السبت، 17 أكتوبر 2015

لا يُفتَى وابنُ سمكة في البحر

لا يُفتَى وابنُ سمكة في البحر

كان الشيخ ابن سمكة فلتة زمانه، كان قد ملَّ البقاء في البحر، وكان البحر نفسه قد ضاق به ولم يعد يصلح لإشباع طموحاته غير المتناهية.
قرر ابن سمكة أن يهاجر إلى البر، استدعى ذلك إجراء عملية جراحية دقيقة في المستشفى المركزي للبحر لإجراء ما يلزم من تعديل في جهازه التنفسي.
لم يضيع ابن سمكة وقتا، بمجرد خروجه من البحر صحب الشيخ ابن ضفدع فأخذ منه شيئا من فنِّ النقيق، ثم صحب الشيخ ابن قطة فأخذ عنه فنّ المواء، كانت رائحة الشيخ ابن سمكة تثير دائما الشيخ ابن قطة، وقد حاول افتراسه كثيرا، ولكنه كان ينجو منه دائما بأعجوبة، كان مازال محتفظا بمهاراته التي اكتسبها في البحر، والتي ورثها من أجداده الأسماك كابرا عن كابر.
ثم صحب الشيخ ابن ثعبان وقرأ عليه كتابا في الفحيح، وقد حاول الشيخ ابتلاعه كثيرا ولكنه صبر عليه حتى حصَّل كل ما عنده.
ثم صحب الشيخ ابن جرو وأخذ منه شيئا من النباح، ثم ضرب أكباد الإبل بحثا عن الشيخ ابن بومة فوجده في خرابة عند حدود الصين وتعلم منه فن النعيق، أما النعيب فقد تعلمه من الشيخ الغراب الذي كان يسكن في خرابة أخرى في أقصى الغرب، أما الشيخ الجمل فقد قرأ عليه شيئا من الرغاء، ثم رحل إلى الربع الخالي طلبا للشيخ ابن ماعز ليأخذ عنه فن الثغاء، ثم صحب الشيخ ابن ثور، وكان يسكن ريف مصر، وقد أعجب به خاصة من حيث الحجم، وعلمه كل ما لديه، وهو الذي أذن له بالخوار، وقد أسعده الحظ هناك أيضا بالأخذ عن الشيخ جحش بن أتان فتعلم منه فن النهيق، وقد أذن له بأن يلقن الناس كل ما تعلمه منه.
ثم تصدر للإفتاء ولاقت فتاويه قبولا كبيرا حيث كان يجد حلا لكل المعضلات التي تواجه الأثرياء والأعيان، وبلغ صيته الأسد، فقصده ذات مرة طلبا للفتوى في مسألة شائكة، فقد اصطاد هو معاونوه ثلاثة ثيران أولها أبيض والثاني أصفر والثالث أحمر فاختلفوا بشأن توزيعها، وعلى الفور بادره ابن سمكة بالقول: "أما الأبيض فلإفطارك، أما الأصفر فلغذائك أما الأحمر فلعشائك، وليس لهم أن يأكلوا إلا من فتاتك"!
وهكذا أعطى للأسد ما يفوق كل توقعاته وأحلامه، وتم تعيينه بعد أن أثبت براعته مفتيا رسميا للغابة وأطبقت شهرته الآفاق وطلبه المترفون والأعيان من كل مكان، لشدة الطلب عليه أنشأ دارا للفتوى أعد فيها حشدا من المشايخ الذين هم على شاكلته وتربوا على يديه، وفي أثناء ذلك أخذ ينمو بسرعة حتى أصبح حوتا هائلا، وكلما تضخم كلما اشتدت حاجته إلى ما يملأ بطنه، ولذلك كانت فتاويه دائما لصالح المترفين على حساب الكادحين، وللأقوياء على حساب الضعفاء.
إلا أن السخط بدأ يشتد ضده من البهائم الكادحة، وذات مرة أجمعوا أمرهم ودبروا مكيدتهم وأحكموا التدبير، تقاسموا فيما بينهم ليعيدنَّه إلى البحر الذي أتى منه.
درسوا تصرفاته وسلوكياته بدقة، استعانوا على ذلك بكل ما تيسر من طيور وحشرات، قرروا أن يتربصوا به أثناء عودته ثملا من أحد قصور أعيان الغابة.
وتمكنوا فعلا من اصطياده والتغلب على أية مقاومة له، سحبوه بسرعة إلى شاطئ البحر ومزقوه إربا ثم ألقوه هناك، ما إن سقطت أشلاؤه في البحر إلا وتزاحم عليها السمك وأخذ يتبارى لالتهامها.
أشاعوا بين الناس أن الشيخ ابن سمكة قد زهد الدنيا وأنه عاد إلى البحر ليعتكف فيه، انتاب دار الإفتاء حزن عارم، امتنعوا عن الفتوى، كانوا يقولون لكل من يستفتيهم: "لا يُفتَى وابن سمكة في البحر"، فصارت مثلا.
إلا أن أحوال الغابة وأحوال بطونهم لم تترك لهم فرصة للتمادي في الحزن، لذلك سرعان ما عادوا إلى العمل بل وعلى وتيرة أشد، وأثبتوا لأهل الغابة أن العكوف على التراث قادر على إعادة إنتاج مثل ابن سمكة وابن سبع البحر وابن كلب البحر وابن خنزير البحر وابن حوتٍ أيضا. 

