الأحد، 23 ديسمبر 2018

أمنية الرسول


أمنية الرسول

1.        كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ يحمل رسالة عامة للناس أجمعين، ورد ذكرها في آيات عديدة منها: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون}[سبأ:28]، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون}[الأعراف:158]، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1]، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين}[الأنبياء:107].
2.        وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ يحمل رسالة خاصة بقومه، ورد ذكرها في آيات عديدة منها: {وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُون} [الأنعام:92]، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قرءانا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِير} [الشورى:7]، {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)} يس، {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُون} [الزخرف:44]، {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)} السجدة.
3.        إذا أرسل الله تعالى رسولا إلى قوم من المشركين أو الكافرين فلابد من القضاء والفصل بين من آمن بالرسالة وبين من كفر بها في هذه الحياة الدنيا، وذلك يكون بهلاك من كفر ونجاة وانتصار الرسول والمؤمنين، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} الروم47، {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)} يونس، {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}غافر51، {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)} يونس، فكان لابد دائما من نجاة من آمنوا بالرسول وانتصارهم، كما كان لابد من هلاك من رفضوا الإيمان وحاولوا فتنة المؤمنين في دينهم، وكان ذلك يتم قبل ختم النبوة بآية كونية مثل الريح التي دمرت قوم عاد والصيحة التي أخذت  ثمود.
4.        من مظاهر كون الرسول رحمة للعالمين أنه تم نسخ عملية إهلاك الكفار بآية كونية، واستبدل بذلك الإذن للمؤمنين بقتالهم في حربٍ وُعدوا فيها بالنصر النهائي إذا ما وفُّوا بالشروط المعلومة، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} الحج، {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لاَنتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُم} [محمد:4].
5.        ومن مظاهر كون الرسول رحمة للعالمين الجنوح للسلم لدى أول بادرة، وقبول مجرد الإسلام الظاهري الشكلي من قومه؛ أي عدم اشتراط الإيمان، وهذا يعني القبول بظاهرة وجود المنافقين، والتعايش السلمي معها، وتجنب محاولة استئصالهم، والاكتفاء بجهادهم سلميا، وكان ذلك أيضًا بحكم مبدأ حرية الإيمان، ومن الآيات التي تبين كل ذلك: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيم} [البقرة:256]، {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِين} [يونس:99]، {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيم} [الحجرات:14]، {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيم} [التوبة:101]، {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)} الأنفال
6.        كان للرسول مهام خاصة بقومه منصوص عليها في القرءان في نصوص محكمة قطعية الدلالة، من هذه المهام: الرسالة والنبوة، الدعوةُ إلى الله، التبشير، الإنذار، التبليغ، تبيين آيات القرءان، تلاوةُ القرءان عليهم، تزكية أنفسهم، تعليمُهم الكتاب والحكمة، تعليمهم ما لم يكونوا يعلمون، ولايةُ كافة أمورهم، الحكم (القضاء) بينهم، أخذُ الصدقات منهم وتوزيعُها عليهم بالعدل والقسط ولصالح الدعوة. 
7.        النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ لم يؤسس دولة بأية صورة من صور الدولة القديمة أو الحديثة، ولقد نفى الله تعالى ذلك عنه في القرءان بكافة السبل، فهو لم يكن عليهم وكيلا ولا حفيظا ولا مصيطرا ولا جبارا، ولم يكن له الملك عليهم، والرسول لا يمكن أن يكون ملكا أصلا، فالملك يُطاع لكونه ملكا، وكانت كلمة الملوك هي القانون، أما الرسول فيُطاع لكونه مرسلا إلى أناس يملكون حق رفض رسالته، ولذلك تكرر كثيرًا الأمر بطاعته من حيث أنه رسول في القرءان.
8.        الرسول كان وليَّ أمر الأمة المؤمنة التي تتعايش مع أمة اليهود في المدينة بموجب وثيقة ملزمة للطرفين، فلم يكن له أية ولاية عليهم، ولم يكن له أن يحكمهم أو يحكم بينهم، بل حدث أنهم عندما جاءوه ليحكم بينهم أن نزلت الآيات تندد بموقفهم، وتأمرهم بإعمال ما لديهم في كتابهم التوراة، وقد جعلت الرسول مُخيَّرا في الاستجابة لهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)} النساء، فهذه الآيات لا تخاطب ملكا ولا رئيس دولة، ولكنها تخاطب رسولا نبيا.
9.        الرسول لم يحاول دمج الكيانات التي أعلنت إسلامها من القبائل والإمارات في كيان سياسي واحد، فلم تكن هناك دولة، وإنما أبقى الأمور داخل كل كيان على ما كانت عليه، واكتفى بإرسال من يعلمون الناس الدين، ويقضون بينهم به، ويحصلون الزكاة.
