الأحد، 30 نوفمبر 2014

الصورة الموجزة لأركان الدين الملزمة للفرد وفقاً لدين الحق

الصورة المختصرة لأركان الدين الملزمة للفرد وفقًا لدين الحق

1.           الإيمان بالإله الواحد الذي له الأسماء الحسنى والسمات والشئون والأفعال والسنن المذكورة في القرءان.
2.            عبادة الله تعالى بإخلاص والاستجابة له بالسعي للقيام بحقوق أسمائه الحسنى والحياة وفق مقتضياتها.
3.           ذكر الله؛ ذكر أسماء الله الواردة في القرءان وذكر الآيات التي وردت فيها الأسماء والتسبيح لله والتسبيح بحمد الله والتكبير والاستغفار والحمد والشكر وذكر نعمة الله.
4.           العمل على إقامة صلة وثيقة بالله تعالي وعلاقة حميمة معه سبحانه ودعمها وترسيخها، ومن لوازم ذلك أن يتحلى تجاهه بما يلي: التقوى، الحب، التوبة، الاستغفار، التوكل، التفويض، الإخبات، الإنابة، الذكر، الإجلال، التعظيم، الاعتصام به، الاستعانة به، الاستعاذة به، الفرار إليه، الشكرَ له، اتخاذَه ولياً، العمل لإعلاء كلمته، الإقرار بنعمته...الخ.
5.           الإيمان بالقرءان ككتاب منزل من لدن رب العالمين، والقيام بحقوقه، وتلاوة آياته وتعلمه وتعلم ما يتضمنه من الحكمة وقراءته وتذكره وتدبر آياته وتزكية النفس به.
6.           الإيمان بأن محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ هو رسول الله إلى الناس كافة وخاتم النبيين والمرسل رحمة للعالمين والعمل بمقتضى ذلك.
7.           الإيمان بالغيب المذكور في القرءان الكريم، وعلى رأس ذلك الإيمان باليوم الآخر وبكل ما يتضمنه مما أورده القرءان عنه، والإيمان بملائكة الله وكتبه ورسله.
8.           التزكي أي تزكية الكيان الإنساني بكل ما يتضمنه من قلب ولطائف ونفس وجسد، وهذا يتضمن التحلي بمكارم الأخلاق الإسلامية.
9.           الالتزام بالشريعة الإسلامية في كافة الأمور الحياتية وفي كافة المعاملات والعلاقات؛ أي العيش وفق منظومة القيم الإسلامية، (برّ الوالدين، صلة الرحم، احترام حقوق وكرامة الإنسان، تأدية الأمانات إلى أهلها، الحكم بالعدل، القيام بالقسط، إقامة الشهادة لله، الوفاء بالعهود والمواثيق، مراعاة حقوق دواب الأرض وحقوق البيئة، طاعة أولي الأمر من المؤمنين، الالتزام بالشورى في كل أمر، القيام بحقوق الأسرة والأمة.
10.        اجتناب كبائر الإثم والفواحش والانتهاء عن المنكر.
11.        إقامة الصلاة؛ إقامة الصلوات الخمس المعلومة بالإضافة إلى إقامة صلات وروابط مع كافة مكونات الأمة.
12.        إيتـاء الزكاة؛ كما يحددها أولو الأمر وفقا لاحتياجات الأمة وكذلك صيانة وتنمية الصلات مع كافة مكونات الأمة.
13.        الإنفاق في سبيل الله؛ وهو يكون من المال ومن كل ما يمكن أن يقوم بمال.
14.        العمل الصالح وهو كل عمل يقوم به الإنسان للوفاء بمقتضيات أنه حامل للأمانة وخليفة في الأرض.
15.        الدعوة إلى الله، وهي تتضمن الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
16.        استعمال الملكات الذهنية والحواس الإنسانية للنظر في الآيات الكونية والنفسية وفي عواقب الأمم السابقة ولفقه واستيعاب السنن الإلهية والكونية والإفادة منها ولتحقيق المقاصد الدينية والوجودية.
17.        الجهاد في سبيل الله؛ وهذا يتضمن كل ما يجب القيام به لمواجهة كل ما يعوق تحقيق مقاصد الدين العظمى من الكيانات وعلى رأسها كيان الإنسان نفسه، ومن الجهاد القتال المشروع دفاعا عن النفس والأهل والمال والعرض والديار (الوطن).
18.        الصيام؛ وحده الأدنى هو صيام شهر رمضان.
19.        حج البيت لمَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا.


*******

الجمعة، 28 نوفمبر 2014

المائدة 33

المائدة 33

{إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} المائدة33.

هذه الآية محكمة مثل سائر آيات الأحكام، وهي تحدد العقوبة الدنيوية الواجب إنزالها بمن اقترف ما يلي:
محاربة الله ورسوله، وهذه المحاربة كما هو واضح تكون عن علم وقصد وتعمد، وتكون مقترنة بالإفساد في الأرض، والتعبير (الله ورسوله) يعني الآن بالنسبة للمسلمين الرسالة، وهي القرءان، فمن عمد إلى إبطال أو انتهاك أي أمر من أوامره أو مقصد من مقاصده بالحرب والقوة فهو محارب له، ومن هؤلاء من يعملون على تمزيق الأمة في حال وحدتها واجتماعها على الحق أو من يقوضون الأمن والسلم.
والإفساد في الأرض هو تعبير قابل للاتساع مع تطور العصر، وقد كان قديما يشمل القطع المسلح للطرق والاعتداء على قوافل الحجيج والقوافل التجارية، وهو الآن يشمل الإتلاف المتعمد للأراضي الزراعية أو لأي مورد من موارد الأمة أو التلويث المتعمد للبيئة أو تخريب المرافق وشبكات الاتصالات والكهرباء والطرق وترويع الآمنين والقتل العشوائي للناس وزرع القنابل في الطرقات أو وسائل المواصلات وجرائم الاغتصاب ونشر الفواحش والأمراض، وأوضح الأمثلة للمفسدين في الأرض في العصر الحديث الإرهابيون.
والآية تحدد نهايتهم الحتمية في الدنيا؛ ألا وهي الخزي، وهو يكون بعد الفشل الذريع والافتضاح المذل.
والعقوبات واضحة، فالتقتيل مثلا هو المبالغة في القتل، وقد ذكِر بصيغة التشديد لإفادة الشدة في القتل وللإِشارة إلى الاستمرار في قتلهم دونما هوادة أو شفقة ما داموا مستمرين في الجريمة وليكونوا نكالا لمن هم على شاكلتهم.
 والتصليب: وضع المجرم الذي يراد قتله مشدودا على مكان مرتفع بحيث يُرى بعد القتل ليكون نكالاً لغيره، وجاء لام "يُصلَّبوا" مشددة لإِفادة التشديد في تنفيذ هذه العقوبة وإثبات أنه لا رأفة ولا هوادة فيها.
والتقطيع "مِّنْ ٍخِلافٍ" هو لغويا حال في أيديهم وأرجلهم؛ أي لا تكون اليد والرجل المقطوعتان من جانب واحد بل تكونان من جانبين مختلفين.
و"النفي من الأرض" يعني طردهم من بلاد الأمة المؤمنة ولما كان هذا غير ممكن الآن فيمكن أن يكون هذا النفي الآن بسجنهم مع إبعادهم إلى مناطق نائية (الأشغال الشاقة في الجبال أو الصحارى مثلا).
ولأولي الأمر أن يختاروا من بين هذه العقوبات ما يناسب طبيعة الجرم وأحوال العصر والمصر، ولا يجوز أبدا محاولة صرف الألفاظ عن معانيها استجابة لدواعي العصرية الزائفة مثلما فعل المجتهدون الجدد الذين ألغوا مضمون الآية التي تحدد عقوبة السرقة.
وباستعمال القياس يمكن لهؤلاء المجتهدين الجدد أن يقولوا إن تقطيع الأرجل يكون بمنعهم عن المشي على الأرض وإنما بحملهم على الأعناق!!!! فلا جدوى من استعمال المعاني المجازية لصرف الألفاظ عن معانيها الحقيقية!!

