السبت، 28 فبراير 2015

سورة إبراهيـم من 24 إلى 27

سورة إبراهيـم من 24 إلى 27

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)

الكلمة أصلا هي كيان أمري، أي هي وحدة الكيانات الأمرية، ومن أنواعها السنن وماهيات المخلوقات.
والكلمة بحكم التعريف لا تقوم أصلا بذاتها، فهي مترتبة على وجود كائن يتكلم، والمتكلم متقدم على كلمته في المرتبة، فهو سبب وجودها المباشر، وهي تشير إلى معنى كامن يريد المتكلم إظهاره أي نقله من باطن إلى ظاهر.
وكلمات الله تعالى لا حصر لها، وحقيقة المسيح هي كلمة من كلمات الله تعالى التي لا حصر لها، ولا يجوز القول بأن الكلمة تساوق المتكلم في مراتبه الذاتية، فهو متقدم عليها تقدما لانهائي الأبعاد، والنص بالذات على أن المسيح كلمته ألقاها إلى مريم هو حجة على من زعم أنه ابن الإله أو أنه أقنوم في ثالوث إلهي، فلا يمكن حتى على المستوى البشري أن تثنِّي الإنسانَ كلمةٌ صدرت عنه، فلا يجوز القول بأن شخصا قد صار اثنين بعد أن صدرت عنه كلمة، وإنما يمكن أن تتعدد الكلمات الصادرة عنه، فيقال مثلا: تكلم خمس كلمات.
ولقد أخطأ المعتزلة حينما حاولوا القول بأن القرءان مخلوق وأخطأ من زعموا أن ذلك كان ليدحضوا حجة النصارى في قولهم بأن كلمة الله قديمة مثله ومحتجين بأن المسيح كما ذكر القرءان هو كلمة من الله، وكان يكفي القول بأن الكلمة لا يمكن أن تساوى في المرتبة من تكلم، فهي كلمة من كلامه الصادر عنه.
وقد أخطأت كل الطوائف التي لم تستطع أن تفرق بين الكلام كفعل إلهي ثابت لله تعالى متعالٍ على الأمور الزمانية والمكانية وبين مفعول هذا الفعل والذي يُطلق عليه "الكلام" أيضا مثلما يُطلق المصدر أو اسم المعنى "الخلْق" على المخلوقات، فالخلق هو فعل إلهي كامل تام، أما "الخلق" بمعنى المخلوقات فهي نواتج هذا الفعل، وهي بالطبع مقيدة وحادثة.
والكلمة اللغوية الأصلية باللغة العربية مكونة من حروف، والحروف هي رموز، والكلمة هي ارتباط بين هذه الحروف بطريقةٍ ما، والكلمة بذلك تصبح جملة أو عبارة في اللغة العلوية المحكمة، لها معانيها متعددة الأعماق والأبعاد، وأهمية اللسان العربي أنه اللسان الذي حافظ على طبيعته الأصلية وارتباطه باللغة العلوية المحكمة بحيث يعبر عن المعاني الغيبية بأعلى درجة ممكنة من الدقة على المستوى الإنساني.
*******
إن الكلمة بالأصالة وبالاصطلاح القرءاني هي وحدة الكيانات الأمرية، فهي ليست اللفظ أو المفردة اللغوية وإن شاع إطلاقها على المفردة اللغوية، ومن الكلمات الماهيات وحقائق المخلوقات والقوانين والسنن الكونية والشرعية.
ومن الكلمات ما تشير إليه العبارات اللغوية القرءانية المصاغة باللسان العربي، وطبقاً للسنن فالإنسان بتلاوته أو بقراءته تلك العبارات يستحضر بقدر وسعه آثار ومقتضيات الكيان الأمري الذي تشير إليه تلك الآيات، وينشأ عن تلاوته كيانات أمرية جديدة يتناسب سموها وتأثيرها وانتفاعه بها مع مدى إخلاصه ومع سمو قلبه.
إن هذا القرءان هو الذي تمت به كلمات الله تعالى صدقاً وعدلا فهو الأولى بتلك الصفة المذكورة في الآية من أي كتاب آخر، فهو أطيب الكلمات، لذلك لابد له من عطاء دائم متجدد في كل عصر يتلقاه أفضلهم استعدادا ويبينه للناس، وهذا الاستعداد الأفضل إنما يكتسبه من أجلَّ هذا الكتاب ووقَّره ولم يهجره وعرف له قدره فلم يزعم أنه ينسخ بعضه بعضا ولم يقدم عليه مما هو من دونه شيئاً، إن الكلمة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها فعطاؤها دائم ومبارك، فهل ثمة ما هو أطيب من كلام الله تعالى؟
وكل فعل يصدر عن كائن ذي إرادة واختيار يتجسد في العالم الأمري ككلمة تتسق طبيعتها ونوعيتها ومداها مع طبيعة الفعل، فالكلمة الطيبة تصدر عن الإنسان الصالح الطيب كنتيجة لاستجابته لأوامر ربه الدينية وعمله وفق مقتضياتها، وما يصدر عنه هو كيان أمري حي فعال مؤثر، فقوة الكلمة ومدي نفاذها وتأثيرها يتناسب مع عمق الكيان الذي صدرت عنه، أما إذا كان الفعل مخالفاً لأمر ديني فستكون الكلمة الممثلة له والمجسدة له كلمة خبيثة يتدهور كيانه بسبب آثارها.
وتوضح الآية أن لفعل إلهي هو ضرب الأمثال مقصداً هو أن يتذكر الناس، فبالتذكر تتزكي الملكة القلبية الإنسانية، وهو أمر لازم ليتحقق الإنسان بكماله المنشود وليتحقق المقصد الديني الأعظم الخاص بالإنسان.
والتذكر يتضمن إشارة إلى العهد المأخوذ على النفس الإنسانية لدى ظهورها وإقرارها القديم بالربوبية لخالقها والمودع في أصل فطرتها.
والشجرة الطيبة هي منظومة القيم الإسلامية التي هي من مقتضيات الأسماء الإلهية، فالكيانات التي تصنع على عين تلك المنظومة هي الثمار الطيبة لتلك الشجرة، وكل ما يصدر عنهم هو ماثل في السماء، ويجب العلم بأن كلمة السماء هي أصلا اسم معنى كالجلال والجمال والبهاء، فكون فرع الكلمة الطيبة في السماء يعبر عن محلها اللائق بها كما يعبر عن سماتها، والسماء هو المحل الأمري للكائنات الفائقة والكلمات الطيبة.
والشجرة الطيبة هي دين الحق نفسه وما يصنعه على مدى القرون من عباد الله الصالحين وأوليائه المقربين.

أما الكلمة الخبيثة فهي جماع كل ما كان مضادا للكلمة الطيبة، فهي منظومة الصفات الشيطانية، فهي الشجرة الخبيثة التي تتضمن الكفر المضاد للإيمان والنفاق المضاد للإخلاص والشرك المضاد للتوحيد والكذب المضاد للصدق والباطل المضاد للحق والظلم المضاد للعدل ... الخ، وتتضمن هذه الشجرة مظاهرها من البشر من شياطين الإنس والذين ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا أئمة الضلال والجهل والإفساد في الأرض.
وليس ثمة أسهل من اجتثاث الشجرة الخبيثة، فلا قرار لها، والباطل لا يصمد للحق بمثل ما أن العدم لا يثبت للوجود، كما أن الشر عارض في الوجود، ولا يستند إلا إلى ما لدى الناس من نقص ذاتي يعود إلى أصلهم العدمي.

ولقد طمأن الله تعالى المؤمنين في آيات عديدة، وهو هاهنا يطمئنهم من جديد ويؤكد لهم أن سيثبتهم بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة، فلا خوف عليهم من الفتن ولا من أهوال الدنيا والآخرة، فمن آمن بالله وجعل ثقته به لن تقوى عليه قوى الشر ولا أبالسة الجحيم.
أما الظالمون فهم الذين استحبوا الشرك على الإخلاص لله وفضَّلوه على الشهادة له بما هو حق له، فظلموا أنفسهم قبل أن يظلموا ربهم، فضلُّوا بمقتضى السنن الإلهية، ولا جبر ولا إكراه هاهنا، فهو سبحانه لم يقل إنه يضل المهتدين ولا قال إنه يضل الناس، فظلمهم هو الذي جذبهم إلى الضلال، وقد تحقق لهم ما أرادوه لأنفسهم، ولن يكرههم الله تعالى على شيء، فمن لوازم نوع الإنسان الإرادة الحرة والاختيار، ومن السنن الإلهية الكونية أنه لا إكراه في أمور الإيمان، والله سبحانه لا يناقض نفسه ولا يفعل إلا ما تقتضيه سننه التي اقتضتها أسماؤه الحسنى.


