الأربعاء، 29 أبريل 2015

مسألة القبلة

مسألة القبلة

نحن نقول إنه لا توجد في القرءان أيةُ آياتٍ منسوخة، بل توجد فيه آيات ناسخة لبعض أحكام الشرائع السابقة من حيث أن الدين عند الله واحد هو الإسلام الذي بدأ رسميا برسالة إبراهيم عليه السلام، واكتمل وخُتِم بالرسالة المحمدية؛ فهذه الرسالة تتويج لهذا الدين وبها تمَّ واكتمل.
أما الحكم المنسوخ فلا يوجد نص عليه في القرءان، وإنما هو يُدرَك من فحوى الخطاب أو بأية وسيلة أخرى، وعلى سبيل المثال كان المسلمون يصلون تجاه قبلة معينة قبل أن ينزل الحكمُ الناسخ لذلك والذي يتضمن الأمر بالتوجه شطر المسجد الحرام، فلا توجد في القرءان آيةٌ تأمرهم بالتوجه نحو القبلة القديمة، وإنما توجد في القرءان الآيات التي تأمرهم بالتوجه نحو المسجد الحرام.
أما حقيقةُ القبلة القديمة فلا تعني المسلمين الآن في شيء، وليس من الصعب استنتاج أنها كانت نفس قبلةِ أهل الكتاب؛ أي بني إسرائيل، أي هي المسجدُ الأقصى، وكان موجودا في إيلياء أو أورشليم التي سيسميها المسلمون من بعد بيتَ المقدس، فهو الهيكلُ أو المعبد أو ثاني بيت وُضِع للناس وبارك الله حوله.
ولم تكن هناك مشكلةٌ بالنسبة للمسلمين عندما كانوا في مكة، فكان يمكنهم الجمع بين القبلتين، ولكن المشكلةَ نشأت بعد الهجرة إلى المدينة والتي تقعُ شمال مكة، فلا يمكن الاتجاه شمالا وجنوبا في نفس الوقت، وهذا ما كان يحزُّ في نفوس المؤمنين، وكان تغيير القبلة أمرا مقدرا عند الله تعالى فمن البديهي أن تكون القبلةُ العالمية هي البيتُ المبارك للعالمين في مكة؛ فهو أول بيت وُضع للناس.
وبذلك يتبيَّن الأمر؛ القرءان ليست به آياتٌ منسوخة؛ فلا توجد آيةٌ تأمرهم باتخاذ المسجد الأقصى أو أي مكان آخر قبلة، وإنما توجد الآيات الآمرة بالتوجه شطر المسجد الحرام، وهي ناسخة للحكم السابق غير المنصوص عليه في آية قرءانية.
وعلى سبيل المثال توجد آيات تنص علي أمر بالتوجه شطر المسجد الحرام عند الصلاة وعلى أن القبلة القديمة قد جُعلت لمقصد معلوم ومنصوص عليه، ولا توجد في القرءان آية تأمر الناس بالصلاة إلى تلك القبلة القديمة؛ أي لا توجد آية تأمر باتخاذها قبلة، ولذلك توجد هاهنا الاحتمالات الآتية:
1-          إما أن يكون الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قد توجه إليها تأسيا بالأنبياء السابقين حيث لم يكن لديه نص في الأمر، فهو في ذلك كان متأسياً بموسى وعيسى عليهما السلام وهما من أولي العزم من الرسل، وكان الرسول  مأموراً بالاقتداء بهداهم في آيات مكية، ولما كان الهدى بالأصالة هو هدى الله فإن توجهه نحو المسجد الأقصى كان طاعة لأمر إلهي وإن لم يأت بطريقة مباشرة، والله سبحانه هو الفاعل الحقيقي في كل الأحوال وهو ينسب إلى نفسه أفعال رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما هو ثابت في القرءان بل وينسب إلى نفسه أفعال مخلوقاته من حيث أنهم آلاته وأدواته.
2-          إما أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ كان مفوضاً في الأمر فاختار ذلك والله سبحانه هو الفاعل الحقيقي في كل الأحوال وهو ينسب إلى نفسه أفعال رسوله كما سبق بيانه.
3-          إما أن الله أمره بذلك بدون إنزال آية قرءانية.
4-          إما أنه كان ثمة آية تأمر بذلك فأبدلت أو نسخت أو أنسيت فلم تعد من القرءان المحكم الثابت ولم يعد لها وجود فيه.
والاحتمال الأول هو القول الحق، ولم يُذكر غيره إلا لإقامة الحجة عليهم، وفي كل الاحتمالات المذكورة فإن الذي نُسِخ لا وجود له في القرءان الذي هو بين أيدي الناس الآن.
أما المغضوب عليهم من أهل اللاسنة فيقولون بوجود احتمال خامس ورد في أكثر ما قالوا فيه بالنسخ، وهو وجود الآيتين المنسوخة والناسخة في القرءان الذي بين أيدي الناس الآن، وهذا احتمال لا يؤمن به إلا من كانوا أضل من بهيمة الأنعام، واستناداً إلي زعم كهذا نسخوا كل آيات الدعوة إلي سبيل الله بالحكمة بما أسموه بآية السيف، إنه يجب القول بأن الأمر القرءاني قد نسخ ما كان لدى أهل الكتاب من أمر قديم بما هو خير منه، قال تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }البقرة106.
أما بخصوص موضوع القبلة فهو يؤكد كلامنا، إنه لا توجد آية قرءانية أمرت المسلمين باتخاذ المسجد الأقصى قبلة، ولكن توجد في القرءان فقط الآيات الناسخة لما كان عليه المسلمون، فكل آية لها مجال عملها.
=======
قال تعالى: {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }البقرة115
ويجب العلم بأن المسلمين لم يؤمروا في القرءان باستقبال بيت المقدس حتى يقال إن ثمة نسخا لأمر قرءاني ولكن كثيرا من السلف وقعوا أسرى في قبضة الشيطان فسوَّل لهم القول بوجود نسخ في القرءان، وتلك الآية ليست مختصة بتحديد القبلة ليقال إنها منسوخة بالأمر بالتوجه شطر المسجد الحرام، وإنما تتضمَّن الآية حقائق مطلقة غير قابلة للنسخ أبدا، ذلك لأن الحقائق لا تنسخ، فالآية تبين أن المشرق والمغرب لله تعالى، فألوهيته نافذة على الكل محيطة بالكل، وكل شيء إنما هو له، وأينما توجه المرء في عالم محسوس أو معقول فهنالك وجهه من حيث أنه هو المحيط بالكل ومن حيث أنه هو إله الكل، ذلك لأنه هو الواسع العليم، فالآية كلها من مقتضيات هذا المثنى، فهي تبين مقتضيات المثنى (الواسع العليم) وتفصِّله، فمن ذلك أن له سبحانه المشرق والمغرب وأنه أينما تولي الإنسان فثم وجهه بمعنى أن لألوهيته الإحاطة التامة بكل ما يمكن أن يتجه إليه إنسان على كافة المستويات، وتبين الآية كذلك أن لا مفر منه إلا إليه وأن من لم يأت إلى ربه بمحض إرادته من مكان قريب فسيؤتى به من مكان بعيد.
-------
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ(143) البقرة.
إن تلك الأمة قد اصطفاها الله تعالى لتكون شاهدة على سائر الأمم، وتلك الوظيفة باقية ببقاء هذا العالم يتوارثها من استعدوا وأُهِّلوا لها، أما الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو شهيد على تلك الأمة ما بقيت وهو شهيد على شهدائها يراقب مدى التزامهم وحسن أدائهم لما نيط بهم من مهام، وهذا يقتضي بقاءه البقاء الحقيقي التام الذي يكفل له الاطلاع على تلك الأمة.
أما القبلة القديمة فقد نسب إلى نفسه أنه هو الذي جعلها للناس لأنه هو الفاعل الحقيقي، ولقد جعلها كذلك لمن سبق؛ أي لبني إسرائيل، ولكنه لم يجعلها كذلك بآية قرءانية، ذلك لأن علمه سبحانه قد سبق بأن تكون قبلة المسلمين إلى يوم الدين هي المسجد الحرام، وهو لم يكن ليعرِّض للنسخ كلمة من كلماته أو آية من آيات كتابه المحفوظ والتي لا تبديل لها ولا تحويل، وإنما له أن يعتبر وان يعتمد اجتهاد عباده، ولما كان كل فعل إنما يتم بمقتضى قوانينه وسننه فله أن ينسبه إلى نفسه، أما ما سبق في علمه أنه سيبدل فلم يجعله في القرءان، فلا نسخ في القرءان، وإنما لأحكام القرءان نسخ ما سبقها من أحكام، وأمر تحويل القبلة هو حجة على عبيد النسخ وليس بحجة لهم، فعبيد النسخ خلطوا بين أمرين: 1- وجود تطور وتدرج في التشريع وهذا أمر طبيعي مسلم به، 2- وجود آيات قرءانية منسوخة، وهذا زعم باطل وإلقاء شيطاني، وإلى عبيد النسخ هذا التحدي: ائتوا بآية قرءانية تأمر المسلمين باتخاذ بيت المقدس قبلة.
=======
ويلاحظ أن الآية التي تتحدث عن نسخ آية بخير منها وردت في إطار التمهيد لتغيير اتجاه القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، أي نسخ الحكم السابق (الاتجاه إلى المسجد الأقصى) الذي كانوا يلتزمون به اتباعا لملة إبراهيم وموافقة لأهل الكتاب (وهو لم يرد في القرءان)، واستبدال به الاتجاه إلى المسجد الحرام.
فالذي حدث هو تغيير القبلة، ولا توجد في القرءان أية آية تأمر المسلمين بالاتجاه شطر المسجد الأقصى أو حتى تنص على اتجاه القبلة القديمة، وإنما توجد الآيات التي تنسخ الحكم السابق، وهو حكم من أحكام الشرائع السابقة، وتحدد اتجاه القبلة الجديدة، وهي المسجد الحرام.
فمسألة القبلة تؤكد قولنا وهو أنه لا توجد في القرءان آيات منسوخة وإنما توجد الآيات الناسخة لبعض أحكام الشرائع السابقة.

*******


الاثنين، 27 أبريل 2015

أركان الدين الملزمة للفرد (صورة أكثر تفصيلا)

أركان الدين الملزمة للفرد (صورة أكثر تفصيلا)



