الاثنين، 30 مارس 2015

الإنسان الرباني الفائق


الإنسان الرباني الفائق

المقصد لديني الأعظم الثاني لدين الحق هو إعداد الإنسان الرباني الفائق (الصالح المفلح المحسن الشاكر)؛ أي الإنسان الذي يجسد المثل الإسلامي الأعلى على المستوي الفردي والمؤهل للعيش السعيد والفلاح في الدنيا والآخرة، وهو الذي يقوم بقدر وسعه بأركان الدين الحقيقية الملزمة للفرد.
فهذا هو المقصد الأعظم علي المستوي الإنساني، وهو محور مقاصد الدين، وهو يعني إعداد الإنسان الأرقى والأسمى بالمفهوم الإسلامي المرتضى عند الله تعالى (The super human according to the Islamic concept)، وهذا الإنسان هو في الحقيقة من يقوم بأركان الدين الحقيقية ومن تتحقق له نتائج وثمرات هذا القيام؛ فهو الإنسان الصالح والفائق، وهذا الإنسان هو المؤهل للفوز بالسعادة في الدنيا والآخرة، وبالطبع فهذا الإنسان يتصف بأعلى درجة ممكنة من مكارم الأخلاق، ومكارم الأخلاق هي الصفات المتسقة مع منظومة القيم الإسلامية التي هي بدورها من مقتضيات منظومة الأسماء الحسنى الإلهية.
ومن أكبر سمات ومظاهر الإنسان الرباني الصالح المفلح الولاء المطلق لله تعالى والعمل الصالح وحسن الخلق، فلا يراه الناس متهالكا على حطام الدنيا ولا حريصاً عل العبّ منها ولا يخطر بباله أن يتكسب بدينه ولا أن يفشي ما علم من أسرار ربه، فهو يعيش للحق بالحق في الحق، ويكون ولاؤه دائما للحق، فهو الذي يعمل شكرا لربه وابتغاءً لوجهه، وهو الذي يحق له أن يقول صادقاً: إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
إن إعداد الإنسان الرباني الصالح المحسن المؤهل للخلافة في الأرض والعيش في العالم الأرقى بعد البعث يقتضي أن يعمل الإنسان علي أن يتزكى وأن يكون علي صلة وثيقة بربه، وهذا يستلزم أن يعمل علي أن يتحقق بصفات الكمال التي هي مقتضيات الأسماء الحسنى في الكيان الإنساني العام، وهذا هو المقصود بالقرب من الله تعالى، وسعي الإنسان إلى ربه ينبغي أن يكون متسقا مع حقيقة نفسه، لذلك فعليه أن يتجه إلى ربه طوعا لا كرها وأن يجاهد نفسه بالتغلب علي عوامل النقص الكامنة في طبيعته الذاتية، وعليه ألا يترك المجال لمقتضيات بشريته لتجذبه إلى الأرض وتضخم من شأن متاعها القليل الفاني، والإنسان الخليفة يزداد تحققه بالكمالات بالنظر في آيات الله في الأنفس وفي الآفاق وبإعمال ملكاته فيها للتعرف علي السنن الحاكمة عليها والسارية فيها وللعبور منها إلى العلم بالأسماء الحسنى التي اقتضتها.
*******
إن المقصد الديني الأعظم الثاني يعني باختصار إعداد الإنسان الفائق The super human، والإنسان الفائق هو أيضاً الذي يسعى لتحقيق مقاصد الدين بالقيام بأركان الدين الحقيقية الملزمة للفرد، فثمة حلقة تغذية موجبة Positive feedback loop بين المقصد وبين الأركان التي هي وسائل تحقيقه، فكلما قام الإنسان بالأركان كلما ارتقى واقترب من تحقيق المقصد الديني الخاص بالفرد، وكلما انتفع بآثار ذلك مما يساعده على قيام أفضل بالأركان...، وهكذا، ومراتب الكمال لا نهاية لها، لذلك تضمن تعريف الإنسان الفائق القيام بالأركان.
إن الإنسان الصالح ينبغي أن يقوم حق القيام بما طلبه الله منه وخلقه له وناطه به وهو الخلافة في الأرض، فكل إنسان هو خليفة في الأرض، ومما يجب القيام به بمقتضى ذلك سعيه في حق من يرعي وفي حق أمته وفي حق كل البشر بل في حق كل الكائنات؛ فيكون محض خير ورحمة مهداة أينما سار وأينما وُجد، فهو في حين يكد في طلب الرزق ينوي بذلك القيام بحق تلك الخلافة فينوي أن يعول نفسه وأهله وأن يقوم بحق كل إنسان غير قادر علي الكسب وكل دابة لا تستطيع طلبا للرزق، وهو يجود بالعلم ويعمل على محو الجهل ويسدي النصح ويميط الأذي عن الطريق ويبدد الظلام ويرفض الظلم والاستكبار والطغيان والعدوان ويعين علي نوائب الدهر، ويتصدى للانحطاط والتخلف والجهل، فهو أينما سار يسعي نوره بين الناس بل يكون هو نورا يسعي بين الناس يضيء لهم سبل الرشاد ويتذكرون به الله ويعظم جلاله في قلوبهم.
إنه لكي يكون الإنسان ربانيا فائقا يجب أن يبدأ بما يلي:
1.        العلم بمنظومات الأسماء الحسنى وما صاحبها من آيات فى الكتاب العزيز.
2.        العلم بمنظومات الشؤون الإلهية.
3.        العلم والتحقق بمنظومة القيم الرحمانية
4.        العلم بمنظومات السنن والعمل وفق مقتضياتها وعليه أن يتحقق بمقتضيات معرفته تلك وأن يسير على هديها وأن يزكى نفسه بها.
5.        أن يقوم ما استطاع بأركان الدين الحقيقية وهي أوامر الدين الكبرى والعظمى وفقا لكتاب الله العزيز.
وبذلك تتحسن نفسه الجوهرية الباطنة فلا تتضخم ملكة على حساب الأخرى مما يؤدي إلي انحراف فى العقيدة أو شطح، وبكل ذلك يصبح الإنسان إنساناً ربانيا قويا عزيزا يرفض الظلم والبغي وينتصر للحق والعدل ويرفض الشرك أى يرفض أن يستعبد نفسه لغيره أو للأشياء كما يرفض أن يستعبد غيره ويعرف أنه إنسان مكرَّم عند ربه ومستخلف في الأرض، أما من رفض كل ذلك فسيتحول بمحض إرادته إلى دابة في قطيع تبحث عمن يركبها أو يقودها ثم يذبحها ويكون بذلك من أصحاب السعير أو يتحول إلي طاغية مجرم من المفسدين في الأرض يعيش حياته وهو يرتعد فرقاً ممن ظلمهم وأكل حقوقهم ويوم القيامة سيطئونه بأقدامهم.
إن الإنسان الفائق هو الإنسان الصالح المفلح الشاكر المحسن طبقا للمصطلح القرءاني، والإنسان الصالح هو مصدر للأعمال الصالحة أي المسببة لنفع العديد من الكيانات الإنسانية بما فيها نفسه، ومحل نتائج وآثار العمل الصالح بالأصالة هو الإنسان الذي صدر عنه العمل، وتتعدى آثار العمل الإنسان لتشمل بعض الكيانات الإنسانية الأخرى، ويعتمد مدي وعمق وشمول آثار العمل علي المقصد من الفعل وطبيعته وعلي عمق الكيان الذي كانت بواعث الفعل الأصلية ماثلة فيه، وقد يكون الأثر الآني أو الفوري للعمل الصالح أكبر علي الكيانات الأخرى، فالإنسان الفائق هو الذي آمن وأسلم وأحسن وعمل بمقتضى كل ذلك.