*******

الاسم الإلهي البصيــر

الاسم الإلهي البصيــر

قال تعالي: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ }غافر44  *  {وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} سبأ11  *  {وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }البقرة237  *  {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}البقرة110  *  وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }البقرة233  *  {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} الأنفال39  *  {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }هود112  *  {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }فصلت40  *  {إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً }طه35  *  {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ }الملك19  *  {بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً }الانشقاق15  *  {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} فاطر45
{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}البقرة265  *  {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}آل عمران15  *  {فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} آل عمران20  *  {هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }آل عمران163  *  {وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }المائدة71  *  {وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}الأنفال72  *  {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}الحجرات18  *  {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}الحديد4  *  {لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}الممتحنة3  *  {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }التغابن2  *  {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً }الفرقان20  *  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً }الأحزاب9 * 

فهذا الاسم من الأسماء الحسنى، وهو من أسماء النسقين الأول والثاني.

الله سبحانه بصير من حيث أنه يدرك كل الصور أي الكيانات والكائنات المركبة من مفردات مختلفة من عالمي الخلق والأمر، فهو يدرك كل الصور مهما كان الشكل الذي تأخذه أي مهما تفاوتت درجات كثافتها ولطافتها، وإذا كان الإنسان في حاجة إلى جهاز بصري ليدرك الصور فإن الله سبحانه يدركها بذاته ومن حيث اسمه البصير وبكل ما شاء من مخلوقاته التي هي آلاته وأدواته، وإذا كان الإنسان بحاجة إلى وسيط يمكنه من إتمام الرؤية كالضوء أو النور المادي المألوف فإن الله سبحانه يرى الأشياء بنور ذاته، فالبصر يتعلق بكل ما له صورة أو هيئة، وكمال سمته يقتضى أن يكون له الإحاطة بكل الصور والهيئات، والله سبحانه يرى المعاني كما يرى المباني، ويرى الإنسان كما يرى العمل الإنساني.
فهذا الاسم يشير إلى سمة بها يكون له الإدراك التام لكل عمل من أعمالهم، فهو محيط بكل عمل من كل حيثياته الممكنة فهو يدرك طبيعته وهيئاته ودوافعه ومقاصده والنوايا منه والبواعث عليه، وهو يدرك به العباد وكل ما يتعلق بهم إدراكا يغنيه عن إمعان فكر أو نظر، فهو يعلم كل شيء عنهم وكل ما يلزمهم كما يدرك أخفى خفايا نفوسهم.
وهذا الاسم يشير إلى السمة التي تقتضي العلم والإدراك اليقيني عند الناس.
ومجال الاسم البصير هو كل شيء أي كل ما اقتضته المشيئة، ومن المجالات الخاصة لهذا الاسم الكائنات المكلفة وكذلك أعمالها، فتلك الكائنات وأعمالها ودوافعها وبواعثها علي الأعمال منكشفة تماما بالنسبة إليه، وهذا المجال الخاص هو المجال الرئيسي لعمل الاسم الخبير البصير، أما الباء التي ترد عادة ملتصقة بمجالات الاسمين فتعني أيضا أن كل العباد بل كل شيء هو بمثابة آلة له، فكل ما تكون لديهم من صور هو أيضا ماثل عنده وهو أيضا وارثه بعد فناء من جعل أداة لتحصيله، هذا مع العلم بأن كل الكائنات بالنسبة إليه فانون في عين بقائهم.

والرمز يشير إلى انتقال صورة كيان من باطن إلي ظاهر ودوام ذلك واستمراره، والمراد بالصورة الهيئة الاجتماعية المترتبة على ارتباط مكونات وأجزاء، فلا شك أن المتكون ليس بمجرد مجموع مكوناته، والصورة المتكونة عند كائن ما عن آخر هي دالة في طبيعة كليهما.

فهو يبصر الأشياء من حيث كونها كائنات ذات صور متميزة، وهو من حيث هذا الاسم يرى سائر الذوات من حيث هي قائمة به، كذلك يرى الأعمال كهيئات صورية من حيث كافة جوانبها فيرى روح العمل كما يرى مظهره، وروح العمل هو الدافع أو الهيئة النفسية الباطنية التي صدر عنها وكانت سببا له، ومظهره هو شكله الخارجي، فهو يرى العمل من حيث كافة أسبابه ودوافعه ومظاهره وكل ذلك كصورة جسدها المظهر وروحها السبب أو الدافع، ذلك في حين أن الاسم الخبير يحيط بالعمل من حيث هو معلومة محض أي خبر هو وكل ما أدى إليه وكل ما سيترتب عليه، فالاسم البصير يرى العمل كذات حقيقية متميزة، والحق سبحانه يرى الأشياء والأعمال من حيث هذا الاسم ومن حيث كافة آلاته التي هي الأشياء، فنتيجة كل إدراك بصري لكائن من الكائنات هي أيضاً ماثلة عنده وهو أولى بها من المبصر، ذلك لأنه المالك الحقيقي المطلق وكل ما هو دونه إنما هو له أبدعه ليحقق به مقاصد معلومة عنده.

ومن آثار الاسم البصير في الكيان الإنساني البصيرة على المستوى الجوهري والبصر على المستوى الجسدي.


*******



الجمعة، 27 فبراير 2015

الفاحشة

فاحشة

إن الفاحشة هي السلوك الفاضح القبيح الشنيع المخل بالأعراف والمضاد للفطرة السوية، ومن الخطر المهلك أن تستمرئ النفوس مثل هذا السلوك أو أن تحب أن يشيع لأغراض في نفوسهم، ولذلك جاء في الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}النور19، فمن يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فكيف بمن يعملون علي إشاعتها بل ويتكسبون بذلك؟
فالفاحشة هي المخالفات والمعاصي المتعلقة بما يعرف الآن بالأمور الجنسية بصفة خاصة، فهي تتضمن كل عمل يتضمن الاستخدام غير المشروع للجسم الإنساني والمخالفة الصارخة لمقتضيات العرف، وهي تؤدي إلي ترسيخ الجانب البهيمي في الإنسان وإلي حرمانه من التزكي والترقي في مقامات الكمال، أما تمادى الإنسان فيها فيؤدي إلي مسخ الكيان الجوهري للإنسان.
واقتراف الفواحش مضاد ومقوض لكثير من أركان الدين، ولا يمكن أن تصلي نفس صلاة حقيقية لربها ولا أن تتزكى وهي حريصة على اقتراف الفواحش ومولعة بها ومصرة عليها.
والفاحشة هي مصطلح شرعي مفتوح؛ أي هو قابل للاتساع وظهور مصاديق جديدة له بتطور العصور ومضي الزمن، وقد ظهرت في العصر الحديث ألوان منها لم تخطر على بال الناس من قبل.
ولا يجوز الاستهانة بأمر اللمم ومنه مقدمات الفواحش، فقد يُستدرج بها الإنسان إلى الوقوع في أكبرها.
والعقوبات المفروضة على مقترفي الفواحش ليست للتشفي فيهم ولا للانتقام منهم وإنما هي بمثابة حماية للناس منهم ومن أن تشيع الفواحش فيما بينهم، ويجب دائماً عند تطبيق العقوبة علي مقترفي الفواحش أخذ الوضع الاجتماعي في الاعتبار؛ فتشدد العقوبة علي المحصنين والمحصنات وعلي ذوي الحيثية وتخفف عن أهل الطبقات المتدنية، ويجب أن تُسنَّ عقوبات لردع مروجي الفواحش والمتكسبين بها.
ومن العبث القول بأنه يجب تأجيل تطبيق هذه العقوبات إلى أن يتحول الناس إلى ملائكة، بل إن تطبيق العقوبات هو من وسائل الإصلاح وبناء الأمة الخيرة الفائقة.

والآيات الآتية تبين ما يتعلق بهذا المصطلح ومقتضياته:
{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }آل عمران135  *  {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً}النساء15  *  {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً }النساء22  *  {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }الأعراف28  *  {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ}الأعراف80  *  {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً}الإسراء32  *  {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }النور19  *  {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ}النمل54  *  {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ}العنكبوت28  *  {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }الأنعام151  *  {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }الأعراف33  *  {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ}الشورى37

ومن أركان الدين الكبرى: اجتناب كبائر الإثم والفواحش والانتهاء عن المنكر
وهذا الركن يتقدم في ترتيب الأركان على ركن إقامة الصلاة لأنه منها بمثابة الغاية من الوسيلة.