1.     الإيمان بالإله الواحد الذي له الأسماء الحسنى والشئون والأفعال والسنن الواردة في القرءان الكريم، (والحد الأدنى اللازم للوفاء بهذا الركن هو في الإسلام الظاهري: شهادة أن لا إله إلا الله).
2.     عبادةُ الله تعالى بإخلاصٍ وذلك بطاعته والاستجابة له؛ أي القيامُ بحقوق أسمائه الحسنى ومقتضياتها، ومن ذلك العمل بمقتضى سننه وأوامره وإسلامُ الوجه له والشكرُ له والاستقامةُ كما أمر والتوجهُ إليه بالدعاء، والإخلاص يعني ابتغاء وجه الله في كل عمل.
3.     ذكر الله، والذكرُ هو الوعي والإحساس الصادق بالحضور الإلهي، والركن الملزم هو جماع كلِّ ما يؤدي إلى تنميةِ وتزكية هذا الإحساس، وهو يتضمن ذكرَ أسماءِ الله الواردةِ في القرءان وذكرَ الآياتِ التي ورد فيها الأسماءُ والتسبيحَ لله والتسبيحَ بأسماءِ الله والتسبيحَ لأسماءِ الله والتسبيح بحمد الله والتكبير والاستغفار والحمدَ لله والشكر لله والتفكر في خلق الله والنظر في آياته وسننه، وذكرُ الله يستلزم ذكر نعمته والقيام بواجب الشكر عليها وحسن استثمارها والانتفاع بها.
4.     العملُ على إقامةِ ودعمِ وترسيخ صلةٍ وثيقة بالله تعالي وعلاقةٍ حميمة معه سبحانه، وهذا الركن يقتضي إسلامَ الوجه لله والولاءَ لله والإخلاصَ لله والتوبة والإنابة إلي الله والإخبات إلي الله وحب الله وتقوى الله وذكر الله والاعتصام به والتوكلَ عليه وتفويضَ الأمر إليه وإجلالَه وتعظيم قدره والاستعانة به والاستعاذة به والفرار إليه والشكرَ له واتخاذَه ولياً والعمل لإعلاء كلمته والإقرار بنعمته والمبادرة بالاستغفار عند اقترافِ أيِّ خطأ في حقه.
5.     القيامُ بحقوق الكتابِ العزيز بالإيمان به، وتلاوتِه باتِّباعه واتخاذِه إماما وتلاوةِ آياته وتعلمِّه وتعلم ما يتضمنه من الحكمة وقراءته وتذكره وتدبر آياته وتزكية النفس به وتعظيم قدره واتخاذه إماما، وكل ذلك يقتضي اتخاذَه المرجعَ الأوحد في أمور الدين الكبرى والمرجعَ الأعلى في الأمور الثانوية والمرجع المهيمن في كل الأمور التي تضمنها.
6.     الإيمانُ بأن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ هو رسولُ الله إلى الناسِ كافة وخاتمُ النبيين والمرسلُ رحمة للعالمين والعملُ على إقامةِ صلةٍ وثيقة به والقيامِ بما يقتضيه ذلك من تعظيم قدره والصلاةِ والتسليمِ عليه وطاعتِه والتأسِّي به والتمسكِ برسالته وسنته.
7.     الإيمانُ بالغيبِ الواردِ في الكتاب العزيز، وعلى رأس ذلك الإيمانُ باليوم الآخر وبكل ما يتضمنه مما أورده القرءان عنه والإيمانُ بملائكة الله وكتبه ورسله والعمل بمقتضى ذلك، ومن ذلك احترامُ وتوقير ملائكةِ الله مثل الحفظة والكرام الكاتبين وعدمُ تكذيب ما ورد في الكتب السابقة مما يكون متسقا مع القرءان الكريم.
8.     التزكِّي؛ أي تزكيةُ الكيان الإنساني بكل ما يتضمنه من قلبٍ ولطائف ونفسٍ وجسد، وذلك بالعمل على التطهر من كل عناصر وآثار منظومة الأخلاق الذميمة والصفات الشيطانية وعلى اكتسابِ وتنمية كلِّ عناصر المنظومة المعنوية الإسلامية من القيم والمبادئ والمثل والصفات الحسنى ومكارم الأخلاق، ومن الأركان الفرعية لهذا الركن الجوهري الكبير التحققُ بالتقوى والصبرِ والحكمةِ والإحسانِ والشكرِ والصلاحِ وطلبِ العلم والصدق والولاءِ للحق.
9.     الالتزام بالأوامر الدينية والقيم الإسلامية في كل الأمور الحياتية وفي التعامل مع كافة الكيانات المخلوقة ومنها الكيانات الإنسانية وهي الإنسانُ نفسُه والأسرةُ والأمة والأفراد والكيانات الأخرى والخارجية وكل ما يمكن أن يستجدَ من كيانات، ومن الأركان الفرعية لهذا الركن الكبير الشامل:
a.               احترام حقوق وكرامة الإنسان، وهذا يتضمن مراعاةَ واحترامَ وأداء كافة الحقوق الشرعية الواجبة عليه لأي إنسان آخر أو لأي كيان إنساني، كما يتضمن احترامَ كرامةِ الإنسان من حيث أنه مكرمٌ وحاملٌ للأمانة ومستخلفٌ في الأرض ومفضل، فيجبُ أن يتأسَّى الإنسان بربه في ذلك، قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }البقرة30، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً }الإسراء70،  {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}الأنعام165، {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }الأحزاب72
b.              إعطاءُ كل ذي حق حقه، وهذا يتضمن القيام بالواجبات نحو كل الكيانات الإنسانية الأخرى، فالفرد ملزم بالقيام بالواجبات نحو والديه (بر الوالدين) وأقاربه (صلة الرحم) ونحو من يعول ونحو كل الكياناتِ الإنسانية التي هي أكبر منه والتي تحتويه كعنصر من عناصرها كالأسرة والمؤسسة التي يعمل بها والأمة وكل ما يمكن أن يستجد من كيانات، ومن القيام بالواجبات تجاههم الدعوة إلي الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق، وهذا يتضمن أيضا أن يؤدي لكل إنسان آخر ما عليه له من حقوق كاملة بدون منّ أو مماطلة.
c.               تأديةُ الأمانات إلى أهلها، وهذا يتضمن أن يؤدِّي كلُ إنسان ما أؤتمن عليه أو ما لديه من أمانة إلى صاحب هذه الأمانة وإلى من هو أحقُ بالأمانة، ومن ذلك إسناد كل أمر إلى من هو أهل له.
d.              القيام بالواجبات نحو الأسرة التي هو عضو فيها، وأوجب الحقوق حقوق الوالدين، فيجب الإحسان إليهما وبرهما.
e.               الحكمُ بما أنزل الله؛ أي الحكمُ بالعدل والقيام بالقسط والقيامُ لله والشهادةُ لله والشهادة بالقسط وإعطاءُ كلِّ أمر وزنَه الشرعي والحكمُ على كل فعل إنساني بما حكم الله تعالى عليه به والتوصيفُ الشرعي للأمور.
f.                 طاعةُ أولي الأمرِ من المؤمنين، أي طاعةُ كل من له وِلاية على الإنسان بحكم صلة قربى أو بحكم تأهيله وعمله وتخصصه، فأولو الأمر هم المؤهلون لإصدار الأوامر كلُّ طائفةٍ منهم في مجالهم الخاص.
g.              إعمال الشورى في كل أمر.
h.               القيام بكل ما يدعِّم وحدةَ الأمة وقوتها وعزتها ويقوي كيانها، ومن ذلك التواصي بالحق والتواصي بالصبر والتعاونُ على البر والتقوى وإتقانُ العمل والتكافل.
i.                 الوفاء بالعهودِ والمواثيق والعقود.
j.                 أن تكون كافة الأمور الحياتية (الأكل والشرب...الخ) والمعاملات الشخصية والأسرية والتجارية والوظيفية والعلاقات الاجتماعية وفقاً لمنظومة القيم الإسلامية والأوامر والسنن الشرعية.
k.               التعامل بمقتضى الحكمةِ والرحمة والرأفة وخفض الجناح واللين والصفح الجميل وكافة مكارم الأخلاق مع الناس كافة.
l.                 احترام وتوقير ملائكة الله مثل الحفظة والكرام الكاتبين.
m.            الالتزامُ بالأوامر الدينية والقيم الإسلامية في التعاملِ مع معتنقي المذاهب (بما في ذلك المذاهب المحسوبة على الإسلام) والأديان الأخرى فيبرُّهم ويقسط إليهم ولا يعتدي عليهم ويدعوهم إلى سبيل الله وفق القيم والسنن الشرعية أي بالحكمة والموعظةِ الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، ولكن عليه ألا يجاملَهم على حساب دينه وأمته وألا ينخدع بباطلهم وألا يمجد أوثانهم وألا يتخذهم أولياءَ إذا ما أظهروا العداء للمسلمين.
n.              مراعاةُ حقوق الكائنات غير البشرية من الدواب والنباتات وهذا يقتضي الإحسان إلى دواب الأرض والامتناع عن الإفساد في الأرض ومراعاة حقوق البيئة، ويجب العلم أن الإفساد في الأرض هو من كبائر الإثم لتضمنه عدواناً سافراً على حقوق أجيال إنسانية قادمة.
10. اجتنابُ كبائر الإثمِ والفواحش والانتهاءُ عن المنكر، وكبائرُ الإثم إما أن يكون منصوصاً عليها صراحة في القرءان وإما أنها مضادة لركنٍ ديني كبير أو قيمةٍ دينية كبرى أو مقصدٍ ديني عظيم.
11.  إقامةُ الصلاة، وهي تتضمنُ إقامةَ الصلواتِ الخمس، كما تتضمن وصلَ ما أمر الله به أن يوصل؛ أي إقامةَ شبكات من الوصلات والعلاقات الشرعية بين الإنسان وبين الكيانات الأخرى التي هو مأمور أن يقيم صلاتٍ بها.
12.  إيتـاءُ الزكاة، وهذا يتضمن إعطاء الأمة جزءا معلوماً من ثمار عمله ودخله أداءً لحقِّها عليه، كما يتضمنُ صيانةَ وتزكيةَ الوصلات والعلاقات المذكورة في ركن إقامة الصلاة ومدَّها بما يحييها ويصونها ويقويها.
13.  الإنفاق في سبيل الله؛ بمعنى أن يكونَ كلُّ إنفاق للمال بقصد تحقيق مقصدٍ شرعي وليس عبثاً أو تحقيقاً لمأَرب شيطاني، كما يتضمن إنفاقَ المال لمساعدة الآخرين وفي كافة أبواب الخير، وهذا الركن يتضمن عدمَ محاولة عرقلة دورة رأس المال، وبذلك يكون كنزُ المال أو تبديدُه أو التبذيرُ من كبائر الإثم.
14.  العملُ الصالح وهو كل عمل يقوم به الإنسان للوفاء بمقتضيات كونه حاملاً للأمانة والرسالة ومستخلفاً في الأرض ومسئولاً، فهو يتضمن كل ما يؤدي إلى إصلاح وتعمير.
15.  الدعوةُ إلى الله، والدعوة إنما تكون بالحكمةِ والموعظةِ الحسنة والجدالِ بالتي هي أحسن وتقديمِ الأسوة الحسنة والعملِ الصالح وتأليف القلوب.
16.  استعمالُ الملكاتِ الذهنية والحواسِ الإنسانية للنظرِ في الآيات الكونية والنفسية وفي الوقائع التاريخية ولفقهِ واستيعابِ السنن الإلهية والكونية والإفادةِ منها ولتحقيق المقاصد الدينية والوجودية، وهذا يتضمن التفكير في خلقِ السماوات والأرض والنظر في كيفية بدأ الخلق وفي كيفية خلق المخلوقات وفي كونها على ما هي عليه وفي عواقب الأمم الخالية.
17.  الجهادُ في سبيلِ الله، وهذا الجهاد يتضمنُ كلَّ ما يجب القيامُ به لمواجهة ومغالبة كلِّ ما يعوق القيام بأركان الدين الكبرى وتحقيقِ مقاصد الدين العظمى من الكيانات وعلى رأسها كِيانُ الإنسان نفسه، ومن الجهاد القتال المشروع دفاعا عن النفس والأهل والمال والعرض والديار (الوطن).
18.  الصيام، وحده الأدنى هو صيام شهر رمضان.

19.  حج البيت لمَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا.

السبت، 25 أبريل 2015

الاسم الإلهي " ذُو الْفَضْلِ"

الاسم الإلهي " ذُو الْفَضْلِ"


قال تعالى:
{مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }البقرة105  *  {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }آل عمران74  *  {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}الأنفال29  *  {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}الحديد21  *  {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }الحديد29  *  {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}الجمعة4.
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ }البقرة243  *  {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ }يونس60  *  {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ }النمل73  *  {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ }غافر61
{فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ }البقرة251  *  {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }آل عمران152  *  {فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}آل عمران174

فهذا الاسم من الأسماء الحسنى، وهو من أسماء النسقين الأول والثاني.

والاسم الإلهي "ذُو الْفَضْلِ" يشير إلى أن له سبحانه الفضل المطلق، فهو مالك الفضل وأصل كل فضل، وهذا يعنى أن له وحده حق وضع الموازين والمعايير اللازمة لتفاضل الناس فيما بينهم وأن له وحده حق تقرير ذلك وبيانه، ولقد أعلن وبين أن مناط التفاضل والتكريم هو التقوى، فهو غير منحاز إلى فئة قليلة أو إلى سلالة خاصة ولقد تبرأ ممن ادعوا أنهم أبناؤه وأحباؤه وأقام عليهم الحجة والبرهان، وأمر الناس باستباق الخيرات، وأعلن أن الأمر محكوم بكلمات وسنن لا تبديل لها ولا تحويل وأن من عرفها وفقهها وتوافق معها سيفلح ويحقق كماله المنشود.
والفعل الحسن من الإنسان إنما هو صادر عن صفة كمال من لوازم ماهيته التي قدرها الرب سبحانه، وتلك الصفة هي من مقتضيات وآثار الكمال الإلهي أصلا إذ هو المصدر الأوحد الكمال للكمال في الوجود، لذلك فالآثار المترتبة على الفعل الحسن بمقتضى القوانين والسنن هي آثار حسنة وإنما هي فضل على فضل، فله سبحانه المن على عباده بذلك الفضل المتضاعف وله الفضل المطلق.


ولقد أعلن الكتاب العزيز أن رحمة الله قريب من المحسنين وأن له وحده أن يقسمها كيف يشاء؛ أي كما تقتضي قوانينه وسننه وموازينه وليس وفق معاييرهم وأهوائهم، وأعلن أيضا أن الفضل بيده يؤتيه من يشاء، وهو ليس ملزماً بأن يوزع من فضله على المتكسبين بالدين ولا على رجال الكهنوت ولا على الملتحقين بالمدارس الدينية، إن الكثيرين قد ارتدوا على أعقابهم وصاروا يستكثرون على الناس رحمة ربهم وفضله وأرادوا أن يشاركوه فيما أختص به نفسه، وكل ما أعطاه الله تعالي لعبد من الكمالات هو من باب الفضل إذ ليس للإنسان من أمر ذاتي إلا أصله العدمي.

والمفردة (فضل) تشير إلى سمة إلهية تقتضي فعلاً إلهيا كما تشير إلى مجال السمة والفعل.

قال تعالى: {مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }البقرة105، {وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ{72} وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ{73} يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ{74} آل عمران، { وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً{69} ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيماً{70}النساء، {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ }فاطر32، {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ }الشورى22.
إن الآيات السابقة تبين أن كل فضل هو بالأصالة لله، وأنه سبحانه يعطي الفضل كما تقتضي مشيئته إلي هي جماع مقتضيات أسمائه وسماته والتي تتجلى في قوانينه وسننه، فما يصل إلى كيان إنساني من الفضل إنما يتم وفق أسمى نسق من القوانين والسنن ولتحقيق المقاصد الوجودية العظمى.
فالفضل من سمات الله سبحانه ومن لوازم حقيقته الذاتية، والاسم (ذو الفضل) حجة على من أنكروا ما يسمونه بالصفات أي أنكروا السمات الإلهية، ولقد ثبت هذا الاسم لله بالآيات القرءانية البينات، ومن العجيب أن يتجاهلوا هذا الاسم الوارد في القرءان لحساب أسماء ما أنزل الله بها من سلطان.
ومن مظاهر الفضل الإلهي تفضيل بعض النبيين على بعض وتفضيل بعض الأمم على بعض، ولابد أن سننه التي هي الكمال المطلق هي التي اقتضت ذلك.
ومن مظاهر الفضل الإلهي تفضيل بني آدم على كثير من خلق الله، قال تعالى:
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا} [الإسراء:70].
ذلك لأن وجود الإنسان هو الأمر اللازم لتحقيق المقاصد الوجودية، وتفضيله عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَق الله تَفْضِيلا هو فضل على فضل.
والناس عادة ما يجهلون مقتضيات المشيئة الإلهية التي هي تفصيل لما هو له من الحسن الذاتي والكمال المطلق، وقد يضل بعضهم بسبب ذلك، ومن ذلك ما صدر عن أهل الكتاب عندما أنزل الله على رسوله العربي القرءان متضمناً الدين الخاتم ومهيمناً على ما كان قبله وناسخاً لبعض أحكام الشرائع السابقة، ولذلك كان ردّ فعلهم الإبليسي الذي أودى بهم وجعلهم ألد أعداء الدين الكامل، وكان أولى لهم أن يكونوا أشد أنصاره أو على الأقل من أنصاره.
وقد يظن بعضهم أن له وحده الحق في كل الفضل الإلهي لأن الله تعالى جاد بشيء منه عليه، ويمد عينيه إلى ما لدى الآخرين ويستغرب ما هم فيه من فضل من نوعٍ آخر، ويتمناه لنفسه، بل ويتمنى أن يُحرَموا هم منه! فمثل هذا ما عرف لربه فضله، وما أدى واجب شكره، وجلب على نفسه شقاء الأبد إن لم يتب.
وقد يظن بعضهم أن له وحده الحق في كل الفضل الإلهي لمجرد أن أسلافه قد ظفروا بشيء منه، والحق هو أن الأمور الكونية تأخذ الشكل الحلقي المتضمن تغذية موجبة، فسمو الصفات الذاتية لكيان إنساني تجتذب إليها آثار ومقتضيات الفضل الإلهي، وهذه الآثار تؤدي إلى تقوية وتعزيز تلك الصفات السامية مما يهيئ الكيان الإنساني لتلقي المزيد من الفضل الإلهي، وما كان عليه الأسلاف من فضل ورقي قد يوفر للإنسان شروطا ابتدائية وحدية أفضل ولكنه لا يجعله بالضرورة أهلا للفضل الإلهي، لابد من سعي جاد ومخلص من الإنسان.
ومن حيث الرمز فهو إشارة إلى فتح يترتب عليه أنوار كاشفة واتصال بما هو نافع يؤدي إلى مزيد من الفتح.
ولقد كان كل كائن من مخلوقاته مسبوقاً لا محالة بالعدم، أي لم يكن في عالمه شيئاً مذكورا، والله سبحانه هو الذي تفضل بإبراز ماهيته وتحقيقها، ومن المعلوم أنه لتحقيق مقاصده الوجودية تتعين في كل حين ماهيات لا تتناهى عددا، فمن اختيرت ماهيته لتتحقق قد فاز فوزاً كبيرا، وذلك هو الفضل العظيم السابق الذي لا يمكن لأي كائن ذاق لذة التحقق أن يحيط به ولا أن يوفي لربه حقه من الشكر له، وذلك هو الذي اقتضى الدين، فكل مخلوق هو مدين لربه من تلك الحيثية، وهو ملزم بأن يعقد العزم على أن يوفي بهذا الدين وأن يقر بفضل الله العظيم وبكل ما ترتب عليه من النعيم.

