الجمعة، 29 أبريل 2016

البقرة 49-50

البقرة 49-50
{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)} البقرة
الله تعالى يذكر بني إسرائيل بنعمه وأفضاله عليهم، هذه النعم إنما ظفر بها أسلافهم، ولكنهم يذكرون بها لأنهم قبيلة واحدة وكيان واحد، فما من كيانٍ إنساني ينشأ إلا وينشأ بإزائه كيان يُحصى فيه أعمالهم ويُقضى عليهم به، لذلك يتحمل الخلف المسؤولية عن أعمال السلف طالما يعتبرون أنفسهم منهم، وبالنسبة لأعمال الكيانات الكبرى لابد من الفصل والقضاء وتنفيذ القضاء أو الأحكام في هذه الدنيا، ويكون الحكم الصدر على قوم بالنسبة للأفراد بمثابة القضاء الذي لا محيص عنه، فيكون عقابا للمسيء وابتلاءً بالشر لغيرهم.
ولقد ذاق بنو إسرائيل ألوانا من العذاب المهين على أيدي آل فرعون، وآل فرعون هم الأسرة التي كانت حاكمة في مصر في ذلك الزمن البعيد، وهي في تقديرنا الأسرة العشرون (أسرة الرعامسة)، والقول بأنها الأسرة 20 هو وفق ترقيم المؤرخين، وإلا فإن الأسر أكثر من ذلك بكثير.
ولقد جعل فرعون أهل مصر شيعا، كان في الذروة آل فرعون، وقد جعل في أدنى مرتبة بني إسرائيل، يذبح آلُه أبناءَهم ويفعلون في نسائهم ما يشاؤون، وكان ذلك أصلا ابتلاءً من الله تعالى لبني إسرائيل.
ولقد تحملوا بصفة عامة وتحمل خيارهم بصفة خاصة الابتلاء حتى صدر الحكم بأن ينالوا ثواب ذلك، قال تعالى:
{...... وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُون} [الأعراف:137]
وكان لابد لهم من الهرب من مصر، فهم لا يستطيعون أن يعيشوا أحرارا فيها لقلة عددهم بالنسبة لسائر الشعب، ولا يستطيعون أن يفرضوا دينهم عليهم.
كما صدر الحكم على آل فرعون بأن يلقوا في الدنيا جزاء بغيهم وطغيانهم؛ فأُغرق جيشهم أمام أعين من كانوا يضطهدونهم.
والقصة معلومة، وقد أوردتها آيات قرءانية أخرى بالمزيد من التفاصيل، هرب بنو إسرائيل ليلا عندما صدر الأمر لموسى بذلك، قال تعالى:
{فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُون} [الدخان:23]
فلما انكشف أمر فرارهم جُنَّ جنون فرعون وأعلن التعبئة العامة، وأرسل يستدعي الجنود من كافة مدائن مصر:
{فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)} الشعراء.
ولكن عندما تأكد أن من خرج مع موسى كانوا بالفعل شرذمة قليلين قرر ألا ينتظر، وطاردهم بجيش آل فرعون، وكان بنو إسرائيل قد اتجهوا شرقا نحو سيناء، قال تعالى:
{فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِين} [الشعراء:60]
وعندما وصلت طلائع الجيش وجد بنو إسرائيل أنفسهم أمام أحد أفرع النيل الضخمة، وكان للنيل في ذلك الوقت فروع عديدة يصل بعضها إلى البحر المتوسط في سيناء، فتملك الذعر والهلع قلوب بني إسرائيل ومن خرج معهم، قال تعالى:
{فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)} [الشعراء]
والبَحْرُ هو الماءُ الكثيرُ، مِلْحا كان أَو عَذْبا، وهو خلاف البَرِّ، سمي بذلك لعُمقِهِ واتساعه، وسمي البَحْرُ بَحْراً لاسْتبحاره، وهو انبساطه وسعته.
ولكلمة بحر معانٍ عديدة ومعانٍ مجازية، فالبَحْرُ مثلا الرجلُ الكريمُ الكثيرُ المعروف، ولكنها لم ترد في القرءان إلا بالمعنى المذكور، فيجب الالتزام به، ولا علاقة لذلك بالتخصيص الجغرافي الحديث، فالبحر في القرءان يشمل ما يُعرف الآن بالمحيطات والبحار المعلومة كالبحر الأحمر وأنهار المياه العذبة كالنيل وأفرعه مثلا.
ومعنى غرق جيش آل فرعون أنهم غُمروا تماما بالماء عندما انطبق عليهم فِلقا البحر، والموت يتبع عادة مثل هذا الغرق إلا إذا ورد ما يفيد النجاة، وهذا ما حدث مع فرعون لوحده من دونهم، قال تعالى:
{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)} يونس
وعلى مدى التاريخ اقترف المفسرون كل ما هو كفري ومضحك لتكذيب المعنى الصريح الوارد في آية يونس 92 فمنهم من قال إن الله سبحانه يتهكم على فرعون!! ومنهم من قال إن جبريل كان يحاول أن يملأ فمه طينا حتى لا يؤمن!! وكأن الإيمان محله الفمّ، وكأن الله تعالى لا يعلم ما في الصدور!! هذا مع أن الآية تقول إنه آمن وأعلن إيمانه!!! فهم يفسرون الآية بعكسها!!! ومنهم من قال إن الذي نجا هو جسده فقط فتم حفظه ليراه بنو إسرائيل!!! وكأن كاف الخطاب في اللغة العربية يمكن ألَّا تعود على المخاطب!!! وكأن نجاة البدن نجاة للميت غرقا!!! بل إن منهم من قاتل إن البدن هو الدرع، وكأن الدرع كائن حي يمكن أن يوصف بالنجاة هو الآخر من الغرق!!!
كل ذلك مع أن الفعل "نجَّى، نُنَجِّي" له معناه الواضح في القرءان الذي لا يجوز تحريفه ولا تكذيبه، ومفعوله هو كائنات حية مثل البشر، وليس الجمادات، قال تعالى:
{ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِين} [يونس:103]، {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُون} [العنكبوت:65]، {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُور} [لقمان:32]، {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)} مريم، {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِين} [العنكبوت:32]
وليست المسألة هنا هي هل قُبِل إيمان فرعون أم لا، وإنما هي التفسير الصحيح للآية القرءانية.
ولقد قالوا إن الإيمان عند البأس لا ينفع، والحق هو أنه ينفع، فالله تعالى يبتلي الناس بالبأساء والضراء ليؤمنوا ويتضرعوا إليه، فالذي يؤمن ويتضرع هو ناجٍ، وذلك ما يريده الله تعالى من ابتلاء الناس، قال تعالى:
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)}[الأنعام]، {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)} الأعراف، {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)} المؤمنون.
ولكن البأس لا ينفع للنجاة إذا كانت الكلمة قد حقَّت عليهم، قال تعالى:
{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)} غافر، {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّار} [الزمر:19]
والخلاصة هي أن فرعون قد استجيب فيه دعاء موسى فلم يؤمن حتى رأى العذاب الأليم، قال تعالى:
{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيم} [يونس:88]
هذا مع العلم بأنه كان على يقين من أن ما أتاه به موسى هي آيات بالفعل، قال تعالى:
{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آَيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)} النمل
 وهم لم يمت غرقا من بعد أن أعلن إيمانه، وقد عاتبه ربه على تأخير هذا الإعلان، ونجاه ببدنه، وعاش من بعدها، أما مصيره من بعد ذلك فهو مسكوت عنه، أما آله فلقد نصَّت الآيات على أنهم في النار، ولقد أصبح فرعون عبرة وآية للناس إلى يوم الدين، فكل أتباع الأديان الإبراهيمية يعلمون قصته ويأخذون منها العبر.