*******



الوجــود

الوجــود


إذا كان الوجود هو تحقق الشيء بحيث تصدر عنه آثار في العالم الخارجي فإن هذا الوجود هو أمر مشترك بين كل الكائنات الواقعية، ولكن هذا لا يعنى أن الوجود المطلق هو مادتها التي صيغت منها ولا أنه ذات ظهرت مقيدة بماهيات تلك الكائنات، ذلك لأن التحقق ذاته معنى من المعاني ولابد من كائن اقتضاه وأعطاه معناه، فالتحقق هو معنى من المعاني، ومع ذلك فهو المعنى الذي يؤدى إلى ظهور غيره من المعاني، والمعنى الأفضل منه للتعبير عن حقيقة الأمر هو الكينونة، والكينونة معنى محكم من تفاصيله التحقق والواقعية والتعين، أما وجود الشيء فمترتب على أن له كينونة حتى ولو لم يكن مستقلا بالوجود أو داخلا في تكوين شيء آخر.
أما تحقق أي كائن فهو عبارة عن اقتران ماهية الكائن بالمواد اللازمة لها بحيث تظهر عنها آثار معبرة عن تلك الماهية، فهو ارتباط بين كيان أمري وبين كيان خلقي، لذلك فلابد من مقدِّر ومن خالق، أو هو صياغة مجموعة من المواد وربطها ببعضها وفق نمط مقدر هو تفصيل الماهية أو الماهية بعد تقديرها، ولابد هنا أيضا من مقدر ومن خالق، ولابد من استناد كل الكائنات إذاً إلى كائن تكون حقيقته الذاتية هي عين كيانه الذاتي أي عين كينونته، وعين كينونته تلك هي عين وجوده لنفسه، فلهذا الكائن إذاً الكينونة الذاتية الواجبة التي يستند إليها كل شيء وجوديا ومنطقيا وواقعيا.
فوجود كائن ما يستلزم أن يكون ثمة ماهية مقترنة بما يلزمها ويلائمها من مواد بحيث يكون الكيان الناتج تحقيقاً لتلك الماهية في العالم الملائم ويكون ما يصدر عنه من آثار من مقتضيات تلك الماهية، والماهية المقصود بها حقيقة الشيء وليس ما لدى الإنسان من تصور عنه.
--------------------
إن استخدام المصدر (وجود) يشير كثيراً من المشكلات فإن الفعل (وجد) في العربية لابد له من فاعل ومفعول، فالشيء الواقعي الذي له كينونة يجده كائن آخر فيكون بالنسبة إليه موجودا ولم يكن كذلك بالنسبة إليه من قبل، لذلك فوجود الشيء الخارجي هو أمر نسبى، فوجود الشيء هو تحققه بحيث يكون قابلا لأن يدرك ولكي يصدر عنه ما يتناسب مع حقيقته.
ووجود الشيء هو أمر نسبى، فلابد من كائن واجد، ولابد أن ما يجده من الشيء سيكون معتمدا على الطبيعة الذاتية للواجد، وكينونة الشيء الموجود سابقة على وجوده بالنسبة للواجد، فكينونة الشيء هي ما يعبر عن الشيء في ذاته.
*******
إن إنكار وجود الشيء الخارجي يتضمن مخالفة لغوية ومنطقية، ذلك لأن كلمة وجود تتضمن أن ثمة واجدا هو من وجد الشيء وليس من أوجده أو خلقه فصار بالنسبة إليه موجودا فكيف يجده وينكر وجوده في نفس الوقت، وهذا الوجود هو بذلك نسبى ولكن نسبيته لا تقدح في وجوده، أما إن أريد بالوجود التحقق أو الكينونة Being فلا شك أن للشيء الخارجي كينونة وإلا لما كان له آثار على حواس من وجده ولو بتوسط عامل آخر، وكل ما هو موجود أو متحقق هو آلة بيد من له الكينونة المطلقة يفعل بها ما يشاء ويكلم بها ما يشاء ويوحى بها إلى من يشاء وإن كان لا يفعل بآلة إلا ما هو متسق مع مقتضيات حقيقتها الذاتية.
والكيانات التي لا تتضمن في ماهياتها الذاتية زمانا أو مكانا أو كيانات فرعية مرتبطة بهما لا يقال إنها تحل في العالم الزمكاني، ومن ذلك الكيانات المعنوية، أما إذا شوهدت أو أدركت فيه فإنما يكون ذلك بواسطة كيان يمكنه الإحساس بها، وإذا ما حدث إحساس بها بواسطة إنسان مثلاً فإنما أحس بها بواسطة كيان ملائم لها ثم أسبغ عليها قلبه صورة مكونة مما لديه من صور مختزنة، وهي عند ذلك تشاهد مقيدة وفقاً لطبيعة الإنسان، فتلك الصورة ذات علاقة ما بها ولكنها أيضا أمر ذاتي للإنسان وليست هي.
*******
يقال إن الشيء موجود أو إن له وجوداً إذا كانت له كينونة ما وإذا كان متحققاً بحيث تصدر عنه آثار تكشف عن خصائصه وطبيعته، وهذا يقتضي ويستلزم أن يكون له قابلية ما أو فعالية ما، ووجود الكائنات هو وجود نسبي مقيد وليس بوجود ذاتي إذ لابد من استناده إلى الوجود الحقيقي المطلق الذي هو للحق سبحانه، ولا جدوى من القول بأن الوجود من حيث هو وجود واحد لأن هذا القول ليس إلا تحصيل حاصل وهو متحقق بالنسبة إلى كل أمر.
ولله تعالى وجوده الذاتي المطلق وذاته موجودة من حيث أنه هو يجدها ويعيها ويدركها الإدراك اللائق ومن حيث أن له كينونة ذاتية مطلقة، ولكن هذا لا يعني أن وجوده هو عين وجود الأشياء كم ظن دعاة مذهب وحدة الوجود بل هو مبدعها وخالقها، ولا يجوز إنكار وجود الأشياء وإنما يجب الإقرار بأنه ليس لها من وجود ذاتي، وغض النظر عن وجودها مقارنة بوجود خالقها هو وسيلة من وسائل التزكية ودواء يتعاطاه الإنسان حتى يزاد إحساسه بالحضور الإلهي، فإذا ما بلغ ذلك الإحساس قدراً معلوما فلن ينشغل الإنسان بالأشياء عن ربه حال قيامه بمهامه.
والوجود ليس عالما يدخل فيه من كان معدوما فيصبح موجودا، وإنما هو ما يترتب علي صياغة المواد الملائمة وفق ماهية مقدرة هي أمر واحد محكم فيكون ثمة كائن موجود أو كائن له كينونة ويترتب علي ذلك تفصيل الماهية أي ظهور الصفات التي هي من لوازمها والتي يمكن أن يقال إن باجتماعها بمقادير معلومة كانت الماهية رغم أن الماهية هي أمر واحد محكم هو أكبر مما يتضمنه أو مما يمكن أن يفصل إليه من صفات، والكيان الناتج لا يؤثر علي الماهية الأولية التي تظل كما كانت عليه، وإنما يمكن بالنسبة للإنسان أن يتغير بالنسبة إليه ما يناظر الماهية مع ثبات الأنية.
أما الله سبحانه وتعالي فإن كنهه الذاتي لا سبيل إلى إدراكه، ولا سبيل لمخلوق مهما علا شانه إلي ذلك الإدراك لأنه لا توجد لدي كائنٍ ما حاسة ظاهرة أو باطنة تستطيع أن تميز هذا الكنه إذ له سبحانه اللطف المطلق والبساطة المطلقة، لذلك فإنه سبحانه من حيث الكنه لا يطالب بالماهية ولا بالكيفية، ولكنه سبحانه له مع ذلك ماهية وله وجود وكينونة بمعني أن له سمة ذاتية يمكن السؤال عنها بهذا السؤال ما هو؟ والجواب هو ما تحدث به عن نفسه: {هُوَ الله أحَد، هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، هُوَ الْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيم، هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم، هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيم، هُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّار ... الخ}، فالماهية هي السمة المحكمة التي يشير إليها لفظ الجلالة وهي الحسن الذاتي المطلق الذي تفصيله هو كل الأسماء الحسنى، أما وجوده فلم ينتج من اقتران مادة بماهية وإنما هو وجود محض وكينونة مطلقة من لوازمها الأحدية الصمدية.
*****
إن كلمة الوجود بالمعنى الذي آلت إليه لم ترد في الكتاب العزيز، وإنما ورد أن الأشياء أو الأمور تتحقق عن قوله سبحانه "كن"، فالموجود هو في الحقيقة من له كينونة، أي أن المصطلح القرءاني الذي يقابل الوجود هو الكينونة.
ويجب التمييز بالنسبة لكائنٍ ما بين الكينونة والتي قد يسميها البعض بالوجود وبينه كموجود، فالكائن من حيث هو موجود هو أمر نسبي مقيد بصفة عامة، فالموجود لابد له من واجد، وهذا الواجد سيكون متأثراً في ذلك بما لديه من قدرات وملكات وإمكانات وتصورات مسبقة، فالموجود هو عين الصورة التي لدى الكائن الواجد عن الكائن، فبالنسبة للإنسان الذي ينظر إلى شيءٍ ما فإن الشيء من حيث هو موجود هو عين الصورة القلبية التي تكونت لدى الإنسان، أما الكينونة فهي حقيقة الشيء غير المقيدة بإدراك محدود، فلا شك مثلا أن لكوكب أورانوس كينونة سواء أوجده الإنسان أم لا، فمفهوم الكينونة لا يكافئ مفهوم الموجود (أو الوجود حسب الاصطلاح الشائع فالمصدر يطلق أحيانا على المفعول به أو علي مجال الفعل كما يطلق العلم ويراد به المعلومات)، والحق سبحانه هو الكائن الأوحد الذي تتساوى عنده كينونة الشيء بوجوده فهو يجد الشيء كما هو عليه أي كما يكون عليه، أما بالنسبة إلي الإنسان فإن وجود الشيء الخارجي ليس بالأمر الثابت المحايد إذ لابد من جانب ذاتي، فوجود الشيء الخارجي مكافئ عنده لما لديه عنه، وهو ليس لديه إلا الصورة القلبية والتي هي أمر نسبي مقيد، ذلك لأنها ملونة بحالة الإنسان كإنسان وكذلك بحالته الفيزيولوجية والسيكولوجية الخاصة، وهي كذلك ملونة بما يؤمن به من قيم ومعتقدات وبما لديه من أحكام مسبقة ومعلومات.
*****
والعدم لازم لتفصيل مراتب الوجود، فالوجود المطلق يتضمن كل كمال متحقق وغير متحقق وكذلك كل ما هو ممكن من حقائق وماهيات، والنقص اللازم لتفصيل كل مرتبة وقصور الكيانات عن احتواء كل الكمال أو تمثيله هو عين العدم؛ فالعدم لازم لتفصيل مراتب الوجود وما انطوي عليه من الكمالات.

