهم محض آلات للإله الأعظم.
-------
إنه بالنسبة لموضوع العصمة يجب العلم بما يلي وعدم الخلط:
1.     الملائكة مفطورون من الأصل على الطاعة المطلقة لله تعالى، لذلك فهم لا يمكن أن يعصوا ربهم.
2.     الإنسان يختلف عن الملائكة في أن من لوازم حقيقته الإرادة والاختيار، وبدونهما لا يكون إنسانا أصلا.
3.     القرءان هو المصدر الأوحد للعقائد، لذلك فلا أصل لعقيدة العصمة عند الشيعة أو العدالة عند أهل السنة.
4.     ليس معنى ذلك أن العباد المخلصين سيعصون الله بالضرورة، بل إنهم سيطيعونه بكامل حريتهم وإرادتهم واختيارهم، وذلك من لوازم ونتائج سمو مرتبتهم ورقيهم.
*******
قال تعالى:
{يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)} ص  
يلاحظ أيضا النهي عن اتباع الهوى والتحذير الشديد الموجه إلى داود الذي كان نبيا، هل من الممكن أن يوجه خطاب كهذا لمن كان معصوما؟ وهذا مما يقوض مفهوم "العصمة" بكافة صوره الذي يروج له أهل السنة والشيعة.
وقال تعالى:
{وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)} الأعراف
وهذا القول لا يمكن أن يوجه إلى من هو معصوم من الخطأ، ولقد كان هارون نبيا مرسلا، ومع ذلك فهو لم يستطع التصدي لبني إسرائيل وتركهم يعبدون العجل! ولذلك قال له موسى:
{قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)} طه
ولقد عامله أخوه موسى، وهو أصغر سنا منه، بكل غلظة، حتى اضطره إلى استرحامه، ولقد طلب له موسى المغفرة، قال تعالى:
{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)} الأعراف
فهو يطلب له المغفرة لما بدر منه، أما في التوراة فقد جعلوه هو الذي صنع لهم العجل!! هذا رغم أنهم يقدسون ذريته هو من سائر بني إسرائيل، ويسمونها بسلالة الكوهين باعتبار أن الكهانة محصورة فيهم، وهم ينتمون إلى سلالة لاوي (ليفي) وكان منها أكثر أنبيائهم.
ومن الواضح تماما أن موضوع العصمة والعصمة المخففة (العدالة) هي مجرد مزاعم مذهبية لا غنى للمذاهب عنها!

*******

السبت، 15 أغسطس 2015

الإسراء 16-17

الإسراء 16-17

الإسراء 16-17

وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)

إنه دائما يجب فقه الآيات في سياق كل الآيات التي تعالج نفس الموضوع مع عدم إهمال أية آية، والناس في تفسير الآية 16 يتجاهلون حتى الآية التالية لها! فيوقعون أنفسهم في مشاكل لا حصر لها!
والموضوع هنا هو سنة كونية تحدد متى يتم إهلاك الكيانات الإنسانية الكبيرة مثل القرى والقرون والأقوام، وثمة آيات أخرى تتحدث عن نفس المسألة، قال تعالى:
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)} هود، {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) الأنعام، وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)} الكهف، {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)} الحج، {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)} الأعراف، {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208)}، {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)} القصص، وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31)} العنكبوت، {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ (6)} الأنعام، {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)} الأنعام، {كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)} الأنفال، {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)} يونس، {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)} الدخان، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)} الأحقاف، {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6)} الحاقة.  
فالآيات تقرر أن إهلاك القرى والقرون والأقوام لا يتم أبدا عبثا، وإنما يتم كنتيجة طبيعية لأفعالهم التي أصروا عليها وتمادوا فيها، ومن هذه الأفعال: الظلم، الكفر، الشرك، الإجرام، الفسق، اقتراف الفواحش، ... الخ، فمن أراد أن يعرف أسباب هلاك الكيانات الإنسانية الكبرى فليقرأ ما ورد في القرءان عمَّن أُهلكوا وعن أفعالهم مثل قوم نوح وعاد وثمود ولوط وشعيب وآل فرعون، فهم يمثلون كل الأنماط المفضية إلى الهلاك كما يفضي السبب إلى النتيجة في القانون العلمي.
ولابد قبل الإهلاك من إرسال الرسل أو النذر، ومن بعد ختم النبوة فقد أصبحت هذه من مهام من أورثوا الكتاب.
ويلاحظ أن الآية 17 قد خُتمت بالمثنى "الخبير البصير"، وهو يشير إلى ما لدى الله تعالى من خبرة وعلم ببواطن الأمور فضلا عن كونه حاضرا مع عباده يرى ما يفعلون، فبذلك يتأكد بذلك أن سبب هلاكهم وهو ذنوبهم كافٍ تماما، وعلى الإنسان أن يؤمن بأسماء ربه الحسنى وسماته العليا وأن يثق في حقانيته وحكمته.
-------
توضح الآية سنة من السنن التي يجري وفقها انهيار الحضارات وهلاك الأمم، فكل أمة أخرجت للناس إنما تعلو وتسود بما أوتيت من قيم وأفكار جديدة وقوى دافعة وبما أوتيت من متانة البنيان النفسي والاجتماعي وقوة الصلات وشدة الروابط بين مكوناتها، وكذلك من الثقل الأمري المعنوي، ثم تأتى أجيال جديدة لتجنى ثمار كفاح آبائهم الأولين، وسرعان ما يصبح الترف غاية في حد ذاته، فينبذ الخلف منظومات القيم والسنن التي ساد بالاستناد إليها السلف وبنوا مجدهم وحضارتهم، ثم يعبدون الأشياء ويتنافسون في اقتنائها والاستحواذ عليها، ويبددون ما لديهم من طاقات وملكات فيما لا نفع فيه ولا طائل من ورائه، وتتحول منظومات العقائد والقيم والسنن التي شحذت همم الآباء وأحيت موات نفوسهم إلي مجال للجدل العقيم والحرفية والأمور الشكلية، ويصبح العلم بها حكرا على طائفة خاصة، ويُهمل أمر العامة ولا يشركون في أي أمر ويأكلهم المتسلطون عليهم أكل الوحوش ويرتعون في أموالهم ويعتبرون كل ما لديهم ملكا خاصا لهم وتندثر فرائض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلي الخير والتواصي بالحق، فيضج العالم من ظلم المتسلطين وبغيهم، وترتفع المظالم إلى عنان السماء، ويخون الخاصة الأمانة الملقاة على عاتقهم، فبدلا من أن يكونوا أدوات لشحذ الهمم ونشر العلم والنور والحفاظ على القيم فإنهم يتحولون إلى سدنة للمتسلطين على الأمر يزينون لهم طغيانهم ويباركون مظالمهم ويوطنون الناس على الخضوع المطلق لهم ويكفرون من انتقدهم ويسنون ما يلزم من الشرائع والقوانين التي تمكن المتسلطين من الفتك بكل من يحاول التصدي لمظالمهم ويضعون الآليات الكفيلة بإبقاء الأمور على ما هي عليه وهم يحسبون أن الله غافل عما يفعلون، ولكن هيهات، فإنه بمقتضى القوانين والسنن التي هي من لوازم ومظاهر الإرادة والأمر الإلهي تبدأ مرحلة الهلاك الفعلي والدمار لتلك الأمة بعد أن يتجاوز فسادها حدا معلوما وبعد أن يكتب عليها ذلك.
والتعبير (أمرنا مترفيها ففسقوا فيها) هو كمثل التعبير: (يضل من يشاء) فهو لم يأمرهم ففسقوا ولم يضلهم فضلوا؛ أي إنه لم يكره هؤلاء على الضلال ولا أولئك على الفسق، وهو سبحانه لا يأمر بالفحشاء والمنكر والفسق بل ينهي عنهم، وإنما كان الأمر بمقتضى قوانينه وسننه، فلقد أعطاهم الإرادة والاختيار فاختاروا الفسق والضلال لفساد أنفسهم، فإذا تجاوز ذلك حدا معلوما يصبح محتما تدميرهم، ويعنى هذا التعبير أن يصبح القائمون على الأمر في كل مجال من المترفين، والمراد الأمر بمفهومه العام بمعنى أن يصبح الترف مطلبا عاما ثم صفة لازمة لكل قائم على أمر، وهذا يعنى أن يصبح كل خاصة الأمة من المتنافسين في الترف وعبادة الأشياء وطلب المتعة للمتعة.
إن الله تعالى يريد الخير لعباده، لذلك لا يأمرهم إلا بما يؤدى إلى صلاحهم ونجاتهم وفوزهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، فهو يأمر بكل خير وينهى عن كل شر وإذا أراد أن يهلك قرية استحقت الهلاك طبقا للقوانين والسنن التي هي من مقتضيات العدل والقسط وسائر صفاته العليا فإنما يدبر الأمر بحيث يكشف لمترفيهم مدى ازدرائهم للأوامر الشرعية ومدى تنافسهم في الفسوق والعصيان والإفساد، وما ذلك إلا من مقتضيات طبائعهم وفساد قلوبهم، وبسفههم وإفسادهم يكتمل النصاب اللازم لكي يُقضى على تلك القرية بالهلاك طبقا للسنن فيقضى عليهم بأن يدمروا فيتحقق ذلك إذ لا راد لقضاء الله ولا معقب لحكمه، فهو يبين هنا أسلوبه في العمل حتى يأخذ الناس حذرهم، فإذا ما رأوا مترفيهم وقد شرعوا في الفساد والفسق فليعلموا أنه بذلك يوشك أن يحق عيهم القول فليأخذوا على أيديهم حتى لا يهلكوا جميعا.
-------
إن الله سبحانه لم يرد إهلاك القرى عبثا، فهو لا يخلق شيئا عبثا ولا يقضى في أمرٍ ما عبثا، بل كل شيء عنده بالحق والميزان وبمقدار، وهو لا يعذب قرية إلا إذا بعث فيها رسولا، فلابد أنها كانت ملزمة برسالةٍ ما ولكنها كفرت بها، ولم تقم بمقتضياتها بل بما هو مضاد لها، وتمادت في ذلك إلي أن بلغت أعمالها وما ترتب عليها من آثار حدا اقتضى ليس أن يعذبوا فقط ولكن أن يهلكوا، فالإرادة ليست بالأمر الاعتباطي ولكنها فعل يترتب على مقتضيات كل منظومة الأسماء الحسنى من قوانين وسنن، ولكن وفقا لتلك القوانين لابد من سبب مباشر، لذلك ستصل إنذارات وأوامر إلى الملأ منهم المتسلطين عليهم عبر طرق ووسائل عديدة ولكنهم سيتمادون في ترفهم والذي يتضمن عبادة الأشياء والمتع الدنيوية وطلبها لذاتها والتفنن والتعمق فيها فسيقابلون الأوامر الشرعية بالتمادي في تحديها والعمل بما يضادها وهذا هو الفسق، وعندئذ يبلغ النصاب أجله فيقضى في أمرهم ويحق عليهم القول فيحيق بها الدمار، وهذا الدمار هو رحمة بهم لئلا يتمادوا في فسقهم وضلالهم!! إذ أنه قد حق القول عليهم بمعنى أنه لم يعد ثمة سبيل إلى إصلاحهم فقد ختم تماما على قلوبهم، وهذا الختم هو النتيجة الطبيعية لمحصلة أفعالهم الاختيارية، فعند ذلك يكون إهلاكهم رحمة بسائر الإنسانية كما تقتضي مصلحة الإنسان بتر العضو الفاسد الذي لا يرجي شفاؤه حتى لا يؤدى إلى إهلاك سائر الجسم أو كما تقتضي مصلحة الناس إزالة صخرة كبيرة من طريقهم أو كما يكون من مصلحة البشرية أن تأخذ العظة والعبرة مما حدث لقوم اشتهروا باقتراف أنواع معينة من الفواحش والمفاسد.
-------
إن من حق عليهم القول من أهل القرى هم من بلغت خطاياهم حدا استوجب هلاكهم فحُكِم عليهم بذلك، والأمر يتم وفق السنن، ولابد من كثرة مترفيهم ومن أن يوسد فيهم الأمر، وفسقهم هو العمل النهائي اللازم لإخراجهم من دائرة الإمهال ولترجيح كفة هلاكهم واستبعاد أية إمكانية لنجاتهم، فوجود المترفين وكثرتهم ليس في صالح أية أمة، ذلك لأن الحياة ينبغي أن تؤخذ بالجدية اللازمة وبالعزيمة الماضية، فالإنسان أعلى من الأشياء فلا ينبغي أن ينشغل بها أو أن يطلبها لذاتها، فالمترف يعشق الوسائل والأشياء التي سخرت له ويجعل منها غايات يقتنيها ويحرص عليها،  وكذلك يتعلق بالملذات ويطلبها لذاتها ويتفنن فيها، فيستعبد بكل ذلك لما هو دونه، وينسى بذلك مقاصد الدين العظمى التي بها نجاته وسعادته، وينسى ربه الذي يستمد منه أسباب بقائه فيقطع بذلك على نفسه أسباب حياته ووجوده.
-------
إن الله تعالى لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا، وهو مَا كَانَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ، وهو في هذه الآية إنما يبين سننه في إهلاك الأمم التي حقَّ عليها الهلاك بمقتضى السنن.
ومشكلة الناس في فقه هذه الآية هي في ظنهم أن الإرادة الإلهية كإرادتهم التي يغلب عليها الهوى، أو في ظنهم أنها أمر عشوائي اعتباطي، وهم بذلك يسيئون إلى ربهم.
والحق هو أن الإرادة الكونية التي يترتب عليها الفعل والإنجاز والتنفيذ هي مقتضى كل منظومة الأسماء الحسنى، فأسمى الصفات والقيم سارية فيها، فكل ما أراده الله تعالى حق وعدل، وهو لا يريد إهلاك قرية إلا من بعد أن تتجاوز أعمالهم السيئة حدا معلوما يجعل منهم خطرا على البشرية وعقبة كؤود في سبيلها، وكونه يأمر مترفيها هو ككونه يُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فهو لا يقتص من ظالم بمؤمن طيب وإنما بظالم مثله لا تأخذه به رأفة، وعندما يعقد قومٌ ما العزم على التمادي في الكفر ويتفاخرون بذلك فإنه يستدرجهم إلى ما فيه هلاكهم ويمد لهم مدا، حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذهم بغتة.
وكما سبق القول لا ظلم في ذلك، فالعدل والحق والرحمة متحققون في كل أمرٍ أراده.