*******

الثلاثاء، 13 أكتوبر 2015

الْعَلِيُّ الْكَبِيـرُ

الْعَلِيُّ الْكَبِيـرُ


قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} الحج62، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ }لقمان30، {وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}سبأ23، {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} غافر12، {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً}النساء34. 

فهذا المثنى هو اسم من أسماء النسق الأول من الأسماء الحسنى.

والاسم "الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ" يشير إلى سمة واحدة تفصيلها العلو والكبرياء، وتلك السمة هي أمر واحد ذاتي مطلق عُبِّـر عنه بلفظين، وهي لله سبحانه، ذلك لأن له الوجود الواجب الذاتي المطلق، فمن حيث هذا الاسم هو الحق المطلق وما عداه هو الباطل، أي أن ما عداه هو عدم من حيث ذاته، فلا يملك كل من هم دونه من حيث ذواتهم إلا الباطل، أما ما ظهروا به من كمالات فإنما أوتوها بقدر ما يحقق الظهور التـفصيلي لكمالاته، فلقد خلق الأشياء لذاته ليطالع فيها تفاصيل حسنه وكمالاته، وهو يمدهم بها دون أن يفقد شيئا منها، ولذا خضع الكل لمشيئته.
وذلك العلو والكبرياء أمر منزه عن التقيد بالزمان أو المكان، ومن حيث هذا الاسم كان له مدد وإفاضة ورحمة وشفاعة منه هو، ولذا لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له؛ أي إلا إذا وافقت تلك الشفاعة قوانينه وسننه وحكمه، فلا شفاعة عنده إلا بالحق، فمن حيث هذا الاسم كان قوله الحق وحكمه الحق وشريعته الحق ودينه الحق وأمره الحق، وكلمة الحق تـنوب عن كل ما أوحى به إلى ملائكته ذلك الوحي الذي يتلقَّـونه بالفزع والإذعان والأدب اللائق اللازم.
والاسم "الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ" يعبر عن المرتبة التي هي حق لله على كل ما هو من دونه، ومقتضيات هذا الاسم إنما هي من حيث المرتبة، لذلك، كان لابد له من مقتضيات على مستوى الشرائع والأحكام، فله المرتبة الإلهية العليا، وبالتالي فالحكم له والتأثير المطلق له والأمر له، وكل ما يدعون من دونه هو الباطل، فهذا الاسم دامغ بذاته لكل شرك لأن صفته تمحق بذاتها أي شريك، ولهذا الاسم الهيمنة علي عالم الأمر كما للاسم "العليّ العظيم" الهيمنة علي عالم الخلق، وهذا الاسم من الأسماء التي اقتضت المراتب والدرجات والتي اقتضت الأمور التراتبية في الكون ومنها تراتب أنساق القوانين والسنن.