**********



الأربعاء، 25 فبراير 2015

المخيــلة

المخيــلة


المخيلة هي ملكة قلبية بها يتصور الإنسان عالم الأمر وما يتضمنه من المعاني وغيرها وكذلك عالم اللطائف وعالم الخيال أو البرزخ، وبه يركب أيضا مما لديه من الصور ما يناسب المعني أو الكيان اللطيف، وبه أيضاً يضفى مما لديه من المعاني على المباني، وبه يلتقط مما تركه السابقون من الصور والافكار والتصورات والمفاهيم والعقائد ما هو متوافق معه، وبتلك الملكة أيضا يبث الإنسان ما لديه من نتاج ملكاته في عالم الخيال ليلتقطها من هو متوافق معه، وبالمخيلة يستطيع الإنسان التقاط بعض الغيوب النسبية، ذلك لأنه ما من أمر قُدِّر أو كُوِّن إلا ولا بد له من صورة في عالم الخيال يلتقطها من تزكَّت لديه تلك الملكة ومن كان متوافقاً معها.
فالمخيلة هي الملكة التي تستحضر الصور (أي الهيئات المؤلفة من المعاني أو المواد أو المفردات المرتبطة مع بعضها البعض برباط ما)، وهي التي تشكل صورا للكائنات غير المدركة وللمعاني والأمور اللطيفة مما لدى الإنسان من صور مختزنه في الحافظة، وهي أيضا التي تضفي أشياء غير حقيقية على الأمر المدرك فتجسمه أو تقلل من شأنه أو تصبغه بصبغة من لدنها أو تضفي صفة على كائن ما أو تفترض ما لا وجود له.
-------
إن لدى الإنسان ملكة قلبية خلاقة مبدعة هي المخيلة، بهذه الملكة يولد أفكارا وصورا ومفاهيم وتصورات قد تسعده وقد تشقيه، ويخفف من آثار إحساسه بذلك وجوده المادي الكثيف، ويعتمد ذلك على مرتبته وهيئته النفسية وما لديه من عقائد وعلوم ومنظومة قيم، فإذا ما تحرر الإنسان من جسده صارت تلك الملكة بما اكتسبته وبرمجت عليه نتيجة لآثار أعماله وطريقة استعمالها (أي الملكة) له أو عليه، فإن كانت أعماله سيئة ولم يكن يستعمل مخيلته إلا في الشر فكلما عُذِّب تخيل عذابا أكبر فيتحقق بالنسبة إليه فيكون تعذيبه لنفسه بنفسه، بالإضافة إلي أن ما كان يتخيله سيكون من آلات تعذيبه.
والمخيلة من الملكات الخاصة بالإنسان والمميزة له، وهي مرتبطة بعالم الخيال؛ فهو مجالها الذي يتضمن لوازمها من العناصر والمكونات.
-------
إن المخيلة الإنسانية في الحقيقة مقيدة، والملكات الذهنية أوسع منها من حيث المدى والإحاطة والنفوذ، ذلك لأن مادة الخيال هي هذا العالم المحسوس، فمنه يستمد الإنسان الصور والتصورات، ولذا فإن الإنسان قادر على تصور ما يسمح به عالم ثلاثي الأبعاد خاضع لقواعد الهندسة الإقليدية ولكنه لا يمكن أن يتصور أو يتخيل عالما إقليديا ذا أبعاد أكثر من ذلك (مثل الكرة في عالم خماسي الأبعاد مثلا) ولا عالما غير إقليدى  (Non-Euclidean Space)، وإن كان يمكنه التعامل مع هذا العالم من حيث الملكات الذهنية وباستخدام القواعد والمفاهيم الرياضية، ولكن يمكن للمخيلة الإنسانية إذا ما تزكت أن تختصر للإنسان كثيرا من الطريق نحو التحقق بكماله المنشود.
-------
إن للمخيلة الإنسانية شأناً هائلاً في عالم البرزخ، فعندما تكف النفس عن الانشغال بجسدها وتتجه صوب هذا العالم تكون الغلبة عادة للمخيلة، فمن كانت هذه الملكة لديه أشد يقظة سيكون هناك أشد إدراكا لتجليات وتفاصيل هذا العالم، ويقظة المخيلة أو نموها في الحياة الدنيا يعتمد على طبيعة الشخص، وهي في النساء والأطفال أقوى منها لدى الرجال، ولإيقاظ هذه الملكة وتنميتها أساليب معروفة لدى شتى الطوائف، وأشد الناس تزكية لها الصوفية واليوجية، وبتيقظها يصبح الإنسان أشد إدراكاً للعالم الخيالي البرزخي، ولكن هذا التيقظ سلاح ذو حدين، وهو لا يعني أبداً ارتفاع الدرجة على المستوى الجوهري.
*******
إن المخيلة هي من أوسع الملكات القلبية من حيث القدرة على تجسيد المعنى وتلطيف المبنى، وبها يتصور الإنسان عالم المعاني وعالم اللطائف والعالم الأمري بصفة عامة، وبها يمكن أن يشكل صورة لكل إحساس يمكن أن يعتوره، وبها يركب القلب من الصور ما يشاء، وبها يمكن أن يلتقط القلب ما شاء مما تركه السابقون من صور وأفكار وتصورات ومفاهيم وعقائد إذ هي سابحة في عالمها محفوظة فيه يلتقطها من ضبط مخيلته معها.
فبالمخيلة يمكن أن يتصور الإنسان ما لا صورة له، وما إن يفعل حتى تُبث صورته تلك في عالم الخيال أي العالم البرزخي، فيلتقطها من توافقت معها مخيلته، وبالمخيلة المتيقظة قد يلتقط الإنسان بعض الغيوب الكونية، فلا بد لكل أمر قُدر أو تعين من صور واحتمالات له سابقة عليه.
وكل من عقد العزم على صحة عقيدة ما سيستقبل من عالم الخيال ما يؤكدها من الصور التي كونها وبثها أسلافه، وسترفض مخيلته كل ما تعارض معها.