فالإنسان الصالح هو الذي يسعى بجد وإخلاص لتحقيق مقاصد الدين بالقيام بقدر استطاعته بأركان الدين، وهو الذي في الطريق لتتحقق له ثمرات ذلك، ومن تلك الثمرات التحقق بذكر الله تعالى وإقامة صلة وثيقة به وتزكية النفس والقلب، ومن مظاهر ذلك التحلي بمكارم الأخلاق.
والحق هو أنه لو قام الإنسان حق القيام بأركان الدين الحقيقية لتحقق بالنسبة إليه المقصد الأعظم الثاني أي لأصبح إنساناً ربانياً فائقاً صالحا، فالإنسان الصالح هو من يحاول القيام حق القيام بأركان الدين، ولقد أوضحت آيات الكتاب العزيز أن جعل الناس يعقلون ويعلمون ويفقهون ويؤمنون ويتقون ويتفكرون ويتذكرون ويوقنون ويتدبرون من مقاصد إنزال الكتاب وتبيين وتفصيل آياته ومن مقاصد إيجاد وإبداع وتصريف الآيات الكونية والكتابية ومن مقاصد سن الأوامر الدينية والوصايا الشرعية ومن مقاصد تقدير القوانين والسنن والنواميس ومن مقاصد تدبير الوقائع والأمور علي المستوي الكوني ومن مقاصد تقليب الإنسان في أطواره المختلفة وتسخير ما في السمـاوات وما في الأرض له ومن مقاصد قص القصص وضرب الأمثال، كما أن الآيات جاءت آمرة بطلب الزيادة من العلم وحافلة بالإشادة بمن يعلمون وبالتنويه بعلو مراتبهم ودرجاتهم، وكذلك جاءت الآيات لتتوعد من أهملوا استخدام حواسهم وملكاتهم ولتندد بهم، كما أوضحت الآيات أن المؤمن ينبغي أن يتحلى بالسمو الخلقي وبمتانة البنيان النفسي والذي يتمثل في السلوك الراقي وفي اتزان ردود الأفعال وفي الصبر.
*******
إن المقصد الديني الأعظم على المستوى الفردي On the individual level هو إعداد الإنسان الفائق (الرباني الصالح المفلح المحسن)، هذا الإنسان هو الذي تتجانس كافة كياناته ومكوناته، هذا بمعنى أنه يعمل على أن ينميها كلها ويزكيها كلها، ولا ينحاز لكيان على حساب الكيانات الأخرى.
والمقصد الأعظم على المستوي الإنساني هو محور مقاصد الدين، وهو يعني إعداد الإنسان الرباني الأرقى والأسمى بالمفهوم المرتضى عند الإله الأعلى، وهذا الإنسان الرباني هو كما يلي:
1-            يعرف ربه بأسمائه الحسنى الواردة في القرءان الكريم ويعتصم به ويعبده من حيث تلك الأسماء بالعمل بمقتضياتها، كما يعرف كل ما نسبه الحق إلى نفسه في الكتاب من صفات وأفعال وشؤون وسنن.
2-            يتخذ القرءان الكريم إماما يعتصم به ويتقرب إلي الله بتلاوة آياته وبإعمال ملكاته القلبية فيها ويتعلم الأسس اللازمة للتعامل معه.
3-            يتأسى بخاتم النبيين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ في إقامة شعائر الدين والتحلي بالخلق العظيم.
4-            يعرف منظومات القيم والسنن والمقاصد والأوامر الدينية ويتوافق معها ويعمل وفق مقتضياتها.
5-            يعمل بمقتضيات كل الأوامر الإلهية فيكون على علاقة صحيحة بمبدأ الوجود وأصل كل كمال يدور في فلكه ويوقر قوانينه وسننه ويستشعر كينونته ووجوده وحضوره وقربه فيكون ذاكرا تقيا.
6-            يعمل على أن يكون ذا ملكات ذهنية ووجدانية فائقة ويعمل على تزكية تلك الملكات بالاستعمال المستمر والاستعمال السليم، ومن لوازم ذلك ومقتضياته أن يكون على درجة عالية من الذكاء القلبي الذهني والوجداني.
7-            يتحقق بذكر الله تعالى وهو الإحساس الحقيقي الصادق بالحضور الذاتي الإلهي.
8-            يتحقق بالتقوى وهي جماع كل ما يستلزمه هذا الإحساس على مستوى الشعور والوجدان.
9-            يتحقق بالفقه وهو جماع ما يستلزمه ذكر الله تعالى على المستوى الذهني فهو إدراك مقتضيات الأسماء الحسني من سنن وقوانين وآيات ومظاهر.
10-        يكون ملماً بمنظومة القيم الرحمانية وأن يتوافق معها وأن يعمل وفق مقتضياتها.
11-        يكون على دراية ووعى بالأمانة التي يحملها وبأنه مستخلف في الأرض فيسعى لصالح أمته والإنسانية جمعاء ويحترم حق غيره من الكائنات في الوجود والبقاء ويقوم بمسؤولياته تجاهها، وهذا يقتضي أيضا أن يحترم حقوق الأجيال القادمة فلا يسرف في استهلاك الموارد ولا يعمل على تلويث البيئة أو الإفساد في الأرض.
12-        يزكي نفسه بالتحلي بمكارم الأخلاق التي هي مقتضيات الأسماء الحسني علي المستوى النفسي الصفاتي والمعنوي وكذلك بالتخلي عن الأخلاق الذميمة وهي كل ما يناقض ما سبق.
13-        يعمل على أن يكون جديراً بالتكريم الإلهي بأن يزكي كل ما كُرِّم بسببه من ملكات وإمكانات ومعارف.
14-        يكون لديه رصيد كافٍ من الصلابة ومتانة البنيان النفسي وكذلك رصيد أخلاقي بحيث يتمكن من مواجهة كل الأزمات وتخطى كل الصعاب والعقبات.
15-        يقوم ما استطاع بأركان الدين الحقيقية واضعا نصب عينيه دائماً مقاصد الدين العظمى.
16-        يكون على درجة كافية من القدرة على إدراك أنماط التفاعل الممكنة بين الناس وأن تتوفر لديه القدرة على التفاعل البناء معهم والتأثير الإيجابي فيهم.
17-        يقوم بكل ما يجب عليه من واجبات تجاه الكيانات الإنسانية الأدنى والأعلى.
18-         يؤمن بانتمائه إلى أمة واحدة لها عليه حقوق والتزامات فعليه أن يجيد من الأعمال ما ينفعها وما يؤدى إلى زيادة منعتها وقوتها ويعلم أنه على ثغرة من ثغورها فيحذر أن تؤتي من قبله.
19-        يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة وبالجدال بالتي هي أحسن وبأن يكون هو أسوة حسنة للناس.
20-        تكون علاقته بكل ما في الوجود وفق قوانين الله وسننه وأوامره وبذلك يجد من كل شيء عوناً ونصيرا له.
21-        يكون على وعي بحقيقة نفسه ونقاط قوته وضعفه وإمكاناته الحقيقية فلا يخجل منها وإنما يعمل على توظيفها التوظيف الأمثل لصالحه وصالح أمته، وعليه أن يعلم أن صفاته الذاتية الأولية هي التي كان بها هو هو ولو تغير شيء منها لبرز غيره إلى الوجود ولظل هو في طي العدم وأن تلك الصفات هي لوازم ماهيته التي تعينت وفق كل ما سبقه من وقائع وظروف وملابسات وما وجد من كائنات وما يحكم الأكوان من القوانين والسنن.
22-        يتحلى بالمعارف والإمكانات التي تكفل له أن يواجه كل أمر أو واقعة بالاستجابة الملائمة.
23-        يكون عنصراً فعالا بناءاً إيجابيا يواجه كل الصعاب وهو على ثقة من أنه يعتصم بمن بيده أمر كل شيء.