*******

  

السبت، 16 أبريل 2016

سورة الشرح 1-4

سورة الشرح 1-4

أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ{1} وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ{2} الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ{3} وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ{4}
الوزر هو الحمل أو العبء الثقيل، والآيات تدل على قيام الله سبحانه بأمر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ قياما خاصا بحيث يستطيع الانطلاق إلى الكمال اللانهائي متخففا مما يثقل ظهره من أحمال وما يشده إلى الدنيا من العلاقات والارتباطات، وهذا من مقتضيات الاصطفاء الإلهي الذي يتم وفق قوانين الله وسننه التي هي من مقتضيات أسمائه الحسنى، وهو سبحانه أعلم حيث يجعل رسالته، فالآيات تشير إلى العلاقة الوطيدة والحميمة بين الله ورسوله، تلك العلاقة التي لم يحظ بمثلها ملك مقرب ولا نبي مرسل، وشرح الصدر الذي يتم بفعل إلهي هو أمر جليل يعلو فوق المدارك والتصورات البشرية.
ومن شرح الله له صدره يستطيع أن يحيط بما لا حصر له من الحقائق مما يحير ألباب الناس، دون أن يلتبس عنده الحق بالباطل ودون أن يتأثر بإلقاءات الشياطين، وهو يطالع آيات الله تعالى في الأنفس والآفاق دون أن يغفل عن ذكر الله، ومن شرح الله له صدره مثلما شرح صدر الرسول يستطيع أن يطالع كل الوجود في صدره دون أن ينشغل بشيء منه عن شيء ويستطيع أن يمارس مهامه الأرضية دون أن ينشغل عن مطالعة الحقائق العلوية
ومن رفع الله له ذكره لن ينال منه كيد الخائنين ولا مؤامرات ولا مكر أعتى الشياطين، وسيُلقي الله محبته في قلوب كل من أراد بهم الخير؛ فلا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق، وكل من رآه سيتذكر به الله وينجذب إلى سبيله القويم وصراطه المستقيم، فالسعيد هو من ينجذب إلى من جعله الله مصدرا للسعادة.
ولقد رفع الله تعالى لرسوله ذكره في العالمين بكافة أسمائه الحسنى وبكافة جنوده وملائكته، وهكذا أصبح اسم الرسول ينادى به ويذكره الناس كلما ذكروا اسم ربهم، وقد علا ذكره في العالمين ونال الشرف الأعظم، فهو سيد الخلائق وإمام المرسلين، وكل من نال حظاً من الرقي الجوهري يعلم ذلك علم اليقين، وهذا ما سيدركه الناس كافة في يوم الدين.