*******


الاثنين، 23 فبراير 2015

الركن 13 من أركان الدين، الإنفاق في سبيل الله تعالى، أ. د. حسني المتعافي

الركن الثالث عشر


الإنفاق في سبيل الله تعالى

إن الإنفاق في سبيل الله تعالى هو ركن ديني مستقل، فهو غير إيتاء الزكاة، فمن البديهيات المعلومة أن اختلاف المبنى يدل على اختلاف المعنى، والآيات القرءانية التي تتضمن أمراً بالإنفاق وحثَّاً عليه بشتى الأساليب والسبل هي أكثر بكثير من الآيات التي تأمر بأركان أخرى عديدة مثل الصيام وحج البيت مثلا، إن هذا الركن الكبير ليس هو إيتاء الزكاة كما قرر المحرفون والمنافقون لمصلحة الطغاة، فركن الإنفاق في سبيل الله هو كركن كذكر الله؛ أي هو منوط بكل فرد على حدة وغير محدد بنسبة معينة، والإنفاق يكون من كل ما يمكن أن يقوَّم بالمال، فهو يشمل كل الموارد والصور الممكنة للثروة بما فيها العلم والخبرة مثلا كما يشمل كل عمل أو مجهود عضلي أو ذهني، وكذلك الوقت وهو من أثمن ما يملكه الإنسان، ويقابله من كبائر الإثم الإمساك عن الإنفاق والإنفاق في غير سبيل الله وكنز المال وإقراض الناس بالربا والإسراف وتبديد المال وإهداره وسوء استعماله وشتى صور التبذير والفساد والإفساد، فيجب على الإنسان ألا يعرقل دورة رأس المال، وعندما ينفق أي مال فليجعل مقصده ابتغاء وجه الله تعالى.
أما المصطلح (في سبيل الله) فهو يعنى ويتضمن كل ما يمكن أن يؤدى إلى تحقيق مقاصد الدين العظمى مثل زيادة علم الناس بربهم والدعوة إلى الإسلام وإعداد الإنسان الرباني الفائق وإعداد الأمة الخيرة القوية الفائقــة، وللأهمية الكبيرة لهذا الركن اعتبر الله تعالي من ينفق في سبيله بمثابة من يقرضه قرضاً حسنا وكفى بذلك للمنفق فضلاً وشرفا.
والأمر المشدد بالإنفاق في سبيل الله تعالى يتضمن جعل الإنفاق في غير سبيله من كبائر الإثم، فكل صور الإنفاق لاستعراض الثروة أو للتفاخر أو على سبيل التبذير أو للإفساد في الأرض أو لإلحاق الضرر بالنفس أو للترف هي من كبائر الإثم، لذلك فمن صور الإنفاق في غير سبيل الله تعالى الإنفاق على التدخين وتعاطي المخدرات أو على ما لا فائدة شرعية منه وعلى صور الترف الدنيوي المتعددة والقابلة للتطور.  
والمقصود بالإنفاق هو الإنفاق المحض الذي يقابله الإمساك أو كنز المال، والمقصود من هذا الركن أن ينوي الإنسان دائما عندما ينفق مالا أن يكون ذلك في سبيل الله تعالى أي محققا لغرض شرعي صحيح، فالذي ينفق مثلا مالا ليعلِّم أبناءه أو للوفاء بأية حاجة من حاجاته الشرعية هو ينفق بالفعل في سبيل الله، ومن يشتري طعاما مثلا يجب أن يكون مقصده في نفسه بناء جسمه وجسم من يعول فالمؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف، ومجال القوة رحب واسع، ومن يقصد بفعله ذلك يكون إنفاقه في سبيل الله، والمطلوب من المسلم أن يكون على علم بذلك وأن يكون ذلك حاضرا في ذهنه عند الإنفاق.
------------
إن الأمر بالإنفاق في سبيل الله يختلف عن الأمر بإيتاء الزكاة، ذلك لأن اختلاف المبنى يؤدي عادة إلى اختلاف المعني، ومما يبين أن الإنفاق ركن آخر غير إيتاء الزكاة اختلاف مفهوم كل منهما عن الآخر واختلاف المصارف الشرعية وذكرهما معاً في بعض الآيات القرءانية.
وهذا الركن كسائر الأركان هو من مقتضيات الإيمان بأسماء الله الحسني وإبداء الاستجابة المناسبة لها، وهو التجسيد العملي لحقيقة أن الله هو المالك الحقيقي أما الإنسان فهو مستخلف فيما لديه من مال وغيره، ومن الأمانة أن يحسن التصرف في هذا المال بأن يلتزم بتعليمات وأوامر المالك الحقيقي، وتلك هي العبادة التي أُمر الإنسان بها، فالعبد ملزم بطاعة أوامر ربه.
------------
والإنفاق في سبيل الله هو من لوازم الأركان الملزمة لكل كيان إنساني أكبر من الفرد مثل الأمة، وهو –بالنسبة للأمة- من لوازم ركن اتخاذ كل ما يلزم من أعمال وإجراءات لدعم بنيان الأمة وتقويته وتزكيته وركن التعامل مع الكيانات الإنسانية المكونة للأمة طبقاً للأوامر الشرعية والقيم الإسلامية، ومن صور الإنفاق الحديثة استثمار الأموال الاستثمار الأمثل لتوفير فرص العمل للناس ولزيادة موارد الأمة.
والإنفاق في سبيل الله هو أمر ديني قرءاني ملزم، وهو أقوى من الأوامر الخاصة بالصيام أو الحج مثلا، فهو عبادة مستقلة، وهو غير إيتاء الزكاة، وهو يتضمن الاستغلال الأمثل للمال لتحقيق مقاصد الدين، ويقابله من كبائر الإثم إقراض الناس بالربا وإمساك المال وكنزه والإسراف وتبديد المال وإهداره وسوء استعماله ومن سوء الاستعمال إغداقه علي المتسكعين المتبطلين والشعراء المداحين المنافقين والفاسقين وأعداء الدين أو على التدخين ووسائل اللهو المبددة للوقت، ومن سوء الاستعمال الحديث إنفاق الأموال على الراقصات وعلب الليل....الخ، ومن صور إهدار الموارد الحديثة قتل وتبديد الوقت في متابعة المباريات الرياضية والأفلام الإباحية والبرامج التافهة أو في الجلوس على المقاهي للثرثرة واللغو.
وركن الإنفاق هو كركن ذكر الله تعالى منوط بكل فرد على حدة وغير محدد بنسبة معينة، وهو يختلف عن الزكاة في أنه لا يوجد له سقف أعلى، فهو مفوض إلى إمكانات كل فرد.
والإنفاق في سبيل الله لا يعني بالضرورة نقل ملكية المال من المنفق إلى المنفق عليه، فالمقصد هو ألا يكنز المال وألا يعمل على عرقلة دورته، فمن أنشأ مصنعاً لإنتاج شيء مما هو لازم للأمة على نية أن يجعل إنفاقه عليه في سبيل الله تعالى ورأى أن من الأفضل أن يديره هو وأن تظل ملكيته باسمه فقد قام بهذا الركن، كما أن حسن إدارة المال لتحقيق مقاصد الدين هي من الإنفاق في سبيل الله، فكل إنفاق لتحقيق مقصد شرعي هو إنفاق في سبيل الله، فمن أنفق المال الوفير ليتخير لنفسه ولمن يعول أفضل الطعام اللازم لنموهم وسلامتهم فإنما هو ينفق في سبيل الله، أما من ينفق من ماله ليحظى بمتعة غير مشروعة أو لمحض اللهو فهو ينفق في سبيل الشيطان، ومن البديهي أن إنفاق المال للتدخين مثلا لا يمكن أن يكون إنفاقاً في سبيل الله.
------------
الإنفاق في سبيل الله تعالى هو الإنفاق لتحقيق أي مقصد من مقاصد الدين، ومجالات هذا الإنفاق تتسع باطراد التقدم، فالإنفاق في سبيل الله يشمل الآن مثلاً تمويل الأبحاث العلمية ومؤسسات البحث العلمي والمستشفيات والمدارس ذات التخصصات المختلفة ودعم ورعاية الأسرة وتمويل المؤسسات الثقافية الجادة والتي تعمل على نشر الثقافة الرفيعة، والادخار الواعي لصالح الأمة من وسائل تحقيق هذا الركن.
-------
إن الأصل هو ألا يُكنَز المال وألا يُتجر به وألا يقرض للناس بالربا ولكن أن يُنفَق في سبيل الله ولا خيار للإنسان في هذا الأمر، فالإنفاق في سبيل الله ركن ديني ملزم، والإنفاق على الأسرة هو من الإنفاق في سبيل الله، أما إنفاق المال للحصول على الملذات المحرمة فهو إنفاق في سبيل الشيطان، وركن الإنفاق في سبيل الله يلزم الإنسان بألا يهدر ماله وبألا يبذر تبذيرا وبألا يهدر قواه ومواده عبثا.
------------
إن ركن الإنفاق في سبيل الله تعالى كان من أول ما تم وأده من أركان الدين وأوامره الكبرى، ولقد بدأت بوادر ذلك عندما بدأت سيطرة الأمويين المولعين بالمال والسلطة على مقدرات الأمة، والذي نظَّر لهم ذلك هم المنافقون.
------------
إن الآيات الآتية تبين أهمية ركن الإنفاق في سبيل الله:
{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }البقرة3  *  {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }البقرة177  *  {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }البقرة195  *  {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ }البقرة215  *  {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ }البقرة219  *  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ }البقرة254  *  {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }البقرة261 *  {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }البقرة262  *  {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }البقرة265  *  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }البقرة267  *  {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ }البقرة272  *  {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ }البقرة273  *  {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}البقرة274  *  {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ}آل عمران92  *  {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }آل عمران134  *  {وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنْ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا(38)} (النساء)، {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللّهُ وَكَانَ اللّهُ بِهِم عَلِيماً }النساء39  *  {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }الأنفال3  *  {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ }الأنفال60  *  {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }التوبة34  *  {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ}الرعد22  *  {قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ}إبراهيم31  *  {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }الحج35  *  {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً }الفرقان67  *  {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }القصص54  *  {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }السجدة16  *  {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ }فاطر29  *  {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}الشورى38  *  {هَا أَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ }محمد38  *  {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ }الحديد7  *  {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }الحديد10  *  {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ }المنافقون10  *  {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}التغابن16  *  {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }النور33  *  {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً}النساء8.

