الاثنين، 11 فبراير 2019

الخليفة أبو بكر

الخليفة أبو بكر

حقق في ولايته القصيرة إنجازات عملاقة هائلة، وكان له تأثير كبير على التاريخ العالمي بقراراته، فهو من كبار شخصيات التاريخ ذوي الحس الاستراتيجي العالي.
ولم يعين الرسول أبا بكر لمنصب (الخلافة) من بعده، فلم يكن ذلك من مهامه أصلًا، ولم تكن هناك دولة ليعين عليها خليفة أو وريثًا له.
أما استعمال كلمة "خليفة" كلقب للحاكم هو أمر مُحدَث مختلق، وهو يتضمن مخالفة عن الاستعمال القرءاني، وقصة اختيارهم لهذا اللقب معلومة، وكان يعني خليفة رسول الله، ولا يعني خليفة الله، وأول من استعمله بهذا المعنى كان الشاعر النصراني الأخطل في قصيدة كتبها لينافق بها أحد طغاة بني أمية ليظفر بقطعة من دنياه، وكان منها:
إلى امرئٍ لا تعدّينا نوافلهُ * أظفرهُ اللهُ، فليهنا لهُ الظفرُ
ألخائضِ الغَمْرَ، والمَيْمونِ طائِرُهُ * خَليفَة ِ اللَّهِ يُسْتَسْقى بهِ المطَرُ
ولو قال: "خليفة إبليس يُستمطر به الحجر" لكان أصدق.
ومن المعلوم أن الرسول كان قد جهز جيشًا بقيادة الفتى أسامة بن زيد ذي الثمانية عشر ربيعا ليرسله إلى الشام، وكان حريصًا على إرساله، وشدد الأمر بذلك في مرضه، وتوعد بل لعن من تخلف عنه، وكان أبو بكر وعمر جنديين في هذا الجيش، فلو كان يريد تعيين أبي بكر (خليفة) لأعفاه من ذلك، ولاستبقاه بجانبه، ولا شك أن هذه كانت محاولة من الرسول الذي هو رحمة للعالمين لإنقاذ أمته والبشرية جمعاء بها ومن بعدها.
أما الذي حدث فهو أن قادة الحزب القرشي قد دبروا الأمر لتأسيس حكم قرشي أو دولة قرشية بالاصطلاح العصري، وكانت كل تصرفاتهم في هذا الإطار، وكان قول أبي بكر "ألا من كان يعبد محمدًا، فإنّ محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت" أيضًا في هذا الإطار، فالأعراب لم يعبدوا أبدا محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، بل لم يظهروا له في حياته شيئا مما يستحقه من التبجيل والتوقير، ولقد قصَّ القرءان على الناس بعض تصرفاتهم في أخريات العصر النبوي من بعد أن انتصر، ومنها أنهم تركوه قائمًا في المسجد وانفضوا إلى اللهو والتجارة، ومنها أنهم هموا باغتياله، ومنها أنهم فروا من حوله وولوا مدبرين في حنين، وسورة التوبة حافلة بذكر أفعالهم التي تحير أي إنسان في أمرهم، وستظل سورة التوبة حجة دامغة على عبيدهم، أما ما ورد في السيرة من تصرفاتهم معه في مرضه فمعلومة للجميع.
لكل ذلك فقول أهل السنة بأن الرسول أسس دولة وألمح إلى أن يتولاها من بعده أبو بكر غير صحيح، فقد كان أبو بكر جنديا في الجيش الذي يقوده الفتى أسامة بن زيد، والذي كان الرسول حريصًا على إنفاذه، فلو كان يريد حقًّا تولية أبي بكر لاستبقاه بجانبه، ولما جعله جنديا في جيش سيذهب إلى الشام.