فمن حيث هذا الاسم كان له الحكم، فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ، فالحكم له بكل معنى من معاني الحكم، فله الأمر، وله حق إصدار الأحكام والتشريعات، وله حق سنّ السنن، وله حق الحكم على الفعل الإنساني وتقديره.
فهو سبحانه العليّ بما له من الدرجات والمراتب، وهو العالي الشامخ فوق كل شيء علو ارتفاعه، فله العلو المطلق في كل المجالات أو الأبعاد، فكما له العلو المطلق بحضوره الذاتي مع كل مخلوقاته فله العلو المطلق في عين قربه منهم بكنه ذاته وعلوّ درجاته.
والسمة المشار إليها بالعلو والكبرياء هي أمر منزَّه عن التـقيد بالزمان أو بالمكان، فلقد كان سبحانه ولا زمان ولا مكان، فليس ثمة ركن بارز في الكون يتربع فيه الإله، إذ أن كل الأزمنة والأمكنة من إبداعاته، ولو افترض جدلاً أن إنساناً ما قد أوتى القدرة على الطواف بكل أرجاء الكون لما وجد هنالك إلا ما وجده هنا بل ربما كانت آيات الله تعالى في هذه الأرض المحدودة أعظم مما سواها في أرجاء الكون الأخرى، ولذا أراح الله تعالى عباده وأخبرهم بأنه مع علوه وتعاليه قريب منهم، وأن آياته الدالة على سماته كما هي في الآفاق هي أيضا في أنفسهم.
فالعلو الذي يشير إليه هذا الاسم هو علو الدرجات والمرتبة، لذلك كانت له المرتبة الأعلى التي تقتضي بذاتها ألا يعبد سواه وألا يتخذوا من دونه شريكاً مختلقا في ملكه.
فالسمة المعبر عنها بالعلو والكبرياء تشير إلى جمعه سبحانه لكل الكمال المطلق وانفراده به، فهو الأعلى لتقدُّم الكمال الأصلي وتفوقه على كافة مقتضياته وتفاصيله وآثاره، ولما كان كماله لا يتناهى كان لابد من ألا تتناهى مخلوقاته، ولما كان الكمال ذاتيا له كان هو أصله ومصدره، فهو يفيضه على من هم دونه دون أن يفقده، ولا يمكن أن يظهر كمال في الوجود لا يستند إليه، كما لا يمكن أن يظهر الكمال إلا بتفاوت مظاهره أي بوجود النقص في طبائع المخلوقات، والذي به يظهر الكمال بتميزه عما يناقضه.
فهذا الاسم يشير إلى إن الكبرياء لله وحده، والكبرياء هي من السمات التي استأثر بها لنفسه، فهي له بالحق، وليست لمن هم دونه إلا بالباطل، ولذا فإنه كلما تكبَّر إنسان في ظاهره كلما تضاءل في جوهره وباطنه، حتى يصير كالذرِّ أو أصغر، وعلى هذا سيحشر، حتى ليطأه الناس يوم القيامة، فلن ينال أحدٌ بتكبره إلا الحسرة والندامة.
وهذا الاسم من الأسماء التي اقتضت سنن التراتب في الوجود ونظمت أمر الكائنات فيه وعلاقاتها فيما بينها.
وهذا الاسم من:
منظومة أسماء السنن الكونية الخاصة بالمخيرين المكلفين
منظومة أسماء العلو
حلقة من النوع الثالث:
الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ-الْكَبِيرُ-الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ-الْمُتَعَالِ