*******



الجمعة، 14 أغسطس 2015

الأنفال 55 إلى 58

سورة الأنفال 55 إلى 58

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)

في الميزان الإلهي فإن شَرَّ الدَّوَابِّ هم الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، فهم المصرون على الكفر المعتصمون به والعاملون بمقتضاه، وهم الذين يسري كفرهم في أعمالهم فيعملون على إلحاق الأذى بالمؤمنين والعمل على استئصالهم، وهم لا يراعون عهدا ولا يرقبون في مؤمن إلَّا ولا ذمة.
والدابة هي كل ما يدب على الأرض من الكائنات بما فيها البشر، والتعبير المستعمل في الآية يشير إلى أنهم شر الدواب مطلقا وليس شر الناس أو البشر فقط، وذلك أمر بديهي، فالدواب من غير الإنسان لا تتصرف إلا بحكم الضرورة وبما يكفي لبقائها وبقاء نوعها، أما الذين كفروا فقد اختاروا بمحض إرادتهم أن يكونوا محض شر.
وقد قال الله في آية سابقة في نفس السورة: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)}
والكلام في هذه الآية هو فيما يتعلق بالكيان الجوهري، فمن هذه الحيثية لا مجاز، فشر الدواب بالميزان الحقيقي هم الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ، فهم لذلك لا يسمعون نداء الحق ولا يعقلونه ولا ينطقون به، فلا أمل في أن تتحسن أحوالهم، أما بالنسبة لمن لا علم لهم بالكيان الإنساني الجوهري ويريدون التمسك بالمعاني المألوفة للمفردات اللغوية فلهم أن يعتبروا الكلام مجازيا.
والآيتان 22 و55 متكاملتان، فالعبرة بالحالة على المستوى الجوهري، ومن أصر على كفره هو لا يعقل من حيث هذا المستوى مهما كانت قدراته وإمكاناته على المستوى الظاهري، فلطول اعتصامه بالكفر وعمله بمقتضاه أصبح من حيث الكيان الجوهري أصم وأبكم ولا يعقل، فلا قيمة هاهنا لحواسه وملكاته على المستوى الظاهري، سينتفع بها في الدنيا المحدودة الزائلة، ولكنها لن تغني عنه شيئا في دار الخلود.
ثم تبدأ الآيات في الحديث عن طائفة معينة كانت معلومة للرسول والمؤمنين، وهم لم يكتفوا بكفرهم بالرسالة الخاتمة وإنما تعمَّدوا الانحياز إلى الكافرين أعداء المؤمنين رغم العهود المبرمة، دون خوف من تبعات ذلك ولا تقدير لعواقبه، وما ذلك إلا لشدة إيمانهم بباطلهم وحرصهم على استئصال المؤمنين.
فأمثال هؤلاء يجب عند إدراك وجودهم في معركة أن توجه إليهم ضربة قاصمة يرتجف من هولها من هم خلفهم من الأعداء الآخرين، فيتشتتون ويتشردون عنهم.
وفي المعركة كذلك يجب ضرب الصفوف الأولى منهم ضربة يتفرق من هولها والخوف منها من هم خلفهم من الصفوف الأخرى.
فكل ذلك هي أمور لازمة في المعارك مع الذين كفروا والمعتدين لحسم الأمور وتحقيق السلام بأقل قدر من الخسائر، ولا سبيل إلى التعامل مع المعتدين والوحوش البشرية إلا هكذا.
إن إنزال الضربات المروعة بالأعداء تلقي الرعب في قلوبهم وقلوب أمثالهم فلا يتورطون من بعد في العدوان ويبادرون بالجنوح إلى السلام، وتُحفظ بذلك للأمة هيبتها وكرامتها وعزتها، فلا مكان في عالم الذئاب للأرانب والغزلان.
وبذلك أيضا يتعلم الآخرون ضرورة احترام العهود والمواثيق المبرمة مع الأمة فلا يتجرؤون على نقضها أبدا.
إن الإسلام هو دين الحق والعدل والرحمة، ولكنه، أيضًا دين العزة والقوة، والمسلم الحقيقي قوي أبيّ عزيز، وليس بحمل وديع ولا بنعجة، وهو يطرد عن كيانه وقلبه كل أسباب الوهن واليأس والضعف والاستسلام، وهو يعلم أن ربه هو الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ، ولكنه أيضًا شديد العقاب وعَزِيزٌ ذُو انتِقَام.
لذلك فيجب التصدي للأعداء الناكثين غير مأموني الجانب في الحرب، فإذا ما صادفهم المؤمنون وظفروا بلقائهم في هذه الْحَرْب؛ أي في تضاعيفها في ميدان المعركة؛ فيجب اهتبال الفرصة إلى المدى الأقصى والتنكيل بهم بإنزال ضربة قاصمة بهم يرتجف من هولها من خلفهم من المتحالفين معهم المناصرين لهم فيتفرقون عنهم، وبذلك يتم تقصير أمد الحرب.
إنه في ميدان المعركة يجب العمل بمقتضى هذه الآية، فيتمّ ضرب العدو في مقتل بكل قوة وشدة، ويتم العمل على بث الرعب في قلبه بكافة الوسائل، كما يجب الحرص على إيقاع أكبر قدر من الخسائر البشرية بهم ليتعظ بهم غيرهم.
كذلك إذا ما تبين لأولي أمر الأمة أن الطرف الذي وقعت معه معاهدة سلام سيخون العهد، بمعنى أنه ظهرت دلائل تشير إلى ذلك، فيجب إعلامهم بذلك ومواجهتهم به، حتى يستوي الجميع في العلم به، فلا يجوز خيانة العهد دون أن يجهر الطرف الآخر بذلك، ولا يجوز الغدر بهم أو خيانة العهد دون أن يعلنوا عدم تقيدهم به.
أما إذا بادروا هم بنقض العهد بالقول أو بالفعل فإنهم يكونون بذلك خائنين ومعتدين، فيجب على الأمة قتالهم بكل ما هو متاح من وسائل.
وتذكر الآيات سمة إلهية وشأنا إلهيا وسنة إلهية هي: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}، فهذا أمر ثابت يقتضي سنة لا تبديل لها ولا تحويل، فيجب على من يأمل أن يحبه ربه على أن يطهر نفسه من كل آثار صفة الخيانة ومن كل أفعال الخيانة، وعليه أن يتزكى بالتحلي بنقيضها الفعال وهو الأمانة.

*******

الإسلام والعلوم الطبيعية والإنسانية

الإسلام والعلوم الطبيعية والإنسانية

1-     الإسلام هو دين العلم، فهو الدين الذي يعلي من شأن العلم بكافة صوره وتجلياته وخاصة ما يعرف الآن بالعلوم الطبيعية والإنسانية، فالإسلام يعتبر الظواهر الطبيعية من آيات الله الجديرة بالنظر والاعتبار، والعلم في الإسلام من القيم الرفيعة المقدسة وهو مناط الشرف ورفعة الدرجات.
2-     الإسلام هو دين القوانين والسنن؛ فهو الدين الذي أعلن أن لله سننه الإلهية والكونية التي لا تبديل لها ولا تحويل، وفي ذلك أمر للناس بالإيمان بها والثقة بها والسعي إلى معرفتها والانتفاع بها.
3-     الإسلام يأمر الناس بالنظر في الظواهر الطبيعية وأكد أنها هي الآيات الأجدر بالاعتبار مما يطلبه الناس من المعجزات الحسية.
4-     الإسلام هو الدين الذي يعلن أن مجال الفقه والعلم هو آيات الله الكونية، فالعلوم الطبيعية والإنسانية هي مجالات الفقه الحقيقية.
5-     الإسلام لا ينكر السببية كما يفعل المذهب الأشعري الذي هو العقيدة الرسمية لأكثر المسلمين، بل يدعو إلى إدراك الارتباطات بين الأمور على كافة المستويات واعتبارها، ويعلن أن هذه الارتباطات هي بأمر الله ومشيئته؛ فهي من مقتضيات أسمائه.
6-     الإسلام هو الدين الذي يأمر بإعمال الملكات الذهنية في مجالاتها الطبيعية والتي تتضمن الظواهر الطبيعية والكائنات المخلوقة وما يسري فيها وعليها من القوانين والسنن، وينهي عن إعمالها بعيدا عن مجالها أي في أمور الغيب المطلق.
7-     الإسلام هو الدين الذي من مقاصده إعداد الأمة القوية مرهوبة الجانب، والعلوم هي من أعظم أسباب القوة، لذلك لابد من الإحاطة بها وحسن الانتفاع بها والسعي إلى اكتشاف ما هو مجهول منها، وإعداد أناس يتمتعون بقدرات ذهنية عالية للوفاء بكل ذلك، وذلك من مقاصده العظمى أيضا.
8-     الإسلام هو الدين الذي ينهى عن اتباع الأمور غير الموضوعية ويحذِّر من إكسابها أية سلطات على الناس تحول بينهم وبين إدراك الحقائق، ومن الأمور غير الموضوعية الظنون والأهواء والأوهام والأسلاف.
9-     الإسلام هو الدين الخاتم، لذلك فهو يتضمن كل ما يلزم الإنسان في كل زمان ومكان من المبادئ والقيم والأسس.
10- الإسلام هو دين بلا كهنوت، فهو الدين الذي حرَّم وجرَّم وجود طبقة كهنوتية تتطفل على العلاقة بين الإنسان وبين ربه وأعلن بكل وضوح أن الله تعالى أقرب إلي كل إنسان من نفسه وأمر الإنسان أن يتوجه مباشرة إلي ربه، ورفض الكهنوت يتضمن رفض سلطاته ورفض فرض أية معلومات دون تقديم ما يلزم من البراهين.
11- الإسلام هو دين الفطرة، فلا يمكن أن يتضمن أمرا أو تكليفا مضادا لما فطر الناس عليه فلا يمكن مثلا أن يحرم على الناس الطيبات من الرزق، ومما فطر عليه الإنسان الرغبة في التعرف على الظواهر والكائنات الطبيعية وما يسري فيها وعليها من القوانين والسنن، والإسلام هو الدين الذي يتجاوب مع فطرة الإنسان ويأمره بالنظر في الظواهر الطبيعية والذي يعتبر ذلك أمراً لازماً ليعرف الإنسان أنها آيات إلهية، والإسلام هو الدين الذي يأمر الإنسان بما هو مركوز في فطرته.
12- الإسلام هو دين الأمور والمناهج الحقانية والموضوعية، وهو الذي يأمر المؤمنين بطلب البرهان المبين.
13- الإسلام هو دين ينص على أن الإنسان هو كائن حامل للأمانة ومكرم ومستخلف في الأرض وعلى أن الله تعالى قد سخَّر له كل ما في السماوات والأرض، والإنسان مأمور بالسير في الأرض لينظر كيف بدأ الخلق، وهو مكلف بالتعرف علي مجال استخلافه، والإنسان من أدوات تحقيق المقاصد الوجودية.
14- الإسلام هو دين العمل الصالح، فهو الدين الذي أعلي من شأن العمل الصالح وجعله نظيراً للإيمان وألزم المسلم أن يكون عمله شاهداً على فعاليته وحقانيته، والعمل الصالح هو جماع مقتضيات قيام الإنسان بالمهام المنوطة به ككائن مكرم ومستخلف في الأرض ومسئول عن كل كائناتها ومسئول عن استعمارها.
15- الإسلام هو دين الحكمة، وهذا يعنى أنه لابد أن يكون كل أمر من أوامره محفوفاً بالحكمة والتي تتمثل في وجود مقصد لكل أمر شرعي ووجود مقاصد كلية عظمى للدين كله، وهذا يعني أيضاً أنه الدين الذي يعترف بالارتباطات الممكنة بين الكيانات والظواهر ولا ينكر السببية ويعلن أن ثمة سنناً لا تبديل لها ولا تحويل.