*****

الأحد، 10 أبريل 2016

المائدة 116-118

المائدة 116-118

وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ(116)مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(118)قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ
لقد أعلن السيد المسيح عليه السلام أن دوره قد انتهى عندما توفاه ربه فهو بذلك يؤكد تماما صحة توفيه المقرر في الكتاب العزيز بالمعنى الحقيقي، وهو لم يحتجّ بأنه نزل وكسر الصليب وقتل الخنزير وأباد أهل الكتاب، ولو كان ذلك قد حدث لما كان ثمة مجال للاستجواب أصلا، ذلك لأن إيقاع ذلك بهم يعني الفصل في أمرهم وإنفاذ الحكم فيهم، ذلك في حين أن آيات عديدة قد نصت على أن الفصل بين تلك النحل مرجأ إلي يوم القيامة، فاستجواب عيسي عليه السلام يومئذ هو من لوازم هذا الفصل.
فإن قيل إن له أن يحتج بما يشاء ويترك ما يشاء فإن الموقف هو أشد هولا من ذلك وفى موقف كهذا كان لابد من الاستشهاد بذلك الأمر الثبوتي فاستشهاد المرء بما فعله أكثر حجية من استشهاده بما لم يفعل، فإن قيل إن الغرض من الاستجواب هو إقامة الحجة على من لم يشهد نزول السيد المسيح فالجواب هو أن كل أمة من الأمم الضالة ستجتمع وتدعى إلى كتابها فيعلم السلف منهم ما حدث للخلف.
وما تذكره الآيات هنا يقوض كل ما حيك من أساطير حول رفع المسيح بجسده إلى ما يظنون أنه المكان الذي يُوجد فيه ربه، وظنهم هذا يكشف عن مدى بدائيتهم وسهولة خداعهم.
أما عقيدة عودة المسيح فهي أسطورة يهودية مشهورة قد خدعوا بها المسلمين مثلما يخدعون الآن اليمين المتطرف في أمريكا، وهي كانت تهدف إلى تقويض عقيدة ختم النبوة والإلقاء في روع المسلمين أنه لا أمل في تحقق العدل إلا بعودة أحد المنتظرين الذين لن يأتوا أبدا، فهي لغم موقوت وفيروس أثبت دائما فعاليته.
إن الضالين من المحسوبين على الإسلام يؤمنون بأن المسيح عليه السلام حي بجسده الترابي لم يمت وأنه يوجد عند الله تعالى بجسده هذا، فلماذا يستجوبه الله تعالى إذاً وهو قد كان عنده ومكث عنده آلاف السنين؟ ولماذا لم يقل المسيح: "لقد كنت أجلس بجانبك بجسدي ولم تسألني مثل هذا السؤال، ألم ترني وأنا أنزل إليهم وأكسر الصليب الذي يقدسونه وكل الخنازير التي يأكلونها؟ ألم ترني وأنا أبيد من لم يقبل بالإسلام منهم؟ هل تركت على وجه الأرض منهم ديارا؟"
ولقد حاول أهل الكتاب الأقدمون تكذيب هذه الآية بالقول بأنهم لم يقولوا بألوهية مريم، وكان عليهم أن يعلموا أن هذا الكتاب المعجز هو لكل العصور والأزمان وأن ما رواه من أقوالهم إما أنه قد قيل بالفعل أو أنهم سيقولونه، ذلك لأن الاستجواب المذكور في الآية سيتم في يوم القيامة، ولقد تحقق تماما ما تنبأ به القرءان العظيم إذ انتشرت عبادة مريم بين كاثوليك جنوب أوروبا ونقلوها معهم إلي أمريكا اللاتينية، وكانوا ومازالوا يتوجهون إلى تماثيلها وصورها بالصلوات الحارة، ومن رأى فيلم (دماء ورمال) مثلاً يعرف ذلك جيدا، ذلك بالرغم من أن الإنجيل حتى بصورته المعتمدة لديهم لا يعطي أية أهمية لوالدة المسيح، بل تظهره بمظهر العاق لها، وثمة إشارات إلى أن أمه وإخوته لم يؤمنوا به، جاء في مرقص إصحاح 3:
31فَجَاءَتْ حِينَئِذٍ إِخْوَتُهُ وَأُمُّهُ وَوَقَفُوا خَارِجًا وَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ يَدْعُونَهُ. 32وَكَانَ الْجَمْعُ جَالِسًا حَوْلَهُ، فَقَالُوا لَهُ: «هُوَذَا أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ خَارِجًا يَطْلُبُونَكَ». 33فَأَجَابَهُمْ قِائِلاً: «مَنْ أُمِّي وَإِخْوَتِي؟» 34ثُمَّ نَظَرَ حَوْلَهُ إِلَى الْجَالِسِينَ وَقَالَ: «هَا أُمِّي وَإِخْوَتِي، 35لأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ اللهِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي».
هذا النص يوضح الحقيقة فيما يتعلق بالمسيح المزيف، لقد رفضه إخوته وأمه ولم يؤمنوا به أبدا، وهو هنا يبين أنه وجد عزاءه في أتباعه الذين انقادوا إليه، ولقد كان البر بأمه حتى وإن لم تؤمن به يقتضي أن يلبي نداءها.
وإنجيل يوحنا يصرح بأنهم لم يؤمنوا به، جاء في الإصحاح 7:
2وَكَانَ عِيدُ الْيَهُودِ، عِيدُ الْمَظَالِّ، قَرِيبًا. 3فَقَالَ لَهُ إِخْوَتُهُ: «انْتَقِلْ مِنْ هُنَا وَاذْهَبْ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ، لِكَيْ يَرَى تَلاَمِيذُكَ أَيْضًا أَعْمَالَكَ الَّتِي تَعْمَلُ، 4لأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَعْمَلُ شَيْئًا فِي الْخَفَاءِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عَلاَنِيَةً. إِنْ كُنْتَ تَعْمَلُ هذِهِ الأَشْيَاءَ فَأَظْهِرْ نَفْسَكَ لِلْعَالَمِ». 5لأَنَّ إِخْوَتَهُ أَيْضًا لَمْ يَكُونُوا يُؤْمِنُونَ بِهِ. 6فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «إِنَّ وَقْتِي لَمْ يَحْضُرْ بَعْدُ، وَأَمَّا وَقْتُكُمْ فَفِي كُلِّ حِينٍ حَاضِرٌ. 7لاَ يَقْدِرُ الْعَالَمُ أَنْ يُبْغِضَكُمْ، وَلكِنَّهُ يُبْغِضُنِي أَنَا، لأَنِّي أَشْهَدُ عَلَيْهِ أَنَّ أَعْمَالَهُ شِرِّيرَةٌ. 8اِصْعَدُوا أَنْتُمْ إِلَى هذَا الْعِيدِ. أَنَا لَسْتُ أَصْعَدُ بَعْدُ إِلَى هذَا الْعِيدِ، لأَنَّ وَقْتِي لَمْ يُكْمَلْ بَعْدُ». 9قَالَ لَهُمْ هذَا وَمَكَثَ فِي الْجَلِيلِ.
10وَلَمَّا كَانَ إِخْوَتُهُ قَدْ صَعِدُوا، حِينَئِذٍ صَعِدَ هُوَ أَيْضًا إِلَى الْعِيدِ، لاَ ظَاهِرًا بَلْ كَأَنَّهُ فِي الْخَفَاءِ. 11فَكَانَ الْيَهُودُ يَطْلُبُونَهُ فِي الْعِيدِ، وَيَقُولُونَ: «أَيْنَ ذَاكَ؟» 12وَكَانَ فِي الْجُمُوعِ مُنَاجَاةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ نَحْوِهِ. بَعْضُهُمْ يَقُولُونَ:«إِنَّهُ صَالِحٌ». وَآخَرُونَ يَقُولُونَ:«لاَ، بَلْ يُضِلُّ الشَّعْبَ».
ويُلاحظ أن الإنجيل يقول: 5لأَنَّ إِخْوَتَهُ أَيْضًا لَمْ يَكُونُوا يُؤْمِنُونَ بِهِ، ولم يرد أبدًا في الأناجيل أنهم آمنوا به.
أما إنجيل يوحنا فيقرر أن اسم خالة المسيح هو "مريم"، جاء في يوحنا الإصحاح 19:
25وَكَانَتْ وَاقِفَاتٍ عِنْدَ صَلِيبِ يَسُوعَ، أُمُّهُ، وَأُخْتُ أُمِّهِ مَرْيَمُ زَوْجَةُ كِلُوبَا، وَمَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ. 26فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أُمَّهُ، وَالتِّلْمِيذَ الَّذِي كَانَ يُحِبُّهُ وَاقِفًا، قَالَ لأُمِّهِ: «يَا امْرَأَةُ، هُوَذَا ابْنُكِ». 27ثُمَّ قَالَ لِلتِّلْمِيذِ: «هُوَذَا أُمُّكَ». وَمِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ أَخَذَهَا التِّلْمِيذُ إِلَى خَاصَّتِهِ.
فبنصِّ هذا الإنجيل فإن خالته هي مَرْيَمُ زَوْجَةُ كِلُوبَا! ويلاحظ أنه يخاطب أمه كالعادة بلفظ لا يتضمن أي احترام لمكانتها منه حتى في موقفٍ كهذا!!! والأعجب أن يعهد برعاية أمه لأحد تلاميذه فلماذا لم يعهد بذلك لأحد إخوته المذكورين في الإنجيل؟!
وتبين الآية أن السيد المسيح عليه السلام لن يُسأل فقط عما قيل في حياته بل عما سيقال بعد مماته، وإيراد ذلك في القرءان هو لإقامة الحجة علي من اتخذه هو وأمه إلهين من دون الله وعلى من اتبع سننهم من المحسوبين علي الإسلام.