ولا علاقة للدين بما حدث منهم من بعد الرسول، بل من بعد رفضهم أن يكتب كتابه، فلقد أوكلوا إلى أنفسهم، وكان عليهم أن يصرفوا أمورهم وفق ما تعلموه منه، وهم يتحملون نتائج أفعالهم، فهم مبتلون كغيرهم، وكل ابن آدم خطاء، ولا يوجد شيء اسمه العصمة من الخطأ، وهم في أفعالهم خلطوا عملًا صالحًا بآخر سيئا، وليس من حقّ أحد أن يفرض على الدين أعمالهم ولا أشخاصهم.
ويجب العلم بأن الاقتراب من الصالحين هو سلاح ذو حدين، فهو يؤدي إلى مضاعفة العقاب بقدر ما يؤدي إلى مضاعفة الثواب، وليس أقرب إلى النبي من زوجاته، وقد قال الله فيهن: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)} الأحزاب.
فلا يجوز أبدًا تحويل التاريخ إلى دين، وقد ضل بنو إسرائيل عندما جعلوا من رسالة موسى عليه السلام ومن جاء من بعده من الأنبياء مصدقًّا لها تاريخًا خاصًّا بهم.
ورغم عظمة إنجازات أبي بكر بمقياس التأثير في التاريخ البشري فقد أخطأ أخطاء معلومة أقرّ بها على نفسه، واقترف قائده خالد بن الوليد جرائم حرب ومخالفة للشريعة امتنع عن محاسبتهم عليها رغم إلحاح عمر بن الخطاب، وهذا يبين شيئا من طبيعته الواقعية البراحماتية، فهو لم يكن ليتخلى عن سيفٍ من سيوفه، وعلى العموم لقد ثبت أن سيفه خالد كان أشرف من فتى عمر الأثير معاوية، وكان عزل عمر لخالد من أكبر أسباب العلوّ الأموي في الأرض من بعد.
وكانت سياسته في توزيع الأموال المنهوبة من الشعوب الأخرى على العرب والأعراب أقرب إلى القسط من سياسة عمر التراتبية، والتي أدَّت إلى كوارث كبرى، رآها هو بنفسه، وحاول العدول عنها، بل أعلن بالفعل أنه سيأخذ فضول أموال الأغنياء ويعطيها للفقراء، فلقي مصرعه بعدها.
وأبو بكر من الناحية الدينية خلط عملًا صالحًا بآخر سيئا، وهو ليس شخصية دينية، بمعنى أن أفعاله وأقواله ليست جزءا من هذا الدين، ولا يجوز الاحتجاج بها على أحد أو في أي مسألة.
ومن أكبر أخطائه موقفه من العترة النبوية، فقد حاول أن يحملهم على البيعة له بالعنف والقوة، وهذه كبيرة من كبائر الإثم تورط فيها، وورَّط الناس فيها، ولقد عانى هو نفسه من تبعاتها، وندم ندمًا مرًّا على ما تورط فيه، ولكن لم يكن أمامه إلا التمادي في اتباع خطته والمضي قدمًا في تأسيس الدولة القرشية، ومواجهة كل العقبات التي تحول دون ذلك.
ولكنه شخصية تاريخية، بل رجل كبير من رجالات التاريخ الذين كان لهم تأثير ضخم على تاريخ العالم رغم صغر مدة حكمه، وربما لا يوجد رجل دولة حقق في فترة حكمه القصيرة ما حققه هو من إنجازات كبيرة.
*******