*******

الأربعاء، 7 أكتوبر 2015

أفضلية النبي الخاتم على سائر الأنبياء والمرسلين

أفضلية النبي الخاتم على سائر الأنبياء والمرسلين

من دلائل أفضلية النبي الخاتم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ على سائر الأنبياء والمرسلين:
1.    قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} الأنبياء فمن هو رحمة للعالمين على إطلاقهم يكون خيرا منهم كلهم، وقال تعالى: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)} الدخان، فهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ عين الرحمة وإرساله رحمة.
2.         قال تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} الأحزاب40، ومن كان خاتم النبيين بكل معنى من المعاني هو تاجهم وسيدهم وزينتهم والمهيمن عليهم.
3.         من أُرسل إلى الناس كافة وإلى يوم الدين هو خير ممن أرسلوا إلى أقوامهم المحدودين.
4.         من تلقى كلمة الله التامة والكتاب المهيمن والدين الكامل الخاتم والناسخ لبعض ما كان قبله والباقي إلى يوم الدين هو خير ممن كانت رسالاتهم وقتية.
5.         من تعهد الله تعالى بحفظ الرسالة التي تلقاها أفضل ممن تلقوا رسالات اُستحفظ عليها الأحبار والرهبان.
6.         من تلقى الرسالة التي تعهد الله تعالى بحفظها أفضل مم تلقوا رسالات نُسِخ بعضها أو تُرك ليندثر.
7.         قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} الفتح10، {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} النساء80، هذا هو أعظم تكريم ناله إنسان، ولمن قيلت في حقه الأفضلية المطلقة على سائر المخلوقات، فلقد جعله الله بمثابة نفسه.
8.         قال تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} الحشر21، وفي ذلك إشارة إلى أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ تحمل بإنزال القرءان عليه ما لا قبل للجبال بتحمله.
9.         إن من تلقى القرءان من لدن حكيم عليم ومن أوتي السبع المثاني والقرءان العظيم ومن جاء بالرسالة الكاملة التامة الخاتمة هو الأفضل على الإطلاق.
10.      القرءان يبين بكل وضوح أنه النبي المطلق والرسول المطلق والعبد الطلق، وهذه مرتبة لا تكون إلا لواحد هو السيد والأفضل.
11.      هو الرسول النبي الذي حقق مقاصده كاملة كما شهد له بذلك كل منصف.
12.      ما كان يطلبه الرسل والأنبياء من قبله كان الله تعالى يذكر أنه أعطاه له في بدايته.
13.      وأمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ باتباع ملة إبراهيم عليه السلام هو من حيث أن هذه الملة هي البداية الرسمية للإسلام، والله سبحانه لم يأمره باتباع أحد من خلقه، وإنما أمره باتباع ملة إبراهيم التي أوحيت إليه من الله تعالى رأسا، ورسالته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ هي تتويج لعمل كل من سبقه، فهي الدين التام الكامل، والإنسان بحكم طبيعته الإنسانية يولد طفلا ثم يبدأ في النمو والتعلم والترقي، ففي بدايته قد يُأمر بالتعلم ممن سبقه أو ممن هو أكبر منه سنا بينما هو مُقدَّر له بحكم إمكاناته واستعداداته أن يسبقهم، وهذه حقيقة ثابتة ومعلومة، وهذا ما تحقق للرسول بالفعل، وهذا ما يشير إليه المعراج.
والإقرار بأفضلية النبي الخاتم هو من مقتضى وفحوى الإيمان بالقرءان، ولقد ذكر الله تعالى أنه فضَّل بعض النبيين على بعض، ولا يتعارض هذا مع النهي عن التفريق بينهم في أمر الإيمان، فيجب على المسلم الإيمان بهم كلهم، والذين رفضوا ذلك هم أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالنبي الخاتم ولا برسالته، ورغم كفر أهل الكتاب بخاتم النبيين ورسالته فهناك الكثير من الضالين الذين يصرون على أنهم مسلمون!!!!!
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152) يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآَتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) } النساء
هذه الآيات تبين بكل وضوح معنى التفريق بين الرسل، التفريق بين الرسل هو أن تؤمن ببعض الرسل وتكفر ببعض، وهذا لا يعطيك الحق في أن تنكر أفضلية خاتم النبيين على الأنبياء والمرسلين، فالتفاضل بين الرسل ثابت بنص القرءان، وهو حق لله تعالى، وليس من حقوق الناس، وليس لطائفة أن تزعم أن نبيها إلها أو ربا.
وكذلك ليس من حق أحد أن ينكر أفضلية خاتم النبيين على النبيين، فالنص على أنه خاتم النبيين وأنه رحمة للعالمين كافٍ تماما لإثبات أفضليته عليهم أجمعين.
ومن العجب أن يشترك مع السلفية في مسلكهم الخاطئ هذا ألد أعدائهم ممن يحاول الإصلاح مثل من يسمون بالقرءانيين وغيرهم، وكلهم يتخذون من النهي عن التفريق بين الرسل في الإيمان حجة وسببا لإنكار أفضلية الرسول على سائر الأنبياء والمرسلين، إن النهي المشار إليه لا يعني إلا أنه لا يجوز الكفر ببعض الرسل المذكورين في القرءان ولكنه لا ينفي التفاضل بين الرسل المنصوص عليه في القرءان.
وتشير الآية: {وَإِنّ رَبّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (الحجر: 25) إلى مقام عظيم للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ في ذلك اليوم المشهود، فهو هناك صاحب لواء الحمد والشفاعة العظمى والقضاء النافذ عن أمر الله تعالى، وإلى هذا المقام أشارت الآيات: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى} النجم42، {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} العلق8، {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} الفجر22، وكل هذه الآيات المكية تبين أن نقطة ابتدائه على المستوى الجوهري تتفوق على نقطة انتهاء سعي غيره.