*******



الركن السابع عشر (ج1)

الركن السابع عشر (ج1)

الجهاد في سبيل الله

إن الجهاد هو ركن من أركان الدين الملزمة لكل الكيانات الإنسانية من الفرد إلى الأمة، وهو يتضمن جميع الأعمال والإجراءات والتدابير التي يجب اتخاذها من قبل الكيان المسلم ضد كل ما يعوق سعيه للقيام بأركان الإسلام ودعم وتوطيد وترسيخ قيمه ومثله وسننه وتحقيق أهدافه ومقاصده، وأخطر ما يعوق هذا السعي هو نفس الكيان.
وهذا الركن ملزم لكل كيانٍ مسام من الفرد إلى الأمة، ونفس الإنسان هي أخطر ما يعوق رقيه وتزكِّيه، ومكونات الأمة هي أيضا أخطر ما يعوق تقدمها وقيامها بالمهام المنوطة بها، لذلك وجب على كل كيان أن يجاهد نفسه.
فالإنسان الفرد ملزم أولا بأن يجاهد أعدى أعدائه؛ أي نفسَه الأمارة بالسوء حتى تتزكى، وعليه أن ينشغل أساسا بأمر بنفسه قبل أن يهتم بأمر غيره وإلا ضربته أمراض الرياء والنفاق وعبادة النفس وغيرها من مظاهر الشرك.
فالجهاد يعني أن يبذل الكيان الإنساني غاية الجهد لتحقيق مقصد كلي أو فرعي من مقاصد الدين أو للقيام بركن من أركان الدين أو لدعم وترسيخ قيمه وسننه وذلك في وجود ما يمكن أن يحول بينه وبين ذلك من الكيانات المادية أو المعنوية أو اللطيفة أو الكثيفة بما في ذلك الكيان نفسه أو مكوناته أو صفاته.
الجهاد يتضمن كل الأعمال المشروعة التي يمكن أن يقوم بها الكيان المؤمن لتحقيق مقاصد الدين على كافة المستويات، فهو يتضمن بذلك مغالبة الكيان المسلم لأي كيان -بما في ذلك نفسه- يحاول أن يحول بينه وبين تحقيق مقاصد الدين والقيامِ بأركانه وتحقيق قيمه، لذلك فعندما يكون الكيان فردا فإنه يكون ملزماً بجهاد نفسه، وجهاد النفس يعني مغالبة مقتضيات نقصها من الأحاسيس والأهواء والدوافع والرغبات والعادات التي تحول بين الإنسان وبين تزكية كيانه، فهو يتضمن جهاداً ضد الصفات المترتبة على نقص نفسه اللازم لها والذي يجتذب إليها إيحاءات وإلقاءات ووساوس شياطين الإنس والجن.
ومن الأركان الفرعية للجهاد: جهادُ النفس، التصدي للظلم والبغي والكفر والنفاق والشرك والفساد والإفسـاد في الأرض، وكذلك مقاومة الجهل والتخلف والاستبداد والطغيان والخيانة والفسوق، وجهاد الكفار والمنافقين يعني بذل غاية الجهد للتغلب عليهم ودحضِ حججهم ودمغِ باطلهم ولكنه لا يتحول إلى قتال إلا دفعاً لعدوان صريح منهم أو درءاً لفتنة، فالجهاد يتضمن كل سعي وعمل إيجابي ضد كل ما يحول بين الكيان المجاهد وبين مقصد ديني يسعى إلى تحقيقه.
*******
الجهاد في سبيل الله هو كل ما يجب القيام به لمواجهة ومغالبة كل ما يعوق تحقيق مقاصد الدين العظمى من الكيانات المعنوية والمادية ومنها كيان الإنسان نفسه، فعلي الإنسان أن يجاهد نفسه بمغالبة مقتضيات نقصه، وهذا الركن يستلزم التصدي بقدر الاستطاعة للظلم والبغي والجور والإفساد في الأرض،  فعلى الفرد أو الجماعة مثلا التصدي للبغي الصادر من فرد أو جماعة، أما البغي الصادر من كيانات أكبر فهو مسؤولية الأمة، وعلي كل فرد ألا يسمح بظلم أو إفساد في النطاق القريب منه، ومفهوم الإفساد يتسع وفقاً لمقتضيات التطور؛ فهو يشمل الآن مثلا كل عدوان علي الممتلكات أو الأموال العامة وكل تخريب وكل تلويث للبيئة، ومن كبائر الإثم المضادة لهذا الركن الاستسلام للظلمة والركون إليهم وموالاتهم، فلابد على الأقل من الإنكار القلبي لأفعالهم، ولابد من العمل للقضاء علي كل ما يسمح بوجودهم واستنباتهم، وهذا قد يستلزم القتال في سبيل الله تعالى عند توفر شروطه الشرعية وذلك في ظل وجود الأمة الخيرة الفائقة، ومن القتال الشرعي: التصدي للعدوان، الدفاع عن النفس والأهل والمال والعرض والديار (الوطن)، الدفاع عن المستضعفين في الأرض والمضطهدين بسبب دينهم ومن أخرجوا من ديارهم والمغلوبين علي أمرهم، وكذلك لكف بأس من يحولون بين الناس وبين الإيمان بربهم أي من يتبنون سياسة اضطهاد المؤمنين وحصار دعوتهم، القضاء على الفتن وكف بأس من يؤججها، التصدي لأهل البغي، فيجب علي المؤمنين أن يقاتلوا كل معتدٍ بكل ما أوتوا من قوة وأن يكون مقصدهم إعلاء كلمة الله تعالى والدفاع عن دينه وقيمه، ولذلك يجب أيضاً ألا يعتدوا؛ فالعدوان محرم تحريماً باتاً، وعليهم الالتزام بكل آداب القتال والأوامر الشرعية المنظمة له، فكل صور الإفساد في الأرض محرمة تحريماً باتاً؛ إذ هي من كبائر الإثم، فلا يجوز التعرض للمدنيين أو النساء أو الأطفال أو الدواب أو النباتات، فلا قتال إلا عندما تتوفر شروطه الشرعية.
ومن كبائر الإثم المضادة لركن لجهاد: الظلم، العدوان علي حقوق الآخرين، إيثار الدنيا، التخلف عن القتال عندما تتوفر شروطه الشرعية التي توجبه، الفرار من ميدان القتال، ألا يتناهى الناس عن المنكر، ألا يتواصوا بالحق، القتال طلبا لعرض الدنيا.... الخ.
*******
إن الجهاد في سبيل الله تعالي يتضمن كل ما يجب القيام به لمواجهة ومغالبة كل ما يعوق تحقيق مقاصد الدين من الكيانات المعنوية والمادية ومنها كيان الإنسان نفسه، فعلي الإنسان أن يجاهد نفسه بمغالبة مقتضيات نقصه، فكل إنسان ملزم باستخدام كل موارده وإمكاناته المادية والمعنوية لتحقيق المقاصد الدينية.
فمن مقاصد الدين العظمى إعداد الإنسان الرباني الفائق وإعداد الأمة الخيرة الصالحة والتعايش السلمي المثمر مع الآخرين، فكل عمل أو جهد لتحقيق ذلك هو أمر ديني لازم، وكل عمل أو جهد لمغالبة من يحول دون تحقيق ذلك هو من الجهاد.
وعلى سبيل المثال فذكر الله تعالى هو من أركان الدين، والتحقق به هو من مقاصد الدين التي هي من لوازم إعداد وبناء الإنسان الرباني الفائق الصالح المفلح، وبالطبع هناك الكثير من الكيانات والعوامل التي ستعمل على منع تحقيق كل ذلك وعلى رأسها نفس الإنسان والشيطان، فكل عمل للتغلب على هؤلاء هو من الجهاد.
والجهاد يستلزم التصديَ بقدر الاستطاعة للظلم والبغي والجور والطغيان والإفساد في الأرض واضطهاد الناس في دينهم، فعلى الفرد أو الجماعة مثلا التصدي للبغي الصادر من فرد أو جماعة، أما البغي الصادر من كيانات أكبر فهو مسؤولية الأمة، وعلي كل فرد ألا يسمح بظلم أو إفساد في النطاق القريب منه، ومفهوم الإفساد يتسع وفقاً لمقتضيات التطور؛ فهو يشمل الآن مثلا كل عدوان علي الممتلكات أو الأموال العامة وكل تخريب أو تلويث للبيئة وكذلك يشمل استعمال الوسائل الحديثة لإشاعة الفواحش والترويج لها وكل ما يؤدي إلى إهدار حقوق أو كرامة الإنسان، ومن صور الإفساد الحديثة ما يسمى بالإرهاب؛ فهو يؤدي إلى ترويع الأبرياء وتدمير الممتلكات ولا يجلب إلا الشر، ومن كبائر الإثم المضادة لهذا الركن الاستسلام للظلمة والركون إليهم وموالاتهم، فلابد على الأقل من الإنكار القلبي لأفعالهم، ولابد من لعنهم طالما كانوا ظالمين مثلما لعنهم الله تعالي في كتابه العزيز، ولابد من العمل للقضاء علي كل ما يسمح بوجودهم واستنباتهم، ومن الجهاد التصدي للمتهجمين علي الله وكتابه ورسوله وتفنيد أقوالهم وكشف مدى زيفها وضلالها، ومن الجهاد التصدي كذلك للمذاهب الضالة التي فرَّقت الدين وأحدثت وتبنَّت وأشاعت تصورات خاطئة عن رب العالمين وتقولت عليه ولم تعرف قدر كتابه ورسوله، والجهاد قد يستلزم القتال في سبيل الله تعالى عند توفر شروطه الشرعية اللازمة وذلك في ظل وجود الأمة الخيرة الفائقة.
ومن كبائر الإثم المضادة لركن الجهاد: التقاعس والتراخي والرضا بالدنية والإخلاد إلى الأرض والتخلف عن القتال عندما تتوفر شروطه الشرعية التي توجبه وكذلك الفرار من ميدان القتال.
ومن لوازم وتفاصيل هذا الركن الجهاد بالمال أي الإنفاق في سبيل الله أي لتكون كلمته هي العليا؛ وذلك بتمويل الجهاد ضد أعداء الله والأمة، ولقد سُمِّي هذا النوع بإقراض الله قرضاً حسناً وكفى بذلك شرفا.
والجهاد بالنفس يتضمن بالضرورة الجهاد بكل ما هو للنفس من قوى وموارد وإمكانات، ومن تلك الإمكانات الوقت، فالمطلوب من الكيان المسلم أن يكرس كل ما يستطيع من وقت لتحقيق مقاصد الدين، والمطلوب منه أيضاً أن يعمل كل ملكاته الذهنية ما استطاع إلى ذلك سبيلا لنصرة الحق، والملكات الذهنية هي الآن أسمى الموارد والإمكانات فعلى كل إنسان أن يستعملها لنصرة الحق ودحض الباطل.
*******
إن الجهاد هو كل ما يجب القيام به لمواجهة ومغالبة كل ما يعوق تحقيق مقاصد الدين العظمى من الكيانات المعنوية والمادية ومنها كيان الإنسان نفسه، وهذا يلزم الإنسان بالتصدي أولاً لمظاهر نقصه هو  ثم التصدي للجهل والخرافات وعبادة الأسلاف والصيغ والمذاهب المحنطة والأساليب المزيفة لتلقي المعارف، وقد يستلزم الأمر مواجهة أهل الكهنوت والجهلوت والتصدي للإفساد في الأرض، وكذلك من الجهاد التصدي للحملات ضد الإسلام في الداخل والخارج ودحض الشبهات التي يعمل على نشرها أعداؤه، فللجهاد صوره العديدة التي تتنوع وتتطور بمضي الزمن.
إن من الجهاد اللازم الآن الدفاع عن دين الحق ضد ما يتعرض له الآن من حملات التشويه، والدفاع عن كتاب الله تعالى ضد محاولات تهميشه وإلغاء أحكام آياته ومنع الناس من النظر فيه وتدبره، والدفاع عن رسول الله ضد المفتريات التي دسَّها الأسلاف في التراث ويدافع عنها بشراسة عبيد نعالهم ويستغلها الآن أعداء الدين ضد الدين، وكذلك التصدي للمذاهب والشيع التي مزقت الأمة وفرقت الدين، وكذلك التصدي لما تحفل به الكتب التراثية من الأساطير والخرافات والخزعبلات والأكاذيب والافتراءات التي تحاول النيل من قدر الله وكتابه ورسوله.
والجهاد هو من أركان الدين غير المحدودة؛ فهو قابل للاتساع والتطور باطِّراد التقدم، ومن صور الجهاد اللازمة الآن الجهاد ضد ما استجد من وسائل الإفساد في الأرض، وما يسمى بالإرهاب هو من وسائل الإفساد في الأرض، فهو يؤدي إلى ترويع الأبرياء وتدمير الممتلكات ولا يجلب إلا الشر، وهو يعطي المجال لأعداء الإسلام لتشويه صورته وشن الحملات الإعلامية الظالمة ضده، فما يسمى بالإرهاب هو من وسائل صد الناس عن سبيل الله تعالى، بل هو الآن من أكثرها فعالية.
ومن وسائل الإفساد التي يجب الجهاد ضدها: كل سعي لتقويض القيم والأخلاق ونشر الفواحش والتطاول على الناس بالباطل والتمادي في تكفير الخصوم التكفير المخرج من الملة وكذلك تأليه سدنة المذاهب والسلف والقائمين على الأمور أو كل ذي سلطة وشغل الناس بالباطل وتبديد المال والوقت فيما لا جدوى منه. 
*******
إن الجهاد هو أمر قرءاني دائم وليس بأمر استثنائي، وعلي الإنسان أن يوطن نفسه عليه في حياته الدنيا، فالدنيا دار فتنة وابتلاء وتمحيص، ولا يغني عن أعمال الجهاد الحقيقية أعمال مثل خدمة المساجد أو ممارسة الأعمال الطقوسية والشكلية أو ارتداء ما يسمونه بالملابس الشرعية، والذي سينتفع بالجهاد هو الإنسان نفسه؛ فهو لن يبلغ بجهاده نفع ربه، والإنسان مطالب بالتمسك بحسن الخلق والحلم والعفو والصفح والبر عند تعامله مع الآخرين إلا إذا حاول هؤلاء فتنته أو فتنة جزء من الأمة في الدين أو بادروا بالعدوان عليهم، فعندها لابد من التصدي الحاسم لهم وقتالهم إذا لزم الأمر.
والقتال المشروع هو من الصور الممكنة للجهاد، ولكي يكون مشروعا ينبغي أن يكون في سبيل الله أي خضوعاً لأمر شرعي حقيقي وليس طلباً لعرض دنيوي أو استجابة لأهواء النفوس أو لوساوس الشياطين أو لنوازع مذهبية أو حزبية أو طلباً لسلطة، والإنسان مطالب بالدفاع عن كل ما استخلفه الله فيه من مال وأهل وديار، والتي يجمعها الآن مفهوم الوطن الذي يوفر للإنسان حاجاته الفطرية الأساسية المادية والمعنوية، فالقتال دفاعا عن الوطن وعن تماسك الوطن هو قتال في سبيل الله، فهو قتال مشروع، وهو من الجهاد.
وللجهاد وسائله العديدة، وكل عمل يقوم به الكيان الإنساني لتحقيق مقاصد الدين ويتضمن مغالبة كيان آخر هو جهاد، وكل عمل يؤدي إلي زيادة القوة المادية والاقتصادية والثقافية وزيادة الثقل الأمري للأمة وموارد الأمة ومنعتها وتحقيق عزتها هو جهاد.
*******
الجهاد إنما هو لتكون كلمة الله هي العليا على كافة المستويات، وهذا يتضمن العمل لكي تعلو وتسود قيم ومبادئ ومثل وسنن دين الحق الذي هو كلمة الله التامة، وهذا بدوره يتضمن الدفاع عن حقوق وكرامة الإنسان ونصرة المستضعفين ومقاومة الاضطهاد والفتن والظلم والتمييز العنصري والإفساد في الأرض.
وكلمة الله تعالى التامة هي هذا القرءان، ويجب الجهاد ليكون هو الأعلى فوق كل ما هو من دونه من مرويات وآثار وآراء سدنة المذاهب التي حلت محلّ الإسلام، لذلك فكل عمل سلمي ضد أتباع المذاهب الشركية الجهلوتية الضالة وضد مؤسسات التربح بالدين والدعوة هو جهاد في سبيل الله.
*******
ومن السنن الكونية الخاصة بالكيانات المخيرة أن ترك الجهاد يجلب الأمراض التي تصيب الكيان الجوهري للأمة ويعرضها للعقاب العاجل وربما يستبدل بها غيرها إذ لابد من وجود أمة تحمل بطريقةٍ ما الرسالة الخاتمة، وكذلك الأمر في كل الأركان المنوطة بالأمة؛ فإن تركها يستوجب عقاباً عاجلا في تلك الدنيا وذلك للمسئولية المضاعفة الملقاة علي عاتقها، وعندما يصبح حال قومٍ ما ميؤوسا منه تقتضي السنن أن يستبدل بهم غيرهم، وهكذا حمل راية الإسلام العرب ثم الفرس ثم المصريون والأتراك والتتار والمغول، وقد تنشأ أمم خيِّرة جزئيا في شتي بقاع الأرض.
*******
والجهاد هو من أركان المنظومة المعنوية الإسلامية، والهدف منه على مستوى الفرد أو على مستوى الأمة هو أن تكون كلمة الله هي العليا وهذا ينبغي أن يتحقق أولا في باطن الإنسان بمعني أن يكون العلو والسيادة في هذا الباطن للمنظومة الأمرية الإسلامية، مثال: إن الله سبحانه يريد من الإنسان أن يذكره وأن يدعوه بأسمائه الحسني وأن يحسن الظن به وأن يحقق ما يريده ربه منه، ويريد الشيطان من الإنسان أن يغفل عن ذكر الله وأن يقول عليه ما لا يعلم وأن يسيء الظن به، وتريد النفس منه أن يخلد إلى الأرض وأن يتبع هواه، فإن ذكر الإنسان ربه وأحسن الظن به رغم سعي الشيطان ورغم أهواء النفس فقد جعل كلمة الله هي العليا وجعل كلمة الشيطان السفلي، ويجب العلم بأن ذكر الله تعالى هو الإكسير الذي يحوِّل التراب إلى ذهب أي يحول كل فعل مهما هان شأنه إلى عبادة حقة يتقرب بها الإنسان إلى ربه، وهو الذي يرفع الإنسان من أسفل سافلين إلى أعلى عليين.
*******
والجهاد هو ركن ديني شاق، لذلك كان الصبر من أركانه ولوازمه، والمقصود بالصبر المثابرة والجلد ومتانة البنيان النفسي والقدرة على التحمل والصمود في وجه المحن ومواجهة الصعاب، والجهاد إنما يكون ضد أهواء النفس وليس لصالحها، وهو يتضمن التغلب على عوامل القصور الذاتي وكل ما يشد الإنسان إلى أسفل، والجهاد لا يكون أبداً استجابة لنوازع الشر والرغبة في العدوان، إن أركان الإسلام متسقة لا تناقض فيما بينها، ولا يمكن في سبيل القيام بركن اقتراف كبيرة من كبائر الإثم كالعدوان مثلا.
*******
والآيات الآتية تبين أهمية ومكانة هذا الركن:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}البقرة218  *  {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ }آل عمران142 *  {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً }النساء95  *  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }المائدة35  *  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }المائدة54  *  {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}التوبة16  *  {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }التوبة19  *  {الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ }التوبة20  *  {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }التوبة24  *  {انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }التوبة41  *  {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }التوبة73  *  {لَـكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}التوبة88  *  {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }النحل110  *  {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ }الحج78  *  {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً }الفرقان52  *  {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ }العنكبوت6  *  {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ }العنكبوت69  *  {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ }محمد31  *  {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ }الحجرات15  *  {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }الصف11  *  {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }التحريم9.