الإمام علي هو الشخصية الدينية الرئيسة من بعد الرسول

الإمام علي هو الشخصية الدينية الرئيسة من بعد الرسول

ما هو المقصود بأن الإمام علي هو الشخصية الدينية الرئيسة من بعد الرسول؟
المقصود بذلك أنه هو سابق القرن الأول من المؤمنين، الذي أسلم وآمن قبل كل الأمة، بعد السيدة خديجة، وتربى في البيت النبوي، وعلمه الرسول وزكاه بنفسه، ثم ازداد نورًا على نور عندما تزوج السيدة فاطمة الزهراء، فلقد انصبغ بذلك ظاهرًا وباطنًا بصبغة دين الحقّ.
وكانت كل أفعاله في العصر النبوي مصدقة ومبينة لمرتبته الرفيعة، وقد ثبت لدى كل الطوائف، بما في ذلك ألد أعدائه، أنه ولي كل مؤمن وأنه هارون الأمة، وأنه رأس العترة النبوية الموصَى باتباعها.
وكان هو الذي حمل عبء معارك العصر النبوي، وكانت له إنجازاته الهائلة في بدر، وأحد، وخيبر والخندق.
كما ثبت أنه أول مجموعة الرجال الذين تصدق عليهم الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23]
وهذا بالطبع لا يتنافى مع وجود صديقين صالحين في هذه الأمة، في العصر النبوي وما بعده، ولكنه يتفوق على الجميع بما كان له من دور مؤثر حقيقي وفعَّال في العصر النبوي بحيث أن ألد أعدائه من الأمويين والعباسيين وعملائهم لم يستطيعوا محوه، هذا رغم تسلطهم على الناس لمئات السنين.
أما تغلب خصومه أو أعداؤه عليه فلم يكن إلا كاشفًا عن تدهور الأمة وانهيارها التراكمي السريع Its rapid cumulative collapse الذي لا يتحمل هو المسؤولية عنه، بل كان هو أول من ابتُلي بتحمل آثاره وتبعاته.
هذا الانهيار كانت أسبابه كما يلي:
                1.                  قلة نسبة السابقين الأولين الحقيقيين بالنسبة إلى المحيط العام المحسوب على الإسلام، والذي يشكل الأعراب الذين لم يسلموا أكثريته، وكان فيه أعداد غفيرة من المنافقين تحدثت عنهم بغزارة أواخر آيات القرءان نزولا، ثم تنامي قوة التيار القرشي بعد إسلام الطلقاء، وقد أخذت هذه النسبة في الانخفاض السريع لأسباب عديدة.
                2.                  الأوضاع التي استجدت بعد نجاح مشروع التوسع العسكري الاستيطاني، فقد امتلك الاتجاه القرشي بسببه القوة والنفوذ والثروة، وقد انحرف بسبب ذلك بعض السابقين إلى الإسلام، مما زاد من ضعف معسكر أهل الحق.
                3.                  تدهور المستوى الديني الجوهري للأمة بسبب تآكل معسكر أهل الحق وازدياد نسبة طلاب الدنيا وعبيدها.
                4.                  طبيعة المعسكر المحسوب عليه، فقد كان يضم طوائف متعددة الاتجاهات، وعند أول اختبار جاد تحول بعضهم إلى أعداء ألداء له، وتخلى عنه أكثرهم.
وكان من أسباب تصدي القرشيين أصحاب النفوذ للإمام ما يلي:
1-                 الحمية الجاهلية، فقد عادت بقوة إلى قلوب من أسلموا بعد أن توارت في العصر النبوي بفعلٍ إلهي، أما من أسلموا بعد انتصار الإسلام في أواخر العصر النبوي، وهم الأكثرية الساحقة، فلم يبرؤوا منها أصلا.
2-                 كانت قريش تعلم أنه لو تولى الإمام الأمر لانفرد به بنو هاشم، ولما خرج منهم، وهذا ما كانوا مستعدين لخسارة الدنيا والآخرة لمنعه، فقد أرادوا أن يكون الأمر دولة بين بطونهم.
3-                 ثارات القرشيين، فلقد قتل الإمام في معارك العصر النبوي الكثير من صناديدهم وأبطالهم المقدسين.
4-                 مكانته الهائلة في العصر النبوي وتفوقه وسبقه على كافة المستويات مع صغر سنه بالنسبة إلى مشايخ قريش، والتفوق عادة ما يؤجج مشاعر الحقد والحسد لدى الناس، ويدفعهم إلى عداء غير مبرر تجاه المتفوقين السابقين، وكان لدى مشايخ قريش درجات متفاوتة من الحقد والحسد تجاه الإمام، مما دفعهم إلى اتخاذ موقف عدائي منه.
لقد كان الإمام مجسدًا لمنظومة القيم الإسلامية، ولذلك لم يكن له أن يتبع أية أساليب مكياڤيللية للتغلب على أعدائه وخصومه، ولو فعل لانقلب الصراع بينه وبينهم إلى صراع دنيوي، ولما كان هو الإمام.

لكل ما سبق فإن أفعال الإمام وأقواله التي ثبتت نسبتها إليه كانت تجسيدًا لقيم وسنن دين الحقّ، وكذلك الأمر بالنسبة للسابقين الأولين الحقيقيين الذين التفوا حوله وأخلصوا له، وبذلك كان هو بحقّ الشخصية الدينية الرئيسة من بعد الرسول.
 
*******