*******

السبت، 9 أبريل 2016

النساء 115

النساء 115

قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)}
هذه الآية تتحدث عن كافر عتيد عنيد عرف الحق والهدى، ولكنه اختار رغم ذلك الباطل والضلال، وهو قد أتبع ذلك بمشاققة الله ورسوله بما يترتب على ذلك من سلوك عدواني، فالذي توعده الله تعالى بعذاب جهنم وسوء المصير هو من اجتمع فيه ما يلي:
1.                 أن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى.
2.                 أن يتبع غير سبيل المؤمنين.
وفي الحقيقة إن البند الثاني نتيجة لازمة للأول، فمن يشاقق الرسول يكون متبعا بالضرورة لغير سبيل المؤمنين، والرسول ممثل لدى المسلمين كافة بآيات القرءان؛ أي بدين الحق المستخلص منه، فمن يشاقق الرسول هو من يرفض اتباع أي عنصر من عناصر دين الحق، فما بالك بمن يرفض جزءا كبيرا منها؟ وكل أتباع المذاهب المحسوبة على الإسلام قد اقترفوا هذا الإثم المبين، ولا عذر إلا لمن لم يتَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى!
ومن أخطر ما اقترفوه من الآثام أنهم اتخذوا مع الله تعالى شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله، والحق هو أنهم لم يتخذوا السلف الصالح الذين لم يُروَ عنهم شيء في الدين وإنما أمسكوا عن ذلك رهبا.
فلا يجوز لعبيد السلف أن يقولوا إن هذه الآية تلزم الناس بعبادة السلف، والعبادة إما أن تكون صريحة غليظة، وإما أن تكون بطرق ملتوية، وإنما الحقيقة أنهم واقعون تحت طائلتها وقد حاق بهم التهديد الوارد فيها!
وكذلك لا يجوز لأحد أن يزعم أن هذه الآية تقرر حجية ما يسمونه بالإجماع!
ويجب العلم بأن من كبائر الإثم تأويل القرءان بالهوى أو لفرض عقائد مضللة على الناس أو اختلاق أصل شرعي يترتب عليه فرض أحكام دينية على الناس.
***
لقد دأب الكهنوت واللافقهاء ورجال اللادين وعبيد الأسلاف والمرويات على إشهار هذه الآية كسلاح في وجه كل من أراد الإصلاح لإنقاذ تلك الأمة من المهالك التي تسبب فيها أمثالهم من المغضوب عليهم والضالين في حين أنهم هم أشد المسلمين جهلا بقدر النبي وأقلهم احتراما له ولمن تعلق به، فهم الحريصون علي تصويره مخالفا لآيات الكتاب مولعاً بالنساء ولا يعدل بينهن ويستقبل الإلقاءات الشيطانية ويسحره اليهود ويخالف الرسالة التي أنزلت عليه هو من دون الناس… إلخ، وهم الذين زعموا أنه أمر بالتحديث عن بني إسرائيل بلا حرج رغم كل الآيات التي تحذر منهم ومن كذبهم ومن افترائهم علي ربهم وتعلن أن الرب قد غضب عليهم ولعنهم ورغم عدائهم الشديد له هو وللمؤمنين والذي أسفر عن صراع مصيري بين الطائفتين.
إنه يجب العلم بأن من يشاقق الرسول يكون في شق غير شقه ويتعمد معاداته والمخالفة عن أمره في تلك الرسالة التي حملها للعالمين وهى هذا القرءان وذلك بعدما تبين له الهدف وعرفه المعرفة النافية للجهالة، فمثل هذا قد شاقق الرسول عمدا مع سبق الإصرار ومثل هذا لا يكون إلا منافقا أو مشركا حتى وإن كان محسوبا على الإسلام، وهو بذلك يكون بالضرورة متبعا غير سبيل المؤمنين الذين آمنوا بما أنزل إلى الرسول وهو القرءان بنصه والذي بينه بسيرته وفعله وقوله، فمن يشاقق الرسول سيجد نفسه صائرا إلى ما اختار لنفسه من باطل بمعنى أن الحق سبحانه سيحقق له ما اختاره لنفسه وسيترتب على ذلك أن تلحق بهذا الإنسان آثار فعله فيذوق في الآخرة وبال أمره، فالآية تتضمن تهديدا ووعيدا لمن عادى الرسول أو خالف عن أمره، وفى هذا العصر هي تهديد لمن عادى تلك الرسالة التي هي هذا الكتاب العزيز وخالف عن كل الأوامر  الواردة فيه فلا ينبغي أن يشهر رجال الكهنوت تفسيرهم للآية في وجه من يعلن على رؤوس الأشهاد أنه مسلم ومن عمل على الالتزام بما أمره الله تعالى من تدبر آيات الكتاب ومن اجتهد في أي أمر من أمور الدين انطلاقا من خضوعه التام لرب العالمين وحبه لما أتى به الرسول وعمله على الانتصار له ومؤازرة الرسالة التي حملها رحمة للعالمين، وإظهار ما أتى به من دين على كل دين.
فأتباع المذاهب وسدنتها هم أول من يقع تحت طائلة هذه الآية، فهم الذين فرقوا دينهم، والرسول بنص القرءان بريء منهم، وهم بنص القرءان مشركون.
كما دأب هؤلاء الضالون على اتخاذ هذه الآية كدليل على حجية ما يسمونه بالإجماع!!! وهذا الإجماع المزعوم هو وسيلتهم لتحويل الآثار البشرية إلى أحكام إلهية، كما أن مسلكهم هذا يجعل كل من خالف عن إجماعهم المزعوم مفارقا للأمة خارجا على الملة خالعا للربقة.......... الخ.    
***
هذه الآية نزلت كإنذار ووعيد للكفار والمشركين الذين تبين لهم الهدى بعدما أتتهم البينات والبراهين ولكنهم أبوا إلا أن يشاقوا الرسول ورفضوا اتباع سبيل المؤمنين أي رفضوا الإيمان وكل سبيل إليه، فكيف احتج السلف بها لإلزام الناس بلزوم القطيع وكيف استخدموها كنص في حجية الإجماع ولإلزام الناس بما ابتدعوه في الدين، أم كيف استخدموها كسلاح يشهرونه في وجه كل مصلح ومجدد؟ إن القول بالإجماع هو الذي أعطى الحجة لبعض المستشرقين ليزعموا أن الإسلام دين مازال يصنع.
فلا دليل في تلك الآية على حجية الإجماع، ذلك لأن سبيل المؤمنين هو الإيمان والعمل الصالح، فالآية تهديد ووعيد للمنافقين والمشركين والكافرين، أما كيفية استنباط الأحكام القانونية فيما هو مسكوت عنه فذلك أمر آخر وله آلياته التي ضمنها الكتاب العزيز آيات أخرى، فلا يجب محاولة تأويل الآية لتبرير ما قالوا به من حجية الإجماع، ومن المضحك المبكي أن تجد في كتب ما يسمي بأصول (الفقه) أنهم اتفقوا على أن الإجماع أصل من الأصول ودليل من الأدلة ثم اختلفوا في حقيقة هذا الإجماع ومعناه وكل ما يتعلق به!!! بل إن بعض من اعتمده كأصل ودافع عن ذلك بشراسة قد أنكر إمكان أن يتحقق!! ولقد قال المزني إن أحد الشيوخ أمهل الشافعي ثلاثة أيام حتى يجد حجة لقوله بأن الإجماع أصل من الأصول فاعتزل الشافعي وأخذ يقرأ القرءان في كل يوم وفي كل ليلة ثلاث مرات حتى ظفر بتلك الآية، ألم يلاحظ عبيد السلف أن ذلك يدل على أن الشافعي لم يستند في قوله بحجية الإجماع من قبل إلي دليل قرءاني؟ ألا يدل ذلك على أنه اعتمد الإجماع أصلاً من قبل أن يرجع إلى القرءان الذي هو المصدر الرئيس لهذا الدين ثم حاول حمل هذه الآية على ما زعمه واستنطاقها به؟ أليس هذا هو التفسير بالرأي المنهي عنه؟ لقد كان من الأولي به أن يتخذ الكتاب إماما وألا يلزمه بما رأي.
إن الحقيقة الدامغة تقول بأن الشافعي اعتمد الإجماع أصلاً مع الكتاب ومع ما أسموه بالسنة دون الاستناد إلى نص قطعي الدلالة ومع استحالة حدوث هذا الإجماع، أما من جاء من بعده فدفعه الحماس إلى أن يزعم أن هذا الإجماع المزعوم يمكن أن ينسخ آية أو حديثا.
ولكن إذا كان الشافعي قد اضطر إلى قراءة الكتاب كل هذا العدد من المرات ليجد فيه آية يمكن أن يستنطقها بما يريد فمن أين أتاه القول بالإجماع كأصل من الأصول؟ إنه بالطبع لم يستنبطه من الكتاب وإلا لأجاب الشيخ بتلك الآية لأول وهلة، وإن كان ليس ثمة أدني علاقة بين منطوق الآية وفحواها من ناحية وبين قوله بالإجماع من ناحية أخرى، ولذا يجب البحث عن أصل القول بالإجماع لدي أهل الكتاب، ومن ذلك البحث يتضح أن القول بالإجماع هو النسخة العربية ذات القشرة الإسلامية لقولهم إن ما يعقده أحبارهم (أو يحلونه) في الأرض يكون معقوداً (أو محلولاً) في السماء.
والقول بالإجماع هو من أسباب صد الناس عن الإسلام إذ يوحي ذلك إليهم أن الإسلام ما زال يصنع، ولكن لماذا لم ير الشافعي أو غيره من الأئمة آلية أخري منصوصا عليها نصا صريحا بل هي ركن من أركان الدين وهي أفضل من الإجماع وتغني عنه كأصل من الأصول وهي الشورى؟ إن ذلك لأن الشورى آلية شاملة فهي ليست وسيلة فقط لاستنباط الأحكام فيما لا نص فيه من الأمور الفرعية ولكنها آلية ملزمة أيضاً لكل أولي الأمر ومن بينهم أصحاب السلطة التنفيذية، فلذلك كان سبب التعتيم على هذا المبدأ القرءاني خوف العلماء من الطواغيت المجرمين الذين تسلطوا علي أمر المسلمين من الأمويين والعباسيين، ولقد كاد الشافعي نفسه يفقد رأسه دون جريرة علي يد أحد هؤلاء المجرمين.
***
لقد حاول عملاء الشيطان من رجال الكهنوت تأويل تلك الآية ابتغاء الفتنة بإلزام الناس بالمرويات الظنية المخالفة للقرءان أو بأقوالهم، ولكن الآية إنما تتحدث عمن تبين له الهدى فآثر أن يتخذ موقفا عدائيا من الرسول وأن يكون في الشق المضاد له على طول الخطر وأن يتحرى غير سبيل المؤمنين وأن يلتزم به، فالآية تتحدث عن مرتد أو عن شيطان مريد من شياطين الإنس، ومثل هذا حسبه جهنم، فلا يجوز استخدام تلك الآية لترويع واسترهاب المسلم المتمسك بدينه وبحبه للرسول لمجرد أنه خالف مذهب البعض أو بالأحرى باطلهم ورفض أن ينضم إلى واحد من قطعان المغضوب عليهم أو الضالين، بل لا يجوز استخدام تلك الآية ضد منافق يكتم كفره ولا يتعرض للمؤمنين بأذى.