10.    النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ أسس وبنى وأعدّ أمة خيرة، كان هو ولي أمرها، وتأسيس أمة خيرة هو من مهام أي رسول نبي، ومن مقاصد الدين العظمى، بل إن تأسيس أمة خيرة هو من علامات الرسالة المقترنة بالنبوة، أما النبوة فقط فلا تستلزم ذلك.
11.    النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ كان يتمنى أن تستمر الأحوال من بعده على ما كانت عليه في عهده؛ أي وجود أمة خيرة تحكم نفسها بنفسها بدون أجهزة تسلطية، وكان أكثر من 117 ألفًا من العرب والأعراب لم يسلموا إلا بعد فتح الحديبية، ولم يهاجروا، ولم تُتح لهم إمكانية التعلم المباشر من الرسول والتزكي على يديه، أما من أسلم من قبل الفتح فلم يكونوا كلهم متساوين في المراتب أو العلم، وكان الأمر يستلزم فترة انتقالية، يتم فيها تأهيل كل هؤلاء -الذين نشأوا مشركين وكافرين- واستيعابهم في جسد الأمة بشروط دين الحق.
12.    كان كل ذلك يستلزم أن يتولى أمرهم سابق الأمة وأقربهم إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ من الناحية الجوهرية، ولقد كان الإمام عليّ هو سابق الأمة، ولقد أثبت ذلك دائما في كل المواقف، وخاصة أشدها خطرا وصعوبة، ولذلك أعلن الرسول صراحة أنه منه بمثابة هارون من موسى عليهما السلام، وهارون هو الذي قال له موسى كما جاء في القرءان: {... وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِين} [الأعراف:142]، وقد أعلن الرسول عليهم صراحة أن الإمام عليا هو وليّ كل مؤمن، وأنه هو ولي أمر الأمة من بعده؛ وهذا يعني أنه هو خليفته فيما كان يقوم به من مهام، ما عدا بالطبع النبوة، ولو كان يريد الخلافة لشيخي قريش لما أرسلهما -في المرض الذي كان يعلم أنه سينتقل فيه- كجنديين في جيش يقوده الشاب أسامة بن زيد إلى تخوم الشام.
13.    الخلافة كانت خلافة بالمعنى الديني السابق، فهي خلافة على أمة كل فردٍ فيها آمر مأمور، ولا وجود لأجهزة قهر أو تسلط فيها، فهي لا تعني رئاسة دولة أو تملك مملكة.
14.    كان الرسول يعلم أن صلاح الأمة النهائي مشروط بأن تظل أمة كما كانت عليه في عهده، وأن يتولى أمرها على التوالي اثنا عشر إماما، وهذه هي أمنيته، وهذه هي الفترة التي كان يمكن أن تنشأ فيها أمة خيرة فائقة بطريقة لا يمكن عكسها Irreversible، كان سيتم فيها تعليم وتزكية العرب والأعراب الذين كانوا يشكلون الأغلبية الساحقة، وكذلك كان سيتم تأهيل دعاة إلى دين الحق، يُرسلون إلى شتى الأمم والشعوب.
15.    ولكن الرسول كان يعلم أنهم لن يستمروا طويلا على الحالة التي تركهم عليها، وأن دولة ستنشأ من بعده، وأن الأمة ستتداعى بسرعة لحساب الدولة، وهو لم يكن من مهامه أن يتحدث عن هذه الدولة، ولا أن يضع لها شكلا سياسيا، ولا أن يعين عليها رئيسا، كل ذلك كان خارج نطاق مهامه كرسول نبي، كان الرسول يعلم طبيعة رسالته العالمية، وأن الشكل السياسي سيشهد تطورات كبيرة، ولذلك لم يقترف ما من شأنه يجعلهم يظنون أنه جزء أساسي من الدين، ولكنه كان يتمنى أنه حتى في هذه الحالة أن يولوا عليهم الإمام عليا؛ أي كرئيس أو أمير لهذه الدولة، ولم يكن من سلطته التصريح بذلك، ولم يكن ذلك ممكنًا أصلا، فهو يتعارض مع مقصده من بقاء الأمة، ولذلك ألمح، ولم يصرح، فهذه الأمور محكومة بقوانين وسنن كونية تأخذ في الاعتبار أحوال الناس الحقيقية.
16.    كان يتمنى إن أبوا عليه ذلك أيضًا أن يظل هو يمارس المهام المذكورة بطريقة شرعية قانونية.
17.    من المعلوم أيضًا أنه لا مفرّ من الاختلاف بين الناس في التعامل مع النصوص الدينية وفي تطبيقها على الواقع، ولذلك كانت الحاجة ماسة إلى مرجعية تحسم هذه الخلافات، وكان الإمام عليّ هو الذي تتوفر فيه شروط المرجعية. 
18.    كان للحزب القرشي تطلعاته الخاصة، وكان متفقًا عليه بينهم أن الأمر يجب أن يظل دولة بين بطون قريش، وذلك استلزم منهم العمل على حرمان عترة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ منه لعلمهم بأنه لو دخل فيهم لما خرج منهم، ولذلك قالوا بأنه يكفي بني هاشم أنه كانت النبوة فيهم.