24-        يعلم أن كل ما يواجهه من كائنات آلات بيد الحق يتعرف إليه من خلالها ويواجهه بها فلا يحتجب بها عمن خلقها ولا يقف عندها ولا يفتتن بها ولا يخشاها وأن يواجهها بالأدب اللائق من حيث معرفته بذلك.
25-        يرى أن كل ما يواجهه من وقائع وأحداث هو في النهاية من تدبير الرحمن وذلك بهدف دفعه إلى التحقق بكماله المنشود.
26-        يعلم أن الاتساق سارٍ في كل أمور هذا الوجود الظاهر وأنه لا بد من وجود كل ما وجد ووقوع كل ما وقع بل إن وجوده ذاته هو نتيجة لازمة وواجبة لكل ذلك، فعليه ألا يأسى على ما فاته وألا يفرح بما أوتي وألا يسهو قلبه عن الإحساس بوجود ربه وحضوره وألا يغفل عن ذكره وأن يتوافق مع كل الكيانات الوجودية فيبدأ بالتوافق مع نفسه ثم مع أسرته ثم مع أمته ثم مع البشرية جمعاء وكل الكائنات.
*******
إن الإنسان الرباني المفلح يكون كما يلي:
a.      أهلاً لحمل الأمانة وهي القيام بحقوق ومقتضيات الأسماء الحسنى.
b.     جديرا بالتكريم الإلهي.
c.      قادرا على القيام بمتطلبات الاستخلاف في الأرض.
d.     ساعياً نحو التحقق بكماله المنشود.
e.      صالحاً للعيش السعيد في العالم الأعلى والأرقى.
f.       حريصاً على القيام بأركان الدين لتحقيق مقاصده.
g.     مؤمناً بانتمائه إلى أمة واحدة ومؤدياً لواجباته نحوها.
h.     حريصاً على القيام بواجباته الشرعية تجاه كافة الكيانات الإنسانية.
*******
لو قام الإنسان حق القيام بأركان الدين الحقيقية لتحقق بالنسبة إليه المقصد الأعظم الثاني، ولقد أوضحت آيات القرءان أن جعل الناس يعقلون ويعلمون ويفقهون ويؤمنون ويتقون ويتفكرون ويتذكرون ويوقنون ويتدبرون من مقاصد إنزال الكتاب وتبيين وتفصيل آياته ومن إيجاد وإبداع وتصريف الآيات الكونية والكتابية ومن سن الأوامر الدينية والوصايا الشرعية ومن ضرب الأمثال ومن تقدير القوانين والسنن والنواميس ومن تدبير الوقائع والأمور علي المستوي الكوني ومن تقليب الإنسان في أطواره المختلفة ومن تسخير ما في السمـاوات والأرض للإنسان ومن قص القصص وضرب الأمثال، كما أن الآيات جاءت آمرة بطلب الزيادة من العلم وحافلة بالإشادة بمن يعلمون وبالتنويه بعلو مراتبهم ودرجاتهم، وكذلك جاءت الآيات لتتوعد من أهملوا استعمال حواسهم وملكاتهم ولتندد بهم، كما أوضحت الآيات أن المؤمن ينبغي أن يتحلى بالسمو الخلقي وبمتانة البنيان النفسي والذي يتمثل في السلوك الراقي وفي اتزان ردود الأفعال.
إن إعداد الإنسان الفائق هو لب المقاصد الدينية، والإنسان الفائق هو الإنسان الرباني الصالح المفلح الشاكر المحسن طبقا للمصطلح القرءاني، والإنسان الصالح من يعمل علي تحقيق مقاصد الدين الحقيقية؛ أي هو من يقوم بأركان الدين الحقيقية، وهو مصدر للأعمال الصالحة (A source of righteous deeds)، هذا الإنسان هو عبد خالص ومخلص لربه، وتكون كل أعماله ابتغاء وجهه.
والإنسان الرباني الفائق هو الذي يري بأكبر عدد من الأعين ويسمع بأكبر عدد من الآذان ويفكر ويفقه ويعقل بأكبر عدد من القلوب ويزداد في كل لحظة علما وفقها وعقلا ويسمو إلي ربه، ومن وسائل ما ذُكر الشورى والقراءة والتعلم.
والإنسان الصالح هو الذي يجب أن يعمل لاستعادة وحدته الذاتية، والقرءان -لأحدية المتكلم به- يخاطب الإنسان ككيان واحد كما يخاطب الأمة كذلك، فقراءته وتدبره خير ما يساعد الإنسان علي استعادة وحدته، والإنسان كيان واحد لأنه تجسيد لأنية واحدة حتى إن اقتضي الأمر تقسيم نفسه تقسيما فنيا ليسهل عليه فهم نفسه، وربه يخاطبه كما يخاطب كيانا واحدا له لوازم عديدة من الصفات والملكات والكيانات، ولكن الإنسان الذي يسلم بانقسام نفسه ويألف ذلك لن يستطيع أن يفهم نفسه أو غيره من الناس، فرغم طبيعة الإنسان كأداة للتفصيل المطلق فعليه ألا يغفل عن وحدته حتى يتماسك كيانه، وقراءة الكتاب العزيز بتدبر من وسائله لاستعادة وحدته ودعمها.
إنه لكي يكون الإنسان ربانيا فائقا يجب أن يبدأ بمعرفة منظومة الأسماء الحسنى وما صاحبها من آيات فى الكتاب ثم يعرف منظومات الشؤون الإلهية ويعرف ويتحقق بمنظومة القيم الرحمانية ومنظومات السنن وعليه أن يتحقق بمقتضيات معرفته تلك وأن يسير على هديها وأن يزكى نفسه بها، وبذلك تتحسن نفسه الجوهرية الباطنة فلا تتضخم ملكة على حساب الأخرى مما يؤدي إلي انحراف فى العقيدة وشطح، وعلي هذا الإنسان أن يقوم ما استطاع بأركان الدين الحقيقية والمذكورة في هذا الكتاب، وبكل ذلك يصبح الإنسان إنسانا ربانيا قويا عزيزا يرفض الظلم والبغي وينتصر للحق والعدل ويرفض الشرك أي يرفض أن يستعبد نفسه لغيره أو للأشياء كما يرفض أن يستعبد غيره ويعرف أنه إنسان مكرم عند ربه ومستخلف في الأرض وأن الآخرين كذلك مثله، أما من رفض كل ذلك فسيتحول بمحض إرادته إلى دابة في قطيع تبحث عمن يركبها أو يقودها ثم يذبحها ويكون بذلك من أصحاب السعير أو يتحول إلي طاغية مجرم من المفسدين في الأرض يعيش حياته وهو يرتعد فرقاً ممن ظلمهم وأكل حقوقهم ويوم القيامة يدوسونه بأقدامهم.
إن المقصد الأعظم هو إعداد الإنسان الفائق الذي وصل على المستوى الجوهري إلى أعلى درجة ممكنة من الكمال والرقي، وهذا يستلزم ويترتب أيضا على وجود الأمة الخيرة الفائقة، فبوجود تلك الأمة يمكن لأعداد أكبر من البشر الوصول إلى المستوى المطلوب كما أن وجود تلك الأمة مترتب أصلا على وجود نصاب يعتد به من البشر الفائقين.