والأحكام الشرعية من الآيات المحكمات التي لا تشابه ولا مجاز فيها!!!!

الخميس، 27 نوفمبر 2014

النفس والبرزخ

النفس والبرزخ
 

مصطلح النفس يُطلق على الكيان الإنساني كله أو النسَمَة، وهذه النفس تموت عندما يُتوفى الإنسان، وهي أيضاً يمكن أن تُقتل، كما يُطلق هذا المصطلح أيضاً على الكِيان الإنساني الجوهري؛ أي الإنسانِ الحقيقي المخاطبِ والمكلف، وهذه النفس هي كيانه الجوهري الخالد الذي لا يفنى، وهي التي تقبضها الملائكة عندما يُتوفى الإنسان، والنفس المطمئنة ترجع إلى ربها راضية مرضية، أما نفوس الصفوة المقربين فترفع إلى الله تعالى، ولذلك قال الرسول قبيل انتقاله: "في الرفيق الأعلى"، وقيل لعيسى عليه السلام قبيل انتقاله: "إني متوفيك ورافعك إليَّ".
فمصطلح النفس يُطلق على الإنسان بكل كياناته، وهذه النفس تموت أو تُقتل، وموتها هو تفكك كياناتها وذهاب كل كيان إلى أصله وعدم قدرتها بصفة عامة على التعامل والتفاعل مع كائنات العالم الذي كانت فيه بالطرق المألوفة، كما يُطلق هذا المصطلح أيضاً على الكيان الإنساني الجوهري، هذا الكيان لا يموت، ولكنه يذوق الموت، فبه القلب والمراكز الحقيقية للإحساس والمشاعر، هذا الكيان الجوهري ليس بمادي بالمعنى الطبيعي للمادة، وهو حالّ في عالمه الخاص اللطيف أي البرزخ حالَ كونه مرتبطا بالجسد أو غير مرتبط به، ولكن الإنسان يتعود منذ صغره على ألا يتصل بالعالم الخارجي إلا من خلال هذا الجسد وباستعمال حواسه، وبذلك يغفل عن إمكانات نفسه، وهناك من تظل حواس نفسه على درجةٍ من اليقظة فيرى ما لا يراه الناس، وهناك من يعمل على إيقاظها بالمجاهدات والرياضات الروحانية.
والإنسان يُصبح أكثر إحساسا بعالم النفس عند انشغاله عن حواسه بالنوم أو بأي شيء آخر.
النفس التي هي الكيان الإنساني الجوهري هي أصلا متعينة في عالمها الذي يمكن تسميته بالبرزخ لكونه برزخا بين الدنيا وبين الآخرة حتى في حال حياتها، ويشتد إحساسها به عند غيبة الجسد عن وعيه لأي سبب، وهذا العالم له إطاره الزماني المكاني الخاص به، وهو متداخل مع العالم المادي المشهود، ولكنه أوسع مدى وإحاطة منه، لذلك يمكن للنفس أن ترصد جريان زمن هذا العالم المادي وأن تشعر به دون أن تتأثر كثيرا به، ولو كانت جزءا من العالم المادي لما أمكنها إدراك مرور الزمن ومراقبته.
والقبر هو من عالم الدنيا، والجسد الذي يوضع فيه يجري عليه عادة ما يجري على المواد العضوية؛ فيتحللُ إلى المواد المكونةِ له أصلا، أما النفس فهي تذوق الموت، ولكنها لا تتقيد بالقبر.
وعالَم النفس المسمى بالبرزخ شأنه عجيب ومعقد، وعالم البرزخ لا توجد له علاقةٌ ضرورية بمفهوم المكان المألوف، وتُنقَل إليه النفوس بعد الموت أو بالأحرى يكون لإحساسها به الغلبة، فهي حالَّة بصفة دائمة فيه بحكم طبيعتها، وهو انتقال يجلّ عن التصورات والمفاهيم المستخلصة من هذا العالم الطبيعي، والنفس في هذا العالم تكون على صورتها التي تكوَّنت في حياتها الدنيا، فالنفوس التي اكتسبت الأخلاق الجميلة تتنعم بها، أما النفوس التي اكتسبت الصفات الرديئة فتتعذب بها، فالنفس أصلا هي متعينة في هذا البرزخ حتى من قبل أن تذوق الموت، ولكنها تكون عادة في غفلة عنه لشدة انشغالها بالعالم الحسي أي بعالم الشهادة.
فالعالم الذي تتواجد فيه النفوس هو ما يُسمَّى بالبرزخ، وذلك لأنه ليس عالما تاماً بالمعنى الحقيقي، والحياة فيه كذلك إلا على سبيل الاستثناء، ذلك لأن الكائنات فيه لا تستطيع بصفة عامة أن تعبر عن نفسها أو أن تطورَها أو أن تغير منها، كما لا تستطيع التعامل بطريقة طبيعية مع الكائنات الأخرى، وخاصة كائنات عالم الشهادة، ولا تستطيع بصفة عامة أن تؤثر فيها ولا أن تطلع عليها، ولكن بعض النفوس التي تعوَّدت الانتقال إلى هذا العالم في حياتها الدنيا وتمرَّست به قد تستطيع التأثير بطريقةٍ ما على الأحياء، وقد تستطيع التفاعل مع بعضهم لوجود تجانسٍ ما.
-------
إنه بتعين وظهور النفس الإنسانية بعد النفخ من الروح المنسوب إلى الله تعالى في الكيان الجنيني فإنه يتعين لها ملكاتها الخاصة وحواسها مثل الإدراك والوعي والسمع والبصر، ولكنها بارتباطها بالجسد الذي هو مملكتها المباشرة فإنها تهمل ما هو لها من الملكات وتألف استعمال حواس الجسد، وتصبح هي نوافذها إلى العالم الخارجي، ولكن بحكم تصميم وتركيب الكيان الإنساني فإنه ينام من حين لآخر، وعندها تكف النفس عن الانشغال بالجسد وتتحرر ولو قليلا فتستطيع أن تحِلَّ في موضع تفكيرها في عالمها، أما الجسد فيبقى حيَّا بالحياة العضوية الآلية التي كانت له قبل أن يُنفخ فيه من الروح الأمري، ولكن لابد من بقاء ارتباطٍ ما للنفس به مثلما يظل السابح في البحر مثلا مشغولا بأمر ملابسه التي تركها على الشاطئ، هذا الاهتمام والانشغال هو المدد اللازم لاستمرار حياة الجسم أثناء النوم، والنفس في حركتها اللامادية بعيداً عن الجسم لا يفصلها عنه فترة زمكانية وإنما أمر آخر لا يمكن التعبير عنه بالألفاظ العادية، لذلك فبمجرد تعرض الجسد لخطرٍ ما فإنها تكون لتوِّها عنده، أما العالم الذي يشكل مسرحا لانطلاقات النفس فهو عالم لطيف يمكن تسميته بالعالم البرزخي باعتباره فاصلا بين عالمين تامين وصلة بينهما في الوقت ذاته، وفيه يمكن أن تسبح الأفكار وتتجسد المعاني وتلطف المباني.
-------
إن الموت ليس إعدامًا للنفس التي هي الكيان الإنساني الجوهري؛ فهي خالدة، والذي يموت هو النفس الإنسانية الجامعة لشتى الكيانات، أما الذي يذوق الموت فهو النفس التي هي الكيان الجوهري، وهذا يعني لها الانقطاع الرسمي لصلتها بالجسد، وهي في حالة الموت لا تستطيع عادة التفاعل مع الكائنات الأخرى أو التأثير فيها، بل لا تستطيع تغيير حالتها هي، فعندها يعود الوعي إليها وتجد نفسها تستعمل ما غفلت عنه من حواسها، أما النفس التي كان صاحبها لا يعلم لنفسه وجودا إلا هذا الجسد فستتلقى صدمة هائلة، وستظل مقيدة به إلى أن تيأس منه، أما من كان مداوماً على الأعمال التي تؤدي إلى عمى البصيرة فسيجد نفسه أعمى، وأكثر ما يؤثر على حالة الإنسان في البرزخ هو حالته التي وصل إليها كيانه النفسي.
فمن رسخ في نفسه ضرورة القيام بمجموعة من الطقوس أو العادات سيجد نفسه أسيرا لها ويحاول محاكاتها وقد يحاول التسلط على من تآلف معه ليقوم بها من خلاله.
وكذلك من كان لديه تفوق في أحد الأمور كالطب أو الأدب أو الشعر أو الفن قد يتمادى فيما كان عليه فيحاول أن يمارسه من خلال من تآلف معه من البشر الأحياء.
ومن أدمن اقتراف نوعٍ ما من المعاصي حتى فني فيها سيكون بمثابة شيطان جزئي يحاول أن يحرض من تآلف معه على اقترافها أما من أدمن الكفر والفسوق والعصيان فقد يمارس عمل الشياطين الكلية.
وأكثر الناس إحساسا بما في عالم البرزخ من نمت وتعملقت مخيلاتهم أثناء الحياة الدنيا، ولكن أكثر الناس ممن لم يرسخ فيه الاعتقاد بأنهم أعلى وأرقى من أن يكونوا مجرد جسد وعاشوا الحياة العادية فسيكونون في شبه غفلة أو نوم.
 