*******



الخميس، 13 أغسطس 2015

الذاريات 56-57

الذاريات 56-57

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ{56} مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ{57}

العبادة هي جماع الأفعال المترتبة على معرفة الإنسان أنه عبد لرب أي أنه ملك لكائن أعلى عليه أن يتوافق مع قوانينه وسننه وأن يؤدي حقوق منظومة الأسماء التي اقتضت هذه القوانين والسنن وأن يعمل بمقتضى كل أوامره، والعبادة بصياغة أخرى هي كل عمل يؤدى إلى تحقيق مقاصد الدين العظمى بمعنى أن يعرف الإنسان ربه كما تحدث عن نفسه في الكتاب وأن يكون إنساناً ربانيا فائقا صالحا مفلحا وأن يقوم بكل ما يؤدى إلى إيجاد الأمة الربانية الخيرة الفائقة.
وتبين الآيتان المقصد من خلق الجن والإنس؛ لقد خلقهم الله تعالى لعبادته، والعبد يكون مُقِـرَّا لربه بأنه مالكه؛ له الحق المطلق في التصرف فيه، والله تعالى هو الملك الحق، وهو المالك المطلق، فله حق التصرف المطلق فيمن خلق، وهذا يعني أنه يجب أن يعملوا بمقتضى أوامره، فله عليهم حق الطاعة المطلقة، وكما تخضع أجسادهم لقوانينه الكونية الطبيعية جبرا يجب أن تخضع نفوسهم لقوانينه وسننه الدينية الشرعية اختيارا، ذلك لأن النفس مخيرة بإزائها، والمطلوب أن يعمل كلٌّ على شاكلته، فيجب أن تعبد النفس ربها بمحض اختيارها.
-------