*****

النساء 43

النساء 43

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا(43)
الآية توضح شروط الصلاة، فهي تنهى الناس عن أن يقربوا الصلاة وهم سُكَارَى لا يعلمون مَا يقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى يغْتَسِلُوا، فالصلاة تُقام لذكر الله، فذكر الله هو من أركانها الجوهرية ومقاصدها، فكيف يقيمها الإنسان أصلا وهو لا يدري ما يقول، وبالتالي لا يجوز أن يقرب الإنسان الصلاة وهو غائب عن وعيه كليا أو جزئيا، وهناك أشياء مادية ومعنوية يمكن أن توصله إلى هذه الحالة، ومن الأشياء المادية تعاطي الخمر، فتعاطي الخمر هو سبب من أسباب ذلك، ولقد استجد في العصر الحديث تعاطي المخدرات بكافة أنواعها.
فلم يكن يجوز لأحد تسمية آية كهذه بآية الخمر أو اعتبارها من الآيات التي (نزلت) في الخمر، فالخمر أقل شأنا من ذلك، والأمر الأعظم في الآية هو النص على اسم من الأسماء الحسنى وهو المثنى "العفوّ الغفور"، وبيان أنه الاسم المهيمن على الأحكام الواردة في هذه الآية، فلا يجوز الالتفات إلى أقوال اللافقهاء ورجال اللادين بشأن هذه الآية، فهؤلاء لم يكن يعنيهم أمر أسماء الله تعالى في شيء، وإنما كان يعنيهم الرسوم الظاهرة والطقوس المنضبطة.
والآية ليست بمنسوخة كما يظن عملاء الشيطان وعباد إلقاءاته و الذين زعموا أنها منسوخة بالأمر باجتناب الخمر، ذلك لأنه بحكم تعريفهم واصطلاحهم يكون النسخ لآية وليس لجزء منها، والآية تتضمن أحكاما لا سبيل أبدا إلي نسخها، هذا بالإضافة إلي أنها تنص علي اسم من أسماء الله الحسني وهو "العفو الغفور"، وهذا كافٍ تماما لتحصينها ضد نسخهم المزعوم، أما العبارة {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فحكمها ثابت ولا سبيل إلي نسخه، فإقامة الصلاة هي أساسا لذكر الله، لذلك لا يجوز أن يقرب المسلم الصلاة وهو في حالة سكر؛ أي وهو ذاهل عما يتفوه به، فمن أراد إقامة الصلاة يجب أن يعي تماما ما يقول بمعني أن تكون له السيطرة علي ما ينطق به والتحكم فيه، فحد السكر أن يفقد الإنسان ولو جزئيا تلك السيطرة، وهو ليس بالضرورة بسبب الخمر فقد يكون بسبب أمر دهم الإنسان وأهمه وقد يكون بسبب المخدرات التي لم يكن للسلف عهد بها، فمن الخير عندئذ للإنسان أن يصبر حتى يذهب ذهوله و سكره ويسترد وعيه ويثوب إلي رشده.
والآية تعني أيضا أن من غُلِب علي أمره بسبب إدمان الخمر أو غيرها عليه ألا يترك الصلاة بل عليه أن يجتهد حتى لا يؤدي الصلاة إلا وهو في كامل وعيه، فالآية تحثه علي جهاد نفسه ليتمكن من إقامة الصلاة، فكما لا يملك أحد أن يخرج إنسانا من الإسلام بسبب إدمانه الخمر فإنه لا يملك أن يمنع إنسانا مدمنا لها ويجد صعوبة في الإقلاع عنها من دخول الإسلام.
ويلاحظ أن الله سبحانه قد ختم الآية بالمثني "العفوّ الغفور" والذي من مقتضياته ولوازمه المحو التام لآثار مخالفة الأوامر الواردة في الآية إذا ما استغفر الإنسان ربه وتاب وأناب وحتى لا يتفنن رجال الكهنوت وهم آفة كل دين في تضخيم الأمر وتعقيده لحسابهم الشخصي كما سيحدث بالفعل.