أما الشهيد الحقيقي فسيجد أنه مازال حيا، وقد يجد من يستطيع التأثير فيه فيعمل من خلاله، والشهيد الحقيقي هو من بلغ هذه المرتبة من مراتب من أنعم الله عليهم وأصبحت شهادته معتمدة وذات مصداقية، ويُلحقُ به المقتولُ في سبيل الله تعالى، ومثل هذا قد يُشاهد في المعارك بين الكفر وبين الإيمان محرضا المؤمنين على القتال ومقويا من عزمهم.
أما الصديق الصالح فسيحظى بحياة حقيقية تجعله يظن أنه لم يكن من قبل حيا.
وعند النفخ في الصور تُصعق –بصفة عامة- النفوس مع من في السماوات ومن في الأرض ولكن عند النفخة الثانية يتم الاقتران بين النفوس وبين أجسادها التي سيتم إعادة إنشائها من جديد بكيفية لم يسبق لها مثيل، وعندها ستكون كل نفس بمثابة من استيقظ من النوم، فمنهم من لا يذكر شيئاً من أحواله هناك، ومنهم من سيتذكر أمور البرزخ كأحلام أو رؤى، وبالطبع سيظنون أنهم ما لبثوا في مرقدهم إلا زمنا يسيرا لاختلاف الإدراك الزمني عما هو معتاد.
واللذان بينهما برزخ لا يبغيان هما عالمُ الدنيا وعالم الآخرة، أما وجودُ عالم البرزخ -وهو عالم ليس بتام- فهو ثابت بما لا يُحصى عدده من التجارب، وكون الساعة لا تأتي إلا بغتة هو أمر ثابت لا علاقة له بوجود عالم البرزخ من عدمه، وعند تَوفِّي النفس أثناء النوم –وهو أمر ثابت- يتيقظُ إحساسها بعالم البرزخ، وقد تتلقى من هناك أنباءً وعلماً ببعض الأمور، وهذا أمر ثابت بما لا يُحصى عدده من التجارب والاختبارات، بل إن بعض العلماء وصلوا إلى حلول لمعضلات علمية والشعراء ألفوا القصائد المطولة لاتصالهم بهذا العالم وتلقيهم منه أثناء النوم، وهذه أمور معروفة، ويوجد ديوان شعري ضخم أملاه أميرُ الشعراء المصري أحمد شوقي بعد أن توفي على امرأةٍ مصرية مسيحية شبه أمية ولا تعرف العربية الفصحى، وهو مطبوع ومنشور. 
-------
قال تعالى:
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)} الأنعام
بمجرد أن يكون الظالم فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ يرى الملائكة يبشرونه بالعذاب الذي سيذوقه لتوِّه وفي يومه، وبمجرد استيفاء النفس وهي الإنسان الحقيقي من الجسد يكون قد ترك كل ما كان مخولا أو مستخلفا فيه بما في ذلك جسده وأتى ربه فردا، وبالطبع لن يكون معه من أشرك بهم واتخذهم شفعاء من دون الله، وما سيلقاه من عذاب يبدأ في يومه هذا هو النتيجة الطبيعية لاقترافه ألوان الظلم، وأبشع أنواع الظلم ما يقترفه في حق ربه وخالقه، ومنها تلك المذكورة في الآيات مثل أن يدعي كذبا أنه يتلقى الوحي من ربه أو أنه سَيُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وهذا من معاني الحساب ومن مقتضيات أن الله سريع الحساب، فالحساب هو ترتيب النتيجة على السبب بمقتضى السنن الإلهية، وكلما اقترف الإنسان معصية أو إثما كلما تعينت آثار ضارة بسبب ذلك طبقا للسنن، هذه الآثار ترتد على المقترف، ويكون أثرها عليه متناسبا في الاتساع والعمق مع ما اقترفه.
-------
القبر المعلوم هو من عالم الدنيا، وكذلك جسم الإنسان، فما يجري على الجسم هو ما يجري على كل الأجسام الأرضية.
والقرءان الكريم هو المصدر الأوحد للغيب الذي يجب الإيمان به، ولم يرد فيه أي شيء عن عذاب حسي يتم إنزاله بالجسم أو عن حساب رهيب للإنسان في قبره.
أما عالم البرزخ، وهو عالم النفس الإنسانية الحقيقية، فهو أمرٌ آخر تماما، والإنسان بمجرد أن يُتوفَّى يجد نفسه في هذا العالم.
ولكن المشكلة هي أن منكري عذاب أو نعيم القبر يعتقدون في الحقيقة إما بفناء النفس بالموت وإما بأنها ستكون شبه معدومة، وهذا غير صحيح، فالنفس التي هي الكيان الإنساني الجوهري إنما تذوق الموت كما تذوق عن طريق الجسم كل ما هو قابل للتذوق من كيانات مادية أو أمور معنوية مثل الطعام أو الشراب أو الألم أو الفرح، فالنفس تذوق الموت كما تذوق النوم مثلا، بيد أن النفس بالموت تكون على درجة عالية من الوعي، إذ يُكشف عنها الغطاء وتتحرر من أسر الجسم، ولكونها كذلك، فهي تكون في حالة من النعيم أو العذاب مناسبة لها، هذه الحالة هي بسبب الحالة التي آلت إليها النفس، وبسبب آثار أعمالها.
والعالم الذي تكون فيه النفوس يمكن أن يُسمَّى بأي اسم من الأسماء، فليست هذه هي المشكلة.
وأكثر الناس تدخل نفوسهم في حالة سكون بعد فترة ما، ولا يبقى متيقظا إلا قلة، وهذه مزية، ولا تقتضي بالضرورة الأفضلية.