*******
التصدي للظلم والبغي والإفسـاد في الأرض

إن التصدي للظلم والبغي هو من لوازم الجهاد ومن أركانه الفرعية، وهو كسائر الأوامر الدينية يكون بقدر الوسع، ولا يجوز التقاعس عن القيام بذلك الركن عندما تمسّ الحاجة إليه، ولا معنى للعفو أو الصفح إلا عند المقدرة على من بغى أو ظلم.

والآيات الآتية تبين أهمية ومكانة هذا الركن الفرعي:

{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ(39)وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(40) وَلَمَنْ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ(41)إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(42)} الشورى  * {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ }هود113 *  {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ }الشعراء227  *  وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ{41} إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ{42} الشورى.
ورووا أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن علي يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصدنه على الحق قصدا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم).
والمروية صحيحة لاتساقها التام مع القرءان مع تحقق ما تنبأت به بالفعل.
إنه يجب التصدي لكل من لعنه الله في كتابه أو أمر بقتالهم من أهل الظلم والبغي والعدوان والطغيان والإفساد في الأرض، ذلك لأن من تلبس بصفة أو فعل من الصفات أو الأفعال الملعونة يجعل من نفسه بذلك شيطانا رجيما يستوجب اللعن والطرد والغضب والعذاب، والتصدي لكل من لعنه الله في كتابه أو أمر بقتاله هو فرض واجب وأمر لازم وركن ركين من أركان الدين، ولا يجوز لمؤمن قادر علي الانتصار ممن ظلمه أو ظلم غيره أن يكتفي بموقف سلبي منه بل إن التصدي للظلم والقتال في سبيل المستضعفين في الأرض هو من لوازم وتفاصيل المقصد الديني الأعظم الخاص بالأمة؛ أي هو من خصائص ولوازم الأمة الخيرة الصالحة، أما العفو أو الصفح فلا معني له إلا بعد الانتصار والتمكن، فهاهنا يلزم كبح جماح النفس وإثبات أن التصدي للبغي لم يكن طلباً لنفع ذاتي أو لمجرد التشفي والانتقام.
-------
إن الظلم هو الإثم الأعظم والخطيئة الأكبر في الإسلام، وهو أخطر علي الأمة وأفرادها من شتى الفواحش التي يتهيبون منها فضلا عما هو دونها، وإن موقف الصياغات المذهبية السائدة من الظلم والظلمة مقارنة بموقفها من ملابس المرأة مثلا ليكشف بكل جلاء ووضوح عن مدى تخلف وجهل وظلامية وقصور تلك الصيغ هي ومن وضعها ويوضح أن تلك الصيغ إنما وضعت لتلائم أهواء الأعراب ومن تسلط عليهم من أهل البغي والجور، فالأعرابي كان يؤمن بأن الظلم من شيم النفوس وأن من لا يظلم الناس يُظلَم بينما كان يعتبر المرأة عاراً عليه وأده أو إخفاؤه ما استطاع إلى ذلك سبيلا، والمذهب الذي صيغ ليتوافق مع نفسيات وعادات الأعراب يهوِّن من أمر الظلم بل يكاد يجعل الخضوع للظالم المتسلط المقصد الديني الأعظم بينما يهدد البشرية كلها بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا تعلق الأمر بما يسمى بالحجاب أو النقاب، وهكذا استخدم الكهنوت الدين الذي يلعن كتابه الظالمين ويتوعدهم بالويلات والعذاب الأليم ليفرضوا على الناس الخضوع المطلق للظالمين والدعاء لهم بل وليكفِّـروا كل من يحاول التصدي لهم.
والتصدي للظلم والبغي يكون بقدر الاستطاعة، فعلى الفرد أو الجماعة مثلا التصدي للبغي الصادر من فرد أو جماعة، أما البغي الصادر من كيانات أكبر فهو مسؤولية الأمة، وعلي كل فرد ألا يسمح بظلم أو إفساد في النطاق القريب منه، وجماع كل الجهود اللازمة لتحقيق النصر هو الجهاد، فالسلم مطالب بأن ينتصر وبألا يرضى بالدنية في أمره.
-------
إن الجهاد بالمال لا يعني فقط تمويل المجهود الحربي عندما يتحتم القتال، ولكنه يتضمن كل بذل للمال في سبيل التغلب على ما يواجه الأمة من مشكلات وصعاب، وعلى رأسها الفقر والجهل والمرض والمذاهب العدوانية الضالة التي حلت محلّ الإسلام وسدنتها والمتكسبين بها.
*******

القتـال المشروع

القتال المشروع هو القتال في سبيل الله، فهو لا يكون طلبا لعرض دنيوي، والقتال هو من الأركان الفرعية للجهاد في سبيل الله والذي هو ركن من أركان الدين، فقد يقتضي الجهادُ القتالَ إذا ما توفرت شروطه الشرعية، وعلي كل من أراد أن يعرف حكم القرءان في أمر القتال أن يتبع منهج دين الحق، فعليه أن يستخلص كل الآيات التي ورد فيها هذا المصطلح ومشتقاته وأن يسلِّم بأن لكل آية الحجية الكاملة وأنه ليس ثمة اختلاف في القرءان وأنه ليس من حقه أن يضرب آية بآية ولا أن ينسخ آيةً بآية، وعليه أن يعلم أن آيات القرءان يبين بعضها بعضا ويقيد بعضها بعضا ويفصل بعضها بعضا، وأنها بمثابة المصابيح الموصلة على التوالي، فلا يمكن لأحد قطع أي مصباح منها، وإلا لغاب عنه الضوء اللازم ليعرف القول القرءاني الصحيح.
وعليه أن يعلم أن للآيات التي هي مقتضى سمة إلهية أو شأن إلهي التقدم على غيرها، فإذا أعلن الله تعالى أنه لا يحب المعتدين فتلك سمة إلهية لا تتغير ولا تتبدل، ولها الحكم البات في هذه المسألة، ولذلك لا يمكن لأحد أن يتقرب إلى رب العالمين باقتراف العدوان بعد أن أعلن الله تعالى أنه لا يحبه، ومن يفعل ذلك يكون مستخفا بالنهي الإلهي جاحدا للآية القرءانية وربما كافرا بالسمة الإلهية. 
ومن يتبع منهج دين الحق سيعلم أن حالة السلم هي الحالة المثلي المطلوبة والمقصودة وأن القتال هو الأمر الاستثنائي المكروه والمقيد بشروطه المذكورة في الآيات وأن العدوان محرم تحريما مطلقا.
وعلي الضالين المضلين أن يعلموا أن لله سبحانه الكمال المطلق وأنه كما قال: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، وليس ليفترس بعضهم بعضا ولا ليستعبد بعضهم بعضا، وأنه لن يأمر المؤمنين بالتربص بالآخرين وأنه قرر بكل وضوح وبأجلي بيان أنه لا إكراه علي الإيمان ولا إكراه في الدين وهو لن يعمل علي الإيقاع بين المؤمنين وبين الناس كافة، وإذا كانت تلك العقيدة معلومة للكافة فما الذي سيضطر باقي الناس إلي الصبر علي فئة تتربص بهم وتتحيَّن الفرصة للاعتداء عليهم، وإذا ما اضطر المسلمون إلي الجنوح للسلم لضعفهم فلماذا لا تبادر الأمم الأخرى بقهرهم بل وبإبادتهم في حالة ضعفهم حتى يأمنوا تماما خطرهم؟

ومن القتال المشروع مواجهة العدوان، الدفاع عن المستضعفين في الأرض والمضطهدين بسبب دينهم ومن أخرجوا من ديارهم والمغلوبين علي أمرهم، وكذلك لكف بأس من يحولون بين الناس وبين الإيمان بربهم أي من يتبنون سياسة اضطهاد المؤمنين وحصار دعوتهم، فيجب علي المؤمنين أن يقاتلوا كل معتدٍ بكل ما أوتوا من قوة وأن يكون مقصدهم إعلاء كلمة الله تعالى والدفاع عن دينه وقيمه، ولذلك يجب أيضاً ألا يعتدوا؛ فالعدوان محرم تحريماً باتاً، وعليهم الالتزام بكل آداب القتال والأوامر الشرعية المنظمة له، ويجب العلم بأن كل صور الإفساد في الأرض محرمة تحريماً باتاً؛ إذ هي من كبائر الإثم، فلا يجوز التعرض للمدنيين أو النساء أو الأطفال أو الدواب أو النباتات، فلا قتال إلا عندما تتوفر شروطه الشرعية.