*****

الخميس، 7 أبريل 2016

أسطورة اضطهاد ابن رشد

أسطورة اضطهاد ابن رشد


دأب الحداثيون والمجتهدون الجدد على الصراخ بالقول: هذه الأمة تخلفت بسبب رفضها لفلسفة ابن رشد بينما أوروبا أخذت بها فتقدمت.
والحقيقة أن ابن رشد لم يكن إلا (فقيها) مالكيا تقليديا وشارحا بلا أصالة لفلسفة أرسطو، وكان يعتبر فلسفة أرسطو حاكمة على الإيمانيات الإسلامية وقاضية عليها وناسخة لها عند التعارض، وكان يؤمن إيمانا لا يتزعزع بكل مقولات أرسطو، وقد تندر عليه أحد المشايخ قائلا: "لو قيل له إن أرسطو يقول إن الإنسان يمكن أن يكون قائما قاعدا ماشيا في نفس الوقت لقال: صدق!!"، ولم ينتفع منه المسلمون بشيء، ولا إنجاز له يمكن أن يُعتدّ به في العلوم الطبيعية، وكانت أهميته للأوروبيين هي في كونهم تحدوا بشروحه لمقولات أرسطو الفلسفة الأفلاطونية السائدة، وقد استغنوا عن شروحه عندما وجدوا آثار أرسطو الأصلية بعد سقوط القسطنطينية في أيدي العثمانيين.
وقد عاش ابن رشد أكثر عمره في المناصب الرسمية وفي بلاط السلاطين معززا مكرما، تولى القضاء سنة 1169م في إشبيلية ثم في قرطبة، وحين استقال ابن طفيل من عمله كطبيب للخليفة الموحدي أبو يعقوب يوسف اقترح اسم ابن رشد ليخلفه في منصبه، فاستدعاه الخليفة إلى مراكش سنة 578هـ وجعله طبيبه الخاص، وقربه منه وقضى في مراكش زهاء عشر سنوات. وكان الخليفة أبو يعقوب يستعين بابن رشد إذا احتاج الأمر للقيام بمهام رسمية عديدة، ولأجلها طاف في رحلات متتابعة في مختلف أصقاع المغرب؛ ثم ولاَّه منصب قاضي الجماعة في قرطبة ثم في إشبيلية، فلما مات أبو يعقوب يوسف وخلفه ابنه المنصور الموحدي زادت مكانة ابن رشد في عهده مكنة ورفعة، وقرَّبه الأمير إليه، ولكن كاد له بعض المقرَّبين من الأمير، فأمر الأمير بنفيه وتلامذته إلى قرية اليسانة التي كان أغلب سكانها من اليهود، وأحرق كتبه، وأصدر منشورًا إلى المسلمين كافَّة ينهاهم عن قراءة كتب الفلسفة، أو التفكير في الاهتمام بها، وهَدَّد مَنْ يُخَالِف أمره بالعقوبة، وبقي بتلك القرية لمدة سنتين، وبعد تأكد السلطان من بطلان التهمة السياسية التي كانت وراء تلك النكبة عفا عنه واستدعاه من جديد إلى مراكش وأكرم مثواه كأحد كبار رجال الدولة، ثم إن السلطان نفسه أخذ في دراسة الفلسفة والاهتمام بها أكثر من ذي قبل، ولكن الفيلسوف لم يهنأ بهذا العفو فأصيب بمرض لم يمهله سوى سنة واحدة مكث بها بمراكش حيث توفي سنة 595هـ/ 1198م، وقد دفن بها، قبل أن تنقل رفاته في وقت لاحق إلى مسقط رأسه قرطبة.
فلم يكن الأمر أمر اضطهاد، وإنما هو مكائد في بلاط المتسلطين، ولم يكن ابن رشد أول ضال في الأمة ولن يكون آخرهم، ولم يكن له فلسفة تقدمية ليرفضها المسلمون فقد كان مجرد شارح لفلسفة أرسطو! ويتفوق عليه بكثير في المجال العلمي الحسن بن الهيثم الذي عاش في مصر في العصر الفاطمي، وعمل في دار الحكمة، وهو مؤسس نظريات البحث العلمي التجريبي ومؤصل للمنهج العلمي واكتشف الكثير من نظريات البصريات، وهو واحد من أكبر العقول البشرية على مدى التاريخ، ولم يتابع المسلمون إنجازاته لأسباب معروفة.
فتخلف المحسوبين على الإسلام كان له أسباب أكثر عمقا وشمولا من موضوع ابن رشد وكل المزاعم حوله.