وبمجرد عودة النفس إلى جسمها تشعر بشعور من استيقظ من نومه، ويذهب كل ما عانته أو ذاقته أو مرت به في عالم البرزخ كحلم مضى بمثل ما ذهبت الدنيا بالنسبة للبرزخ من قبل كحلم مضى، وعالم البرزخ هو عالم حقيقي بالنسبة للنفس المتحررة من جسمها، وله إطاره الزمني الخاص، ولا عجب في ذلك، فكل الأكوان والعوالم نسبية.
*******
إن النفس الحقيقية هي الكيان الجوهري للإنسان والذي يتضمن كل لطائف الكيان الإنساني وبرامجه وأسباب وجوده، والموت ليس إعداماً لها، وليس فيه أي قضاء على مشاعرها أو أحاسيسها الخاصة بها، وهي تذوق الموت كأي محنة أخرى تعرضت لها في حياتها الدنيا، وهي بالموت تُعزَل عن التصرف بالجسدِ مملكتِها الحميمةِ السابقة، ويعزّ عليها بالطبع بدءُ تدهورِه وانحلاله، وهي بالموت ينتقلُ إحساسُها إلى عالم البرزخ، وهو رغم أنه عالم غير تام مثل الدنيا أو الآخرة إلا أنه واقعي تماما وحقيقي بالنسبة لها، وهناك يشتد إحساسها بالأمور المعنوية وغير المادية بعد أن انعزلت عن الجسد الطيني الذي كان يخفف من شدتها أو يحجبُها، ومثلما كان يحدث للإنسان النائم عندما يكون هناك خطر عليه فيتمثل له في منامه أشياء مرعبه لحمله على الاستيقاظ تتألف مما يختزنه عقله الباطن فإنه كلما أحست النفس بآثار أعمالها السابقة تتجسد لها من مخزوناتها أشياء واقعية بالنسبة لها تعبر عنها، فتتجسد آثار إقامة الصلاة كصور إنسانية محببة ومطمئنة، وتتمثل آثار الشح والبخل في صور ثعابين مرعبة تأخذ بخناق النفس، ويتمثل إنكار الحقائق العلوية في صور كائنات رهيبة مخيفة! وغربة ووحشة مرعبة.

والشهداء الحقيقيون أحياء عند ربهم يُرزقون، هذا رغم أن أجسادهم أو بقاياها مدفونة في التراب، ومحلهم هو ما يمكن تسميته بعالم البرزخ، وهو عالم له إطاره الزماني المكاني الخاص به، وهو متداخل مع هذا العالم المادي الطبيعي المشهود، والإنسان الحقيقي هو النفس، وحياة الشهداء تعني استمرارَ قدرة نفوسهم على تقبل الرزق المادي والمعنوي والتقدم والرقي، وكذلك القدرةَ على الاتصال بمن لديه ملكات استقبال متيقظة من الناس.
قال تعالى:
{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)} آل عمران
فهم في جنتهم البرزخية يستحثون المؤمنين على اللحاق بهم، وذلك بالطبع قبل اليوم الآخر.
وقال عن مؤمن سورة يس:
{وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)} يس
فمن الواضح تماما أنه دخل الجنة بمجرد موته وقبل أن ينزل العذاب بقومه، وتمنيه أن يعلموا شيئا عن حالته هو بالطبع وهم مازالوا في هذه الدنيا قبل أن تأخذهم الصيحة، وقبل اليوم الآخر بالطبع.
وقال تعالى:
{فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)} الواقعة
فاستعمال حرف العطف الفاء هاهنا وفي الأحوال الثلاث الممكنة يبين أن الكلام هو عما سيحدث بمجرد حضور اليقين (الموت).
=======
يجب العلم بما يلي بخصوص النفس (الكيان الإنساني الجوهري):
1.    النفس أجلّ من أن تكوم كيانا ماديا، هي مكونة من طبقات أعلاها وأسماها وألطفها هو القلب.
2.    النفس بصفة عامة لا تتكون إلا في جسد، ولكنها بمجرد تكونها يمكنها الحياة بدونه.
3.    النفس ليست جزءا ماديا من الجسد لتنفصل عنه انفصالا ماديا، وهي لا تتقيد بالمكان إلا لارتباطها بالجسد.
4.    النفس بحكم كنهها متعينة في عالمها حتى في حالة ارتباطها بالجسد ويقظتها، هذا العالم مختلف من حيث الأبعاد وكنه هذه الأبعاد عن العالم المادي الظاهر.
5.    هذه النفس تٌتوفى عند النوم، ولكن صلتها لا تنقطع به، بل يبقى هناك حبل اتصال بينها وبينه، هو من نفس كنهها.