إن الإنسان مطالب بعبادة ربه العبادة المطلقة العامة، والتي تقتضي أن تكون صلاته ونسكه ومحياه ومماته لله رب العالمين، أما العبادة الخاصة فهي الركن الديني الملزم بلوازمه وتفاصيله المعلومة، ومنها الاستجابة لله تعالي وتلبية كافة أوامره، وعلى الإنسان ألا يظن أبداً أن ربه بحاجة إلى شيء منه، بل يجب أن يعلم أن المنتفع بالعبادة هو العابد وحده، قال تعالى: {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} العنكبوت6.
-------
العبادة هي كل عمل يصدر عن الإنسان قاصدًا بذلك أن يطيع الله بمعنى أن يلبي أمرا قرءانيا، وهي بذلك تشمل العمل بمقتضى كل النصوص الدينية، وهي تتضمن ما يلي:
1.      كل عمل من مقتضيات حمل الأمانة والاستخلاف في الأرض، وذلك هو العمل الصالح، بالمفهوم العام
2.      القيام بالشعائر كإقامة الصلاة وصيام رمضان.
3.      العبادة بالمفهوم الخاص؛ أي العلاقة بين العبد وربه، وهي الاستجابة الله تعالى والتوجه إليه بالدعاء وطلب الهداية منه والاستعانة به والاستجابة المناسبة لمقتضيات كل اسم من الأسماء الحسنى، والدعاء يكون أيضاً بالأسماء الحسنى، فهذه العبادة تتضمن العلم بالأسماء الحسنى والعمل على القيام بحقوقها.
-------
ظن البعض أن قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} يعني أن كل أفعالهم بما فيها الشرك والكفر والمعاصي هي عبادة له، لأنه بذلك يتحقق ما خلقهم له، وبالتالي فإنهم كلهم عابدون شاءوا أم أبوا حتى ولو عبدوا غيره، حتى زعموا أن من عبد الوثن ما عبده إلا لما توهَّمه فيه من صفات الكمال وليس من حيث أنه مجرد جِرم مادي، وهذا ما قادهم إلى القول بوحدة الأديان وأن كلها بمثابة سبل مختلفة إلى نفس النقطة، وكل ما قالوه هو مزاعم ليس لهم فيها حجة ولا برهان، وإنما تبيِّن الآيتان المقصد الإلهي الخاص بالثقلين، فالحق سبحانه خلق الجن والإنس لعبادته من حيث أن تلك العبادة هي سبيلهم الأوحد إلى السعادة، ولكن تلك العبادة يجب أن تصدر عنهم بالاتساق مع ما أودعه في حقائقهم الذاتية من إرادة واختيار، فهو لم يشأ أن يقهرهم على عبادته أو أن ينزل عليهم من السماء آية تظل أعناقهم لها خاضعين فعنده الأعداد الهائلة من الملائكة الذين يعبدونه ولا يستكبرون، وما عدد البشر بالنسبة إليهم إلا كنقطة من بحر، ولو شاء لزاد الملائكة عددا، فهو يتكلم هنا من حيث منظومة أسماء الرحمة والهدى، ومن المعلوم أنه يصدر عن تلك المنظومة أوامر مجالها الكائنات المخيرة؛ فلا جبر في أوامرها ولا إكراه، والحق هو أن جسد الإنسان خاضع خضوعاً مطلقاً لربه عابد له بخضوعه المطلق لقوانينه وسننه، والإنسان حين يمارس الاختيار إنما هو طائع أيضا لربه، ومن مظاهر ذلك المعصية، ولو كانت نتيجة الاختيار هي الطاعة دائما لظن الناس أنه مكره على فعليه وأنه لا اختيار له، وهذا ما قالوه بالفعل عن الملائكة، والحق هو أنه لدى الملائكة اختيارا، ولكنهم يختارون دائماً الطاعة والعمل بمقتضى الأمر الإلهي، لذلك قد لا يتفقون بل قد يختصمون إذ قد تتعدد اختياراتهم.
-------
لن تجدي الإنسان عبادته نفعا إلا إذا كانت خالصة لوجه الله تعالى ومستندة إلى علم سليم، أما من قيَّد نفسه بعبادة وثن أو بشر مثله فإنه مهما خلع عليه من سمات إلهية فإنه يمنع نفسه من تحصيل كماله المنشود بل ويسد عليها سبله ويضل الطريق من بدايته ويعرض نفسه لغضب الله وسخطه، ذلك لأنه ثمة قوانين وسنن تعمل ولابد من سريانها ونفاذها وتحقق نتائجها، وقانون الوجود الأعظم هو التوحيد بمعنى إفراد الله وحده بالعبادة وإخلاص الدين له، وهذا التوحيد هو من لوازم الإيمان بالله تعالى كما سمَّي نفسه في القرآن، ذلك لأن أي إنكار لسمة إلهية هو من الكفر الذي قد يؤدى إلى الهلاك على المستوى الجوهري، ولقد اقترفت كل المذاهب والطوائف إلا بعض الأفراد جريمة إنكار بعض السمات الإلهية أو التفريق بينها أو التقول على الله تعالى بما لا يعلمون.
-------
يظن البعض أن التفنن في أداء الشعائر مثل الصلاة وصيام رمضان والحج كفيل بإصلاح أحوال الأمة، وإليهم يجب القول بأن الأمة قد استمرت طوال ما يسمى بعصور الخلافة في أداء تلك الشعائر ولم تنبذها أبدا، بل إن معظم المسلمين قد تصوفوا بدءً من أواخر القرن السادس الهجري، ومع ذلك فلقد استمرت كل أحوال المسلمين في التدهور العام إلي مطلع العصر الحديث، إن الإسلام ما جاء ليجعل من الناس عبيد طقوس وشعائر مؤتمين بكهنوت متمكن ومسيطر وإنما جاء لنقض هذه التصورات وتقويضها، أما إصلاح أمر الأمة فإنما يتم بالإسلام الحقيقي الذي هو الدين العالمي؛ دين الحق الواسع الشامل ذو المقاصد الواضحة والمحددة والذي  يجعل من وجود الإنسان وحياته وكل أعماله عبادة لله تعالى إذا راقبه فيها واستشعر حضوره الذاتي وعمل بمقتضيات الإحساس بهذا الحضور، إن إصلاح أمرٍ ما أو تحقيق أمر ما لا يمكن أن يتم أو يتحقق إلا بالعمل بمقتضيات أوامر الله وسننه الخاصة بهذا الأمر، وكل ذلك من تفاصيل هذا الدين ولوازمه، فلإحباط كيد الظالمين وكف بأسهم لابد من عدم الركون إليهم ولا بد من الانتصار منهم، وعلى من يريد أن يتصدى لهم أن يعي كل مقتضيات كلمة التوحيد وأن يعلم أنه إنما يرتكن إلي من له القوة الأعظم التي لا يقوم لها شيء، وأن يعمل علي اكتساب القوة والعزة وأن يعد لهم ما استطاع من قوة وأن يعمل بمقتضى كل ما يلزم لتحقيق النصر مما هو مذكور في القرآن الكريم.
-------
إن العبادات لم تفرض عبثا ولا جزافا بل إن لها نتائج ومقاصد وغايات بيَّـنها الحق في الآيات وجماعها كلها هو التحقق بذكر الله والتقوى وذلك من لوازم تحقيق مقاصد الدين العظمي، وكما قدر سبحانه الأشياء بأن جعلها على وجه ومقدار معلوم يترتب عليه خواصها وآثارها كذلك قدر العبادات حتى تحقق مقاصدها إذا ما أحسن الإنسان أداءها.
-------
إن قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} يبيِّن المقصد الشرعي الحقيقي من خلق الناس، وهذا المقصد يتحقق للإنسان وفق طبيعة الإنسان التي من لوازمها الإرادة الحرة والاختيار، ولو كان هذا القول من حيث الإرادة الكونية لما عصى الله سبحانه أحد ولما تمرد على أوامره أحد، فهو هاهنا يعلن إرادته الشرعية ليحثَّ الناس على عبادته التي هو في غنىً عنها أما هم فهم أحوج شيء إليها.
-------
لما كان الله تعالى هو أصل كل حسن، وسماته هي أصل كل كمال تعلقت آثار الكمال عند ظهورها بأصولها وطلبت بذاتها الدوران في أفلاكها، لذلك فآثار سمات الكمال تعبد الإله الذي له الأسماء الحسنى عبادة ذاتية إذ من الأسماء تستمد معانيها ومقومات وجودها، ولقد وجب على الحقيقة الجامعة لآثار صفات الكمال وهى الحقيقة الإنسانية أن تعبد أيضا ربها، ولكن لما كان من لوازم تلك الحقيقة ومقوماتها الإرادة الحرة والاختيار كان لابد للكيان الإنساني الجامع أن يعبد ربه بمحض إرادته واختياره حتى ينتفع بعبادته.
--------