والاعتداء على الآخرين هو من كبائر الإثم، وهو محرم تحريماً باتاً إلا رداً لاعتداء أو لكف بأس الذين كفروا ويهددون الأمة ويحاولون فتنتها في دينها أو للتصدي للظلمة أو لأهل البغي ولو كانوا محسوبين على المسلمين وما إلى ذلك من المبررات الشرعية، وردّ الاعتداء يكون بمثله، فلا يجوز الإسراف في رده.
والمشركون الذين أُمر القرن الأول من المسلمين بقتالهم حتى يسلموا هم من لم يؤمن بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قومه، ذلك لأن لأقوام الرسل أحكامهم الخاصة، ومنها أنه ليس مسموحا لقوم نبي مرسل بالبقاء على كفرهم بعدما جاءهم بالبينات، فطبقا للسنن لن يقبل من كفروا بالرسول بالتعايش السلمي مع الذين آمنوا فيعتدون عليهم ويحاولون فتنتهم في دينهم، وعندها يصبح لابد من الفصل بينهم في هذه الحياة الدنيا إما بآية كونية وإما بأيدي المؤمنين.
ولا يجوز لمسلم أن يقاتل مسلما آخر لمجرد زعمه بأنه مشرك وإلا لاضطر معظم المسلمين إلي أن يقاتلوا أنفسهم!! فأكثرهم بالفعل مشركون!! قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ}يوسف106، وقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(153)} (الأنعام)، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ{159} الأنعام،  وقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ{31} مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ{32} الروم.
ومن المعلوم أن المسلمين قد فرَّقوا بالفعل دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون وأنهم اتبعوا السبل فتفرقت بهم عن سبيل الله تعالى، وكل طائفة أو شيعة من المحسوبين على الإسلام إنما ترمي كل من خالفها بالشرك وبالكفر، فلا يجوز قتال من يعلن أنه مسلم بزعم أنه مشرك أو كافر، والمشركون الآن هم كل من يتخذ إلها أو رباً مع الله تعالى بطريقة واضحة صريحة معلنة، ولا يجوز قتال المشركين لمجرد أنهم مشركون إلا إذا اعتدوا هم على المؤمنين في دينهم أو حاولوا إخراجهم من ديارهم...الخ.
وعلي المسلمين عندما يفرض عليهم القتال أن يلتزموا بكافة القيم والمبادئ الإسلامية، والأمة المؤمنة لا تقاتل إلا لتحقيق المقاصد التي شُرِع من أجلها القتال مثل إعلاء كلمة الله ونصرة دين الحق ونصرة المستضعفين ومنع الفتنة وكفّ بأس الذين كفروا ودرء العدوان وردع المعتدين، فالالتزام بذلك يضمن لها النصر النهائي الحاسم، فالقتال المشروع لا يكون إلا في سبيل الله، أما القتال من أجل المغانم الدنيوية فليس من مهام الأمة المؤمنة بل هو من العدوان المنهي عنه بنصوص قاطعة، ويجب العلم بأن الله تعالى هو أغنى الأغنياء، وهو لا يقبل أي عمل إنساني شابه شرك، ولقد كان الانشغال بالغنائم الدنيوية من أسباب الهزيمة في أحد وبواتييه ومن أسباب تقويض صرح الأمة المؤمنة.
والمسلمون ليسوا مطالبين بالدفاع عن أسلافهم الذين لم يقوموا بواجب الدعوة إلى الإسلام بالأساليب الشرعية، وإنما قاتلوا الناس واعتدوا على الآمنين وسفكوا الدماء من أجل الغنائم الدنيوية، ولا يجوز أن يُربَّى المسلم على الفخر بهذه الاعتداءات وما ترتب عليها، ولقد كانت الجيوش التي اجتاحت العالم المحسوب على الإسلام من الشرق والغرب وفعلت به الأفاعيل هي رد الفعل الكوني ضد ما اقترفته هذه الأمة في حق الشعوب الأخرى طبقاً للسنن التي لا تبديل لها ولا تحويل ولا تحابي أحدا.
ومما فاقم من جرائم السلف المقدس في حق الله وكتابه ورسوله والإنسانية أنهم جعلوا من أسس مذاهبهم القول بأنه قد تمَّ نسخ الآيات الآمرة بالالتزام بالأساليب السلمية ومكارم الأخلاق عند الدعوة إلى الإسلام، وذلك بما سمَّوه بآية السيف، فأضافوا إلى جرائمهم تأويل الدين ابتغاء الفتنة ووفق الرغبات والأهواء الدنيوية.
-------
إن الدعوة إلى الإسلام إنما تكون بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن والحوار، أما العدوان فهو محرم تحريماً باتا ولا يمكن لأحد أن يتقرب إلى الله تعالى بعصيان أوامره والتمرد عليه، فلا قتال لإكراه الناس على الإيمان وإنما القتال لدرء الفتن والعدوان والاضطهاد الديني وللدفاع عن المستضعفين في الأرض، فإذا ما شنت أمة عدوانا على المسلمين لفتنتهم في دينهم أو لكسر شوكة المسلمين وجب قتالها، فإن جنحت للسلم يجب إيثاره أما إن تمادوا في العدوان فيجب على المسلمين أن يستمروا في القتال إلى أن يتحقق لهم إحدى الحسنيين فإن انتصروا فليس لهم أن يكرهوا المهزومين على اعتناق الإسلام إذ لا إكراه في الدين وإنما لهم أن يلزموهم بدفع غرامة حربية عادلة تعرف بالجزية، وليس لهم بالضرورة أن يحتلوا بلادهم فإن وجب ذلك لأي سبب من الأسباب فيجب الالتزام التام بالقيم الإسلامية والأسس والمبادئ التي أرساها الإسلام العالمي للتعايش السلمي بين الناس، وكل ما قرره السلف بهذا الخصوص هو أمور اجتهادية يمكن الاستئناس بها ولا يلزم الأخذ بها، وفي تلك الحالة فإنه علي المتمسكين بدينهم القديم أن يؤدوا إلي أولي الأمر ضريبة تكافئ ما يؤديه المسلمون من الزكاة كمساهمة لازمة في إدارة شؤون الجميع، ولقد أخطأ السلف عندما سموا تلك الضريبة بالجزية؛ وربما كان ذلك لأنهم لم يجدوا اسماً آخر.
-------
إن القتال هو من الأركان الفرعية للجهاد، ولا قتال إلا عندما تتوفر شروطه الشرعية، وعلى المسلمين عندما يُفرض عليهم القتال أن يلتزموا بكافة القيم والمبادئ الإسلامية.
إن أكثر الأوامر والتعليمات المتعلقة بالقتال هي خاصة بالقتال في الدين، أي هي خاصة بالقتال ضد من يعتدون على المسلمين لمجرد أنهم مسلمون أو ضد من يضطهدون المسلمين ليفتنوهم في دينهم أو ضد من يمنعون المسلمين من الدعوة إلى الإسلام بالطرق السلمية، والقتال هو دائماً آخر التدابير الواجب اتخاذها لحسم الأمور.
-------
والقتال بين طائفتين من المؤمنين أمر وارد ولا ينفي عن أيهما صفة الإيمان، ولكن على باقي الأمة ألا يتخذوا موقفاً سلبياً من الأمر؛ فلا بد أولاً من محاولة الإصلاح بين الطائفتين بالعدل والقسط وإلا فلا مناص من استعمال القوة لردع الطائفة الباغية، فالإصلاح بين طوائف المؤمنين بالعدل والقسط وقتال أهل البغي من أوامر الدين الملزمة للأمة، ولذلك يأثم –مثلا- كل من لم يقاتل زعيم أهل البغي معاوية، ويأثم كل من أصر على تقديسه وتوثينه، وكل الكيانات المحسوبة علي الإسلام في هذا العصر بأن توفر ما يلزم من آليات لتفعيل أمر التصالح بين المؤمنين وإفشاء السلام بينهم وقتال أهل البغي المصرين على العدوان وسفك دماء المسلمين إذا لم يكن هناك مناص من ذلك.
*******
وقد زعم بعضهم أن ثمة أحكاماً مرحلية وأحكاماً نهائية في القرءان، وكان ذلك انطلاقا من التسليم المطلق بصحة القول بوجود آيات منسوخة في القرءان، فقالوا إن القتال الدائم للمشركين والكافرين هو الأمر الاستراتيجي النهائي، أما تقييد وجوب القتال بأي أمر آخر؛ أي تركه مثلا في حالة ضعف المسلمين فهو أمر مرحلي تكتيكي، وهذا الزعم باطل، فعلي كل من أراد أن يعرف حكم القرءان في أمر القتال أن يتبع المنهج القرءاني السابق ذكره وأن يعلم أن الله تعالى ليس بحاجة إلى اتباع أساليب مكيافيللية مع مخلوقاته وأنه لو شاء لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا، وَلَوْ شَاء لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً.
أما الذين يدعون أن من واجبهم شن حرب شعواء ضد البشرية جمعاء وأنه لا عذر لهم إلا ضعفهم، وأنه يجب مواصلة القتال بمجرد استرداد قوتهم فهم لا يعتنقون دين الحق وإنما يعتنقون أيديولوجية دموية إجرامية، ولا يستطيع أحد أن يلوم البشرية إذا ما تحالفت للقضاء عليهم قضاءً تاما.
إنه علي الضالين المضلين أن يعلموا أن لله سبحانه الكمال المطلق وأنه كما قال: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، وليس ليفترس بعضهم بعضا ولا ليستعبد بعضهم بعضا، وأنه لن يأمر المؤمنين بالتربص بالآخرين وأنه قرر بكل وضوح وبأجلي بيان أنه لا إكراه علي الإيمان ولا إكراه في الدين وهو لن يعمل علي الإيقاع بين المؤمنين وبين الناس كافة، وإذا كانت تلك العقيدة معلومة للكافة فما الذي سيضطر باقي الناس إلي الصبر علي فئة تتربص بهم وتتحيَّن الفرصة للاعتداء عليهم، وإذا ما اضطر المسلمون إلي الجنوح للسلم لضعفهم فلماذا لا تبادر الأمم الأخرى بقهرهم بل وبإبادتهم في حالة ضعفهم حتى يأمنوا تماما خطرهم؟
إنه لا يجوز قتال الآخرين لمجرد الزعم أو القول بأنهم كفار أو مشركين أو لتحقيق الفصل النهائي بين المسلمين وبين غيرهم، فمثل هذا الفصل لن يتحقق إلا في يوم الفصل، ولقد نصّ القرءان على ذلك، وسيظل هنالك طوائف من أهل الكتاب إلى يوم القيامة كما ذكر ذلك القرءان أيضا.
إن الله تعالى أرسل النبي الخاتم رحمة للعالمين، وجعل الرسالة الخاتمة رسالة هدى ونور ورحمة لهم وليست إعلانا بالحرب الدائمة عليهم!
-------
إن القتال يعتبر في الإسلام أمرا مكروها ولكنه في كثير من الأحيان يكون أمراً لا مفر منه، ويجب أن يُنظَر إليه على ضوء ما تضمن الكتاب العزيز من منظومات المقاصد والقيم والسنن، فالإسلام يقدس الحياة ويكرِّم الإنسان ويحرِّم الظلم والبغي والإفساد في الأرض، وينص على أن الإنسان مخير في أموره حتى في أمر الإيمان وأنه لا إكراه في الدين، وما قام به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ هو عمل بمقتضيات كل ما سبق ذكره، لذلك أمر بالكفّ عن قتل النساء والصبيان والولدان والشيوخ والرهبان، وكانت وصايا أبي بكر انطلاقا مما تعلمه من الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، ذلك لأن دلالة هؤلاء بأقوالهم وأفعالهم على السنن الحقيقية أقوى من دلالة المرويات الظنية، وكذلك من سنن القتال الكف عن الغدر أو المثلة أو الغلول وعن الإفساد في الأرض بتحريق أو قطع الشجر أو هدم العمران إلا للضرورة القصوى، ولا يمكن أن يكون القتال الذي من مقاصده التصدي للإفساد في الأرض أن يكون هو وسيلة للإفساد في الأرض، ولا يمكن أن يكون القتال الذي من مقاصده التصدي للاضطهاد الديني وسيلة لاضطهاد الآخرين بسبب الدين، والقتال لا يكون مشروعا إلا لأسبابه المنصوص عليها في القرءان؛ فهو يكون في سبيل الله تعالى وليس طلباً لمغنم دنيوي فالقتال ينبغي أن يكون في سبيل الله تعالى أولا وقبل كل شيء أما العدوان فهو محرم تحريما قطعيا وكذلك الظلم والبغي والإفساد في الأرض، وبالتالي فلا يمكن أن يكون القتال مشروعا إذا شابه شيء من تلك الآثام الكبرى والجرائم العظمى.
-------
دين الحق بريء من الشبهات التي يتحدث عنها أعداء الإسلام بخصوص موضوعي الجهاد والقتال، ولكن هذه الشبهات هي للأسف صحيحة بالنسبة للمذاهب السائدة التي حلَّت محلّ الإسلام وخاصة المذهب اللاسني والسلفي، وهؤلاء لا يستطيعون بالفعل الرد عليها، وهي سارية في التراث وتاريخ المسلمين بحيث لا يمكن تنقية التراث منها وإلا لوجب محوه! وهم يقولون بالفعل إن آية السيف نسخت كل الآيات القرءانية التي تقرر حرية الإيمان وتدعو للسلم وتأمر بالصفح وتجعل كل أساليب الدعوة سلمية، وكل الإرهابيين الدوليين وأكابر المفسدين والمجرمين من حزب الشياطين إنما يستندون إلى أقوال هذه المذاهب ويحسبون أنهم يحسنون صنعا.
-------
أنت تعلم أن أحد الفقراء الضعفاء يتربص بك شرا، وهو يؤمن إيماناً لا يتزعزع بأنه يجب أن يعاديك، وهو لا يعاديك إلا لأنك لست مثله فقط، وهو لا يهاجمك الآن لأنه يعلم أنك تستطيع أن تسحقه تحت قدميك لو فعل، ولكنه ينتظر فرصة ضعف منك أو قوة منه على أحر من الجمر ليقتحم عليك بيتك ليقيم فيه ويستولي على أموالك ونسائك وأطفالك ويرسل الفائض إلى سوق الرقيق ولكي يلزمك أنت بالذل والهوان وأحكام الصغار، وهو إما أن يقتلك وإما أن يسخرك للعمل لكي يستولي على الجزء الأكبر من ناتج عملك بحجة أنه يدافع عنك وليسمح لك بألا تعتنق مذهبه، ما هو الموقف العادل الواجب اتخاذه تجاهه؟
-------
إن كل الآيات التي تتحدث عن القتال يبيِّن بعضُها بعضا ويُفصِّل بعضها بعضا ويقيِّد بعضها بعضا، وليس فيها آيات منسوخة، فليس في القرءان كله آيات منسوخة، فلا يجوز القول بأن المدنية منها نسخت المكية ولا أن آخرها نزولا مثلا نسخ ما قبله، والأحكام الراسخة هي التي بيَّن الله تعالى بكل وضوح أنها من مقتضيات سماته، قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}الممتحنة8، وقال: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ }البقرة190، فالنهي عن العدوان والأمر بالبر والإقساط إلى المسالمين هي من مقتضيات سمات إلهية ثابتة واجبة لا تبديل لها ولا تحويل، وهي أنه سبحانه يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ولاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ، فيجب أن يكف المغضوب عليهم والضالون عن التطاول على القرءان الكريم دفاعاً عن أسلافهم المعتدين المحرفين!
والآيات تبين بكل جلاء ووضوح أن حالة السلم والبر والإقساط هي الحالة الثابتة المرجوة، وأن الخروج عنها هو الحالة الاستثنائية التي تستلزم وجود ما يوجب ذلك.
-------
إن القتال لا يكون مشروعا إلا إذا كان في سبيل الله تعالي؛ أي في سبيل تحقيق مقاصد الدين العظمي وأركان الدين والدفاع عن قيَـمه إذا لم يكن ثمة سبيل آخر، والمسلم يخوضه ليس في سبيل غرض دنيوي ولا لأنه مولع بالقتال ولا لإظهار شجاعته وقوته وإنما لأنه أمر قد كُتِب عليه ولا مناص منه، فالقتال إنما يكون دفاعا عن حقوق الله تعالي وعن حقوق الإنسان خاصة إذا كان مستضعفا في الأرض أو مضطهداً في دينه أو مطرودا من دياره ويكون من الأصلح للإنسانية كسر شوكة المستكبرين في الأرض المفسدين فيها، ومن أوجب حقوق الإنسان التي يجب علي المسلم الدفاع عنها حق نفسه ثم الأقرب فالأقرب أي حق أسرته ثم حق قومه ووطنه ثم حق الإنسانية جمعاء، والدفاع لا يكون عن الأشياء المادية فقط ولكن عن الأمور المعنوية أيضا ومنها القيم والمبادئ والمثل العليا.
-------
قال سبحانه وتعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} الأنفال65، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} الأنفال45.
تبين الآيات شروط الغلبة في القتال، وهي: الإيمان والصبر والفقه وذكر الله ووجود القيادة الراشدة التي تستطيع إيقاظ العزائم والهمم، والصبر هاهنا هو متانة البنيان النفسي لكل فرد على حدة وللجماعة كلها أيضاً والذي من مظاهره الثبات والصمود والقدرة على مواجهة التحديات والصعاب، ومتانة بنيان الجماعة إنما هو لمتانة الروابط فيما بين مكوناتها وعناصرها فضلاً عن متانة بنيان تلك المكونات والعناصر، أما الفقه فهو ليس بالطبع الفقه بالمفهوم الذي أحدثه الناس ولكنه الفقه بمعناه القرءاني والأصلي، أي تلك الملكة الذهنية التي بها يستوعب الإنسان العلوم والحقائق والقوانين والسنن بحيث يتمكن من الإفادة منها والانتفاع بها، أما ذكر الله فهو الشرط اللازم لتحقيق أي فلاح حقيقي، فالجماعة المؤمنة تنتصر بحكم تفوقها علي كافة المستويات النفسية والقلبية الوجدانية والذهنية على أعدائها، والكلام هاهنا يتضمن أيضاً المجادلات العقائدية التي يدافع فيها طرف عن الدين الحق ويدافع الطرف الآخر عن الباطل ويسعون لدفن الحقائق وإطفاء نور الله.