6.    الموت هو عملية عزل تام للنفس عن التصرف في الجسد وقطع للصلة بينها وبينه، وهي تأخذ معها كل ما هو ليس من هذا العالم المادي الظاهر، ومن ينكر الحياة من بعد الموت سيكونون أشد الناس تحيرا وأقلهم استعدادا لمواجهة مثل هذا الاختبار.
*******
قال تعالى:
{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَاب} [غافر:46]
هذه الآية تشير إلى عذاب آل فرعون في عالم البرزخ، فالنار تلوح لأنفسهم فيتعذبون بذلك عذابا دون العذاب الأكبر والأشد، والذي سيكون بعد إعادة اتصال نفوسهم بأجسادهم، والقول "غُدُوًّا وَعَشِيًّا" يشير إلى وجود الزمن في عالم البرزخ، فلا يوجد عالم مخلوق إلا ومعه إطاره الزمكاني.
وهذا الأمر ليس خاصا بآل فرعون فقط، فكل النفوس محكومة بنفس السنن التي لا تبديل لها ولا تحويل، والنص على ما سيحدث لآل فرعون لا ينفي ما سيحدث لمن هم أمثالهم أو أشد كفرا وعتيا.
وبالمثل، فالنص على حياة المقتولين في سبيل الله تعالى لا ينفي حياة من هم خير منهم من النبيين والصديقين، ولكن كان المقصود تأكيد حياتهم الحقيقية وإعلام الناس به.
أما موضوع القبر فكل المقصود به أحوال النفس بعد الموت مباشرة، والنفس لا تنعدم بالموت، وإنما تكون على الحالة التي استحقتها إما برقيها وعملها الصالح وإما بتسفلها وأعمالها الخبيثة، فليس الأمر أمر عذاب فقط، هذا أصل المرويات التي تتحدث عن أحوال الناس بعد الموت، والنفس لا تتقيد بالقبر، بل تكون في عالمها الخاص، وإن كانت تظل مشغولة بجسدها القديم العزيز عليها إلى أن تيأس من أمره.
في العالم البرزخي تتنعم النفس أو تتعذب وفق ما لصق بها من صفات وآثار الأفعال، لذلك فالمعول في هذا العالم هو على حسن الخلق وسلامة الطوية والسمات الفردية وآثار التزكية والتريض الروحاني، لذلك يُعذَّب الإنسان مثلا بشحِّه وبخله وولعه بالدنايا وينعَّم بجوده وكرمه وأريحيته وصفاء نفسه.
أما في الدار الآخرة فالإنسان محاسب على كل مثقال ذرة من عقيدة أو عمل وهو يجني ثمار كل أعماله المؤثرة على الآخرين.
والبعث هو إعادة ارتباط النفس بالجسد بعد أن أصبح مهيأً لقبولها، بهذا الارتباط تشعر النفس وكأنها استيقظت من حلم، وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون، والناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا وكُشَف عنهم غطاء الجسد، أي لم تعد مقيدة باستعمال آلاته، أما موضوع القبر فكل المقصود به أحوال النفس بعد الموت مباشرة، والنفس لا تنعدم بالموت، وإنما تكون على الحالة التي استحقتها إما برقيها وعملها الصالح وإما بتسفلها وأعمالها الخبيثة، فليس الأمر أمر عذاب فقط، هذا أصل المرويات التي تتحدث عن أحوال الناس بعد الموت، والنفس لا تتقيد بالقبر، بل تكون في عالمها الخاص، وأكثر الأنفس –مثل أنفس منكري عالم الغيب- ستظل مشغولة بجسدها القديم العزيز عليها إلى أن تيأس من أمره، أما الشهداء فأنفسهم تكون شديدة اليقظة، فهم أحياء عند ربهم يُرزقون، فحياة الشهداء ومن هم أعلى منهم مرتبة عند ربهم هي حجة على من كفر ببقاء النفوس في عالم البرزخ، والذي هو فرع من كفرهم الكامن بعالم الغيب.
=======
قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} [الزمر:42]
وهذه الآية تشير إلى وجود هذا العالم الذي اصطلح على تسميته بعالم البرزخ، فعملية استيفاء النفس في المنام وعند الموت واحدة، بيد أنها مؤقتة عند المنام نهائية حين الموت، وفي كلتا الحالتين لا تنعدم النفس، وإنما يتوقف تعاملها مع عالم الشهادة من خلال الجسد، والنفس بهذا الاستيفاء تذهب إلى عالمها المسمى بعالم البرزخ، والذي هو متداخل مع هذا العالم المادي الظاهر، وإنما الاختلاف هو في عدد الأبعاد المستقلة، وفي طبيعة هذه الأبعاد In the number & the nature of the independent dimensions.
والآية تقول {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون}، فلن يدرك آيات هذا العالم الغامض إلا من تيقظت لديه ملكة الفكر بطول استعمالها؛ أي بالتفكر.
والله تعالى يقول أيضا: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون} [الأنعام:60]
والآيتان معاً يثبتان أن النفس هي الكيان الجوهري الحقيقي المخاطب والمكلف والمسئول، وهي التي تُستوفى عند المنام بالليل مؤقتا وعند الموت بصفة دائمة.
=======
يوجد في عالم البرزخ للمقربين رَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ، ولأصحاب اليمين سَلَامٌ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، أما الضالون المكذبون فلهم نُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ، فالشجاع الأقرع ليس شيئا بالنسبة للويلات التي سيراها المكذبون الضالون والمجرمون في عالم البرزخ.
=======
ينكر كل المجتهدين الجدد ما يسمونه بعذاب القبر، وكما سبق القول: القرءان الكريم هو المصدر الأوحد للغيب الذي يجب الإيمان به، ولم يرد فيه أي شيء عن عذاب حسي يتم إنزاله بالجسم أو عن حساب رهيب للإنسان في قبره، فلا يوجد عذاب بالمعنى الحسي يتم إنزاله بالإنسان كجسم.
ولكن النفس من بعد أن تذوق الموت تجد نفسها في عالم البرزخ، والذي تتفاوت أحوال الناس فيه بين نعيم وعذاب وغفلة تامة وحياة تكاد تكون حسية، وكلها نتائج مترتبة على حالة كياناتهم الجوهرية ترتب النتيجة على السبب.
وكل ما هو من دون الله تعالى مقيد بإطاره الزمكاني، ولله وحده الإحاطة بكل العالمين وبإطاراتهم الزمكانية، وما نسميه بالبرزخ هو عالم النفوس؛ أي هو العالم التي تعيش فيه النفوس بالفعل، ولكنها تكون في غفلة عنه لشدة تعلقها بالجسم والنظر إلى العالم من خلاله، فلا ترى إلا في نطاق حواسه، ولكن يتيقظ إحساسها به بالنوم مثلا، وعالم البرزخ هو بالنسبة للنفس عالم حقيقي، وله إطاره الزمكاني مثل كل العوالم، فلا يوجد عالم إلا وهو معلق بإطاره الزمكاني، والكائن الأوحد الذي لا يتقيد بالزمن هو الله تعالى، وهو خالق العوالم بإطاراتها الزمكانية وله الإحاطة التامة بها، ولا علاقة للجسم بعالم البرزخ؛ فالجسم من العالم المادي الطبيعي.