*******

الأحد، 4 أكتوبر 2015

التسبيح

التسبيح

إن التسبيح أو التسبيح بالحمد من حيث أنه ذكر لله لا يعنى مجرد ترديد صيغ التسبيح، ولكن الإنسان يتفعل ليتحقق بالفعل، فهو يسبح بلسانه مع حضور قلبه مع معاني هذا التسبيح حتى ترسخ تلك المعاني والحالة الوجدانية المترتبة عليها في قلبه ويكتسب بذلك استعدادات جديدة تؤهله لاكتساب المزيد من المعلومات والمشاعر التي يرقي بها كيانه الجوهري، والإنسان إذ يسبح ربه فهو ينزهه عن تصورات الناس فيرقي بذلك التصور الذي لديه عن ربه، ورقي هذا التصور هو أفضل ما يمكن أن يلقي به الإنسان ربه، وبالتسبيح بحمد الله يتوافق الإنسان مع أنغام الوجود وسننه بل مع نبضات قلبه فيعمل كل شيء لما فيه صالحه، فكل شيء يسبح بحمد الله، ولما كان للإنسان النطق باختياره كان عليه أن يسبح بحمد ربه باختياره وبوعيه وبإدراكه كما تسبحه بطريقة آلية كل ذرة من جسمه والماء الذي يشربه والهواء الذي يستنشقه