فالمقصد الأعظم بالنسبة للإنسان أن يكون إنسانا فائقاً أى إنساناً صالحا محسنا ربانيا أى منتمياً إلى ربه الذى خلقه والذى هو أولى به من نفسه لا أن يكون منتمياً إلى صاحب مذهب ما، قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ(79)} (آل عمران)، {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا(65)} (الإسراء)، {وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا(63)} (الفرقان)، ولقد أعلن سبحانه أنه ولى المؤمنين وأنه كفى به وليا وأنه ليس لهم من دونه من ولي، قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ (البقرة: 257)، {أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} (الشوري: 9)، {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا(45)} (النساء: 45)، {مَالكُم مِنْ دُونِه منْ وليٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذكَّرُون} (السجدة: 4)، وأمر بالاعتصام به وبحبله وباتباع ما أنزله ونهي عن اتباع أولياء من دونه، قال تعالى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(101)} (آل عمران)، {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ(78)} (الحج)، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (آل عمران: 103)، {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ(2)اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ(3)} (الأعراف)، وبالإضافة إلى الانتماء فإن الإنسان الربانى يكون متحققا بمقتضيات سمات ربه وهذا يقتضى أن يعرف أسماءه الحسنى وأن يدعوه بها.
ومن لوازم إعداد الإنسان الفائق الصالح الحفاظ على حقوق وكرامة الإنسان وحمايتة من الإذلال والامتهان، ومن لوازم الإنسان الفائق القيام بمقتضيات الاستخلاف فى الأرض من إعمار وحفاظ على البيئة والدفاع عن الحرية الدينية احتراماً وإجلالاً لقوله تعالي: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }البقرة256، {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ }يونس99.
فالمقصد الديني الأعظم هو إيجاد الإنسان الرباني الفائق، ولو تأمل الناس في تاريخ القرن الإسلامي الأول أي الأمة التي رباها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ بنفسه وزكاها وعلمها الكتاب والحكمة لعرفوا أنه تمكن في زمن قصير جدا من إعداد ما يربو على الألف من هؤلاء غير بهم وجه التاريخ البشرى تغييرا ثابتا دائما، لقد ربى رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه وكان كل فرد منهم رجل دين ورجل دولة وقائدا وجنديا وفارسا وقاضيا وتاجرا وراهبا ومشرعا وعالما وفقيها.
ورقىّ الملكات الذهنية والوجدانية يستلزم تهذيب وتزكية الغرائز الجسدية وحسن استخدامها لتحقيق الغايات المنوطة بها، وهى إنما وجدت لحفظ النوع الإنساني ولإيجاد دوافع للسعي والسير في الأرض مما يؤدي إلي نمو الملكات والقدرات الإنسانية وللتعارف بين الناس واستحداث روابط وثيقة وتفاعل مستمر فيما بينهم مما يؤدي إلي إبراز وتفصيل مشاعر ذوقية راقية كالود والحب والرأفة والرفق واحترام الكبير والعطف علي الصغير والبر والشعور بالأخوة والمصير المشترك، فالغرائز لازمة لتحقيق الغاية من خلق الإنسان وهي الظهور التفصيلي للكمال المطلق، وبالوفاء بمقتضياتها يتذوق الإنسان مشاعر لازمة لاكتماله ولا سبيل لمعرفتها إلا بالذوق المباشر، وتلك أمور أصلية وليست بعارضة وهي تؤهل الإنسان للعيش السعيد في العالم الأرقي، ولذا فلقد حدد لها الإسلام مصارفها الشرعية حتى لا يطغي الإنسان فينشغل بها عن تحقيق مقاصد الدين الأخرى، فالإسلام الذي هو دين الفطرة يتعامل مع الإنسان علي أساس ما هو عليه لا على أساس ما ينبغي أن يكون عليه في تصور البعض، ويجب العلم بأن جسد الإنسان من آيات الله الكبرى ومن أكبر الدلائل علي وجود إله له الأسماء الحسني.
والتقدم العلمي والتكنولوجي من وسائل إيجاد الإنسان الفائق، ذلك لأنه يؤدى إلى:
1.        علاج الآفات التي يمكن أن تصيب الإنسان.
2.        تحسين القدرات الجسدية والذهنية للإنسان.
3.        مد نطاق عمل حواس الإنسان من حيث المدي والاتساع والشمول والعمق.
4.        زيادة تعرف الإنسان على القوانين والسنن والآيات مما يؤدى إلى ازدياد معرفة الإنسان بالأسماء الحسنى ومقتضياتها وآثارها وزيادة اتساع المجالات التى يمكن أن تعمل فيها ملكات الإنسان.
5.        توفير وقت الإنسان وجهده وطاقته واستخدام كل ذلك فيما هو أسمى.
6.        دفع الإنسان إلى استعمال ملكاته الذهنية العليا.
7.        مساعدة الإنسان على إدراك جوانب من الغيب النسبي.
8.        الرقي بالتصورات والمفاهيم البشرية مما يؤدي إلى إدراك أفضل للآيات المتشابهات.


*******

السبت، 28 مارس 2015

المقصد الديني الأعظم الرابع (ج1)

المقصد الديني الأعظم الرابع (ج1)
إعداد وبناء الأمة الخيرة الفائقة

المقصد الديني الأعظم الرابع هو إعداد الأمة الخيرة الفائقة التي تجسد المثل الإسلامي الأعلى علي المستوي الأممي، وهي التي تسعى لتحقيق مقاصد الدين بالقيام بأركان الدين الملزمة للأمة ومنها الدعوة إلي الله تعالى والقيام بمقتضيات حمل الأمانة والاستخلاف في الأرض والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي تمثل الإنسان المستخلف والمكرم وحامل الأمانة على المستوى الأممي، وهي الأمة الداعية إلي الخير المجاهدة لإعلاء كلمة الله تعالى الساعية إلى إظهار دين الحق المدافعة عن المستضعفين في الأرض والمقاومة للفتن والتعصب والاضطهاد الديني والاستعلاء العنصري والإفساد في الأرض والساعية إلى نشر الأمن والسلام والدفاع عن حقوق وكرامة الإنسان.
-------
إن المقصد الديني الأعظم الرابع يتضمن إعداد وبناء الأمة الخيرة الفائقة التي تجسد المثل الإسلامي الأعلى على المستوي الأممي، وهي التي تسعى لتحقيق مقاصد الدين بالقيام بأركان الدين الملزمة للأمة ومنها الدعوة إلي الله عزَّ وجلَّ والقيام بمقتضيات حمل الأمانة والاستخلاف في الأرض والعمل الصالح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدفاع عن القيم الإسلامية وحماية حقوق المستضعفين.
-------
لقد عامل القرءان الأمة المؤمنة به ككيان واحد، وناط بهذا الكيان مسؤوليات جسيمة ومهام عديدة لا يستطيع الإنسان بمفرده القيام بها، ومن تلك المسؤوليات قيام الأمة بأعباء الخلافة على المستوي الأممي، وكذلك خلافة الأنبياء والمرسلين في الدعوة إلى دين الحق وإلي الخير وكذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي الجهاد في سبيل الله تعالي وفي القيام بالشهادة لله تعالى، قال تعالي:
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(104)} (آل عمران)، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة: 143)، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ(55)} (النور)، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ(110) (آل عمران)، {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(71)} (التوبة)، {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ(41)} (الحج)، {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً }النساء75،  {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }الحجرات10،  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ{77} وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ{78} الحج.
فمن كل تلك الآيات يتبين أن المقصد الديني الأعظم علي مستوي الجماعة هو إعداد الأمة الخيرة الفائقة المستخلفة في الأرض الداعية إلي الله عزَّ وجلَّ والداعية إلى الخير الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر الشهيدة لله تعالي علي سائر الأمم وعلي نفسها والقائمة بالقسط والتي يمكن لها أداء المهام المنوطة بالإنسان الخليفة على المستوى العالمي، فهي تظهر بصفات الكمال الممكن اللائقة بالأمة وتؤدي المهام المنوطة بها والتي تقتضيها سماتها المذكورة، فمن مهامها الدعوة إلى الخير ونصرة الحق والدفاع عن المستضعفين في الأرض وإقرار السلام والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والذي من أشد أنواعه الإثم والبغي والظلم والجور والإفساد في الأرض، وتلك الأمة هي التي توفر لأبنائها العلم الديني الصحيح بأسماء الله الحسني وبكل ما نسبه الله عزَّ وجلَّ إلي نفسه في الكتاب العزيز والتي توفر لكل فرد فيها ما يلزم ليكون إنساناً فائقا، وهي التي يتحقق فيها قيام الناس بالقسط الذي هو من مقاصد إنزال الكتاب، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ(25)} الحديد، فالقيام بالقسط من لوازم ومبررات وجود الأمة الفائقة الخيرة، وهو من الأركان الواجبة عليها، فالأمة الفائقة تعمل على تحقيق العدل والقيام بالقسط على كافة المستويات الداخلية والخارجية.