*******
يوجد نعيم وعذاب في البرزخ، فالنفس الإنسانية تُستوفى ولا تفنى، وهي بعد التحرر من أسر الجسد ترى المعاني كما ترى المباني!
فالنفس ككيان لطيف ترى الحب والكره والبخل والنفاق ... الخ كما ترى الشجر والخضر والناس مثلا.
فالمعاني كيانات حقيقية لطيفة، والنفس الإنسانية ترى المشاعر والمعاني كما ترى المباني، ولكنها تراها عادة من حيث المخيلة التي تلبسها ثوبا مما هو مختزن فيها من الصور المناسبة لها واللائقة بها، فهذا أمر ذاتي يختلف من إنسان لآخر، وكلما ارتقت النفس كلما تمكنت من إدراك المعاني في حقائقها الأصلية.
ففي البرزخ يمكن أن يتمثل العلم باللبن الصافي للزومه لنمو الكيان الجوهري، ويتمثل الحرص والبخل بثعبان، ويتمثل الظلم بظلام.
ومن ينكرون هذه الأمور إنما يقيمون الحجج على أنفسهم من واقع حياتهم، ويظلون ملتصقون بالصور الخشنة للكائنات غافلين عن الحقائق الراقية السامية.
*******
يئس الكفار من أصحاب القبور، واعتبروهم هم والعدم سواء، وهم مصرون على تجاهل أن توفِّي النفس يعني استيفاءها كاملة دون أي إعدام لها أو انتقاص منها، فالنفس -التي هي الكيان الجوهري- تذوق الموت مثلما تذوق المرض أو الألم لأي سبب آخر، والنفس عند الموت يتم استيفاؤها أيضا، وتصبح أشد إحساسا بعالمها الحقيقي وهو العالم البرزخي، ولكنها لا تفنى أثناء النوم بمثل ما أنها لا تفنى في العالم البرزخي الفاصل بين عالمي الدنيا والآخرة، هذا العالم الذي له إطاره الزمني المختلف، والفرق بين النوم وبين الموت أن النفس بالنوم تظل على صلة بجسدها، وتكون على استعداد للعودة الفورية إليه لأي سبب من الأسباب.
وينكر بعضهم عالم البرزخ كلية بحجة اسمه، ولا علاقة للاسم بالموضوع، يمكن تسميته بأي اسم آخر، وينكرونه بالقول بأنه لا عذاب إلا بعد الحساب، والحق هو أن نعيم وعذاب البرزخ ليس إلا كالنتيجة للسبب، كالشبع لمن تناول الطعام أو كالجوع لمن امتنع عن تناوله، وهم يرون أن الإنسان يُنعم ويُعذب في الدنيا بدون حساب، وقد يتشاغل الإنسان في الدنيا عن الجوع مثلا بأي أمر آخر، ولكن النفس في البرزخ لا تملك ترف التشاغل عن حالة محيطة بها بسبب سوء ما اكتسبته من الصفات وآثار الأعمال، وقد يرى الإنسان في منامه كابوسا مروعا يتمنى الخلاص منه بأية وسيلة، ويتحقق له ذلك بالاستيقاظ، ولكن النفس لا تملك هذا الحق أو القدرة على ذلك بعد الموت.
وكذلك قد ينكب الإنسان على ممارسة معصية ما في مرحلة من حياته ثم بعد تقدمه في السن وزيادة علمه يدرك مدى بشاعة ما كان عليه فيمزقه الندم، ويتمنى أن ينسى كل هذا، وقد يستطيع أن ينسى بالتناسي، ولكنه لا يستطيع ذلك بعد الموت وانكشاف الغطاء.
والنفس ككيان لطيف تصبح أعظم إدراكا وإحساسا بما يلتصق بها من صفات وآثار الأعمال والمعاني، فهي تدرك كل ذلك وتشعر به بذاتها وحواسها الخاصة دون التقيد بحواس الجسد المحدودة.
أما البعث فهو عودة النفس للاتصال بالجسد بعد استوائه من جديد، وكما تنسى النفس أكثر ما عاينته في النوم بالاستيقاظ فإن أكثر النفوس، وخاصة نفوس الكفار تنسى أكثر أو كل ما عاينته في البرزخ بمجرد البعث.
وكل نعيم الآخرة أو عذابها هو تحقيق وتجسيد لآثار الأعمال الاختيارية في الدنيا، فيتجسد التسبيح مثلا ليكون أشجارا جميلة وارفة الظلال، ويتجسد التسبيح بالحمد ليكون أشجارا ذات ثمار، وتتجسد الصلاة لتكون بمثابة حور عين، وتتجسد آثار الأعمال الصالحة من أذواق وعلوم ومشاعر مثل التقوى والحب في صورة أَنْهَار مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَار مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَار مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَار مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى.