والآيات المذكورة تبين تماماً أن الإنفاق في سبيل الله هو ركن آخر غير ركن إيتاء الزكاة، وإنفاق المال في سبيل الله يتضمن إنفاقه بنية نفع المسلمين وتحقيق مقاصد الدين، فهذا الإنفاق هو ركن أساسي ركين من أركان الدين وهو أمر آخر غير ايتاء الزكاة، وما يناقض هذا الركن هو كنز المال والامتناع عن إنفاقه وكذلك استغلال حاجة الناس لمضاعفة رأس المال أي الربا، وهذا الركن مقدم على إيتاء الزكاة من حيث أنه أعم منه ولإطلاقه، وهو يهدف إلى انتفاع القدر الأعظم من الناس بالمال بمعنى دورانه بين أكبر عدد منهم وعموم نفعه عليهم، ويلاحظ أن هذا الركن كان من أوائل أركان الدين التي قضى عليها الأمويون ومن آزرهم من أهل الكتاب والمنافقين، ولقد حاول الصديق أبو ذر الغفاري التصدي لهم فخذلته الأمة فدارت الدوائر من بعد عليها، وصار مالها من وقتها غنيمة باردة للمتسلطين عليها ولأكابر مجرميها؛ يسرقونه من الناس ثم يكيلون لهم الضربات على خدودهم اليمنى واليسرى وعلى أقفيتهم، ولقد دأب رجال الكهنوت والمنافقون وأهل اللاسنة والتشرذم والفرقة علي التطاول علي هذا الإمام الصديق وعلي التهوين من شأن ما تعرض له علي أيدي الملأ من بني أمية ومن شايعهم، وعلي كل مؤمن صادق أن ينصف هذا الإمام الذي كان من خيرة السابقين الأولين والذي صدق ما عاهد الله عليه ولم يبدل تبديلا وكان من طلائع من تصدوا للمرتدين علي أعقابهم والمتهالكين علي حطام الدنيا.
------------
سيقول بعضهم إنه لا يمكن اعتبار الإنفاق ركنا لأن المسلم مخير فيه ولا يوجد حدود معينة له، فالجواب هو أن القرءان يتضمن آيات عديدة تأمر بالإنفاق؛ فأي إلزام يلزم بعد ذلك، ألا يكفي أن تكون الأوامر بالإنفاق أكثر وأشد تأكيدا من الأوامر بالصيام والحج؟ والأصل في كل الأوامر والأعمال الدينية أن الإنسان مخير فيها، أما الذي يجعل العمل ركنا من أركان الدين أو أمرا واجبا فهو وروده في الكتاب بأسلوب أمري واضح ظاهر أو مقترناً بما يعلم الناس كافة أنه ركن ديني كإقامة الصلاة مثلا، فالقرءان في النظم يوجب القرءان في الحكم، ولكن الإنسان الذي ارتضي الإيمان ملزم بأن يقوم بمقتضياته من الأركان، فالمؤمن ملزم بالإنفاق في سبيل الله تعالي كما هو ملزم بإقامة الصلاة وصيام رمضان، ولم يبق له من خيرة فيما يتعلق بأمر الإنفاق إلا في القدر الواجب إنفاقه، أما بالنسبة إلي إيتاء الزكاة فالمؤمن ملزم بإيتاء ما حدده أولو الأمر، ولقد ورد الأمر بالإنفاق في أوامر لها نفس قوة ومرتبة الأمر بإقامة الصلاة وقدم ذكره علي الأمر بإيتاء الزكاة، ولولا أن السلف قد عقدوا العزم علي هجران القرءان وتقديم المرويات الظنية عليه لرأوا تلك الحقيقة البينة الواضحة.
ومن عرف طبيعة الإنفاق كما بيَّناه هاهنا سيجد أنه ركن ملزم لكل من امتلك شيئاً من الموارد، فهو ملزم بألا ينفقها إلا في سبيل الله تعالى، ذلك لأنها من نعم الله تعالى التي لا يجوز أن تستعمل فيما لا يحب ويرضى.
-------
ومن الآيات التي تبين بكل جلاء أن الإنفاق في سبيل الله هو ركن مستقل عن ركن إيتاء الزكاة:
{الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}البقرة274 ، {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ }فاطر29، {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }البقرة177، {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }البقرة195، {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }آل عمران134، {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}التوبة34، {هَا أَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ }محمد38
فإيتاء الزكاة يجب أن يؤدى علانية لأولي الأمر في حالة وجود الأمة القائمة بأمور نفسها، وهو محدد تحديدا تاما، أما الإنفاق في سبيل الله فهو عبادة يؤديها الناس لربه سرا أو جهرا مثلها مثل ركن ذكر الله، وليس له حد أقصى، فهو مفوض إلى استطاعة المسلم ودرجة صلاحه وتقواه ورغبته فيما هو عند الله.
*******
إنه لأهمية الإنفاق في سبيل الله فلقد اعتبرت الآيات من ينفق في سبيل الله كمن يقرضه قرضاً حسناً وكفي بذلك شرفاً، قال تعالى:
{مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}البقرة245  *  {مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ }الحديد11  *  {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ }الحديد18  *  {إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ}التغابن17  *  {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }المزمل20.
ومن كبائر الإثم المضادة لهذا الركن الامتناع عن الإنفاق في سبيل الله تعالى، ولذلك اعتُبِر مرادفا لإلقاء الناس أنفسهم بأيديهم في التهلكة، قال تعالى: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} البقرة195، والآية تحث الإنسان أيضا على الإحسان، ومن هذا الإحسان الإحسان في الإنفاق.
------------
إن إنفاق المال بمعنى الامتناع عن كنزه وإمساكه هو من أهم أركان الإسلام، وهو كالشورى من الأركان التي تم وأدها مبكرا على يد معاوية زعيم الفئة الباغية وأمثاله من المـلأ وتم نفيه مع أبى ذر إلى الربذة ولم يبق منه إلا آثار واهنة من الإحسان الذي قد يكون مصحوبا بالمنّ، والإنفاق يعنى المساعدة على تدوير الأموال وتكاثر وازدهار المعاملات المالية والاقتصادية مما يؤدى إلى الرواج وازدهار الحياة البشرية، والتهلكة وعذاب الآخرة هي الأمور المترتبة على إمساك المال وكنزه.
أما تسهيل المعاملات المالية وتأمينها وسن ما يلزم لذلك من قوانين وإشاعة ما يلزم من قيم فكل ذلك هو مسؤولية الأمة جمعاء لأن مصلحة الأمة في ذلك تفوق مصلحة الفرد وهى التي توفر له السبل اللازمة لاستثمار أمواله.
------------
إن الإنفاق في سبيل الله وإيتاء الزكاة هما ركنان مستقلان من أركان الدين ولا يجوز الخلط بينهما ولا الاكتفاء بواحد عن الآخر ولتعريف كل ركن منهما يجب أولا تعريف المال، فالمال هو كل ما يمكن أن يقوَّم الآن بالنقود المعلومة أي هو كل ما له ثمن مادي، أما المصطلح (في سبيل الله) فهو المصرف الرئيس للزكاة ولإنفاق المال، وهو يعني أن يكون ما يقدمه الإنسان مما يقبل التقويم بالنقود من عمل أو كيانات مادية خالصا لوجه الله تعالى وابتغاء مرضاته أي في سبيل إعلاء كلمته وتحقيق المقاصد الدينية العظمى بإعزاز الدين وإعداد الإنسان الصالح وتقوية ودعم وإعداد الأمة الخيرة الفائقة، أما كل المصارف الأخرى فهي من تمثلات ولوازم وتفاصيل هذا المصرف الرئيس، فمن أنفق ماله لبناء مصحة أو مدرسة مثلا يقدمان العلاج أو التعليم المجاني للناس فإن ما فعله هو للفقراء والمساكين وابن السبيل والغارمين … أي سيعود نفعه على الأمة جمعاء وأولها هؤلاء.