-------
قال تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} التوبة29.
إن المنهج القرءاني الواجب اتباعه لاستخلاص القول القرءاني بخصوص أي أمر أنه يجب أن يؤخذ في الاعتبار كل الآيات التي ورد فيها ذكر لهذا الأمر وأن يؤخذ في الاعتبار ما تتضمنه كل آية من المعاني والأسماء والشئون الإلهية التي اقتضتها وأن يكون لكل آية حجيتها، فيجب معرفة الشأن الإلهي الذي يستند إليه الحكم الوارد في الآية.
ولا يجوز أبدا إهمال أية آية بحجة أنها منسوخة أو أنها كانت مرحلية.... الخ، فذلك القول يتضمن كفرا ببعض الكتاب وسوء أدب مع من القرءان كلامه.
وباتباع ذلك يتبين أن القتال ممنوع منعاً باتاً إلا إذا اجتمعت كل شروطه، ومنها ما جاء فيما يلي: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ }البقرة190، {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ}البقرة193، {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }البقرة194، {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}البقرة244، {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً}النساء75، {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً}النساء84، {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}الأنفال39، {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ}التوبة12، {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ}التوبة13، {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ }الحج39، {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}الممتحنة8، {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}الممتحنة9.
فالقتال محرَّم إلا عندما تتوفر شروطه الشرعية، وأول شروطه هو أن يكون في سبيل الله حقاً وصدقا وليس للتوسع العسكري ولا للاستيلاء على بلاد الآخرين ومواردهم وليس لاستعباد الناس ولا لإكراههم على الإيمان، أي لا يجوز أن يكون طلباً بالأصالة لمغانم دنيوية، فإن لم تتوفر شروطه فهو عدوان إجرامي منهي عنه، إن الله تعالى أعلن بكل وضوح أنه لا يجوز قتال إلا من بدأ بالقتال وأعلن أنه لا يحب المعتدين، فهذه سمة من سماته لا تبديل لها ولا تحويل.
فهذه الآية تدخل في إطار كل الآيات الخاصة بالقتال، وهي تبين أنه في حالة قتال أهل الكتاب لاقترافهم ما يوجب قتالهم مثل الاعتداء السافر على المؤمنين بسبب إيمانهم فإنه يجب الاستمرار في القتال حتى يدفعوا جزاء عدوانهم؛ أي يدفعوا الجزية؛ فهي بمثابة غرامة حربية، وهذا الحكم نسخ الأحكام الواردة في كتب أهل الكتاب والتي كانت توجب استئصالهم إن لم يؤمنوا.
إنه وفقاً لعقيدة الناسخ والمنسوخ التي يعتنقها بعض المغضوب عليهم والضالين فإن هذه الآية التي لقبوها بآية السيف قد نسخت كل الآيات التي تبين الأساليب الشرعية للدعوة إلي الله، ولقد استعملوها (بالمرَّة) لنسخ كل الآيات التي تحض على التمسك بمكارم الأخلاق عند التعامل مع الناس، وكل هذا يعني أن يشن المسلمون حرباً عالمية علي كافة الشعوب التي لا تدين بدين الإسلام حتى يذعنوا ويعطوا الجزية للسلطات التي تقول إنها إسلامية، وطالما سيظل هناك دائماً من سيتمسك بدينه كما قال الله عز وجل في القرءان، فهذا يعني أن يكون القتال هو القاعدة والسلام هو الاستثناء النادر وأن المسلمين لن يكفوا عن القتال إلا مرغمين، وبافتراض أن المحسوبين على الإسلام قد قهروا كل البشر الآخرين فما الذي يمنع أن تبرز جهة أخرى تدعي أنها تمثِّل الإسلام الصحيح وأن الآخرين كفار أو مشركون أو منافقون كما هو متحقق بالفعل؟ أو تدعي أن السلطة القائمة لا شرعية لها لأي سبب من الأسباب مثلما حدث من قبل مع خير القرون؟ إن هذا يقتضي حروباً دموية لابد أن يستأصل فيها أحد الأطراف الطرف الآخر، فهل يعتقد أحد أنه من أجل ذلك نزل الإسلام؟ إن الحق هو أنه عند البحث عن حكم القرءان بخصوص أمرٍ ما فيجب أن يؤخذ في الاعتبار كل الآيات التي ورد فيها ذكر لهذا الأمر وأن يؤخذ في الاعتبار ما تتضمنه كل آية من المعاني والأسماء والشئون الإلهية التي اقتضتها وأن يكون لكل آية حجيتها، وباتباع ذلك يتبين أن القتال ممنوع منعاً باتاً إلا إذا اجتمعت كل شروطه، ومنها ما جاء فيما يلي: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ }البقرة190، {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ}البقرة193، {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }البقرة194، {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}البقرة244، {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً}النساء75، {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً}النساء84، {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}الأنفال39، {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ}التوبة12، {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ}التوبة13، {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ }الحج39، {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}الممتحنة8، {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}الممتحنة9.
وبالنسبة لقوله تعالى: {فمن اعْتَدَى عَلَيكم فاعْتَدُوا عليه بمِثْلِ ما اعْتَدَى عَليكم}؛ فقد سَمَّاه اعْتِداءً لأَنه مُجازاةُ اعْتِداءٍ بمثْل اسمه، لأَن صورة الفِعْلين واحدةٌ، وإِن كان أَحدُهما طاعةً والآخر معصية؛ فقد سُمِّي جزاء الاعتداء "اعتداء" على سبيل المشاكلة، والعرب تقول: ظَلَمني فلان فظلَمته؛ أَي جازَيْتُه بظُلْمِه لا أكثر ولا أقلّ، والأَوَّلُ ظُلْم والثاني جزاءٌ ليس بظلم، وإن وافق اللفظُ اللفظَ مثل قوله تعالى: {وجزاءُ سيِّئةٍ سيئةٌ مثلُها}؛ السيئة الأُولى سيئة، والثانية مُجازاة وإن سميت سيئة ولأنها أيضا تتضمن إساءة إلى من بدأ بها، ومثل ذلك في كلام العرب كثير.
والقتال محرم إلا عندما تتوفر شروطه الشرعية، وأول شروطه هو أن يكون في سبيل الله حقاً وصدقا وليس للتوسع العسكري ولا للاستيلاء على بلاد الآخرين ومواردهم وليس لاستعباد الناس واستحياء نسائهم والاستيلاء على بلادهم ولا لإكراههم على الإيمان، فإن لم تتوفر شروطه فهو عدوان إجرامي منهي عنه.
أما القتال الذي لم تتحقق شروطه الشرعية فهو إفساد في الأرض على نطاق واسع، وهذا من كبائر الإثم المنهي عنها، والكيان (الأمة، الشعب، الدولة) الذي تورط فيه سيلقى جزاءه في الدنيا قبل الآخرة، وسيدفع الثمن إن عاجلا أو آجلا، ولعلكم تذكرون الرومان الذين أسسوا أكبر إمبراطورية واحتلوا ديار وبلاد شعوب شديدة التنوع وسفكوا من الدماء ما لا حصر له، ماذا كان مصيرهم؟ لقد أبيدوا تماما واغتصبت كل حرائرهم ونهبت كل أموالهم، كان ذلك على أيدي من سموهم بالبرابرة، وهذا ما حدث مع الأشوريين والأمويين والعباسيين، وهذا ما سيحدث ضد كل من تورط في العدوان على نطاق واسع. 
ويجب العلم بأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان مكلفاً بقتال قومه من العرب والأعراب حتى يسلموا من حيث أنه مرسل إليهم خاصة كما هو مرسل للناس عامة، فثمة أحكام خاصة بأقوام الرسل لا يجوز تعميمها على غيرهم، فلابد من الفصل بين من آمن بالرسول وبين من كفر به في هذه الحياة الدنيا، وتلك هي السنة التي بينها القرءان بأجلى بيان، إنه يجب أن يعلم الناس ما يلي:
1.               أن الرسول كان مرسلاً لقومه خاصة كما هو مرسل للناس كافة.
2.               قدَّم لقومه كل ما يلزم من البينات والبراهين، وكل رسول ملزم بذلك، فمن لم يؤمن من قوم الرسل بعدما رأى ما يكفي من البينات والبراهين هو مجرم عات يشكل خطرا على البشرية ويجب التخلص منه لصالح تطور وتقدم البشرية كأي مجرم ميئوس منه.
3.               كان القضاء على الكفار المجرمين يتم من قبل باستعمال آية كونية وقد نُسخ ذلك في الإسلام ومع خاتم النبيين.
4.               أعلن القرءان أن الخلاص من الكفار المجرمين سيتم بأيدي من آمن من قوم الرسول.
5.               لا يجوز تعميم أحكام قوم الرسول على غيرهم، وهذا ما بيَّنه القرءان بأجلى بيان عندما نص على سبل الدعوة والتعامل مع الآخرين، وهذا هو عين العدل فهم لم يروا رسولاً يقدم لهم ما يكفي من الأدلة والبراهين لإثبات صحة الإسلام وإنما رأوا أناساً يسمون أنفسهم بالمسلمين يعتنقون مذاهب مضادة للإسلام ويكفي سلوكهم لصد كافة الأمم عن سبيل الله تعالى.
6.               إنه يجب تماماً العلم بأن الحكم النهائي والفصل التام بين أتباع كافة الأديان والمذاهب لن يكون إلا في يوم الفصل.
-------
إن القرءان بيَّن تماماً الأحكام الخاصة بالتعامل مع متبعي الأديان الأخرى بعد ظهور الإسلام، فرغم قوله فيهم لم يبح لأحد إكراههم على الإيمان، ولقد أعلن أنهم باقون إلى يوم القيامة وأن الفصل والحكم بين شتى الطوائف سيكون في هذا اليوم الذي سمي لذلك بيوم الفصل، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} الحج17.
ولذلك ليس لأحد أن يقحم نفسه في العلاقة بين الله تعالى وبين مخلوقاته، خاصة وقد أعلن أنه هو الذي جعل لكل طائفة شرعة ومنهاجا وأمرهم باستباق الخيرات، فليس لأحد أن يجعل من نفسه محكمة تفتيش على الآخرين، ويجب أن يتعلم الناس على اختلاف أديانهم ومذاهبهم حتمية وضرورة التعايش السلمي فيما بينهم.
وكل التاريخ العالمي يثبت أنه من العبث أن يحاول أتباع أي دين أو مذهب القضاء على أتباع دين أو مذهب آخر، ولقد دفع الشرق الإسلامي وأوروبا ثمن أمثال هذه المحاولات باهظا.
وفي الحروب الدينية المذهبية في فرنسا في القرن السادس عشر وفي ألمانيا في القرن السابع عشر حدثت حروب مهلكة ومجازر مروعة، واستعان أتباع كل مذهب بقوى خارجية على إخوانهم ومواطنيهم من أتباع المذهب الآخر فخربوا بلادهم ونهبوا خيراتها ولم يميزوا في ذلك بين أتباع مذهب وآخر، أما الألمان فقد تحولوا إلى أكلة لحوم بشر وهلك جزء كبير منهم واضطروا إلى إباحة تعدد الزوجات ومنع الرهبنة!! فلم يتعلم الناس في الغرب التسامح مجانا، وإنما دفعوا ثمن ذلك غاليا.
أما الأحكام الخاصة بأقوام الرسل فتبينها الآيات: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}يونس47، {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ{110}} يوسف،  {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ{58} وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ{59} وَأُتْبِعُواْ فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ{60}هود،  فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ{66} وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ{67} كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ{68}}، هود، قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ{81} فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ{82} مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ{83} هود، وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ{94} كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ{95} هود، ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ{100} وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ{101} وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ{102} هود،  وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ{171} إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ{172} وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ{173}، الصافات، {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ }غافر5.
ولقد تضمنت سورتا الأنفال والتوبة الأوامر الخاصة بتعامل الرسول مع قومه، وآيات القرءان توضح بكل جلاء أن للقتال أسبابه المعلومة وليس من بينها أبداً إكراه الناس على اعتناق الإسلام، وبداية يجب أن يكون القتال في سبيل الله وليس في سبيل متاع دنيوي، والقتال يمكن أن يكون لما يلي إذا فشلت المساعي السلمية: دفع العدوان-التصدي للظالمين-إغاثة المؤمنين المضطهدين في دينهم-كف بأس الذين كفروا-درء الفتنة-رداً على من نقض معاهدة سلام-تأديباً لمن اضطهد المؤمنين وأخرجهم من ديارهم-التصدي للمفسدين في الأرض...الخ.
-------
إن القتال علي المستوى الأممي لا يكون إلا لرد العدوان ولاسترداد الديار ولكفّ بأس الذين كفروا ولمنعهم من اضطهاد المسلمين وفتنتهم في دينهم، وهو لا يكون أبداً للاستيلاء علي أراضي المسالمين واستعبادهم، أما المعارك التي نشبت مع الفرس والروم فكانت لحماية دولة الإسلام الوليدة والتي لم يكن الفرس والروم ليتركوها وشأنها، ولو هاجم جيش كثيف من أيهما الحجاز لما صمد كما أثبتت الأحداث من بعد، فقد تمكن كل من مسرف ابن عقبة ومن بعده الحصين بن نمير ومن بعده الحجاج من الاستيلاء علي المدينة ثم مكة وهدمت الكعبة أثناء ذلك مرتين بجيش لم يتجاوز في كل حالة بضعة آلاف، ولقد حتَّمت العوامل الاستراتيجية استكمال الهجوم للقضاء علي الإمبراطورية الفارسية شرقاً وطرد الروم من مصر غرباً، ولو لم يفعل العرب ذلك لأمكن للرومان مثلا شن هجوم بحري قوي من مصر للقضاء علي الدولة الوليدة، ولقد تمكنوا من قبل بتفوقهم البحري الكاسح من تحويل هزيمتهم الهائلة أمام الفرس المذكورة في القرءان إلى انتصار ساحق، إن الروم كانوا سيحاصرون المدينة بجيش هائل جيد التجهيز والتسليح، وعندها كان المسلمون سيبدون شتى ضروب البطولة ولكنهم كانوا سيتعرضون في النهاية للإبادة بدون رحمة، وهذا ما حدث عندما ثار من بعد محمد النفس الزكية علي الطاغية العباسي أبي جعفر، إن متابعة المعركة مع الفرس إلي نهايتها الحاسمة ومتابعة الزحف للاستيلاء علي مصر هما من علامات التفوق في التفكير الاستراتيجي الذي كان يتميز به الفاروق عمر، وبالطبع فقد شابت تلك المعارك مخالفات شرعية جسيمة أملتها طبيعة العصور الوسطى وجهل أكثر الجنود بقيم الإسلام ومُثُله واستمرار تسلط منظومة الأخلاق الجاهلية عليهم، فالإسلام بريء من كل تلك المخالفات ولا يجوز أن تحسب عليه.
-------
قال تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} محمد4.
الآية تتحدث بالطبع عما يجب اتباعه أثناء القتال، وليس عند مجرد لقاء الذين كفروا، والقتال نفسه يجب أن يكون له مبرره الشرعي المنصوص عليه في جماع الآيات التي تتناول مسألة القتال، وعند بدء المعركة يجب أن يضرب الجنود بكل ما أوتوا من قوة وأن يوقعوا بالعدو أكبر قدر من الخسائر ردعا لهم وحسما للقتال في أقل وقت وبأقل قدر من الخسائر، وليس لهم بالطبع أن يقابلوا عدوهم المدجج بالسلاح المصمم على استئصالهم بالورود والرياحين والقبلات!