*****
بعض المعلقين على مقالتنا عن البرزخ مصرون على استعمال كلمة "قبر"، هذا رغم أننا ذكرنا الفرق الهائل بين الأمرين، هل قرأوا مقالتنا حقا؟ هم للأسف لا يقرؤون ولا يريدون أن يقرؤوا، ولا يفقهون، ولا يريدون أن يفقهوا، ولا يفقهون اللسان العربي، ولا يريدون أن يتعلموا، يريدون فقط أن يرددوا كأبواق جوفاء ما سمعوه ذات مرة من بعض (المجتهدين الجدد).
أيتها الأبواق الجوفاء: أين يوجد المقتولون في سبيل الله الآن؟ وأين يوجد الشهداء الآن؟! وأين يوجد الأنبياء، وهم خير الشهداء؟!
هل قرأتم يومًا ما هذه الآيات؟
{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)} يس

*******


حقيقة الشفاعة ج1

حقيقة الشفاعة ج1

إن الشفاعة الحقيقية تجلُّ عن المفهوم العامي الدارج لها، فهي بالأصالة فعل إلهي يقتضي نسقاً من السنن الكونية الخاصة بالمخيرين وليست بالأمر العشوائي الاعتباطي، ولا علاقة لها بالأهواء أو الأمور الشخصية أو الذاتية وإنما هي أمر حقاني يتحقق بمقتضي السنن الإلهية، فلابد من توفر استعداد لدى الإنسان يجعله قابلاً لتلقي التأثير من الشافع والإفادةِ منه، ويجب أن يجد أثر ذلك في نفسه بصلاح أمره، وشفاعة إنسانٍ لإنسان لا تكون إلا لمن ارتضى الله تعالى، فهي تتم بالإذن الإلهي.
فالشفاعة ليست بمحسوبية ولا بمحاباة ولا يحصل بسببها المرء علي ما ليس بحق له نتيجة تدخل من ذوي الحيثية وإنما هي قبول الهداية وقبول التأثر بأدعية الصالحين وقبول العون الروحاني منهم لوجود استعداد لذلك، فالشافع يتسبب في إيجاد إمكاناتٍ وفرصٍ أفضل لطالب الشفاعة يمكنه الافادةُ منها واستثمارها الاستثمارَ الأمثل كما يمكنه أيضاً أن يبددها، ومن أعظم ما يمكن أن يشفعَ في الإنسان العمل الصالح ذو الأثر الشامل الممتد وخاصة إذا انتفع به عدد أكبر من الناس، والانتفاع بالشفاعة يكون وفق نسق من السنن التي هي من مقتضيات الأسماء الحسنى، فلا يمكن أن يترتب عليه ظلم لأحد.
-------
إن الشفاعة هي سنة من السنن الكونية الخاصة بالكائنات المكلفة ذات الإرادة والاختيار، فالشفاعة هي أن يؤيَّدَ الإنسان باسمٍ إلهي أو بكيان أمري معنوي أو بكائن علوي نتيجة لقيامه بالأعمال وتوفيته بالشروط اللازمة لذلك، فقد يتعلق الإنسان باسم إلهي ويكثر من ذكره ويتحقق بمقتضياته فيظفر بالتأييد الإلهي من حيث هذا الاسم، فيقال عندها أن الاسم الإلهي شفع فيه، ولابد لذلك من أثر في تلك الحياة الدنيا، وسيعرف الإنسان ذلك حتما في يوم القيامة.
وقد يحب الإنسان النبي الكريم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ فيكثر من الصلاة عليه والتفكير في كماله ويعمل دائما على التأسي به فيدخل نفسه بذلك في المعية المحمدية فتجذبه أنوار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ إليه فيشفع فرديته ويكون له به عناية خاصة يدركها هذا الإنسان، ثم يظهر ذلك الأمر للناس كافة يوم القيامة، وقد يظهر بعضه لبعضهم في الدنيا، والشفاعة المحمدية تتم وفق قوانين الله وسننه، وإنكارها هو من علامات الشقاء والحرمان.
وقد يقيم الإنسان علاقة خاصة مع القرءان الكريم تلاوة وقراءة وتدبرا وتفكرا، فيشفع الله تعالى فيه من حيث القرءان، وهذه الشفاعة يترتب عليها أن يؤيده الله تعالى بروح منه وأن يكتب آياته في صدره، وقد يلزم الإنسان نفسه باحترام القوانين والسنن الإلهية والتعرف عليها فيراها تعمل لصالحه وتلك هي شفاعتها فيه وهي تقتضي شفاعة الملائكة الموكلة بتلك القوانين والسنن، وقد يشفع الخُلُق الحسن لصاحبه كما شفعت محبة الله ورسوله لشارب الخمر، فالخلق الحسن لابد إن عاجلا أو آجلا أن يجذب صاحبه بعيدا عن المعصية وهو لا يمكن آثارها من الإحاطة التامة به.
-------
إن الشفاعة هي تأييد ومعونة من كائن أعلى من  حيثيةٍ ما لكائن أدنى لديه استعداد لقبول المعونة, وبها تكون نجاته أو خروجه من الظلمات إلى النور أو ترقيه إلى مقام أعلى أو اكتسابه ملكات أسمى، والشفاعة بالأصالة هي لله تعالى، ولكن الشئون الإلهية الواجبة المطلقة لابد لها من آثار في عالم الخلق، فهناك شفعاء بإذن الله تعالى وبأمره ورضاه، والكائن الذي له أعظم شفاعة يمكن أن تكون لمخلوق هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم  إذ هو المأمور بالصلاة على المؤمنين وبإخراجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم العزيز الحميد، فهذا من شفاعته المأذون له فيها، ولحملة العرش شفاعة أيضا، ولذلك يصلون أيضاً على المؤمنين ويدعون الله تعالى لهم.
أما الشفاعة العظمى المطلقة فهي لله تعالى من حيث أسماء منظومة الرحمة والهدى، فالشفاعة هي أن ينضم الشافع إلى المشفع فيه بالنصر والتأييد والعون والإمداد، ومن تلك الحيثية فإن الشفاعة بالأصالة إنما هي لله تعالى، ذلك لأن منه كل ما ذكر وما من شفيع إلا من بعد إذنه أي بمقتضى قوانينه وسننه، فمخلوقاته هم آلاته وأدواته التي اقتضت سننه أن يستخدمهم لإيصال الخير إلى الناس وذلك لاستعداد خاص لديهم وملكات هي لهم ورغبة أصيلة في نفع الناس، وما شفاعة الشافعين إلا من آثار الشفاعة الإلهية ومقتضياتها.
والمفهوم الدنيوي الشائع عن الشفاعة يعني أن يحاول الشافع أن يحصل للمشفع فيه على ما ليس من حقه أو على مكانة ليس هو لها بأهل، ومثل تلك الشفاعة هي الشفاعة السيئة  التي يجل عن الاتصاف بها الإنسان النبيل فضلا عن رب العالمين، لذلك فإن من يلقي بنفسه في المعاصي اعتمادا على شفاعة يرقبها إنما هو متلاعب ومغامر بمصيره، وسرعان ما ستحيط به آثار خطاياه وربما قادته إلى الكفر، ذلك لأن من  ألف معصيةً ما وأدمنها حتى أصبح لا يمكنه العيش بدونها سيبغض الدين الذي يحرمها عليه ويكدر عليه صفو استمتاعه بها, فمثل هذا هالك لا محالة، ولن يجرؤ عبد على الشفاعة فيه، ذلك لأنه ليس لأحد أن يفرض على الحق ما يخالف سننه، ذلك لأن الكل يتقرب إليه بما يحب ويرضى وأهم أسباب الفوز برضاه الخضوع المطلق لسننه التي هي مقتضى أسمائه الحسنى.