والأمة الخيرة لا تعتدي ولا تبادر بإيقاد نيران الحروب ولا تسعى إليها، وإنما تقاتل عند الضرورة في سبيل الله والمستضعفين في الأرض، وتقاتل لدفع الفتن ومقاومة الاضطهاد الديني، وتقاتل المفسدين في الأرض، وتقاتل لتكفَّ بأس الذين كفروا، وتقاتل لتسترد ديارها التي أخرج أبناؤها منها، وتقاتل دفاعا عن حقوق وكرامة الإنسان، ولكنها تتجنب العدوان، كما تتجنب سفك الدماء بقدر الإمكان، وتجنح للسلم لدى أول بادرة تلوح لها، وتدافع عن الحرية الدينية والتسامح الديني، ويكون جهادها خالصا لوجه الله سبحانه وتعالى لا طلباً لمزيد من الأموال والعبيد والجواري الحسان ولا تطلعا إلى المزيد من السلطان.
والأفراد في الأمة الخيرة تتحقق فيما بينهم المساواة، فهم يخضعون لقانون واحد يكيل بمكيال واحد ويحظون بفرص متكافئة وينال كل إنسان المكانة اللائقة بقدراته وإمكاناته، وكل ذلك يمكن أن يتحقق باتباع الميزان القرءاني وبإعمال القوانين المنصوص عليها فيه أو المستنبطة منه.
فتلك الأمة هي التي تؤدي أركان الدين المنوطة بالأمة والتي هي فوق طاقة الإنسان الفرد أو الجماعة القليلة من المؤمنين، فهي الأمة التي تعمل على تحقيق مقاصد الدين العظمى بالقيام بأركان الدين الملزمة للكيانات الإنسانية الكبرى.
-------
إن الأمة هي جماعة من الناس تجمعهم منظومة مقاصد واحدة ومنظومة قيم واحدة ومنظومة قوانين وسنن واحدة، ويرتبط كل فرد أو كيان إنساني فيها بالآخر برابطة الولاء والأخوة، والأمة الخيرة الفائقة هي التي تجمع مكوناتها وعناصرها منظومات دين الحق، وتلك المنظومات تشمل كل الأمور الكبرى التي تمثل ما لا يجوز الاختلاف بشأنه.
------------
إن المجتمع بالمعنى المعاصر هو كيان إنساني حقيقي تتعدد مكوناته، والأمة تشكِّل كياناً داخل هذا المجتمع يجمعها وحدة القصد ووحدة منظومة القيم والصفات الحاكمة، ولابد لسلامة الكيان من قوته وصلابته ومرونته وتماسك مكوناته واتساقها وسلامة شبكة العلاقات والروابط بينها، ولا سبيل إلي تحقق ذلك داخل أمة إسلامية إلا بالعمل وفق مقتضيات دين الحق، ولا يمكن أن يتحقق ذلك بأن تتخلى تلك الأمة عن دينها علي أي مستوى من المستويات، ومن مقاصد الدين العظمى إعداد وبناء الأمة الخيرة السوية الفائقة، وكذلك تحديد أنماط العلاقات بين تلك الأمة وبين الكيانات الأخرى المكونة للمجتمع.
-------
إن من مقاصد الدين وأركانه بناء أمة واحدة صالحة خيِّرة مفلحة، لذلك فهو لم يكتف بأن يجعل حياة كل أفرادها قائمة على منظومة قيم واحدة وموازين واحدة فحسب وإنما عمد إلى جمع الأمة علي مجموعة من الأفعال الواعية كالعبادات الجماعية واستخدام التأثير الجماعي لتبادل المشاعر الوجدانية مع الحرص علي الحفاظ علي فردية كل إنسان وتميزه، فالأمة هي الإنسان الكبير وخلاياه هم الأفراد الذين يعرف كل منهم دوره في البنية العامة لهذا الإنسان الكبير.
------------
إن الأمة ليست بجماعة تسعى إلى مجرد إشباع الحاجات المادية لأبنائها ولا إلى الاستحواذ على القدر الأعظم من الأشياء المادية ولا إلى الاستعلاء على سائر الأمم ونهب خيراتها، وإنما تسعى إلى الاستكثار من الثروة الأمرية المعنوية من القيم والمبادئ والمثل العليا والأفكار والمفاهيم والتصورات السليمة والثقافات الرفيعة والقيم الإيجابية، كما أنها تحقق للإنسان كل ما يهفو إليه من عزة وكرامة وسمو ورقي وتحقق بكماله المنشود.
-------
إن الأمة الفائقة الصالحة المفلحة هي كيان له جسد واحد متماسك يشد بعضه بعضاً ويرتكز بعضه على البعض ويكون لكل عضو فيه مهمته التي يعلمها جيداً ويعمل على تنفيذها، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }الحجرات10، وقال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ ما معناه: (المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، المؤمنون في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى )، وهذا الكيان يعرف مسؤوليته جيدا ويأخذها مأخذ الجد؛ فهو خليفة الأنبياء والمرسلين بالإضافة إلى الخلافة العامة التي هي لبنى آدم أجمعين، وكما تشعر الأمة بمسؤوليتها تجاه الناس أجمعين يشعر كل عضو فيها بمسؤوليته عن الجماعة والأمة، ولتلك الأمة حقوق علي كل فرد فيها.
والأمة الخيِّرة الفائقة هي التي تقوم خير قيام بما هو منوط بها من مهام أهمها:
1.      إعلان الإيمان بالله تعالى والمجاهرة به والدعوة إليه، فيكون معلوما لدى سائر الأمم أن تلك الأمة قد كرَّست حياتها لربها فهي تجاهد كل دعوة إلى الكفر والشرك والإلحاد وتفندها وتدحض حججها، كما تدعو كافة الأمم إلى نبذ الشرك وإلى ألا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله تعالى، وهذا يعنى الجهاد ضد الطغيان والاستبداد والكهنوت، أما أوجب أمر على الأمة والذي يمكنها أن تجتمع عليه وأن تدعو كافة الناس إليه فهو دعوة الناس أجمعين إلى الإيمان برب العالمين الذي له الأسماء الحسنى الواردة في القرءان الكريم.
2.      الدعوة إلى الخير وهو الاسم الجامع لكل القيم والمبادئ والمثل العليا التي تتضمنها المنظومة الأمرية الإسلامية، فهي دعوة إلى الحق والعدل والمساواة والحرية.
3.      الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وهذا يعني الممارسة العملية التي يقتضيها ما سبق بيانه.