*******

سرُّ الأرقم بن أبي الأرقم

سرُّ الأرقم بن أبي الأرقم

هل تذكرون الأرقم بن أبي الأرقم الذي كان المسلمون يجتمعون في داره أيام سرية الدعوة؟
كان اسمه عبد مناف بن أسد المخزومي القرشي الكناني ويكنى أبا عبد الله، وكان سابع رجل يدخل في الإسلام، وقيل: كان الثاني عشر من الذين أعلنوا إسلامهم، وقد أسلم وهو في حدود السادسة عشرة من عمره.
وفي الدار التي كان يمتلكها الأرقم على جبل الصفا كان النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ يجتمع بالمسلمين الأوائل بعيدا عن أعين المشركين ليعلمهم القرءان وشرائع الإسلام، وفي هذه الدار أسلم السابقون الأولون.
كانت هذه الدار على جبل الصفا قريبة من الكعبة، وهي الدار التي كان رسول الله يجلس فيها مع الصحابة يقيمون صلاتهم، وبقي رسول الله يدعو إلى الإسلام في دار الأرقم حتى تكاملوا أربعين رجلاً، فخرجوا يجهرون بالدعوة إلى الله. فكانت أول دار للدعوة إلى الإسلام.
لماذا اختفى ذكره ولا يكاد يعرف عنه أحد إلا هذه المعلومة عن داره؟ هذا رغم أنه كان من العشرة الأوائل الذين أسلموا، كما أنه كان من بني مخزوم، من أشرف وأقوى بطون قريش، وقد عاش طويلا بعد أن انتقل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِه وسَلَّمَ، لماذا تم التعتيم الكامل على سيرته؟ ذلك لأنه كان من أنصار الإمام عليّ وحضر معه صفين.
ولذلك قرر عبيد السلف اغتياله ومحو ذكراه من الوجود رغم أنه من أول السابقين الأولين من المهاجرين، فعبيد السلف في الحقيقة لا يعبدون إلا معاوية وحزبه من أهل البغي! وهم مثل ربهم الأعلى معاوية يغتالون أفاضل السلف ثم يكفرونك إذا ذكرت بحياد أعمال من انقلب على عقبيه منهم!!!!
كم عدد الأحاديث المروية عن الأرقم –الذي حضر كل العصر النبوي وعصر الخلفاء الراشدين- في كتب المرويات؟؟!! أرجو أن يجيبنا واحد من أهل (الاختصاص) وأهل (الذكر) وأصحاب الشأن وأرباب هذا الفن .... الخ.
بالطبع لم يجب أحد!!
والأرقم بن أبي الأرقم المخزومي توفي نحو 55هـ وهو ابن بضع وثمانين سنة؛ أي في زمن معاوية، وقد أوصى أن يصلي عليه سعد بن أبي وقاص.
وقد بقي مجهولاً بعد وفاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِه وسَلَّمَ فاختفى ذكره في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، ثم عاد ذكره في عهد الإمام علي، وشهد معه صفين.
ومن الواضح أن سبب تجاهله أنه كان من أنصار الإمام علي، وأتباع المذهب القرشي الأموي يهملون ويتجاهلون من شهد مع الإمام علي حروبه حتى ولو كان من أشراف قريش الذين كان إسلامهم المبكر انتصارا للدعوة وتثبيتا لأركانها، وكان بيته هو المدرسة الإسلامية الأولى، وفيها أعلن حمزة وعمر إسلامهما كما هو معلوم.
وأكابر السابقين الأولين الذين كانوا في صف الإمام علي من بعد السقيفة اختفى ذكرهم في عهد الخلفاء الثلاثة، وذنبهم عند عبيد السلف يكمن في تفضيلهم قرابة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ على قرابتهم، كالأرقم بن أبي الأرقم وأبي أيوب الأنصاري وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين وقيس بن سعد بن عبادة وأبي عمرة الأنصاري وأبي فضالة الأنصاري وأمثالهم ممن لم يكن لهم حضور إلا في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِه وسَلَّمَ وعهد الإمام علي، وهؤلاء هم أكثر السابقين من المهاجرين والأنصار، وإذا كان قد بقي العلم بأسماء بعضهم فهناك أيضًا من اندثر ذكرهم.
إن جوهر الديانة الأثرية السلفية الوهابية ومقياسها هو الموقف من معاوية، فمن حارب ضده من أهل القرن الإسلامي الأول فهو في نار الدجال السلفي؛ يجب إهمال ذكره ولا يؤخذ منه دين ولا يُروى عنه أثر حتى وإن كان من السابقين الأولين، أما من والاه فهو في جنة الدجال السلفي يجب رفع ذكره وتوثيق روايته وأخذ الدين منه، وكل قول يصدر عنه يجب اعتباره نصا دينيا من الوحي الثاني القاضي على القرءان وكل جريمة يقترفها يجب اعتبارها اجتهادا يُثاب عليه!!!