أنكر معظم الأسلاف صحة توجيه تعليل الأفعال معنى وإن أقروا بوقوعها لفظا، وقد برروا ذلك بالقول بأنه سبحانه مستغنٍ عما أسموه بالمنافع فلا يكون فعله لمنفعة راجعة إليه ولا إلى غيره وبالقول بأنه تعالى قادر على إيصال المنفعة من غير توسيط العمل، فهؤلاء أنكروا دلالات الألفاظ القرآنية وجردوها من معانيها وهي عين التهمة التي يرمون بها الطوائف الأخرى، كما أنهم أنكروا بذلك معظم السمات الإلهية أو قللوا من مقتضياتها ومجالاتها لحساب سمة القدرة فكفروا بجل أسمائه الحسنى وعبدوا ما صورته لهم أوهامهم ولم يعبدوا الإله الذي له الأسماء الحسنى والذي أنزل القرآن، هذا بالإضافة إلى أنهم أنكروا بذلك السنن الإلهية أو قالوا بعدم جدواها أو بأنها محض اتفاقات ألفها الإنسان ولا حقيقة فيها، ولقد جنى ذلك على مسيرة العلم في العالم المحسوب على الإسلام وأدى إلى شيوع الخرافات والخزعبلات، والأخطر هو أنه أدى إلى تجاهل بعض الأوامر القرآنية الكبرى والمقاصد الدينية العظمى.
أما أهل وحدة الوجود فلقد حلوا الإشكال بأن جعلوا الطائع والعاصي والمؤمن والكافر كلهم عابدين، وقالوا إن المؤمن يعبد الاسم الهادي، أما الكافر فيعبد "المضل" الذي ظنوه من الأسماء، ذلك لأنهم زعموا أنه سبحانه عين المتضادات وأنه الجامع للأضداد وأن له الصفات المتقابلة، وساعدهم علي ذلك مروية الترمذي.
والحق هو أنه سبحانه خلق الناس لعبادته كما قال، ولم يخلقهم ليعطوه رزقاً أو ليطعموه؛ فالذي بقى البقاء ببقائه ومن له الحياة الذاتية ليس بحاجة إلى مدد خارجي ليبقى، بل إنه هو الكافي الموسع لما خلق من عطايا فضله، لقد أعلن الله تعالى هاهنا عن مقصده من خلق الجان والإنسان، ولكن المقصد هاهنا مجاله كائنات هو الذي جعل من لوازم حقيقة كل منها الإرادة والاختيار، وكان ذلك من مقتضيات أسمائه، ولا تعارض ولا اختلاف بين أسمائه، فبيان القصد لا يعني قهر الكائنات ولا إلزامها بتحقيق القصد، فالمراد إذاً أن يعبد الكائن ربه بمحض إرادته واختياره، فهو سبحانه غني عن العالمين، فلا حاجة به إليهم، ولكنهم هم أحوج شيء إلى عبادته بالعمل بمقتضى أوامره لتحقيق مقاصده.
أما زعم الأشاعرة أنه لو كانت أفعاله معللة فإن العلة تكون موجبة عليه فالجواب عليهم هو أنه سبحانه يفعل ما تقتضيه منظومات أسمائه التي هي لوازم كنهه الذاتي ومن يفعل ما يقتضيه كنهه لا يكون مجبرا، فالمجبر من يُحمَل على فعل ما تأباه طبيعته، كما أن منظومة أسمائه الحسنى متسقة ولا تضاد فيها ولا تقابل، فمن حيث تلك المنظومة كان لابد من خلق كائن ذي إرادة واختيار ليعرف ربه ويعبده من حيث هو كذلك أي من حيث هو مخيَّر وليس بمجبر، فمنظومة الأسماء الحسنى اقتضت سنة لازمة هي ألا يكون ثمة إكراه في الدين، ولما كان الأمر حقاً كان لابد من وجود الكافر والمؤمن وكان لابد للكائن ذي الإرادة الحرة أن يعبد ربه كما يليق بطبيعته حتى يفيد من عبادته بمعنى أنه لابد أن يعبده بمحض إرادته، فخلق الإنسان المريد المختار اقتضته منظومة الأسماء الحسنى التي هي تفاصيل الاسم الرحمن، والعبادة هي أمر لازم له لتحقيق الغاية من وجوده وهى تفصيل وظهور القدر الأعظم من الكمال، وهى أمر لازم له لكي يتحقق المقصد الديني الأعظم بالنسبة إليه فيتحقق بكماله المنشود ويصبح إنسانا ربانيا مفلحاً فائقا، ولقد بيَّن الله سبحانه له قصده من خلقه من حيث منظومة أسماء الرحمة والهدى والتي هي أصل كل الأوامر التكليفية الاختيارية.
أما قول الأشاعرة بأنه قادر على تحقيق مقاصده بدون استخدام الوسائل التي خلقها فإن عليهم أن يعلموا أن كونه قادرا على ذلك لا يعنى ولا يترتب عليه إلزامه بألا يستخدم تلك الوسائل إذ ليس لهم أن يلزموه بإهمال قوانينه وسننه من أجل أن يكون كما يفضلون هم أن يكون أو لكي يتوافق مع تصوراتهم، أما الوسائل التي يستخدمها فهي آلاته وأدواته التي خلقها لتحقيق مقاصده، وكلها من مقتضيات أسمائه وهى تشكل مجال عملها وظهورها، فلقد اختار – وهو الذي لا يسأل عما يفعل – من حيث كماله المطلق أن يحقق ما يريد من مقاصد باستخدام ما يريد من آلات ووفق ما اقتضاه من السنن، ولقد نبأ عباده في كتابه بذلك وهو الأصدق حديثا، ولقد جعل القوانين والسنن التي اقتضاها مجال العلم به والطريق الموصل إليه، أما القدرة فإنما مجالها ما شاء من أشياء، فما أراده هو ما اقتضته مشيئته التي هي جماع مقتضيات منظومة اسمائه، وما اقتضته المشيئة هو ما نبأ عباده به وضمَّنه كتابه وهو الأصدق حديثا، فلا يجوز تكذيبه بحجة تنزيهه مثلاً أو تحت أي زعم آخر من المزاعم، إذ كيف ينزِّهونه عما نبأ عباده أنه من سماته وكمالاته؟
فمنظومة أسمائه هي أمر واحد فلا تناقض بين ما اقتضته من وسائل ومقاصد، ولقد خلق الكائنات كلها لعبادته بما فيها الإنسان، لذلك فإن كل كائن يعبده كما يتفق مع طبيعته الذاتية، فهو الذي شاء أن يكون الإنسان مخيراً في أمر العبادة طيلة حياته الدنيا، ولكنه لابد له أن يتوب إلى ربه مهما تطاولت الأحقاب وأن يعبده بمحض ما لديه من إرادة حرة واختيار، فمنهم من يثوب إلى رشده في حياته الدنيا، ومنهم من يستلزم ذلك أن يواجه صعابا هائلة وأن يعذب عذابا شديدا على مدى أحقاب متطاولة، وليس في ذلك إكراه على الطاعة والعبادة، ذلك لأنه سيدرك أن العذاب هو النتيجة الطبيعية المترتبة على المعاصي وعلى التمادي في الشرك أو الكفر أو النفاق كما يترتب الثواب علي الطاعات، وسيكون إدراكه هذا أول مراحل توبته وتوجهه إلى ربه بالعبادة بمحض اختياره وإرادته، فالآية تعنى أنه لابد من أن يؤول أمر الإنسان إلى عبادة ربه مهما تطاولت الأحقاب، فكونه خلق كائناً مخيراً لعبادته يقتضي أن يعبده هذا الكائن بمحض اختياره وإرادته إذ لابد أن تكون تلك العبادة متسقة مع مقتضيات حقيقته وطبيعته، وهو سبحانه لن يكره مثل هذا علي طاعته وعبادته لأنه لا يفعل ما هو مناقض لمقتضيات أسمائه الحسني من كرم وحلم ورحمة وغني عن العالمين أو ما هو مناقض لمقاصده من أن يأتيه الكائن المخير طوعاً.
-------
إن تحقق الأمور وفق السنن الإلهية لا يتناقض مع سمة القدرة وإنما يظهر ويفصِّل سمات كمال أخرى مثل سمات العلم والحكمة والخبرة، ومن المعلوم أن هذه السمات من السمات العظمى التي لكل سمة منها منظومة من منظومات الأسماء، وأن هذه المنظومات تتداخل بسبب الأسماء المشتركة فيما بينها، وهذا التداخل هو الذي اقتضي قوانين الوجود وسننه والارتباطات بين الكيانات، ومن الأسماء المشتركة بين هذه المنظومات: الحكيم العليم، العليم الحكيم، العليم الخبير، الحكيم الخبير، ومن الآيات الجامعات التي تشير إلى مقتضيات تلك الأسماء:
{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ }الأنعام18، {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}الأنعام73، {الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ }هود1، {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ }النمل6، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ }سبأ1، {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ }الزخرف84، {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}الحجر25، {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}يوسف100، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }الحجرات13.