4.      حمل رسالة الإسلام للعالمين بأن تكون الأمة تجسيداً حياً لمنظومة القيم والمبادئ والمثل العليا والسنن الإسلامية والتي تتضمن الحق والعدل والقيام بالقسط والتراحم والتكافل والتسامح وإيثار السلام والدعوة إليه ورعاية حقوق الإنسان وكرامته ورعاية حقوق الكائنات المسخرة للإنسان وعدم إبادة دواب الأرض دون مبرر أو تحميلها فوق طاقتها، وعدم الإفساد في الأرض بل تعميرها وإصلاحها والحفاظ على التوازن البيئي فيها، وحماية حقوق الأقليات وعدم إكراههم على اعتناق ما لا يرضون من الدين والتسامح معهم والبر بهم والإقساط إليهم، فالدين الذي قرر بكل صراحة ووضوح أنه لا إكراه في الدين وقرر حرية الإنسان في اختيار الكفر أو الإيمان لا يأمر باضطهاد أتباع الديانات الأخرى، ولقد قام الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحية واحتراماً لجثمان يهودي، وقال الإمام علي رضي الله عنه في وصيته للأشتر عندما ولاه أمر مصر: "أشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم فإنهم صنفان أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"، وشهد للخوارج بأنهم طلبوا الحق فأخطئوه رغم أنهم قاتلوه ولم يمنعهم شيئا كان مقررا من قبل لهم، ويجب إعداد وتمويل مؤسسات تعمل على دعوة الناس إلى الإسلام باتباع كافة السبل المشروعة وبالانتفاع في سبيل ذلك بالوسائل العصرية.
5.      توفير كل ما يلزم لإعداد الإنسان الرباني الفائق وذلك يستلزم حماية حقوق الإنسان وتوفير احتياجاته الأساسية مثل حقه في الحياة الكريمة، وهذه تتضمن حق الأمن علي الدين والنفس والعرض والمال والمأوي وحقه في تكوين أسرة وحقه في التملك والعمل وفقا لقدراته وإمكاناته وتأهيله وحقه في النصح وإبداء الرأي والشورى والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وكذلك توفير كافة السبل لتنمية ملكات الإنسان القلبية وإمداده بالتعليم اللازم والمتوافق مع قدراته وإمكاناته.
6.      العمل على الحفاظ على قوة الأمة على كافة المستويات وعلى الزيادة المطردة لهذه القوة.
7.      الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا على كافة المستويات، وهذا يتضمن الدفاع عن القرءان الكريم وعن حقوقه في أن يكون المرجع الأوحد لأمور الدين الكبرى والأعلى لأموره الثانوية ضد من اتخذوا كتب الناس قاضية وحاكمة عليه وتطاولوا عليه وقالوا بأن فيه آيات بطلت أحكامها لكونها منسوخة أو لكونها من القصص المحمدي.
8.      مقاومة الاضطهاد والفتن والظلم والتمييز العنصري، وكذلك الدفاع عن حقوق وكرامة الإنسان ونصرة المستضعفين.
9.      الاستكثار من الثروة الأمرية المعنوية من القيم والمبادئ والمثل العليا والأفكار والمفاهيم والتصورات السليمة والثقافات الرفيعة والقيم الإيجابية، كما أنها تحقق للإنسان كل ما يهفو إليه من عزة وكرامة وسمو ورقي وتحقق بكماله المنشود.
-------
إن المنوط به تحقيق مقاصد الإسلام العظمى ليس الأفراد فقط وإنما أمة لها نظامها وهيئاتها ومؤسساتها، وثمة أركان دينية منوطة بالأمة وحدها، ورقيّ الأمة أمر لازم لصلاح وفعالية وجدوى كل ما ذكر، فلا يجوز أن يترك كل شيء تحت رحمة تقلبات وأهواء أفراد محدودين، ولابد أن يتضمن كل ذلك آليات تصحيح ورقابة ومحاسبة وتوازن واتساق، ويمكن أن يتم تفعيل كل ذلك في هذا العصر عن طريق مؤسسات المجتمع المدني وأجهزة الإعلام.
-------
إنه من المطلوب لصالح الإنسانية وجود أمة تحمل راية الدين الحق وتكون مسئولة عن تجسيده للعالمين وتكون حجة على الناس وشهيدة عليهم ولو كانت هذه الأمة فرداً واحدا أو مجموعة قليلة من الأفراد المخلصين المترابطين، والأمة التي كانت تحمل الرسالة ثم تقاعست عن نصرتها وأخلدت إلي الأرض لن تضر إلا نفسها وسيستبدل بها غيرها.
------------
إن الأمة هي جماعة من الناس تجمعهم مقاصد واحدة ومنظومة قيم واحدة ومنظومة قوانين وسنن واحدة، فتلك المنظومات تشمل كل الأمور الكبرى التي تمثل الحد الأدنى الواجب الاتفاق عليه، وهى تسمح بالاختلاف في الأمور الفرعية والتنفيذية التي لا توجب شقاقا ولا تنازعا، وهذا الاختلاف هو من السنن التي لا مفر منها لاختلاف الملكات والإمكانات والماهيات، ولكن لابد أن تحتوى منظومة القيم والسنن على عناصر تسمح بهذا الاختلاف وتوظفه لمصلحة الأمة، والشورى هي الآلية الرئيسة التي تسمح بذلك، ومن مقاصد الدين إعداد وبناء الأمة الخيرة الفائقة، وتلك الأمة هي بالأصالة بنيان مدني متماسك، وهو لا يسعى إلي فرض تسلط سياسي أو دنيوي على الآخرين، بل ينبغي أن يترفع تماماً علي هذه الأمور وأن يحاول أن يحقق مقاصد الدين بالقيام بالأركان الملزمة للأمة، وما يتضمنه المقصد الديني الأعظم الرابع يعلِّم هذا الكيان كيفية التعايش السلمي مع الآخرين لتحقيق المقاصد الوجودية وتحقيق مقاصد الدين، ودين الحق يلزم الأمة بالقيام بنسق خاص من الأركان.
------------
إن الأمة ليست مجرد الجمع البسيط لمن ينتمي إليها من الأفراد ولكنها كيان عضوي حقيقي له أجهزته وله أنماط تفاعل واتصال متميزة وتسيطر عليه منظومة مفاهيم وتصورات ومبادئ وقوانين واحدة، والمعول هو علي الأمور السائدة بالفعل وليس علي الأمور التي يتشدق بها بعض الأفراد، ولذلك فإن القائمين علي أمر أي أمة يمثلونها بالفعل تمثيلاً صادقا من حيث أنهم يمثلون منظومة المفاهيم والتصورات والأخلاق السائدة علي تلك الأمة، فمن وجد فيهم ضلالاً أو فساداً فليس له أن يناطحهم وإنما عليه أن يدعو إلي سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، ولكن عندما يريد الله عزَّ وجلَّ أن يخرج أمة للناس أي لتحقيق طفرات حضارية فإنه يدبر الأمر بحيث يتولى أمورها  خيارها والصفوة منها.
فالأمة هي مجموعة من الناس تؤلف بينهم منظومة أمرية واحدة، وهذا يعنى اجتماعهم على عقيدة واحدة ومقاصد واحدة وتوجهات واحدة وغايات واحدة وكذلك يعني سيادة نمط معين من الأخلاق الفردية والاجتماعية فيما بينهم، وكل هذا إنما يكون بفعل انتمائهم إلى ثقافة متميزة واحدة، وهذا المفهوم للأمة هو الذي أتى به الدين الخاتم مفتتحاً به عصر الرشد العقلي للإنسانية جمعاء، وبه حارب التصورات القبلية والقومية والعنصرية المتخلفة، فإن أمثال تلك التصورات إنما تعوق التقدم الإنساني بجذبها الإنسان إلى مستوي الكائنات الأدنى منه وبإعلائها لقيم ذاتية على القيم الموضوعية وبجذبها الإنسان إلى عالم الخلق الأكثف بعيدا عن عالم الأمر الألطف، والأمة الخيِّـرة هي تجمع من أفراد وجماعات يتفقون معاً في هذا التوجه ويتناغمون ويتفاعلون مع بعضهم البعض تفاعلا بناء هو المعبر عنه بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر، ومن آليات التفاعل الكبرى حرية إعلان الأفكار وتبادلها وكذلك  الشورى في الأمر؛ فبها تزداد المنظومة الأمرية للأمة ثراء وثقلاً بقدر عدد المنتمين إليها من أفراد.