 أما حكم الأسير الكافر فهو المنّ أو الفداء، وإذا أطلق سراحه فإن الإحسان إليه هو طاعة يتقرب بها الإنسان إلى ربه، قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} الإنسان8.
والآية لم تدع مجالاً لأي معاملة أخرى، وبالتالي لا يجوز استعبادهم أو تسخيرهم في عمل شاق إلا على سبيل مقابلة العدوان بمثله. أما الأسير من أهل الكتاب فيجب أن يعاملوا بالطبع معاملة أفضل من الأسرى الكفار.
-------
إنه لا وجود ولا شرعية لما يسمى بجهاد الطلب وهو مهاجمة غير المسلمين في بلادهم بحجة أنهم كفار دون أن يقترفوا أي خطأ في حق المسلمين من الأخطاء المحددة والمبينة في القرءان الكريم ومنها بالطبع الاعتداء على المسلمين في الدين أو اضطهاد المسلمين أو إخراجهم من ديارهم بسبب دينهم، والجهاد نفسه هو أمر آخر أعمّ من القتال، والقتال ليس من الوسائل الشرعية للدعوة إلى الإسلام، وهو نفسه لا يكون مشروعاً إلا إذا كان من باب التصدي لعدوان وليس للاعتداء على الآخرين.
وغزوة تبوك لم تكن أبداً لإرغام الروم ولا حلفائهم العرب على دخول الإسلام وإنما كانت ثأرا لغزوة مؤتة والتي كانت أصلا لأن الغساسنة قتلوا من أرسله الرسول إليهم يدعوهم سلميا إلى الإسلام بحكم أنه رسول.
فسبب معركة مؤتة أن الرسول بعث الحارث بن عمير الأزدي بكتابه إلى عظيم بُصْرَى،‏ فعرض له شُرَحْبِيل بن عمرو الغساني وكان عاملاً على البلقاء من أرض الشام من قبل قيصر، فأوثقه رباطاً، ثم قدمه فضرب عنقه، وهذه بكل المقاييس جريمة كبرى وعمل خسيس، وقد كان قتل السفراء والرسل من أشنع الجرائم في الزمن القديم، ويساوي بل ويزيد على إعلان حالة الحرب.
وقد تدخل الروم بقواتهم الهائلة في معركة مؤتة لصالح الغساسنة وتسببوا في مقتل مجموعة من خيرة المسلمين، كان منهم جعفر بن أبي طالب ابن عم النبي وكذلك زيد بن حارثة الذي كان ابنه بالتبني قبل تحريم التبني، ولولا عبقرية خالد العسكرية لأبادوا الجيش كله، وهم بذلك قد أشعلوا نيران الحروب التي أدت من بعد إلى طردهم من الشرق الأوسط، كانت حروبا عادلة، وكانت هزائمهم فيها جزاءً وفاقا.
-------
إن أمة المؤمنين ليست مطالبة بقتال كل العالمين لكي تخيِّرهم بين الإسلام أو الجزية أو استمرار القتال إلي النهاية، ولكنها مطالبة بالقتال وهو كره لها عندما تتوفر شروطه المعلومة والمبينة في الآيات القرءانية، وعند رغبة المعتدين في إيقاف القتال والجنوح للسلم فيجب الاستجابة لهم مع فرض غرامة حربية ثقيلة عليهم ورادعة لهم ولأمثالهم يدفعونها عن يد وهم صاغرون حتى لا يعودوا لمثلها أو أن يثيروا من بعد أسباب القتال، وتلك الغرامة هي المعروفة بالجزية، والمسلمون ليسوا مطالبين بالضرورة باحتلال بلادهم إلا إذا كان ذلك لازماً لتحصيل الغرامة المذكورة، وهم ليسوا مطالبين بإخراجهم من ديارهم ولا بنهب مواردهم ولا بسبي نسائهم، وليس مسموحاً لهم بظلمهم واضطهادهم أو إكراههم علي اعتناق الإسلام، ويجب التمييز دائماً بين الأحكام الخاصة بقوم الرسول وبين الأحكام الدينية الخاصة بالعالمين، ويجب العلم بأنه من الأولى أن تكون الأمة قوية وأن يكون لديها من القوة ما يكفي لإرهاب -أي ردع- أعدائها فلا يفكرون أبداً في الاعتداء عليها.
-------
سنــن القتــال
1-               إن القتال يجب أن يكون في سبيل الله وحده، وسبل الله مبينة في القرءان.
2-               وهذا يقتضي أولاً التمسك بقيم ومبادئ ومثل الإسلام، كما يقتضي ألا يكون القتال طلبا لتحقيق مجد أو شهرة أو لغنيمة دنيوية ولقد ندد الكتاب بمن يريد بالقتال عرض الدنيا وتوعده، وعندما تبين وجود بعض (الصحابة) يريدون الدنيا في معركة أحد حكم عليهم جميعا بالهزيمة، وكان درسا قاسيا.
3-               من القتال المشروع: التصدي للعدوان، الدفاع عن النفس والأهل والمال والعرض والديار (الوطن)، الدفاع عن المستضعفين في الأرض والمضطهدين بسبب دينهم ومن أخرجوا من ديارهم والمغلوبين على أمرهم، وكذلك لكف بأس من يحولون بين الناس وبين الإيمان بربهم أي من يتبنون سياسة اضطهاد المؤمنين وحصار دعوتهم، القضاء على الفتن وكف بأس من يؤججها، التصدي لأهل البغي وإن كانوا مؤمنين.
4-               فلابد أن يكون للقتال مسوغه الشرعي كوأد الفتنة أي مقاومة الاضطهاد الديني واسترداد الديار وكف بأس الذين كفروا ويهددون المسلمين ويشكلون خطرا ماثلاً عليهم، ومن المسوغات أيضا الدفاع عن المستضعفين ودرء العدوان والتصدي له.
5-               العدوان محرم تحريما باتاً.
6-               لا يجوز نقض العهد، فإذا كان ثمة مسوغ حقيقي لنقض العهد فيجب إيذان الطرف الآخر.
7-               السلام هو الأصل وهو المقصد، لذلك فعلى المؤمنين أن يجنحوا للسلم إذا ما أبدى الطرف الآخر رغبة في السلام حتى وان كان ثمة شك في دوافعه.
8-               إعداد كل ما هو ممكن من عدة معنوية ومادية لقتال العدو، ومن العدة المعنوية تقوية الإيمان والثقة بالله والتوكل عليه وذكر الله والتحلي بالصبر وهو الجلد والقدرة على الصمود وتحمل المشاق وكذلك التحلي بالفقه أي بالإدراك الواعي المتبصر للقوانين والسنن واستيعابها بحيث يمكن الإفادة منها.
9-               الحصول على أقصى قدر من المعلومات عن العدو واستغلالها إلى المدى الأقصى.
10-               الكف عن إيذاء غير المحاربين (المدنيين بالاصطلاح المعاصر).
11-               اجتناب الإفساد في الأرض.
12-               الإعداد الجيد للجنود بالتدريب المستمر.
13-               الإعداد والتحضير الجيد للقتال والتخطيط الجيد للمعركة.
14-               إجتناب تعريض الجنود لمخاطر جسيمة بلا مبرر أثناء المعركة.
15-               أخذ زمام المبادرة واختيار أنسب الظروف والتوقيتات للقتال.
16-               حسن معاملة الأسرى وهم بين أمرين إما المن وإما الفداء.
17-               الإدارة الجيدة الواعية للمعركة.
18-               يجب المبادرة بإيقاع أكبر قدر من الخسائر المؤثرة في العدو والإثخان فيه وأن تكون الضربة الأولى فى غاية القوة.
19-               ألا يكون الحصول على الغنائم هو الهدف من القتال وبالأحرى عدم السماح بأن يتسبب ذلك في الإخلال بخطة المعركة.
20-               لا يجوز التورط في المثلة ولا الإجهاز على جريح.
21-               حكم الأسرى هو المنّ أو الفداء، ويجب الإحسان إليهم ما داموا أسرى.
------------
إن مقاصد القتال وشروطه موضحة تماماً في كل الآيات التي ورد فيها هذا المصطلح، فإذا ما فُرض علي المسلمين قتال قوم من أهل الكتاب فإن القتال لا يكون لإكراههم على الإسلام وإنما لكف بأسهم والتصدي لعدوانهم ووأد الفتن ومنع اضطهاد المستضعفين أو استرداد الديار، وكمخرج من استمرار القتال يلزم الطرف المعتدي بدفع غرامة حربية تسمى بالجزية، ولم يأمر القرءان أحداً باحتلال أرض أحد ولا باستيطانها، وما حدث من ذلك في الماضي إنما هو من مقتضيات السنن التاريخية والاجتماعية، ولم يأمر القرءان ولا الرسول أبا بكر بتوجيه الجيوش إلى الشمال لقهر الفرس والروم، ولقد اكتفى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رسائله بالبلاغ والإنذار وتحميلهم وزر من يتسلطون عليهم، أما التوصية بإنفاذ جيش أسامة فكان له مقاصده الخاصة المعروفة، ولم يكن الهدف منه أبداً شن حرب واسعة النطاق علي الروم، ولقد كانت قرارات السقيفة وحروب الردة وفتح جبهات مع الفرس والروم ولوازم ذلك من القرارات الفرعية اجتهادات من أبي بكر الصديق كان مقصدها منه بلا ريب الخير، وكانت كلها صحيحة من الناحية الاستراتيجية ولم تكن بالضرورة قرارات مثالية من الناحية الشرعية الدينية.
------------
رووا أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم"، هذه المروية ترجع إلى أصل صحيح، والحديث ليس أمرا بقتال الناس كافة حتى يؤمنوا إذ لا إكراه في الدين, بل هو أمر إليه وإلى قومه وإليه من حيث  ولي أمورهم بالكف عمن قال من قومه (لا إله إلا الله) حتى لو ثبت أنه ما قالها إلا اتقاءً للقتل، فبالنسبة لقومه من العرب والأعراب فلقد أُمر بقتالهم حتى يسلموا وليس ليؤمنوا، وهذا القول للرسول لا ينسخ بالطبع حرية الإيمان أي حرية العقيدة المقررة بنصوص قرءانية محكمة لا لبس فيها، والإسلام المطلوب من الأعراب هو ما نزل فيه قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }الحجرات14.
ولقد شُرع القتال لدرء العدوان ولاسترداد الديار والموارد والأموال (الوطن) وللدفاع عن المستضعفين ولكف بأس الذين كفروا لا لحملهم على الإيمان فإنه لا يمكن إكراه أحد عليه، لذلك جعل الله سبحانه إعطاء المؤلفة قلوبهم من المصارف الشرعية للزكاة حتى يمكن بذلك كف بأسهم ودرء خطرهم إذ ليس من الممكن قتلهم حتى ولو ثبت نفاقهم، ولقد أُمِر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  بالكف عمن تلفظ بكلمة التوحيد وليس بإكراهه على الإيمان بها، فالمقصد من الحديث بيان أن مجرد التلفظ بكلمة التوحيد يضمن للإنسان حقوق المسلم في المجتمع المؤمن مما يلزم الجميع بمسالمته وإعطائه من أموال الزكاة حتى يدخل الإيمان في قلبه وعسى أن يخرج من صلبه من بعد مؤمنون حقيقيون كما حدث بالفعل في القرن الأول، وليس المراد من الحديث المعروف شن حرب شعواء على البشرية جمعاء حتى تتلفظ بكلمة التوحيد.
والناس المذكورون في الحديث هم قومه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكل حديث هو مقيد بآيات الكتاب ومبيِّن لها ولا يمكن أن يكون ناسخاً لها، فالحديث الذي انطلق من عين الرحمة قد جعل منه الناس أداة نقمة، إن الحديث يأمر الناس بالكف عمن قال لا إله إلا الله وليس بالاعتداء على الناس لإكراههم على قولها، ولذا فإن الحروب التي شنها المتسلطون على أمر المسلمين علي الأمم المجاورة لهم كانت اعتداءات لا مبرر لها بهدف نهب أموال الناس وسبي نسائهم وأطفالهم ولا يتحمل الإسلام وزر تلك الأفعال ولم يكن بحاجة إليها.
ولو كان هؤلاء السلاطين صادقين لألزموا أنفسهم قبل غيرهم بالإسلام ولدعوا الناس إليه ولأعدوا الدعاة الصالحين ولزودوهم بكل ما يلزمهم، وكل ذلك كان أفضل وأجدى من أن يشنوا الحروب على الناس باسمه, ولقد تسلط العثمانيون على أمور المسلمين الذين ذاقوا منهم الأمرين وكان ضررهم على المسلمين أشد من ضررهم على الأوروبيين, فكل ما نجحوا فيه هو عزل العالم الإسلامي عن أسباب التقدم والرقي والقوة والحضارة وإضعافه حتى تمكن  الغربيون من الاستيلاء عليه بأتفه الخسائر وبأيسر مجهود, وكذلك نجحوا في دفع الأوروبيين إلي الأخذ بأسباب القوة والعض عليها بالنواجذ حتى أسسوا حضارتهم التي مكنتهم من السيطرة علي العالم، كما  نجحوا في بث الكراهية والحقد في صدور كثير من الأوروبيين وخاصة في شرق أوروبا ضد الإسلام فأكملوا بذلك ما فعله العرب في غرب أوروبا وجنوبها، وتوحد أهل أوروبا بذلك ضد الإسلام  وأخذوا يكيدون له المكائد ويدبرون ضده المؤامرات، ورغم أن معظم الأوروبيين قد تخلوا عن دينهم فإنهم احتفظوا بكل ما يدفعهم إلي كراهية الإسلام.
والناس المذكورون في هذه المروية هم المشركون من قوم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، فهؤلاء لم يكن ثمة خيار لهم إذ كانوا ملزمين بالإسلام أي بالإذعان للأمة المؤمنة وإلا لحق عليهم الهلاك كما جرت السنن في أقوام الرسل، وهذه المروية صحيحة لاتساقها التام مع دين الحق وعناصره، ومن ذلك اتساقها مع الآيات: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }التوبة5، فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ{11} وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ{12}.
------------
روى أبو داود عن الحارث بن مسلم عن أبيه قال: (بعثنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ في سرية فلما بلغنا مكان المعركة استحثثت فرسي فسبقت أصحابي فتلقاني أهل الحي بالرنين فقلت لهم قولوا {لا إله إلا الله} تحرزوا، فقالوها، فلامني أصحابي وقالوا حرمتنا الغنيمة، فلما قدمنا على رسول الله أخبروه بالذي صنعت فدعاني فحسن لي ما صنعت، ثم قال لي: أما إن الله قد كتب لك بكل إنسان منهم كذا وكذا من الأجر...، وقال: أما إني سأكتب لك بالوصاة بعدى ففعل وختم عليه ودفعه إلىَّ).
إن العرب والأعراب كانوا يستحلون الغزو ويعتبرونه من الوسائل المشروعة لكسب العيش لقلة الموارد في بلادهم ولأنفتهم من العمل المنتج ولاحتقارهم لأصحاب الحرف، لقد كانوا في ضلال مبين كما نصَّ على ذلك القرءان الكريم، وكان على الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يربيهم وأن يزكيهم، ولكن مدى استجابة كل فرد منهم للتزكية كانت تعتمد أيضا على طبيعته الذاتية، فكان منهم من تزكى سريعا وفقه مقاصد الدين وقيمه وكان منهم قصر ولم يتخلص تماما من آثار ونزعات الجاهلية فكان يفضل الغنيمة على الإبقاء على حياة إنسان وهدايته مثلما حدث من بعضهم عندما سارعوا بقتل من ألقى إليهم السلام ونهبوا ما لديهم من متاع.
إن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يروِّض ويزكى شعبا بدويا شرسا لم يتعود أبدا الخضوع لسلطة مركزية ولا الانضباط ولا النظام، ولقد كان نجاحه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك دليلا على عظمة شأنه وعلو قدره، ولقد جرى التعتيم علي أسلوب تعامل النبي وسننه المتعلقة بأمر الدعوة خاصة وأن الأعراب قد أسكرتهم الانتصارات السريعة التي من الله عليهم بها تصديقاً لوعوده التي أعطاها في القرءان للذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولقد انتصر الاتجاه الذي مثله الأعراب الطامعون في الغنائم، وهكذا تمت صياغة المعطيات الدينية والسيرة النبوية ليتم الإيحاء بأن القتال هو السبيل الوحيد للدعوة إلي الإسلام والتعامل مع الآخرين، ولما وجدوا الآيات التي تنص علي الأساليب الشرعية للدعوة تتصدى لهم وتبطل مزاعمهم أطاحوا بها بسيف النسخ وأبطلوا بذلك مدلولها ومفعولها، أما من يحاول الدفاع عن كتاب الله والتصدي لضلالهم وإفكهم فلو كان الأمر بيدهم لتناولوه بما يسمونه بسيوف الشريعة وإلا فلا أقل من رميه بالمروق من الدين والخروج على الجماعة ومفارقة الملة وخلع الربقة...إلخ، ولكن القوانين والسنن لا تبديل لها ولا تحويل، لذلك فالسيف الذي جرَّدوه علي الآخرين سرعان ما ارتد إليهم وانقلب عليهم فضرب بعضهم رقاب بعض وتنازعوا ففشلوا وذهبت ريحهم وتغلب عليهم الفرس، ومازالوا يخوضون في الفتن ويتمردون إلى أن طردهم المعتصم من جيش الدولة وتسلَّط عليهم الترك والغز ثم تكالبت عليهم الأمم، أما الإسلام فإنه بريء من أفعال هؤلاء وبالتالي فهو لا يتحمل وزرها، ومن المعلوم أن معظم ما يتعلق بالفترة المكية وهي أكبر من الفترة المدنية قد اختفى أو اندثر أو أُخفي عمداً مع سبق الإصرار والترصد، وكان ذلك من لوازم إظهار الإسلام كدين عدواني لا يعرف إلا السيف وسيلة للتعامل مع الآخرين.