*******




الثلاثاء، 11 أغسطس 2015

أولو الأمـر ج1

أولو الأمـر ج1

إن ولي الأمر في دين الحق هو المؤمن الجدير باتخاذ القرارات الملزمة في أمرٍ ما بحكم صلة شرعية (كالوالدين في الأسرة بالنسبة لأفراد الأسرة) أو بحكم التأهيل والتخصص.
فولي أمرٍ ما هو المتمكن منه والمتمرس به والذي يعلم عناصر دين الحق ويعمل بمقتضياتها، وهو بحكم تأهيله وهويته لا يستطيع أن يخالف أي عنصر من هذه العناصر.
والأمر كلمة عامة تشمل كل مجال موجود أو من الممكن أن يستجد من أمور الحياة، ومن الواجب على الأمة أن تعمل على أن تؤهل في كل أمر من لديه الاستعداد لذلك، فكما يتم التأهيل في فرع طبي أو هندسي أو علمي أو قانوني أو مهني أو الإداري أو الاقتصادي......الخ يجب أن يتم التأهيل في الأمور الإدارية العامة والتنفيذية، فإدارة أمور أمة أهم بكثير من إدارة أمر شركة، وأولو الأمر التنفيذي يجب أن يكونوا على دراية تامة بتاريخ العالم بصفة عامة وتاريخ بلدهم بصفة خاصة وبالأمور الاستراتيجية وبأمور الإدارة والاقتصاد وغيرها فضلا عن وجوب تمتعهم بقدرات ذهنية عالية ولياقة نفسية وصحية مقبولة، فلا يجوز أن تكون كل خبراتهم التآمر في الظلام وحشد الدهماء وخداع البسطاء.......الخ، كما يجب توفر مدارس لإعداد المؤهلين في الإدارة العليا يتقدم لها كل من يجد في نفسه القدرة على التمكن من هذا المجال، وبالطبع يجب أن يكون قد تلقى من قبل تعليما أكاديميا رفيعا.
وشرعية ولي الأمر في الإسلام مستمدة من كونه عاملا بمقتضى عناصر ومنظومات دين الحق، وهي مستمدة من كونه مؤهلاً في أمره ومتمكناً منه ومتمرساً فيه، فمتى خرج عن شيء من عناصر دين الحق إلى تحكيم أهوائه أو أهواء الناس أو أهواء أهله أو عشيرته أو أي أمر غير موضوعي وغير حقاني أو فقدَ تمكنه من الأمر لرفضه تلقي معارف جديدة في مجاله مثلا أو لعدم استعداده للتطور لأي سبب من الأسباب فقد انتفت شرعيته ولم يعد له ولاية على المسلمين، فالشرعية ليست مادة تلتصق بالجسم ولا تزول أبدا، ومن يظن ذلك فمصيره الهلاك حتما وسيسبب لنفسه ولقومه فتنا لا حصر لها مهما كانت درجة صلاحه وتقواه!
والشورى هي آلية ملزمة لكل من ولي أمراً، وهي ركن فرعي من أركان الدين الملزمة، والشورى إنما تكون بين أولي أمرٍ ما فيما يتعلق بمجال اختصاصهم، وإذا اقتضى الأمر توسيع قاعدتها فهم أدرى الناس بمن يجب أن يضاف إليهم فيها، والشورى هي نوع من التفكير وتدبر الأمر الجماعي؛ فهي بمثابة (Mental faculties and experiences share)، ومن له حق الشورى في أي أمر هم أولو هذا الأمر.
وطاعة كل ولي أمر في مجال تخصصه هي أمر قرءاني ملزم، وليس أمرا ثانويا، وهو من تفاصيل ركن أكثر إجمالا وشمولا مثل السجود بالنسبة لإقامة الصلاة، فلا صحة للصلاة بدون السجود، وطاعة ولي الأمر الإداري هي كطاعة الإنسان لطبيبه مثلا عند تلقي العلاج، وهي من وسائل تكريس الانضباط والجدية والشفافية والقانون في الأمة، وهي أيضاً من وسائل الفصل الآمن بين السلطات المختلفة.
-------
إن المراد بالأمر هو كل ما له صلة بالناس في مجموعهم، فمن الأمور: الطب بكافة فروعه، الهندسة بكافة فروعها، التعليم، اللغة العربية، القضاء، الأمور التنفيذية، الأمور العسكرية، العلوم بكافة صورها وأنواعها، القانون، الإدارة، الاقتصاد، الأحكام الشرعية العملية......الخ، وبالطبع فهذه القائمة قابلة للاتساع باطراد التقدم والتطور.
-------
إنه يجب التمييز بين ثلاثة مصطلحات:
  1. القائمون على الأمر بحكم الأمر الواقع.
  2. المتسلطون على الأمر؛ أي بالقوة والقهر.
  3. أولو الأمر وهم المؤهلون له عن جدارة واستحقاق من المؤمنين.
وطاعة أولي الأمر الحقيقيين هي أمر قرءاني ملزم، ولكن لا يجوز الخلط بينهم وبين غيرهم، فلا حق لمن هم من دونهم في طاعة، بل يكون أمرهم مفوضا إلى كل مسلم يرى فيه رأيه مع العلم بأن المسلم ليس مكلفا إلا بما هو في وسعه وأنه توجد أولويات وموازين قرءانية لا يجوز الإخلال بها.
وكل مسلم هو ولي أمرٍ ما، والوالدان هما وليا أمر أسرتهما، ولذلك يلزمهما التشاور في كل أمور الأسرة بما في ذلك فطام رضيعهما.
ولقد أوجب أهل السنة والسلفية الطاعة لكل قائمٍ بالأمر أو متسلط عليه بالقهر طالما لم يحل بين الناس وبين إقامة الصلاة ولم يظهر كفرا بواحا، وكان ذلك لما يلي:
  1. أما أفضلهم فهم من رأوا أن المتسلطين على الأمور منذ أن تحولت الخلافة إلى ملك عضوض لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ولا يتورعون عن اقتراف أبشع الجرائم وسفك الدماء والإفساد في الأرض فعمموا الأحكام الاستثنائية الخاصة بزمن الفتن حماية للناس من بطش المتسلطين وفرضوها على الناس كأحكام دائمة حماية لهم.
  2. أما أضلهم سبيلا فهم من قدَّسوا هؤلاء المتسلطين وجعلوا تصرفاتهم هي عين العدل وحرفوا وزيفوا الدين ليوافق أهواء المتسلطين.
-------
إن ولي الأمر في الأمة المؤمنة بحكم التعريف هو الأجدر به والأهل له والأصلح له وفق مواصفات وضوابط ومعايير وموازين محددة، وجانب من هذه الأمور يتضمن ما يختلف باختلاف الأمصار والعصور، وعلى الأمة ممثلة في الصفوة من أبنائها أن تضيف إلى هذه المواصفات ما أصبح ضروريا بحكم التطور، ومن ذلك حالة الصحة النفسية مثلا ومستوى الذكاء والقدرات الذهنية، ولكن ما أورده كتاب الله هو المواصفات والموازين الثابتة التي لا تبديل لها ولا تحويل، وأي إخلال من قائم بأمر بشيء مما أورده الكتاب يعني بالضرورة أنه ليس بولي للأمر بل هو متسلط عليه، فهو معزول شرعاً وإن لم يُعزل واقعاً وفعلاً، فمن تلك الشروط التحلي بكل الأخلاق الإسلامية ومنها الحرص على أداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل والقيام بالقسط والقيام بأركان الدين والعمل على تحقيق مقاصده والتنزه عن الصفات الشيطانية، وهذا يعني أن ولي الأمر الحقيقي لا يمكن أن يظلم ولا أن يأمر بمعصية ولا أن يسرق ولا أن يستكبر ولا أن يفسد في الأرض ولا أن يجعل أهلها شيعا ولا أن يخالف أمراً شرعيا ولا أن يعتبر الأمة متاعاً يورثه لابنه من بعده ولا أن يرفع قبيلته أو أهله وعشيرته فوق القانون والناس ....إلخ، والشروط الجامعة هي التحلي بكل عناصر منظومة القيم الإسلامية والتطهر من كل عناصر المنظومة المعنوية الشيطانية واكتساب كل ما يلزم من علوم ومهارات وخبرات في مجال التخصص.
-------