والآيتان: {وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَة وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)} (البقرة) تدحضان ما لدى الناس من مفهوم عن الشفاعة الآن وتبينان أن هذا المفهوم هو الذي كان لدى بني إسرائيل من قبل، والآية: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيمِ} (التوبة 113) تبين أنه لا جدوى من الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولى قربى، فلا جدوى من الشفاعة فيهم، ولقد قال تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً }النساء123، فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ{7} وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ{8}} (الزلزلة)،  فالشفاعة هي أمر محكوم بقوانين وسنن، والشرك يمنع قبول آثار الهداية وبالتالي لا شفاعة في مشرك.
إنه على الناس أن يعلموا أن كل ما ينسب إلى الله تعالى ينبغي أن ينسب إليه كما يليق بذاته فهو يتعالى علوا مطلقاً فوق كل التصورات والمفاهيم البشرية, والشفاعة لدى الناس تعني المحسوبيةَ والمحاباة وإعطاءَ من لا يستحق لقرابة دنيوية وإيثارَ المشفع فيه وتفضيلَه على من سواه أو رفعَ عقوبةٍ ما عنه...الخ، وكان من الواجب عليهم أن ينزهوا ربهم عن هذا التصور فهو سبحانه يجل عن كل ذلك ويتعالى عليه، ولقد قال تعالى: {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(85 ) وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)} (الزخرف)، فالشهادة بالحق والعلم من لوازم الشفيع، ولذا فالشفاعة تتضمن الشهادة الصادقة في حق المشفوع فيه، والشفيع نفسه يخشى ربه الذي كان على كل شيء مقيتا.
-------
إن الشفاعة تعني انضماماً ما من شفيع إلى المشفوع فيه والذي كان وتراً فصار بانضمامه إليه شفعا، فهي تتضمن شهادةً طيبة في حقه ومحاولةَ إيصال نفعٍ ما إليه، وهي في كل الأحوال مسؤوليةٌ كبرى يتحملها الشفيع فإن كانت حسنةً قبلت منه ووجد أثرها وأثيب عليها وإن كانت سيئةً لم تقبل ولم تنفع ولم تؤثر، فالشفاعة هي أمرٌ بين طرفين، وقبولها يستلزم أيضاً أموراً لابد من تحققها لدى كلٍّ منهما، والشفاعة السيئة هي المعروفة بين العامة في مصر بـ"الوساطة"، وتلك الشفاعة مرفوضة بكل المقاييس، ولكن للأسف فإنها هي المفهوم الوحيد عن الشفاعة لدى أكثر الناس، والحق هو أن الشفاعةَ أمر محكوم بسنن لا تبديل لها ولا تحويل ولابد من أمرٍ ما في باطن الإنسان يجعله مستحقا لقبول الشفاعة، وقد يستحق الإنسان شفاعة اسم إلهي لوجود أثر المعنى الذي يشير إليه الاسم في ماهيته أو في نفسه كأن يكون بالغ الكرم مثلا أو أن يكون شديد الرحمة بالكائنات فيستحق شفاعة الاسم الكريم أو الاسم الرحيم، وعلامة قبول الشفاعة أن يجد الإنسان في نفسه أثرها في تلك الحياة الدنيا.
والشفاعة فعل إيجابي يترتب عليها إمدادُ باطن الإنسان مباشرة بالهدى أو بمزيد من العزم، وقد يقولون "ولم لا يشفع الله تعالى مباشرة لدى نفسه؟" فالجواب هو أنه تعالى لا يقيده شيء فله أن يجري الأمر باستعمال مخلوقاته الذين هم آلاته وأدواته وله أيضا أن يمدَّ عبده مباشرة بما يلزمه إن كان لدى العبد استعدادٌ لقبول ذلك وتحمله، فكما يوصل الرزق المادي لمن أراد عن طريق بعض العباد فإنه يوصل أثار الشفاعة وهي رزق معنوي إلى من ارتضى عن طريق بعض عباده أيضا، وهؤلاء الشفعاء إنما يُستخدَمون لذلك لأن لديهم الاستعداد لمساعدة الناس وإرشادهم؛ فالرب سبحانه لا يستخدم آلة إلا فيما تصلح له ولا يكلف نفساً إلا وسعها، ويجب الإقرارُ بان الأمر كله لله تعالى ومن ذلك الشفاعة، ولكن لابد من شكر الآلة أو الأداة أو السبب المباشر أيضا، ولما كانت الشفاعة من الأمور الباطنة فإنها ستنقلب في الآخرة أمراً ظاهرا ويعرف هنالك كل إنسان من كان سببا في إيصال الخير له.
إن الشفاعة محكومة بالإذن الإلهي أي بقوانين وسنن إلهية هي مقتضى الكمال الإلهي المطلق، فهي أرقي من التصورات البشرية وليس فيها شيء مما يعاب علي البشر من محسوبية ومحاباة ومجاملة، ذلك لأن الله تعالى منزه عن كمالاتهم فضلاً عن مقتضيات نقصهم، وإنما هي تعبير عن قبول بعض النفوس لتلقي التأثير الطيب من كائنات ارقي، فالأمر متاح للجميع، فمثل الكائن الراقي كمثل الشمس يسري ضوءُها فينتفع منه من ينتفع ويتضرر منه من يتضرر، ولذلك كانت الشفاعة بالأصالة لله تعالي فهو المالك الحقيقي لكل سمات الكمال وهو الواهب الحقيقي لها، فالشفاعة ليست بأمر اعتباطي وليست كما يتصورها البشر، ذلك لأن الله تعالي هو مصدر كل خلق كريم، وإنما هي تقبُّـل امرئ ما لتأثير كائن أرقي منه لتوافقٍ ما فيما بينهما أو لشدة تعلق طالب الشفاعة بالشفيع وحبه له وثقته به، فالشافع يستمد الكمال من ربه ويمد به من توافق معه ومن كان يتطلع ويرجو مددا إضافيا من ربه ويحسن الظن بالشفيع، فالشفاعة إنما تنسب إلى  كل ذاتٍ كما يليق بتلك الذات ولابد فيها من كيان معطٍ ومن كيان إنساني متقبل، فلابد للشفاعة ممن لديه استعداد للإعطاء وممن لديه استعداد للتلقي والقبول، ولما كان الله سبحانه هو مالك كل شيء ملكا حقيقيا كانت له الشفاعة جميعا وكل من هم دونه من شفعاء إنما يشفعون بإذنه بما استمدوه منه وبما تلقوه عنه وبمقتضي سننه، فلا محاباة ولا وساطة ولا محسوبية في الشفاعة، وكان علي الناس أن ينزهوا ربهم عن تصوراتهم وصفاتهم بل وعن كمالاتهم فكيف ينسبون إليه ما يترفعون هم عنه وما يعيب بعضهم بعضاً به.