*******

مروية بخارية والرجم والفلتة

مروية بخارية والرجم والفلتة

 من مروية بخارية طويلة:
[ 6442 ] حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثني إبراهيم بن سعد عن صالح عن بن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن بن عباس ".................. فجلس عمر على المنبر فلما سكت المؤذنون قام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فإني قائل لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها لا أدري لعلها بين يدي أجلي فمن عقلها ووعاها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحل لأحد أن يكذب علي إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل الله آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم أو إن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم ألا ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تطروني كما أطري عيسى بن مريم وقولوا عبد الله ورسوله ثم إنه بلغني أن قائلا منكم يقول والله لو قد مات عمر بايعت فلانا فلا يغترن امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن الله وقى شرها وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي تابعه تغرة أن يقتلا ...............
هذه المروية تتضمن كوارث تكفي لنسف الدين واجتثاثه من جذوره:
الكارثة الأولى:
قوله: "فكان مما أنزل الله آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف".
فهو إقرار بأنه كانت هناك آية يسميها عمر بآية الرجم، وأنها لم تُكتب، وهو كان يخشى من أن يتجاهلها الناس من بعد، وهذا القول يضع كتاب الله موضع الشك ويتنافى مع التعهد الإلهي بحفظه، وهذا مرفوض رفضا باتا من كل مؤمن، فلا يبقى إلا احتمال أن يكون علم عمر بالقرءان غير دقيق أو أنه كان مخطئا خطأً جسيما ولم يجد من يثنيه عن خطئه وإما أن القصة ملفقة، وهذا ينسف كتاب البخاري وينسف معه المذهب الذي يتخذ منه عمليا الكتاب الديني الأول والمصدر الأعلى للدين، هل يوجد أي احتمال آخر؟!
الكارثة الثانية:
قوله: ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم أو إن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم.
فما هي العلاقة بين هذا القول وبين القول الذي قبله؟! لا يجمعهما إلا الزعم بأنه هناك عبارات كانوا يعتبرونها من القرءان، ولم تُكتب!!! وهل هذا الكلام الركيك يصلح لأن يكون آية قرءانية أصلا، وكيف مرر مثله أرباب الفصاحة والبلاغة؟!
وهنا يتكرر ما سبق قوله:
وهذا القول يضع كتاب الله موضع الشك ويتنافى مع التعهد الإلهي بحفظه، وهذا مرفوض رفضا باتا من كل مؤمن، فلا يبقى إلا احتمال أن يكون علم عمر بالقرءان غير دقيق أو أنه كان مخطئا خطأً جسيما ولم يجد من يثنيه عن خطئه وإما أن القصة ملفقة، وهذا ينسف كتاب البخاري وينسف معه المذهب الذي يتخذ منه عمليا الكتاب الديني الأول والمصدر الأعلى للدين، هل يوجد أي احتمال آخر؟!
الكارثة الثالثة:
قوله: ثم إنه بلغني أن قائلا منكم يقول والله لو قد مات عمر بايعت فلانا فلا يغترن امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن الله وقى شرها وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي تابعه تغرة أن يقتلا
فهذا إقرار بأن بيعة أبي بكر كانت فلتة، وقد زعم أن الله وقى شرها، وهو هنا يحمل الله المسؤولية عن أفعال بشرية ويتحدث بغير حق نيابة عنه، والحق هو أن شر هذه الفلتة كان مستطيرا، وقد دفع المسلمون والبشرية معهم ثمنها باهظا، فقد تحولت هذه الفلتة إلى دين ملزم تُستباح دماء الناس بسببها، وسيظل يوجد من يعتبر هذه الفلتة التي تحولت إلى نظام يسمونه بالخلافة الشيء الأقدس في الدين الذي يعرفه الدهماء وأئمتهم، وستظل حائلا رهيبا يمنع التطور الطبيعي للناس والأمة.
والمروية البخارية توضح أنهم لم يستندوا إلى أي نص قرءاني ولا إلى قول للرسول في فرض هذه الفلتة على الناس، جاء فيها:
حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة وخالف عنا علي والزبير ومن معهما واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت لأبي بكر يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار فانطلقنا نريدهم فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان فذكرا ما تمالأ عليه القوم فقالا أين تريدون يا معشر المهاجرين فقلنا نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار فقالا لا عليكم أن لا تقربوهم اقضوا أمركم فقلت والله لنأتينهم فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم فقلت من هذا فقالوا هذا سعد بن عبادة فقلت ما له قالوا يوعك فلما جلسنا قليلا تشهد خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم معشر المهاجرين رهط وقد دفت دافة من قومكم فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحضنونا من الأمر فلما سكت أردت أن أتكلم وكنت قد زورت مقالة أعجبتني أردت أن أقدمها بين يدي أبي بكر وكنت أداري منه بعض الحد فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر على رسلك فكرهت أن أغضبه فتكلم أبو بكر فكان هو أحلم مني وأوقر والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت فقال ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش هم أوسط العرب نسبا ودارا وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا فلم أكره مما قال غيرها كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك من إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر اللهم إلا أن تسول لي نفسي عند الموت شيئا لا أجده.
هل رأى أحدكم أي احتجاج بكتاب الله أو بقول للرسول؟
الاحتجاج كان فقط بالقول: "ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش هم أوسط العرب نسبا ودارا"!!!!
الاحتجاج كان بما جاء الإسلام ليقوضه!!! العلو القبلي والعنجهية القبلية!!!
ولكن هل تقبل العرب سيادة قريش عليهم باسم الدين؟!
كان الرد ظهور متنبئين وارتداد أكثر العرب وحروب دموية طاحنة انتهكت فيها كافة الأعراف والمقدسات، ولم يتم الالتزام فيها بشريعة الإسلام في القتال!!
وجاء في المروية البخارية العتيدة:
فقال قائل من الأنصار أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى فرقت من الاختلاف فقلت (أي عمر بن الخطاب) ابسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعته الأنصار ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم قتلتم سعد بن عبادة فقلت قتل الله سعد بن عبادة
هكذا تمَّ اختيار أبي بكر ليقوم بالأمر، وهذا ما يُراد فرضه على الناس إلى يوم القيامة كدين واجب الاتباع يكفرون من لا يؤمن به ويسفكون الدماء ويسعون في الأرض فسادا بسببه ويمزقون شمل المسلمين ويصدون الناس به عن سبيل ربهم.
ولكن ماذا فعل سيد الخزرج سعد بن عبادة لينزو عمر ومن معه عليه وهو مريض أعزل؟! هل ما فعله يتفق مع أي دين أو حتى إنسانية؟ ما هي جريمة سعد بن عبادة الذي لم ينطق بكلمة؟ سعد بن عبادة كان سيد القبيلة التي آوت المهاجرين ونصرت الرسول، وبسيوفهم انتصر الإسلام على قوى الكفر والشرك القرشية، وكان هو من النقباء الاثني عشر الذين كانوا أول من آمن وبايع الرسول من الأنصار، وتحمل أذى قريش التي طاردته وأمسكت به وأخذوه وربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله، وأدخلوه مكة وهم يضربونه، وهذا ما لا يتفق حتى مع تقاليد الجاهلية.
أما قول عمر "قتل الله سعد بن عبادة" فهو فيها يحمِّل الله تعالى المسؤولية عن أفعال بشرية ويتحدث بغير حق نيابة عنه، أما إذا كان يدعو على سعد بذلك فهذا خطأ جسيم في حق واحد من أكابر السابقين الأولين من الأنصار الذين قال الله فيهم:
{وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} [الحشر:9]، {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} [التوبة:100]
ولم يقترف سعد بن عبادة في السقيفة ما يوجب معاملته بهذه الغلظة والهمجية، بل كان مريضا مزملا لا يقوى على الحركة، وبافتراض أن قبيلته كانت تريده أن يلي الأمر، فهذه ليست جريمة توجب أو تبرر ما تعرض له.

والآن ماذا لو تمَّ عمل فيلم سينمائي يظهر للناس ما حدث في السقيفة وتم عرضه على الناس في الغرب مثلا، هل سيرون فيما حدث قيما عليا وأسوة حسنة يجب عليهم ترك نظمهم الحديثة واتباعها؟! أم سيرون أن ديمقراطية أثينا وجمهورية روما قبل السقيفة بقرون طويلة كانت أرقى وأمثل؟!
وسعد بن عبادة لم يحاول مقاومة ما حدث في السقيفة، ولكنه عندما تولى عمر الأمر بوصية من أبي بكر هاجر إلى حوران بالشام حيث تم ملاحقته هناك واغتياله، وتم نسبة هذه الجريمة للجن الأبرياء المساكين؛ أي بالعامية المصرية "لبسُّوها للجن"!!
أليس من الأفضل للمسلمين أن يفصلوا بين الأمور الدينية وبين الأمور التاريخية؟
أليس من الأفضل لهم أن يأخذوا بمنهجنا الذي بإعماله تم استخلاص البنيان الشامخ لدين الحق، وهو أرقى بكثير من المذاهب التي حلَّت محله والتي كان السبب في إحداثها الصراعات القبلية والسياسية والأمور التاريخية؟!



*******