ولي الأمر بالنسبة لإنسانٍ ما هو كل من له ولاية علي هذا الإنسان بحكم صلة شرعية أو بحكم تأهيله وعمله وتخصصه، والأمر هو كلمة عامة تشمل كل المجالات، وولي الأمر في مجالٍ ما هو المؤهل تأهيلا تاماً في هذا المجال وفق أسس مرتضاة ومتفق عليها ومعلومة للجميع، فوليّ الأمر في مجال طبي معين هو من تلقى التعليم الكافي واكتسب الخبرات اللازمة، وولي الأمر في المجال التنفيذي هو من تلقى كل ما يلزم إدارة وتصريف الأمور في مجاله، وولي الأمر في دين الحق يجب بالإضافة إلى ذلك أن يكون عنده العلم الكافي بهذا الدين ومنظومات قيمه وسننه وأن يعمل بمقتضى ذلك بقدر وسعه.
والقرآن الكريم يتحدث دائماً عن أولي الأمور العامة بصيغة الجمع، ويلزمهم بإعمال الشورى فيما بينهم ويندد بالاستبداد ويجعله من صفات الطغاة الهالكين، وهذا يعني أن الأصل في تقرير أي أمر أو صناعة أي قرار هو وجود جماعة وليس فردا واحدا.
ولولي الأمر الحقيقي حق الطاعة في مجاله، فحق الطاعة هو للوالد علي أولاده وللمعلم علي تلاميذه وللطبيب علي المريض وللعالم علي الجاهل وللرئيس علي المرؤوسين وللقائد علي الجنود ولكل متخصص علي الآخرين فيما يتعلق بمجال تخصصه ولكل صاحب خبرة في مجال علي كل من هو بحاجة إلي هذه الخبرة، فالعمل بهذا الركن من لوازم تنظيم العلاقات بين الكيانات المكونة للأمة ولإشاعة الانضباط والجدية في تناول الأمور ولزيادة تماسك الأمة وتدعيم بنيانها، والعمل بهذا الركن الفرعي يقتضي استقلال كل أولى أمر بأمرهم وأن تكون أوامرهم فيه ملزمة لغيرهم، فلا يتدخل أحد فيه، وهذا يوفر تلقائيا الفصل بين السلطات الذي عرفه الإنسان في هذا العصر وغفل عنه المسلمون رغم كونه متضمنا في نظام أولي الأمر، ومن كبائر الإثم المضادة لهذا الركن الفرعي التمرد والعصيان والفوضى وعدم النظام وعدم الانضباط.
-------
إن مفهوم ولي الأمر في الإسلام يتضمن المعرفة والالتزام بقيم الدين وسننه ومثله وأسسه، فولي الأمر الذي يجوز أن يقرن بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ في نظم واحد إنما يستمد شرعيته من اتباعه له وبالتالي من اتباعه للرسالة التي أتى بها وما تتضمنه من مقاصد وقيم وأركان وسنن، فالطاعة الشرعية إنما تكون لولي الأمر الحقيقي أي لولي الأمر طبقا للاصطلاح الإسلامي، وثمة فرقان هائل بين مفهوم ولي الأمر هذا وبين مفهوم القائم علي الأمر بصفة عامة، فالطاعة التي هي ركن ديني يُثاب المرء عليه ويأثم بمخالفته إنما هي لولي الأمر طبقاً للتصور والاصطلاح الإسلامي، وفي معظم الظروف والأحوال فإن القائم علي الأمر لا يكون بالضرورة ولياً للأمر، فطاعته إنما هي بمقدار اقترابه من الولاية الحقيقية للأمر، أما أسوأ دركاته فهي أن يكون متسلطاً علي الأمر، وفي هذه الحالة فإنه ليس له أي حق ديني علي الناس، بل يجب على هؤلاء العمل على خلعه إن لم يذعن للحق، وهكذا كان الحال منذ أن تسلط الأمويون علي الأمر، أما واقع الحال الآن فإنما هو في وجود كيانات غير دينية بل جغرافية بشرية تعرف بالأوطان التي يتعايش فيها أناس مختلفون في المذاهب والأعراق والأديان، وهذا أمر جديد لا يجوز الخلط بينه وبين الكيانات السابقة عليه ولا إجراء الأحكام الخاصة بها عليه.
ولقد ألزم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ أهل القرن الأول بطاعة من يؤمِّرهم عليهم من الأمراء، فكل أمير من هؤلاء كان يستمد شرعيته منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ من حيث أنه كان رسولا إلى العالمين عامة وإليهم بصفة خاصة ومن حيث أنه كان ولى كافة أمورهم، وولاية أمرٍ ما لا تعطى الأمير أو الولي صكَّ غفران ولا تحله من ضرورة الالتزام بالطاعة والبعد عن المعصية ولا تجعله فوق الأمة ولا على الأمة وإنما تلزمه أن يظل منها فإن ظن أنه غير ذلك فقدَ جدارته بالأمر وانعزل قانونا وشرعا، فولاية الأمر ترتب علي القائم بها واجبات وأركان إضافية ولا تعفيه من الأركان الخاصة به كفرد وإن كانت تعيد ترتيب أولويات الأركان.
-------
إن وليَّ أي أمر إنما هو ولي ما يحسنه من أمر وفقا للموازين الشرعية، وهو بالتالي يجب أن يكون قد تلقي التأهيل المناسب واللازم ليكون جديرا بهذا الأمر، وهو ليس بكائن مقدس ولا أبا للأمة ولا زعيما قدريا، بل هو بشر مسئول وملزم بإعمال الشورى.
-------
إن ولي أي أمر في الأمة المؤمنة يجب أن يكون ملتزماً بمنظومات قيمها ومثلها وأركانها وسننها ومقاصدها بالإضافة إلي جدارته بالأمر، فولي الأمر لا يمكن أن يتصف بصفة من عناصر المنظومة المعنوية الشيطانية، ومن هذه العناصر الفسق والفجور والظلم والاستبداد والجهل والإجرام والاستكبار والطغيان والأثرة....إلخ، أما أئمة المذهب اللاسني الأثري الذين أفتوا بجواز ولاية الفاجر الظالم الفاسق وسارق الأموال وجالد الظهور وأعطوه حق إبادة ثلث الأمة وحرموا على الناس الخروج عليه فلقد كانوا ينظِّرون لمجتمع المجرمين والشياطين وليس لمجتمع المؤمنين، لقد نهاهم الله عن مجرد تصديق نبأ الفاسق ولكنهم أجازوا ولايته وحرموا علي الناس أدنى انتقاد له، ولقد كان من الخير لهم إذا جبنوا أن يصمتوا وألا يجعلوا من أنفسهم أعوانا للشياطين وحجر عثرة في سبيل التطور الطبيعي للناس، إنه كما لا يجوز للإنسان أن يأتمن جاهلا فاسقا مجرما يدعي العلم بالطب علي جسده فكذلك لا يجوز لأي كيان مؤمن أن يأتمن جاهلا شريرا فاجرا ظالما علي أي أمر من أموره، إن الجهل هو أفدح عاقبة من الخيانة، وويل لأي كيان يسمح لجاهل بأن يتسلط عليه، وويل لأي كيان يسمح لمكوناته الأدنى أن تتحكم في مكوناته الأعلى.
أما في حالة انتشار الفتن وعموم البلوى فثمة أحكام خاصة بها لا يجوز تعميمها، وكل كيان ملزم بالقيام بالأركان في حدود طاقته، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وقد يباح للمؤمن أن ينطق بكلمة الكفر لينجو بنفسه، ولكن لا يجوز أن يجعل من النطق بها ديدنه ودأبه أو سنة مرعية أو قانوناً ملزما.
إن الطاعة للرسول ولأولي الأمر من بعده إنما هي من حيث أنهم ناطقون بما جاء في كتاب الله ومتبعون له وملتزمون بأوامره، ذلك لأن الكتاب لن يحكم بين الناس بنفسه وإنما برجال ينطقون به ويعرفون منطوقه وفحواه ومقتضياته وقوانينه وسننه، وهي لهم بحكم أنهم المؤهلون له وفقاً لمعايير وموازين العصر والمصر ووفقا للآليات التي تتطور أيضا باطراد التقدم.
------------