والمروية تبين أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ بُعِث داعيا وأرسل رحمة للعالمين وهي متسقة مع أمور الدين الكبرى لذلك فهي تشير إلي أصل حقيقي، ولقد كان لدي الكثيرين مصلحة مؤكدة في إخفاء أمثال تلك المروية، فالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسِل رحمة للعالمين وليس سفاكاً لدماء الآخرين، ولقد أرسل لإخراج قومه من الظلمات إلي النور ولتعليمهم وتزكيتهم لا لكي يجعل لهم التسلط على العالمين وأرسل للإصلاح ولإحياء النفوس وليس للقتل والسلب وجمع الغنائم واستحياء النساء والإفساد في الأرض.
إن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يسترق أحدا بل كان يأخذ الأسرى، وما حدث في غزوة حنين هو أسر النساء والذرية الذين اصطحبهم قائد هوازن معه ثم فرَّ عنهم، وسرعان ما أطلق الرسول سراحهم عملا بالحكم: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء}، والحكم قطعي الدلالة، فالكتاب الذي فضَّل الإنسان وكرمه لم يترك مجالا لاسترقاقه ولم يسنّ أي تشريع لاستعباده، ولذلك نهى عن الربا الذي كانوا يعرفونه والذي كان ينتهي عادة باسترقاق المدين.
والآيات الآتية تبين أهمية ومكانة وتفاصيل القتال في سبيل الله:
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }البقرة216  *  {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }البقرة217  *  {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ }البقرة190  * {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ }البقرة193  *  {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }البقرة244  *  {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً }النساء74  *  {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً }النساء75  *  {الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً}النساء76  *  {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً }النساء77  *  {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً }النساء84  *  {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }الأنفال16  *  {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}الأنفال39  *  {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ}الأنفال65  *  {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ }التوبة12  *  {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ }التوبة14  *  {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}التوبة29  *  وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }التوبة36  *  {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقرءان وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }التوبة111  *  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }التوبة123  *  {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ }الحج39  *  {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }الحجرات9  *  {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ }الصف4 * {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ }محمد4.
ويجب العلم بأن كل الآيات المتعلقة بالقتال وأحكامه متكافئة ويفسر بعضها بعضا ويكمل بعضها بعضا فلا يجوز التفريق بين الآيات ولا ضربها ببعضها، كما لا يجوز اقتطاع جزء من آية من سياقه أو من سياق الجزء من السورة التي تتضمنه لكي يستنبط منها حكم شرعي عام، ولكن هذا هو ما فعله رجال الكهنوت وخدم الطغاة المعتدين، ولكي يبرروا جرائمهم قالوا إن كل الآيات التي تخالف ما قالوا هم به من تفسير أو أحكام منسوخة، ولقد استسلمت الأمة لهؤلاء العابثين بكتاب الله تعالى ولم يجرؤ أحد على التصدي لهم، ذلك لأن الأمة كانت قد فقدت مقومات وجودها كأمة وتحولت إلى قطيع من شر الدواب وأضل الأنعام.
إن كل مؤمن هو أمضي سلاح لدي أمته، لذلك فليس له أن يفرط في نفسه أو ان يخاطر بحياته طلبا للشهادة دون أن يثخن في أعداء ربه وأعداء أمته، وليس له أن يتمني لقاءهم ولكن إذا ما اضطر إلى لقائهم فعليه بالثبات والصبر وحسن القتال وعليه بذكر الله كثيرا واستعمال ما آتاه الله من الفقه.
------------
إن الإسلام من حيث هو رسالة هو رحمة للعالمين وهو دين السلام، فالقتال فيه مكروه، ولا قتال إلا بشروطه المقررة وإلا فهو عدوان لا يحبه الله تعالى ولا يأمر به وإنما ينهى عنه نهياً مشدداً، ولا يمكن لأحد أن يتقرب إلى الله تعالى بمعصيته ومخالفة أمره، فالقتال ليس من أساليب الدعوة وإنما هو للدفاع عن ديار المسلمين وعن المستضعفين في الأرض ولكف بأس الذين كفروا ودرء عدوانهم ولتأديب أهل البغي ولو كانوا مؤمنين.
أما الدعوة إلى الله فلها أساليبها الشرعية وهى الحكمة والموعظة الحسنة والجدال الحسن وضرب المثل وتقديم الأسوة، وفى الحقيقة أنه بعد كسر شوكة الفرس والروم كان على المسلمين أن يكفوا عن القتال وألا يتمادوا فيه وأن ينشغلوا بالدعوة إلى الإسلام بين أبناء الأمم التي فتحوا بلادها وأن يؤسسوا جهازا للدعوة وأن يحسنوا إعداد الدعاة وأن يرسلوهم إلى كافة أرجاء المعمورة وتلك هي سنة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ الحقيقية، ولقد كان ثمة شعوب عديدة تبحث عن دين لتعتنقه وكانوا بحاجة إلى من يعلمونهم لا إلى من يقاتلونهم ويستولون على ديارهم وينهبون أموالهم ويستحيون نساءهم.
ولقد كان من الممكن أن يتعلم الخلفاء شيئا من باباوات روما فيرسلون البعثات التبشيرية السلمية إلى كافة أرجاء المعمورة يدعونهم إلى الإسلام، وهذا ما سيفعله المتصوفة والتجار المسلمين من بعد بدون تكليف من هؤلاء الخلفاء، أما ما يُسمى بالخلفاء فلم يكن يعنيهم أمر نشر الإسلام في شيء، وبافتراض المستحيل وهو أن القتال وسيلة من وسائل الدعوة فقد انشغلوا بالوسيلة عن الغاية!!
*******
الجزيـة 
الجزية هي من الجزاء، فهي الغرامة الحربية التي يفرضها جيش المؤمنين على من اضطروه إلى القتال من الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر من الذين أوتوا الكتاب، وهي مفروضة لوضع حد للقتال، فهي البديل عن التطهير العرقي أو العقائدي أو الاستئصال الذي كان غاية الحروب العقائدية، ولذلك فمن الظلم والبغي أن تفرض الجزية على طائفة مسلمة أو علي المسالمين غير المحاربين، لذلك فإن أموال الجزية التي كانت تفرض على العراقيين والفرس والشوام والمصريين لم تكن تحلّ لأولئك الذين فرضوها واستباحوا لأنصارهم وأعوانهم ومداحيهم نهبها والاستمتاع بها, وكذلك لا تحل  لهم أموال الزكاة التي لم يوجهوها إلى مصارفها الشرعية المعلومة، ومن المعلوم الآن أن تلك الأموال التي نزحت إلى المدينة ومن بعدها إلي العواصم الأخرى كانت في الأغلب نقمة على الأمة وأدت إلى فتنة الكثيرين وافتتان بعض الأكابر بالدنيا وإلى الاختلاف  والتناحر والتنازع والتنافس وإلى تقوية جانب المنافقين ورقيقي الدين من الطلقاء على حساب المؤمنين الصادقين، ولم تستخدم تلك الأموال لإقامة أو تمويل مشاريع إنتاجية أو لزيادة تحصين مكة والمدينة مثلاً، وكان لابد من الصدام الدامي الذي فرضه الطلقاء والمنافقون على الأمة التي لم تأخذهم بها رأفة ولا رحمة.
والجزية مرتبطة أساسا بالقتال والذي ينبغي أن يكون شرعياً وليس طلباً لغلبة أو توسع أو مغانم دنيوية، والقتال الشرعي له شروطه المعلومة؛ فهو لا يكون إلا لردع العدوان أو لدرء الفتنة ولضمان حرية العقيدة والدفاع عن دور العبادة وعن المستضعفين في الأرض، فإذا ما اعتدت طائفة من أهل الكتاب على المؤمنين وجب على الأمة قتالهم ليس بهدف إبادتهم أو لإكراههم على اعتناق الإسلام وإنما لكف بأسهم وحتى يذعنوا للأمة المسلمة ويدخلوا في السلم كافة ويتكفَّلوا بدفع تكاليف الحرب التي تكبدتها الأمة مع غرامة عادلة وتلك هي الجزية فهي جزاء لهم على بغيهم وعدوانهم يدفعونه دون قيد أو شرط, فالجزية تفرض على من قاتل مثل الروم ومن ظاهرهم ولكنها لا تُفرض على المسالمين غير المقاتلين وإن كان من الممكن أن يدفعوا ضريبة عادلة لتمويل نفقات الدفاع وإقرار الأمن وتسيير أمور الدولة, وكان ينبغي ألا تسمى تلك الضريبة بالجزية, فالجزية لا تفرض إلا على من قاتل من أهل الكتاب بغياً وعدوانا فهُزِم أو طلب إنهاء القتال، أي أنها لا تفرض إلا على المقاتل المحارب بعد هزيمته أو مقابل إنهاء القتال، وفي ذلك ردع له ولغيره، وهذا يوفر البديل عن استعباده أو قتله، أما الضريبة التي فرضت على الشعوب المفتوحة في مقابل الدفاع عنها وكمساهمة في تمويل مؤسسات الدولة فلقد سُميت خطأ بالجزية، إن ما سموه بالجزية هو في الحقيقة نظام منقول عن الروم، وكان هذا خطأ تاريخيا أوقع الناس في لبس وجنى على الإسلام والمسلمين بل على البشرية جمعاء خاصة بعد استيلاء الأمويين على مقدرات الأمور وإعادتهم أحكام الجاهلية إلى مركز السيطرة والصدارة.
-------
الجزية هي غرامة حربية يدفعها أهل الكتاب الذين اعتدوا على المسلمين وقاتلوهم في الدين، وكانوا هم المعتدين البادئين بالقتال، لذلك يجب أن يدفعوها وهم صاغرون، وهم يدفعونها مقابل إنهاء القتال، ولا يجوز أن تؤخذ من أحد مقابل تركه على دينه، فلا إكراه في الدين، والقرءان يقرر حرية الدين، فهي حق طبيعي للإنسان فلا يجوز أن يؤخذ منه مال لقاء ممارسة حق من حقوقه كما لا يجوز أن يؤخذ منه مال لقاء تركه يعيش.
أما من لم يقاتلوا المسلمين في دينهم ولم يخرجوهم من ديارهم فمن كبائر الإثم الاعتداء عليهم، بل إن المسلمين مأمورون ببرهم والإقساط إليهم! أما من خالف عن ذلك من سلف أو خلف فهو –وليس الإسلام- الذي يتحمل وزر عمله!! ولن تنقلب الجرائم والآثام فضائل واجتهادات إذا كان الذي اقترفها بعض السلف، فللقرءان الحجة على الجميع، وليس للناس حجة عليه!
وبناء على ما سبق لم يكن يهود المدينة يدفعون جزية للمسلمين، بل كانوا يتعايشون معهم وفق عهد وميثاق.
أما القتال فهو مقيد بشروطه المعلومة فإذا نشب فإنهاؤه له شروطه المعلومة!
-------
إن الجزية المذكورة في النص القرءاني هي بمثابة غرامة حربية يلتزم بدفعها المعتدون من أهل الكتاب كوسيلة لإنهاء القتال مع بقائهم على دينهم وضمان كافة حقوقهم، وهي غير الأنواع الأخرى من الضرائب التي التزم بدفعها المغلوبون على أمرهم من شعوب الشرق المسالمين الذين انضموا بحكم الأمر الواقع إلي الدولة الإسلامية فصار لزاماً عليها الدفاع عنهم وكفالة كافة حقوقهم والقيام بأمورهم، ولقد سميت تلك الضريبة خطأ أو عرضاً بالجزية، ولا يلزم بالضرورة بعد إلحاق الهزيمة بالمعتدين احتلال أو استيطان بلادهم.
وكل أنواع المظالم التي ألحقها العرب بالشعوب المفتوحة يتحملون هم مسئوليتها وأوزارها ولم يأمر الإسلام بها، ويجب العلم بأن العرب الفاتحين -ورغم كل شيء-كانوا أرحم من غيرهم وأكثر تسامحا، وأنه لم يكن لديهم نظام للدعوة والتبشير بل لم يكن يعنيهم أمر الدعوة إلى الإسلام كثيرا، وإنما كانوا أميل إلى اتباع سنن بني إسرائيل في الاحتفاظ بالدين لأنفسهم، فهم لم يحاولوا أبدا فرض دينهم علي الآخرين أو إبادة من خالفهم في الدين، وبانتهاء عصر الخلافة وقيام الدولة الأموية تحول الأمر إلي احتلال واستعمار إجرامي لا هم له إلا استنزاف ونزح خيرات الشعوب المقهورة، ولم يُظهر الأمويون باستثناء عمر بن عبد العزيز أية رغبة في نشر الإسلام بين هذه الشعوب حرصا عي مكاسبهم المادية وإنما انتشر الإسلام رغم أنوفهم، ولم يحدث –إلا قليلا- أن حاول أحد القائمين علي الأمر بمصر مثلا حمل الناس علي اعتناق الإسلام وإنما الذي حدث أن كثيرا منهم قد انحازوا إلي صف أهل الكتاب ضد أهل مصر المسلمين، ومن هؤلاء كثير من الأيوبيين والفاطميين وبعض المماليك، ولقد ثبت أن أكثر من استقلوا بأمور مصر من الحكام كانوا يفضلون الاستعانة بأهل الكتاب في الوظائف والأمور الإدارية.
*******
إن الأوامر الواردة في الآيات القرءانية تخاطب من يسمع ويعقل ولا تخاطب الأنعام ولا الجهلة، بمعنى أنه لا يجوز أن يؤخذ معناها من أمثال هؤلاء. وعل سبيل المثال قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)} التوبة.
فالأمر هنا يأخذ ظاهريا صورة الأمر المطلق، فهل هو بالفعل أمر مطلق؟ هل يجب على الأمة المؤمنة أن تقاتل كل من يجاورها من الكفار فإذا قضوا عليهم أو حولهم إلى الإسلام وجب أن يقاتلوا جيرانهم الجدد من الكفار وهكذا؟
هل معنى ذلك مثلا إنه على المسلمين الذين يتجمعون في أحد أحياء مدينة برمنجهام في إنجلترا مثلا أن يجهزوا جيشاً لقتال الحي المجاور لهم أو المدينة المجاورة لهم والتي يسكن فيها كفار وهكذا؟
بالطبع هذا ليس صحيحا أبداً، والقرءان مليء بالأوامر التي تأخذ صورة الأمر المطلق ولكن لا يجوز أن تُعامل كذلك، إنه يجب العلم بما يلي:
1.      القرءان نفسه يبيِّن بعضه بعضا ويقيد بعضه بعضا ويوضح بعضه بعضا، فكل الأوامر بالقتال مقيدة بالنهي المطلق عن العدوان وبأن ردّ العدوان يجب أن يكون بمثله وليس بأكثر منه، ومنهج المضلين والمغرضين يجعل القرءان مجمع متناقضات وأوامر متضاربة في نظر الناس
2.      إن القرءان يخاطب من يسمعون ومن يعقلون، فلابد من التأكد أن من سيفسر الأمر للمسلمين يسمع ويعقل وليس مجرد دابة أضل من الأنعام.
3.      للقرءان منهجه الفريد في إيراد أوامره، فيجب أولا معرفة هذا المنهج القرءاني، ومن هذا المنهج أن الأوامر القرءانية الخاصة بأمرٍ ما موزعة على آياتٍ عديدة لأسباب عديدة، فعندما يكون الأمر "أقيموا الصلاة" يجب فورا استحضار كل الآيات التي ورد فيها مصطلح الصلاة، فليس من الممكن أن يكون هذا الأمر مطلقاً، بل تفسره وتفصله وتقيده وتكمله كل الآيات الأخرى التي تتحدث عن الصلاة، ومنها: فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) النساء، فهذه الآية تبين أن لإقامة الصلاة مواقيتها المحددة المكتوبة، وأن من شروط إقامتها بصورتها المعلومة الاطمئنان.
4.      يجب العلم أن الأوامر مقيدة أيضا بمنظومات القيم والأوامر الكبرى الواردة في القرءان أيضا إما في نصوص صريحة وإما كمقتضيات للأسماء الحسنى والشئون الإلهية، ومن ذلك مثلا أن كل الأوامر بالقتال مقيدة بألا يتضمن عدوانا، ذلك لأن الله تعالى لا يحب المعتدين، وهذه سمة إلهية ثابتة، ولا تتغير أبدا، كما يجب أن يكون القتال في سبيل الله حقاً وصدقا وليس في سبيل عرض دنيوي، ومن زعم أنه يقاتل في سبيل الله وهو يقاتل في سبيل الدنيا فهو منافق، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار!


*******