والثراء الأمري المعنوي هو الثراء الحقيقي وهو مناط تفوق الأمم وسيادتها ورقيها وعلوها، وبكل ذلك يكون الاختلاف الطبيعي للأفراد وتميز كل منهم وفرديته مدعاة لزيادة قوة الأمة ومنعتها وثرائها، فإذا ما أنيط بتلك الأمة حمل رسالة إلى الإنسانية جمعاء قيل أن تلك الأمة أخرجت للناس، وطبقا لما تقرر هنا فإنه ما من جماعة تجاهر بأنها تدين بالإسلام إلا وتعين عليها الإئتمام بمنظومتة الأمرية ووجب عليها ذلك النسق من القوانين والتعليمات الخاص بالأمة المسلمة، ومن البديهي أن تلك الأمة لابد أن تكون مكونة من أعراق وقوميات مختلفة وطبقات اجتماعية متعددة ولكن كل هذا لا ينبغي أن يؤثر على وحدة الأمة وتماسكها وإنما ينبغي أن يوظف لزيادة الثقل الأمري للأمة، ومناط التفاضل بين الأمم هو في سمو واتساق المنظومة الأمرية التي لديها ونجاحها في تحقيق ما نيط بها من مهام اقتضتها تلك المنظومة مثل الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والأمة الفائقة الخيرة هي الأمة الوسط التي يمكن أن يكون فيها لسائر الأمم أسوة حسنة لمن كان يرجو السعادة والتقدم والدرجات العلي في الدنيا والآخرة.
-------
إن الأمة الخيرة الفائقة هي جماعة من الناس –وليس تنظيما سياسيا ولا دولة- يجمعها الولاء للحق وتكون قادرة على حمل رسالة الحق والقيام بمتطلباتها، فهي تلك الأمة التي تنشأ وفق منظومة القيم والمثل العليا الإسلامية وتكون تجسيدا لها وخير داعٍ إليها بعملها وسلوكها  والتي لديها من الآليات ما يكفل لها الاستفادة من قدرات ومجهودات كل فرد فيها، والأمة قد تكون فرداً واحدا مثلما كان إبراهيم عليه السلام، وكذلك كان الرسول الأعظم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، أما إذا انضم إلى الفرد الواحد غيره فلابد من وجود قيم وآليات تضمن التوافق والتناغم بحيث يكون التفاعل بنَّاءً وليس هداما، وهذا لا يتحقق إلا إذا كان الإنسان ربانياً كما هو مبين في الكتاب، ذلك لأنه يجب أن يعلم واجباته تجاه أمته والقيام بها القيام الأمثل، والأمة الفائقة هي الأمة الوسط الشهيدة علي الناس، قال تعالي:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة:143)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْن}ِ (النساء: 135)، {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ(78)} (الحج)، فكل المهام المنوطة بالأنبياء والمرسلين قد أعطيت لتلك الأمة بمقتضى ختم النبوة وتمام الاستخلاف، فختم النبوة إيذان ببلوغ البشرية رشدها وبالتالي استعدادها لتلقى الدين الكامل وعدم حاجتها إلى طفرات جديدة على المستوى النفسي الباطني.
والعنصر الأساسي للأمة الخيرة الفائقة هو فرد مؤمن يعي أنه يحمل رسالة، والفرد المؤمن لابد له من عمل صالح هو كل عمل يقتضيه التزامه بالمنظومة الأمرية الخاصة بالأمة، وهذا العمل الصالح لابد أن تترتَّب عليه آثار طيبة ليس علي مستوي الفرد العامل فحسب بل علي مستوى أمته أيضا، والفرد المؤمن يعمل على أن يمارس رسالته بكافة السبل؛ فالإيجابية هي خلقه الأمثل السائد، ولذا فهو لا يستهلك كل نفسه ووقته في أداء شعائر وانتظار الموت وإنما يقتحم كل أمور الحياة ويؤثِّر في كل من هم حوله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويدعو إلى الخير ويدعو إلى سبيل ربه بالوسائل المذكورة في الكتاب، فمثل هذا الفرد تكون لأفعاله الحسنة آثارها الطيبة المتميزة فهو يجنى ثمار كل من تسبب في هداهم ويذكر ربه بألسنتهم وقلوبهم ويشكره بأعمالهم.
والأمة الفائقة هي أمة موحدة، فهي الإنسان الهائل الممتد لأنها ترى بأعين كل أفرادها وتسمع بكل آذانهم وتفكر وتفقه بكل قلوبهم وتبطش بأعدائها بكل قواهم، ذلك لأن اتحاد مجموعة كبيرة من الأفراد في المنظومة الأمرية (منظومة القيم) يخلق من الأفراد الكثيرين المشتتين فردا واحدا بعيد المدى شديد القوى قادراً على الإنجاز، أما إذا كان السائد علي كل منهم منظومة ذاتية عشوائية فسيكون الناتج مجموعات متطاحنة مبددة الموارد مبعثرة القوى، ويمكن تشبيه أمر الأمة الفائقة بالليزر؛ إذ فيه يتم توحيد أعداد هائلة من الفوتونات فى الخواص لينتج هذا الشعاع الفريد المتسق المركز القادر علي النفاذ والإنجاز، والمنظومة الأمرية الراقية والفعالة هي التي تقوم بدور المحفز (Stimulus) أو المؤلف بين القلوب، وهذا يستلزم اتفاق كل أفراد الأمة علي مثل أعلي واحد يتأسَّى به الكل، فبقدر سمو هذا المثل الأعلى وصدقه ومصداقيته وبقدر تعظيم الناس لقَدْره وإيمانهم به يكون أثره التوحيدي أقوي، كما يجب الحرص على منظومة القيم الخاصة بالأمة ودعمها، والأدوات والأجهزة الناتجة من التقدم العلمي والتكنولوجي تؤدى أيضا إلي تعاظم قوى الأمة، فيضاعف جهاز الحاسب من إمكانات حافظتها وأدوات الاستشعار من مدى وإحاطة حواسها والمعدات العسكرية من قوتها، كذلك تقوم بعض الآليات الشرعية التي تتضمنها المنظومة الأمرية بجانب كبير من عمل المحفز كالشورى في الأمر والتي تعمل علي توحيد المنظومة، فهي تضاعف الثروة الأمرية والثقل الأمري مضاعفة شديدة بالإضافة إلي مضاعفة قدرات ملكات وحواس الإنسان الممتد الذي هو الأمة.
-------
إن الأمة ملزمة بالقيام بالأركان الواجبة عليها كأمة، فعليها أن تكون أمة واحدة أي علي قلب رجل واحد وأن تقدم لسائر الأمم المثل الأعلى فيكون لكل فرد فيها أسمي الحقوق؛ فالإنسان في الإسلام مقدس ومكرم من حيث هو إنسان، ومن كبائر الإثم كل ما يمس حقوقه الأساسية أو ما يحول بينه وبين مطالبه المشروعة، والأمة الخيرة تعلم أن الإنسان هو أثمن الثروات والموارد الطبيعية وهي تحسن الانتفاع بتلك الثروة، وعلي الأمة أن تمثل وتجسد للناس منظومة القيم الإسلامية وعليها أن تدعو الناس إلي دين الحق بالوسائل الشرعية المعلومة أي بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن وبتقديم المثل والأسوة الحسنة، ويجب لذلك استعمال كل ما يستجد من الوسائل، والأمة ملزمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله عزَّ وجلَّ بالأموال والأنفس، فيجب عليها أن تتصدي لكل ظلم أو جور أو عدوان.
