الأربعاء، 7 يونيو 2017

قبيلتا بول الإبل ولبن الماعز

قبيلتا بول الإبل ولبن الماعز

القبائل في إمارة همجستان لا تقبل الضيم ولا ترضى بأنصاف الحلول ولا تعطي الدنية من أمرها، ولقد نشبت فيها حرب الثلاثين عامًا بين قبيلتي بول الإبل ولبن الماعز، وقد انتهت هذه الحروب الضروس بهلاك القبيلتين ولم يبق من آثارهم إلا بعض الأثافي وبعض قصائد الفخر والهجاء.
كانت قبيلة بول الإبل هي أكبر قبائل همجستان، كان سبب هذه التسمية المذاق الفاخر لبول إبلهم الذي كان تغبطهم عليه كل قبائل همجستان الأخرى، وكان هذا البول هو مشروبهم المحبوب، ولشعرائهم قصائد من عيون الشعر تخلد هذا البول وتعلي من قدره، ولأمير شعرائهم قصيدة يتمنى فيها أن يصطحب في مقبرته ناقة لكي تتبول على رمته فلا ينسى مذاق شرابهم الأثير.
كان سبب الحرب أن جديا من قبيلة لبن الماعز غافل الراعي وقضم عشبة من مرعى خاص بقبيلة بول الإبل، وقد تم ضبطه متلبسا ووُجدت آثار القضمة على العشبة التي لم يستطع التهامها كلها لانكشاف أمره في الوقت المناسب.
ولما كانت قبيلة بول الإبل هي أكبر وأشرس قبيلة في همجستان فقد أرسلت إنذارا شديد اللهجة إلى قبيلة لبن الماعز بضرورة استخراج العشبة من بطن الجدي وإعادتها إلى مكانها مع تسليم الجدي لينال عقابا بشعا على تهوره وتعديه على حمى القبيلة، هذا مع التأكيد على أنه لا مساومة في هذا الأمر، أعطوهم فترة يوم واحد غير قابل للمدّ للتنفيذ، وتم التأكيد على أن أي تلكؤ بعد ذلك سيكون بمثابة إعلان حرب على قبيلة بول الإبل.
أعتبر شيوخ قبيلة لبن الماعز هذا الإنذار إهانة شديدة لهم واستخفافا بأمرهم وإهدارا لكرامتهم بين القبائل، صمموا على الثأر لكرامتهم، ولما كانوا يعلمون أنه لا قبل لهم بقبيلة بول الإبل فقد قرروا أنه لابد من القيام بعمل لا يخطر ببال أحد من هذه القبيلة المتغطرسة، صاح أحد شبانهم:
-     لا مفر من مباغتتهم بهجوم ليلي كاسح.
تصايحوا جميعاً:
-     نعم الرأي
-     هذا هو القول
-     هذا هو خير ردَ
-     هذا هو الحل الذي لا بديل له

خطب شيخهم فيهم قائلا: يا آل لبن الماعز، لا رد لنا على هذه الوقاحة إلا الحرب، فهيا إلى النصر!
اشتعل حماس الشباب، أحضروا الجدي ونادوا به بطلا لقبيلتهم، واتخذوه شعارا لهم، جهزوا أنفسهم، شرب كل منهم كمية هائلة من لبن الماعز وركبوا خيولهم.
شنوا غارة مباغتة على قبيلة بول الإبل، وضعوا فيهم السيف وهم في مراقدهم، كبدوهم خسائر فادحة، سبوا ما استطاعوا من نسائهم، تصايح الحرس من قبيلة بول الإبل، تجمعوا بسرعة، تمكنوا من القضاء على بعض المهاجمين، بادرت قوات لبن الماعز بالانسحاب السريع بعد أن تكبدوا بعض الخسائر.
أشعل ما حدث نيران الغضب في قلوب الباقين من قبيلة بول الإبل، كانت الكارثة هائلة، قُتل مجموعة من خيرة شبابهم، كما تم فضحهم بما تم سبيه من نسائهم، صمموا على الانتقام مهما كان الثمن، قالوا إن قبيلة لبن الماعز هي الآن في ذروة النشوة والسعادة، ولا يمكن أن يخطر ببالهم أن نهاجمهم من قبل أن نضمد جراحنا، لابد من معاجلتهم بهجوم ليلي كاسح كما فعلوا معنا.
أسكر النصر الذي أحرزته قبيلة لبن الماعز رجالها، تصوروا أنهم قوة لا تُقهر، أقاموا مهرجانا للاحتفال بالنصر، ألقى شاعرهم قصيدة عصماء يتغنى فيها بانتصارهم ويهجو قبيلة بول الإبل بفاحش القول، زادهم الشعر انتفاخا، كاد شيخهم ينفجر من الانتفاخ، قالوا لأنفسهم إن قبيلة بول الإبل لن تفيق من هول هذه الضربة إلا بعد سنين طويلة.
ولكن قبيلة بول الإبل كانت قد أفاقت بالفعل كما سبق القول، بل أصبحوا أكثر تصميما على الثأر، علموا بمهرجان قبيلة بول الإبل، زاد هذا من تصميمهم –كما كانوا قد أزمعوا- على مهاجمة قبيلة لبن الماعز في هذه الليلة.
عندما أرخى الليل سدوله تجرع كل منهم كمية هائلة من بول الإبل لتعطيه الطاقة اللازمة، زحف رجالها تحت جنح الظلام، باغتوا قبيلة لبن الماعز وهي في أوج نشوتها، استغلوا ما يتمتعون هم به من متانة الأجساد، افترسوا عددا هائلا من قبيلة لبن الماعز، قاموا بفتح بطون بعضهم وأكلوا أحشاءهم بدمائها، حملوا كل الرؤوس التي قتلوا أصحابها على رماحهم.
فر الباقون في كل اتجاه، حرر رجال قبيلة بول الإبل نساءهم، أمسكوا بشيخ القبيلة وبعد أن تلقى كمية هائلة من الضربات الصاعقة المذلة دلَّهم على مكان الجدي، أخذوه هو والجدي أسيرين وسبوا من لم تستطع الهرب من نساء قبيلة لبن الماعز.
أرسلوا فرسانا منهم يحملون الرؤوس التي ظفروا بها على رماح، ليطوفوا بها في كافة أرجاء همجستان.
خلد شاعرهم هو الآخر هذا النصر المؤزر في قصيدة هائلة.
وهكذا بدأت حرب الثلاثين عامًا بين القبيلتين الباسلتين من قبائل همجستان حتى قضوا تقريبا على بعضهم البعض، أما بقايا القبيلتين فقد جاءت قبيلة كريش والتهمتها في كرشها، كبر كرشها كثيرا فتقرر أن تُسمَّى من بعد ذلك بقبيلة كرش.
ولكن رجال القبيلتين كتبوا بما فعلوه لهمجستان تاريخًا مجيدا يشب على مطالعته الصغير ويشيب الكبير، كما تركوا تراثا خالدا من عيون الشعر، التي يخلد فيها شعراء القبيلتين بطولاتهم وأمجادهم، هي في لسانهم من قمم البلاغة، ولكن في ألسنة غيرهم أمثلة للخبل والتفاهة.


*******