التسبيح بالحمد
قال تعالى:
{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً }النصر3، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ}، {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً }الفرقان58، {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ }السجدة15، {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ}غافر55، {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}ق39، {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ }الطور48.
وبالنسبة لقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} فإن مجرَّد وجود أي كائن وسيره وفق قوانين الله وسننه هو تسبيح بحمد ربه، فذلك التسبيح والذي يعني سعي كل كائن طوعا إلى ربه هو الذي يحفظ على هذا الكائن وجوده، ويُظهر أيضا من كمالات الله ما ينطق الألسنة بالثناء عليه، فإذا نظرنا مثلاً إلى أبسط الأشياء المادية وألطفها وهو الضوء فإن الجسيمات المكونة له وهي الفوتونات لابد أن تكون سابحة بسرعة الضوء وإلا لما كان هنالك ضوء أصلاً، فتلك الحركة هي عين تسبيحها بحمد ربها ولولاها لزالت، وبالنسبة للإلكترون مثلاً فإن مظاهر تسبيحه بحمد ربه هي حركته الغامضة والمعقدة في الذرة فهي التي تحفظ عليه وجوده، ولولاها لهوى على النواة واتَّحد بمكون من مكوناتها ولما كانت هنالك ذرة أصلاً ولزال العالم المادي، وكذلك تغيرات الكيانات النووية في عالمها الخاص، وكذلك حركة الأرض المعقدة، وهي التي تحفظ عليها وعلى كل من يحيا في كنفها بقاءه ووجوده، والهرة التي هي مبرمجة بحيث تسعى في مصالح صغارها وتتحمل في سبيل ذلك الظروف المعيشية الصعبة والعدوان المستمر من الكائنات الأخرى ولكنها تقاتل بشراسة من أجل بقائها وبقاء نوعها، فهي بسعيها هذا مسبحة بحمد ربها، فتسبيح الكائنات بحمد ربها هو من مقتضيات هذا الاسم وذلك التسبيح بحمده هو الصلاة التي ترفعها كل الكائنات إليه.
وعلى الإنسان من حيث أنه كائن مخير أن يسبح بحمد ربه بقوله وعمله، فعليه أن يجعل من حياته تسبيحا بحمد ربه، فينزه الله تعالى بها ويظهر تفاصيل كماله وحسنه.
-------
التسبيح بالاسم
قال تعالى:
{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} الواقعة74
فالاسم الْعَظِيمِ من الأسماء التي تشير إلى حقيقة الذات الإلهية؛ أي الكيان الإلهي الذي تستند إليه السمات، لذلك فالإنسان وكل الكائنات لا يمكنهم الحياة إلا به، وسر الحياة هو التسبيح، وهو سبحانه قيوم السماوات والأرض وما فيهن، وجسد الإنسان يسبح مثل سائر المخلوقات بمقتضى حقيقته، وهو مأمور أن يسبح من حيث نفسه التي هي كيانه الجوهري بمحض اختياره وإرادته، وبذلك يتوافق مع الكون كله، ويعمل الكل على تحقيق المقصد من سعيه وإصلاح أمره.
-------
تسبيح الاسم
قال تعالى:
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} الأعلى1
الاسم الأعلى يشير إلى علو الذات مع علو المرتبة على كل التصورات والمفاهيم والمدارك علوا مطلقا، لذلك على الإنسان أن يتحقق بهذه الحقيقة وألا يقيد ربه بما لديه بما لديه من تصور عنه وأن ينزهه عن كل أفكار أو مفاهيم عنه لديه، ليس بمعنى نفيها نفيا تاما، وإنما بمعنى اليقين بأنه سبحانه يتعالى فوقها علوا كبيرا.
وآيات تسبيح أسماء الله تعالى عديدة.
-------
التسبيح لله
قال تعالى:
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ }الجمعة1، {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }التغابن1، {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}الحديد1، {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ(36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ...(37) (النور)
{وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} الإنسان26، {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} الفتح9، {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ }ق40،  {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ }الطور49، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً{41} وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً{42}} الأحزاب42، {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44]
إنه بثبوت أنه لا يوجد مرجع مادي ثابت يمكن نسبة الحركات والتغيرات إليه وعدم وجود ساعة كونية يمكن حساب الحركات والتغيرات بالنسبة إليها وأن زمان ومكان هذا العالم نشآ معه وأن كل الحركات نسبية، فقد ثبت بالضرورة أن الله تعالى هو المرجع الأوحد للحركات والسند الأوحد لوجود الأشياء، فهي بحركاتها الذاتية والخارجية تسعى إليه في مسارات هو الذي رسمها لها في العالم الحقيقي ذي الأبعاد العديدة المتنوعة.
والإنسان يجب أن يسبح ربه بلساني المقال والحال كما تسبحه كل الكائنات بلسان الحال، فيجب أن يجعل الإنسان تسبيحه الذاتي المؤدي إلى بقائه وحياته وسعيه في هذا العالم على كافة المستويات لله رب العالمين مدركا أن ذلك مما يؤدي إلى ظهور سمات الحسن والكمال الإلهية، والتسبيح اللساني مع الحضور والتركيز من وسائل التحقق بهذه الحالة.


*******