والأمة ملزمة بموجب الأركان الواجبة عليها بأن توفر لكل فرد فيها ما يكفل له العيش الكريم وتحقيق مقاصد الدين، لذلك فمن كبائر الإثم على مستوي الأمة عدم المبالاة بأمور الفرد.
------------
إن الحرص على وحدة جماعة المؤمنين لا يقتضي بالضرورة أن يتحولوا إلى قطيع ولا أن يُصبُّوا في قوالب متطابقة، ولكنهم ملزمون بألا يفرقوا دينهم وألا يكونوا شيعا وبأن يعتصموا بكتاب الله وأن يعقدوا العزم علي الالتزام بكل ما ورد فيه والعمل بمقتضياته، فلا يجوز أن يتفرقوا بسبب ما هو دونه من الآثار والآراء المذهبية والأحداث التاريخية، فوحدة الأمة تكون بوحدة المنظومة الأمرية (المعنوية) السائدة عليها والمسيرة لها؛ فهي وحدة المقاصد والقيم، وكيان الأمة يجب أن يكون من القوة بحيث يتحمل ويفيد من تنوع الآراء والاتجاهات ويستطيع استخلاص الأمثل والأفضل منها، وهذا يتضمن أن تكون كل عناصرها كياناً واحداً في مواجهة الآخرين وأن يتعاونوا علي البر والتقوى والدعوة إلى الخير والدفاع عن المستضعفين، ولزوم الجماعة لا يعني بالضرورة الخضوع المطلق لمن قهر الأمة بسيفه من المتسلطين الفاجرين كما يزعم أهل اللاسنة والأثريون، فالتمسك بالجماعة هو شعور وجداني ينبع من إحساس الإنسان بانتمائه إلى أمة واحدة وبأنه يمكن أن يعوِّل عليها وبأنها مسئولة عنه.
إن الله تعالى لم يأمر المسلمين بأن يكونوا قطيعاً من السوائم أو الأنعام يجلد ظهورهم ويأخذ مواردهم كل من يقهرهم بسيفه ويتسلط عليهم ولا حشدا من الببغاوات يرددون هتافات يلقيها أحدهم عليهم، وإنما أمرهم أن يكونوا أمة تعتصم به وبما أنزل إليهم أمة قوية عزيزة مرهوبة الجانب.
------------
إن النصر النهائي في الدنيا هو للمؤمنين؛ أي للجماعة المؤمنة، فلا يمكن عادة لفرد مؤمن واحد أن ينتصر في الدنيا، فلابد طبقا للسنن من وجود نصاب يعتد به من الذين آمنوا أي لابد من وجود أمة مؤمنة، ولقد بينت الآيات أدني نسبة لازمة ليتحقق النصر للفئة المؤمنة وهي أن تتمكن من حشد ولو جزء من عشرة أجزاء بالنسبة إلى ما لدى أعدائهم، والإمداد بالملائكة يعني إعمال نسق من القوانين غير مألوف للإنسان، ومن المعلوم أن كثيرا من الأمور أثناء القتال تكون ذات طبيعة عشوائية وقد تضاعف العوامل المناخية من عشوائية هذه الأمور، ولله وحده أن يوجه عمل تلك العوامل لصالح الفئة المؤمنة، فهذا يعني إدخال نوع من الانحياز المسبق في طبيعة تلك الأمور لصالح الفئة المؤمنة، هذا بالإضافة إلى العوامل المعنوية والتي تؤدي إلى ثبات وصمود الفئة المؤمنة وإلى قذف الرعب في قلوب الكافرين.
------------
إن الأمة هي جسد واحد مترابط الأعضاء والمكونات موحد القصد والاتجاه وهذا ما لا ينطبق الآن علي أي تجمع إسلامي في أي بلد، فكل تجمع الآن هو عبارة عن مجموعات متناحرة متمانعة متنافية متدافعة إقصائية لا يمكن أن يتعايشوا ولا يمكن أن يسود بينهم السلام، وإن من أوجب الواجبات الآن أن يتعلم المسلمون كيف يتعايشون مع بعضهم البعض وكيف يتعايشون مع الآخرين، والحق هو أنه لا يمكن تحقيق ذلك إلا بأمر مما يلي:
  1. إما أن يتخلى المسلمون عما يفرقهم وهذا يعني أن يتخلوا عن مذاهبهم، ولما كانت هذه المذاهب هي الدين لديهم فهذا سيفضي إلى تخليهم واقعيا عما يعتبرونه دينهم ولن يحتفظوا به إلا كمكوِّن ثقافي وتراث حضاري كما هو الحال في الغرب مثلا.
  2. وإما أن يتبعوا دين الحق الذي يتضمنه القرءان الكريم.
فإذا لم يتحقق هذا ولا ذاك فلا محيص من بقائهم حيارى مذبذبين متفرقين وعندها فمن الأفضل لهم الالتزام بنظام علماني قانوني صارم يحمي بعضهم من شر البعض الآخر ويحمي البشرية من شرهم جميعا.
------------
إنه علي كل مجموعة من المسلمين في كل بلد سواء أكانوا أقلية أو أكثرية أن يكونوا أمة واحدة وأن يعلموا أن معتنقي الأديان والمذاهب الأخرى هم شركاء في الديار والموارد أي في الوطن بلغة العصر الحديث، ولذلك عليهم أن يعاملوهم بما تقتضيه منظومة القيم الإسلامية أي أن يعاملوهم بالحسنى وأن يبروهم وأن يقسطوا إليهم وألا يبخسوهم أشياءهم وألا يحاولوا إكراههم أن يكونوا مسلمين وألا يتدخلوا في قوانينهم الخاصة بأحوالهم الشخصية إلا إذا طلبوا هم ذلك بمحض إرادتهم، ولكن لا يجوز أن يجاملهم المسلم علي حساب دينه أو أن يعطيهم الدنية من أمره أو أن يتولاهم من دون المسلمين.
=======

رقي الأمة
إن رقي الأمة يكون بتحقيق كل ما من شأنه أن يحقق مقاصد الدين العظمى، وهذا يستلزم زيادة ثروة الأمة البشرية فكل إنسان جديد هو ثروة حقيقية أسمى من كافة الثروات الأخرى، والأمة التي تنشد الرقي هي التي تعرف كيف تستثمر تلك الثروة وتنميها، كما يستلزم ذلك زيادة ثروة الأمة من الناحية القيمية والعلمية، ولا يكون ذلك بتكديس المعارف وإنما بالإفادة منها، والثروة تتضمن الجانبين الكمي والكيفي فليس لكل القيم والمعلومات نفس الوزن.
ورقى الأمة يستلزم:
1-          وجود منظومة قيم راقية، وأسمى تلك المنظومات هي المنظومة الأمرية الرحمانية؛ أي منظومة القيم والسنن الإسلامية.
2-          تفعيل تلك المنظومة بأن يعرفها كل الناس وأن يتشبعوا بها وأن يعملوا وفق مقتضياتها، وبذلك يتم حشد وتجميع وتركيز كل جهودهم بكافة صورها بطريقة إيجابية بناءة وتوجيهها إلى ما يحقق رقيهم وتقدمهم.
3-          معرفة مقاصد الدين العظمى وهي معرفة الله تعالى بأسمائه الحسنى وبناء وإعداد الإنسان الرباني الفائق وبناء الأمة الفائقة الداعية إلي الخير الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر.
4-          وجود الآليات اللازمة لتحقيق تلك المقاصد.
5-          التغلب على تأثير المنظومة الشيطانية وكذلك على سدنتها والمنتفعين بها.
6-          متانة البنيان النفسي لأفراد الأمة.
7-          متانة نسيج العلاقات الممكنة وأنماط التفاعلات بين مكونات الأمة.
ويجب القول بأنه بقدر علو المقاصد والغايات بقدر ما يرقى كيان الإنسان والأمة.

*******