19.    الكتاب الذي أراد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ أن يكتبه كان يتضمن بالطبع ما كان يتمناه لصلاح أمرهم، ولو كتبه لأصبح ملزمًا لهم، ولتعرضوا للهلاك لو خالفوه، وعندما عارضوه علم أن القضاء سبق بالأمر، فآثر جانب الرحمة، وإلا فقد كان يمكنه أن يأمر بكتابة الكتاب من بعد، ومن المعلوم أنه عندما نزلت الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُون} [الأنعام:65] استعاذ الرسول بربه من أن يَبْعَثَ عَلَيْهمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِهمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِهمْ فأجيب إلى طلبه، أما عندما استعاذ بربه من أن يَلْبِسَهمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَهم بَأْسَ بَعْضٍ فقد قيل له سبق القضاء.
20.    بمجرد انتقال الرسول هُرع الأنصار إلى السقيفة للنظر في أمر مدينتهم، ولم يكن ذلك تمردا منهم على ما وصَّاهم به الرسول، ولكنهم كانوا يعلمون جيدا أنهم مخيرون بالنظر في أمر مدينتهم ككيان سياسي خاص بهم.
21.    عندما هُرع الوفد القرشي إلى السقيفة كان الصراع والتجاذب والتلاسن دنيويا، لم يرجعوا فيه إلا إلى أمثال العرب وتقاليدهم، وقد أثبت القرشيون مهارتهم وحذقهم وبراعتهم واستغلالهم التناقضات وطبيعة الأنصار، واستقر الرأي على أن يكون الأمراء من قريش، والوزراء من الأنصار (وهو بالطبع ما لم يتحقق أبدا)، وبذلك تولى أبو بكر الأمر.
22.    بمجرد تولي أبي بكر الأمر بدأت بسرعة وبشدة، وتحت ضغط الأوضاع الجديدة عملية بناء دولة مركزية، وهذا أمر لم يكن لهم سابق عهدٍ به، وكان تولي أبي بكر الأمر من أسباب ثبات القرشيين في مكة وعدم ارتدادهم.
23.    من العجيب أن يحاول القرشيون فرض ما توصلوا إليه بالقوة على عترة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، فالأصل في البيعة هو الحرية، وليس الإكراه، وكان ذلك إيذانًا منهم بأنهم يأبون عليهم أية مكانة في الدولة التي شرعوا في التأسيس لها.
24.    بذلك أُوكلت الأمة إلى نفسها، وتُركت عرضة لنوائب الدهر وتقلبات الزمن.
25.    أظهر أبو بكر بسرعة مقصده في الاعتماد على القرشيين كأركان لدولته، فاختار منهم قادة الجيوش، وبذلك بدأوا في الاستحواذ على القوة والثروة، وفي سباق كهذا كان لابد أن يفوز في النهاية البطن القرشي الخبير بمثل هذه الأمور، وبذلك بدأت الكفة تميل لصالح الأمويين، وكان كل ذلك بالطبع على حساب أهل البيت والأنصار.
26.    أصبح الحزب القرشي بالغ القوة والثراء، ولم يعد من الممكن أبدا العودة إلى مثاليات العصر النبوي، وقد تمكن معاوية خلال حكم الخليفة الأموي عثمان من تأسيس مملكة حقيقية ثابتة الأركان في الشام، ودخلت عناصر وخلايا الدولة العميقة هناك في خدمته، وأصبح له جيش محترف يدين له وحده بالولاء.
27.    أخذت قوة الدولة تتزايد على حساب قوة الأمة إلى أن بلغ الأمر ذروته باستيلاء زعيم أهل البغي على الأمة والدولة ومال الأمة، وبدأ اتخاذ كل ما يلزم لضمان بقاء الحال هكذا، فبدأ التخلص من المعارضين بشتى السبل، واستدراجهم إلى مصارعهم، كما بدأ استعمال القصاص في المساجد لصرف الناس عن أمور الدين الكبرى ومقاصده العظمى، وتُرِكت الحرية للمنافقين ولأهل الكتاب لكي يدسوا في التراث الإسلامي ما يشاؤون، وتمخض كل ذلك في النهاية عن وضع أسس الدين الأعرابي الأموي الذي كان ركنه الرئيس ومحوره إخضاع الأمة لكل من قهرها بسيفه وإن نهب الأموال وجلد الظهور وجاهر بالفجور طالما لم يُظهر كفرا بواحا ولم يعطل إقامة الصلاة، وبالطبع لم يكن يريد المتسلطون أكثر من هذا، فهم لن يظهروا كفرًا بواحا حتى وإن كانوا أكفر من الكفر، وسيدفعون مشايخهم إلى توثين الأداء الشكلي للصلاة وجعله شغل الناس الشاغل ليشغلوهم بذلك عنهم، وبذلك ظهرت المجلدات الضخمة التي تتفنن في وصف كل ما يتعلق بشكليات الصلاة.
*******