------------
إن الإنفاق في سبيل الله تعالى ركن أساسي من أركان الدين ويقابله كنز المال، أما الإمساك عن الإنفاق فهو بمثابة إلقاء الأفراد والأمة بأنفسهم إلى التهلكة، فالإمساك يقوى في نفس الإنسان صفات الشح والبخل والهلع والجزع والنفور من الآخرين والخوف منهم وغيرها من الصفات الماحقة القاتلة شديدة الخطورة على الكيان الجوهري، أما فيما يتعلق بكيان الأمة فلقد جعل المال وسيلة لإدارة عجلة الاقتصاد ولينتفع به القدر الأعظم من الناس، ومن يكنزه إنما يحاول إيقاف تلك العجلة، وهو بذلك يقضى على نفسه قبل أن يقضى على غيره، فهو يحطم كيانه الجوهري باستعباده للأشياء وجعل نفسه بذلك أدنى مرتبة منها، فالأمة التي يحرص أفرادها علي كنز المال وإمساكه تضعف بنيانها وتسد شرايين حياتها فتقضي علي نفسها بنفسها، هذا بالإضافة إلى إشاعة أجواء من الحقد والغل والبغضاء بين أبناء الأمة.
ولقد كان كنز المال ثم نهب المال العام من أوائل الخطايا التي ابتليت بها الأمة والتي سبقت القضاء على الخلافة الحقيقية وعبَّدت السبل اللازمة لذلك، وكان من أوائل من تنبه لذلك وحاول التصدي له الصحابي الجليل والصديق النبيل أبو ذر الغفاري والذي دأب المنقلبون على أعقابهم والمفسدون في الأرض والفئة الباغية ومن شايعهم من المغضوب عليهم على النيل منه على مدى العصور، ذلك رغم أن مذهبهم يلزمهم بالإقرار بعدالته التي زعموها للطلقاء والمنافقين وأهل البغي، ولم يكتفوا بذلك بل كفَّروا كل من حاول التصدي لإفكهم وهرائهم وضلالهم المبين.
------------
إن امتلاك المال هو وظيفة منوطة بالفرد أو الكيان الإنساني بصفة عامة، وتلك الوظيفة محكومة بضوابط شرعية، فهي ليست بوسيلة للتفاخر والتكبر على الناس أو تجاوز الحدود أو الترف أو التعدي علي القوانين والنظم أو التبذير أو الإنفاق السفيه أو الإفساد في الأرض أو إذلال الناس أو استغلال حاجتهم أو استعبادهم، ولقد اعتبر الربا ظلما عظيما وحرِّم لذلك، وإنما استخلف الله تعالى الإنسان في المال لينفقه في سبيله، وهذا يعني أن يجعل كل إنفاق للمال لتحقيق غرض شرعي؛ أي لتحقيق مقاصد الدين.
فالمال هو بالأصالة مال الله تعالى، قال تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ }الحديد7، {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }النور33.
وكون المال مال الله تعالى يجعل من أي اعتداء على الناس في هذا الأمر من كبائر الإثم، فلا يجوز للمتسلط أن ينهب أموال الناس متعللا بكون المال مال الله مثلما كان يفعل معاوية إمام أهل البغي والداعين إلى النار، بل إن من ينهب أموال الناس بمثل هذا التأويل يكون قد اعتدى على حقوق الله تعالى وحقوق عباده وفسَّر آيات القرءان بالهوى.
------------
وركن الإنفاق في سبيل الله هو ركن مفتوح يتسع ويتطور مع ظروف العصر والمصر، ولا يوجد له حدّ أعلى، فهو مفوض إلى مدى رقي الإنسان ومدى تحليه بالتقوى، وهو بذلك يختلف عن ركن إيتاء الزكاة والذي هو أشبه بالنظام الضريبي الحديث.
والإنفاق هو من كل ما يمكن أن يقوم بمال، ومن ذلك الوقت والجهد.
*******
لقد سنَّ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ صدقة الفطر، وقد أوضح المقصد منها وهو إغناء الفقراء عن ذل السؤال في يوم الفطر، فهي من لوازم إعمال ركن الإنفاق في سبيل الله، وهي ليست من ركن إيتاء الزكاة لأن إعطاء صدقة الفطر هو عمل فردى وليس منوطا بالسلطة التنفيذية للأمة.
أما صياغة المذهب السلفي اللاسني فتتمسك حرفيا بما أوردته المرويات الظنية فيتحول بذلك أداء تلك الصدقة إلى طقوس يسودها التلاعب والنفاق والشكلية، أما السنة الحقيقية فتقصد إلي التوسعة على الفقراء بحيث لا يضطرون إلى سؤال الناس في يوم فرح وعيد، والدين لم ينزل ليحمل الناس علي اكتساب الأخلاقيات البغيضة من نفاق وتلاعب ولجوء إلي الحيل وإنما ليطهرهم وليزكيهم، فعلى أولى الأمر في كل عصر ومصر أن يبينوا للناس ما يمكنهم القيام به لتحقيق هذا المقصد، ومن ذلك مثلاً أن تكون فترة أدائها شاملة لكل شهر رمضان لارتباطها أساسا به ويلزم الآن دفع قيمة نقدية ملائمة يحددها أولو الأمر ويمكنهم الاستئناس فى تقديرها بما كان يحدث في القرن الإسلامي الأول، ولكن ليس بالطريقة التي تتم الآن من حساب ثمن ما كان يؤدى وذلك لاختلاف مستوى المعيشة تماما، ومن الأفضل تأسيس هيئة مدنية من أولي الأمر تتولي أمر تلك الصدقة، وهم يكونون بالطبع ممن جمع كل ما يلزم من العلوم الاقتصادية وأحوال العصر والمصر والعلم بدين الحق للبت في كل ما يتلق بذلك الأمر.
------------
إن الإنفاق في سبيل الله من الأركان المفتوحة غير المحدودة، كما أن مجالها قابل للاتساع بمضي الزمن وتطور البشرية، وفي وجود الأمة الخيرة وامتلاكها لمقدراتها يجب أن ينفق كل مسلم جزءا معتبراً من ماله في سبيل الله، بل يمكنه إذا ما صلحت نيته أن يجعل كل إنفاقه في سبيل الله، أما في حالة عدم وجودها فالمجتمع الإسلامي مسؤول عن إعداد هيئة من هيئات المجتمع المدني أو هيئة أهلية لضمان الوفاء بهذا الركن، فإن لم يتيسر فكل إنسان علي نفسه بصيرة، ولقد كان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ ينفق ماله كله في سبيل الله عزَّ وجلَّ، وفي الوفاء بهذا الركن كان يتنافس السابقون الأولون.
والأمة الإسلامية ملزمة بمساعدة البشر الآخرين في كافة المجالات الثقافية والاقتصادية، وهي أولى من غيرها بالقيام بذلك، وبالطبع فإنه يأثم إثما شديدا مهلكا من ينفق مال المسلمين لدعم أعداء الإسلام والمسلمين مهما رفع من شعارات إسلامية.
وفي الحقيقة إن الدول الغربية هي من أحدث وسائل للإنفاق متسقة تماماً مع هذا الركن، ومؤسسات العون والإغاثة والمساعدات والمعونات والتدريب والدعم الفني التي أحدثتها وأسستها هذه الدول هي في الحقيقة تفعيل لهذا الركن، فهم أول من يبادر إلى مساعدة الشعوب التي ضربتها الكوارث دون منّ أو تلكؤ أو انتظار! وهذا بالطبع لا يتضمن تبريئا لهم من الجرائم التي اقترفوها في حق الإنسانية!