إن ثقة الإنسان بأن القائم على الأمر في مجالٍ ما هو ولي أمر حقيقي بمعني أنه تتوفر فيه كل المواصفات الشرعية اللازمة لولي الأمر ستلقي الطمأنينة في قلبه وستدفعه إلى إتقان عمله وإلى ألا يحاول اتباع سبل ملتوية وأساليب غير شرعية لاستمالة ولي الأمر واستهوائه لكي يأخذ ما لا حق له فيه، أما إذا كان القائم على الأمر ليس ولياً حقيقياً له بل متسلطاً عليه فإن من هم ملزمون بطاعته سيحاولون سلوك كافة السبل غير القانونية لاسترضائه واستهوائه، وسيهمل أكثرهم عمله ليأسهم من صفات وسلوك هذا المتسلط أو لأنهم يرون أن النفاق والمداهنة والتملق هي أجدى وأيسر من أداء العمل كوسيلة لتحقيق المطالب، والمنافق المداهن المتملق إنما يداعب نزعة الربوبية المزيفة الكامنة في نفس المتسلط، وهو إذ يفعل فإنه يشرك بربه ويزيد المتسلط ضلالا كما يُضلُّ نفسه.
ولقد فضَّل الله  بعض الناس علي بعض ورفع بعضهم فوق بعض درجات، وترتب علي ذلك سنن كونية لا تبديل لها ولا تحويل، فلا بد من أن تتميز كل حقيقة إنسانية علي الأخرى، وذلك أمر لازم لتحقيق المقاصد الوجودية والدينية، وعلي الإنسان أن يتوافق مع تلك السنن حتى يتحقق بكماله المنشود وأن يثق بربه وبحسن أسمائه، وكل إنسان فاضل مفضول، وعلي الإنسان ألا يتمنى ما فُضِّل عليه به غيره، ومن غير المقبول أن يستكثر إنسان علي غيره ما فضله الله به دون أن يشكر ربه علي ما فضله هو به علي غيره، وعلي كل إنسان أن يعلم أنه مُزوَّد بما يلزم لأداء ما نيط به من مهام ولتحقيق المقصد من خلقه وأنه ليس مكلفاً إلا بما هو في وسعه.
ويجب التأكيد على أنه من الواجب ألا ينازع الإنسان الأمر أهله ولكن يجوز نصح من ظهرت عليه بوادر الانحراف ويجب أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، أما من ثبت أنه ليس أهلا للأمر بجوره وبغيه فإنه يجب عزله، فليس من حق أحد أن يلزم الناس بطاعة الطغاة الجائرين المجرمين، أما في حالة شيوع الفتنة وعموم البلوى فثمة أحكام استثنائية إستنادا إلى أن الله سبحانه لا يكلف نفسا إلا وسعها وأنه قرر أن للمضطر أحكاما خاصة، ولكن تلك الأحكام لا يجوز تعميمها ولا توسيع نطاق عملها ولا تحويلها إلي قواعد دائمة ولا يجوز أن تستخدم لإحداث تحريف دائم في الدين، والضرورات لا تبيح المحظورات إلا بقدر الحاجة الضرورية ولكنها لا ترفع عنها حكمها كمحظورات.
-------
إن الطاعة لولي كل أمر في مجال أمره هي ركن ديني فرعي ملزم للفرد، ولكنها لا تكون للمتسلط على الأمر أو لمدعي الولاية عليه، فالإنسان الذي يستشير طبيبا علي درجة عالية من الكفاءة في تخصصه يكون ملزما بطاعته ولكنه لا يكون ملزما بطاعة متطفل علي المهنة لم يحصل علي التأهيل أو الإجازة اللازمة لممارستها، والإسلام لا يجعل لأولي الأمر سلطة كهنوتية علي الناس.
ولقد رووا أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ قال: (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم)، فالمروية تشير إلى سنة ثابتة كان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ حريصا عليها وهي ترويض الناس وتعويدهم على الانضباط والالتزام ومعالجة عنجهية طباعهم وتكبرهم في أنفسهم، والحديث يبين أن اختيار الأمير منوط بالجماعة أي أن لهم أن يضعوا معايير مرتضاة لاختيار الأمير وهى تختلف بالطبع من عصر إلى عصر، فلقد سكت الحديث عن المعايير وتركها بذلك للناس، فالأمير يُختار من بين الناس برضاهم وفق معايير يعرفونها ويرضونها ولا يُفرَض عليهم، فليس لأحد أن يتأمر على الناس رغم أنوفهم ولا أن يقهرهم على طاعته بسيفه كما يقول بعض سدنة المذاهب.
وطالما اختير ولي الأمر بطريقة شرعية فقد أصبحت طاعته من طاعة الله ورسوله على ألا يأتي بما يخل بهذه الشرعية مثل أعمال الخيانة أو الإخلال بما تعهد باحترامه، فطاعة ولى الأمر الشرعي من تفاصيل بعض أركان الدين، وله أن يقرر ما يلزم الناس في مجال تخصصه وولايته ويصبح التمرد على أوامره من كبائر الإثم ومن الإفساد في الأرض طالما لم يقترف ما يُخلّ بشرعيته أو يقوض مصداقيته، ولكن يجب بيان أنه إذا كان ولى أمر تشريعي مثلا فإن ما يسنه من قوانين ولو كان إعمالا لآليات شرعية يبقى حكما بشريا وضعيا ولا يكتسب أبداً صبغة دينية، كما أن وضعه كولي أمر لا يحله هو من أي أمر شرعي ولا يعطيه حقا في معصية ولا يعفيه من طاعة أولى الأمر الآخرين في مجالات تخصصهم، فإذا أمر الناس بمعصية ما أو بما يتضمن مخالفة لأمر شرعي وجب نصحه وبيان الأمر له، وعلى ولي الأمر أن يقوم بأركان الدين وسننه وخاصة تلك الملزمة له كولي أمر.
-------
إن طاعة أولي الأمر هي ركن ديني إذا كانوا حقا أولي أمر من المؤمنين ومن حيث أن الفرد ملزم بطاعة ما ارتضته الأمة لنفسها من القوانين الملزمة لها، فطاعة أولي الأمر هي الشرط اللازم لاتساق وتجانس الخلايا المكونة لجسد الأمة وكذلك توحد وجهتها ومتانة بنيانها، وولاية الأمر الحقيقية هي التي تتم وفق معايير وموازين ارتضتها الأمة، فهي وظيفة يستحقها من هو أهل لها ولا تعطيه أدني سلطة علي الناس خارج نطاقها، فلا يجوز السماح لمن لم يتلق التأهيل اللازم لممارسة الطب مثلا بأن يتصدر لعلاج الناس ولا بأن يلزمهم بالأخذ بما يطلبه منهم، ولا يجوز لمن تخصص فيما أسموه بالفقه أن يفتي الناس في أمر يستلزم معرفة طبية مثلا.
وآليات إعداد واختيار ولاة الأمر واختيارهم تتغير وتتطور وفق ظروف وأحوال العصر والمصر، ففي بداية التاريخ الإسلامي كان اختيار أولي الأمر منوطا بالصفوة وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار وكان لمن يختارون أو لمن يختاره لهم من فوضوه حق الطاعة عليهم، ولم يكن لباقي العرب والأعراب حق الإدلاء برأي في هذا الموضوع وهذا ما اقتضته طبائع الأمور في ذلك العصر خاصة وأن السابقين الأولين قد قُـدِّموا علي غيرهم في كتاب الله تعالي، فكان ذلك أمراً استثنائياً خاصاً بأهل القرن الأول خاصة وأن السابقين الأولين قد نالوا القسط الأوفر من التزكية والتعليم النبوي فكانوا هم بحق أولي الأمر، أما من بعدهم فإن الأمر هو للأجدر به مهما كانت قبيلته وسلالته، ولقد أخطأ الأثرية وأهل السنة عندما حولوا الأمور النسبية المقيدة إلي نصوص وقواعد مطلقة وعندما فرضوا علي الأمة أن يكون القائم علي الأمر أو ما أسموه بالإمام الأعظم قرشياً، ولما كان ما قرروه مضاداً للفطرة فلقد فرضت سنن التطور والفطرة نفسها بكل قسوة ولم تأخذها بالمبطلين رحمة، إنه يجب العلم بأن دين الفطرة لا يمكن أن يفرض عليه ما هو مضاد للفطرة.

------------