وبالمقارنة بما يُسمى بالخلافات الإسلامية فلم يعرف المحسوبون على الإسلام طريقة للتعامل مع الآخرين إلا الاعتداء والقهر وسفك الدماء وسبي النساء واستعباد الذراري، ولم يستطع أي خليفة بالطبع أن يدرك أن له إخوة في الإنسانية هم نظائر له في الخلق، والاستثناء الوحيد الذي أنقذ شرف الأمة كان الإمام علي عندما قال لواليه المرسل إلى مصر: واعلم أن الناس إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، ولو عملوا بها لتغير مجرى التاريخ.
------------
والإنفاق في سبيل الله وإيتاء الزكاة هما ركنان مستقلان من أركان الدين ولا يجوز الخلط بينهما ولا الاكتفاء بواحد عن الآخر ولتعريف كل ركن منهما يجب أولا تعريف المال، فالمال هو كل ما يمكن أن يقوَّم الآن بالنقود المعلومة أي هو كل ما له ثمن مادي، أما المصطلح (في سبيل الله) فهو المصرف الرئيس للزكاة ولإنفاق المال، وهو يعني أن يكون ما يقدمه الإنسان مما يقبل التقويم بالنقود من عمل أو كيانات مادية خالصا لوجه الله تعالى وابتغاء مرضاته أي في سبيل إعلاء كلمته وتحقيق المقاصد الدينية العظمى بإعزاز الدين وإعداد الإنسان الرباني وتقوية ودعم وإعداد الأمة الخيرة الفائقة، أما كل المصارف الأخرى فهي من تمثلات ولوازم وتفاصيل هذا المصرف الرئيس، فمن أنفق ماله لبناء مصحة أو مدرسة مثلا يقدمان العلاج أو التعليم المجاني للناس فإن ما فعله هو للفقراء والمساكين وابن السبيل والغارمين … أي سيعود نفعه على الأمة جمعاء وأولها هؤلاء.
وعندما نقول إن الإنفاق في سبيل الله وإيتاء الزكاة هما ركنان مستقلان من أركان الدين ولا يجوز الخلط بينهما ولا الاكتفاء بواحد منهما عن الآخر ونثبت ذلك بآيات القرءان وطبيعة اللسان العربي فإننا بذلك لا نقول بمجرد رأي اجتهادي قابل للجدل إلى ما لا نهاية وإنما نبيِّن حقيقة من حقائق دين الحق التي قام السلف الطالح (معاوية وكعب الحبار والأمويون ومن اتبع سنتهم وضل بضلالهم) بوأدها، ومن وصله هذا البيان يكون ملزما بالعمل به بقدر استطاعته.
وركن الإنفاق في سبيل الله ملزم أيضاً لكل كيان إنساني أكبر من الفرد، ومن الممكن باستمرار ظهور كيانات جديدة، ولا حد لإمكانية تنوع وتطور تلك الكيانات، والإنفاق في سبيل الله ملزم لكل أمة الإسلامية، فكل أمة غنية ملزمة وفقاً للاصطلاح الحديث بمساعدة الكيانات الفقيرة اقتصادياً وثقافياً دون منّ أو أذى، ودون محاولة حملها على تغيير مذهبها.
------------
لقد جعل الإسلام من أركانه الإنفاق في سبيل الله وهو أمر مطلق لا حد لإمكان تنوعه كما وكيفا، وتنويها بعظمة قدر هذا الركن جعل الله تعالي من ينفق في سبيله كمن يقرضه قرضا حسنا وكفي بذلك شرفا، فالمنفق في سبيل الله إنما يعبده بإمكانات وملكات من أحسن إليهم وتسبب في إحيائهم وكشف الضر عنهم، وهو بالإنفاق سيتذوق لذة العطاء وإسعاد الآخرين وستتطهر نفسه من الشح وتتزكي، وبإنفاق المال في سبيل الله وبالامتناع عن كنزه ستدور عجلة الإنتاج وسيتم معالجة كثير من المشاكل الاجتماعية وسيسود السلام الاجتماعي وسيزداد بنيان الأمة قوة وتماسكا وسيعود نفع كل ذلك علي المنفق، فهذا الركن يؤدي إلى إيجاد حلقة تغذية موجبة يزداد بها تحقق مقاصد الدين قوة ورسوخا.
وفي حالة وجود الأمة ككيان حقيقي فإنه لا يجوز كنز المال أو الإمساك عن الإنفاق في سبيل الله عزَّ وجلَّ بل إن ذلك يصبح من كبائر الإثم، أما عند عدم تحقق ذلك فعلي كل مسلم أن يتدبر أمره وألا يضيع من يعول.
------------
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ{34} يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ{35}} التوبة، إن الآيات بذلك تنصّ على أن كنز المال من كبائر الإثم التي توجب لمقترفها التقلب في نار جهنم وتذوق ألوان شتى من العذاب، ذلك حكم الله تعالى في أمر الزائد عن الحاجة الشرعية من المال: ألا يُكنز بل ينفق في سبيل الله تعالى، فهل هذا هو ما يلتزم به المتاجرون بدين الله؟ وهل لديهم أدنى استعداد للالتزام بحكم الله تعالى؟ هذا مع العلم بأن الله تعالى قد قضى بأن من لم يحكم بما أنزل هو كافر ظالم فاسق.
وما هو حكم من ينفق مال المسلمين في سبيل الشيطان؟ وما هو حكم من ينفقه لدعم اقتصاديات أعداء الإسلام والمسلمين؟ وما هو حكم المشايخ الذين يبررون لهم سلوكهم ويصدرون الفتاوى التي تؤدي إلى تخريب بلاد المسلمين وسفك دمائهم وسبي نسائهم؟
والآية تعني أن أي إنفاق يجب أن يكون في سبيل الله تعالى، والامتناع المطلق عن كنز المال يجب أن يتحقق عندما يكون هناك أمة إسلامية حقيقية تدين بدين الحق وتملك أمور نفسها ولا توجد فيها أية خطورة على أموال الناس وتكفل لكل من فيها الحياة الكريمة وتوفر لهم سبل الحماية من تقلبات الظروف والأحوال.
والقيام بهذا الأمر لا يعني أن يعطي الإنسان كل ما فاض عن حاجته للآخرين، وإنما يتضمن المشاركة بالمال في المشاريع التنموية ولصالح الأمة مع احتفاظه بحق ملكيته كما يتضمن إن يصحح مقاصده عند الإنفاق، فمن جعل حياته لله رب العالمين هو ينفق بالضرورة في سبيله دون تعمُّل أو تصنُّع.
-------
وإلى المعترض على ركن الإنفاق في سبيل الله: لا تخش على أموالك الطائلة، فالحكم القرءاني القطعي الوارد هنا لا يتيح لولي الأمر مصادرة أموال الناس، ولكنه ينهاك عن كنز المال، وهذا يعني أنك ملزم ليس بالتخلي عنه ولكن بتشغيله وعدم تعطيل دورته، وأنت بالنية الحسنة يمكن أن تجعل كل إنفاقك في سبيل الله تعالى، فكما أنك ملزم بألا تأكل ما لم يذكر اسم الله تعالى عليه أنت ملزم بأن يكون كل إنفاقك في سبيل الله تعالى وليس في سبيل إشباع نزوات شيطانية أو أهواء نفسية أو لتقوية أعداء الله وكتابه ورسوله، وهذا يعني مثلا أن من ينفق أمواله لشراء السجائر والمخدرات هو مقترف لإثم من كبائر الإثم، ذلك لأنه لا يمكن أن يكون إنفاقه هذا في سبيل الله تعالى، والإثم هو ما كان مضادا لركن من أركان الدين او لمقصد من مقاصده.
إن النص القرءاني قطعي الدلالة واعلم أنك لا تملك أي شيء في هذه الدنيا وإنما أنت مستخلف فيما أعطاك الله؛ فلك فقط حق الانتفاع، ذلك هو دين الحق، ومن كبائر الإثم طبقا لهذا النص المحكم تعطيل دورة رأس المال والاتجار بالمال نفسه، وتلك آفة من آفات النظام الرأسمالي.

*******