الثلاثاء، 21 فبراير 2017

خلاصة القول في الشفاعة

خلاصة القول في الشفاعة

1-      آيات القرءان تثبت وجود الشفاعة.
2-      وهي لا تنفي إلا مفهومها الشركي الذي كان يتمسك به مشركو قريش ومن تابعهم من المحسوبين على الإسلام.
3-      الشفاعة هي بالأصالة عمل إلهي مثل سائر السمات والأعمال الكمالية وهي تقتضي سننًا إلهية كونية.
4-      الشفاعة كعملٍ إلهي هي فعلٌ مُطلق مفصَّل بما لا يتناهى من الشفاعات النسبية المحدودة.
5-      الشفاعة تتم بإذن الله تعالى ولمن ارتضى؛ فهي بذلك تتم وفق قوانين الله وسننه.
6-      الشفاعة الإلهية الكاملة المطلقة لابد لها من آثار، لذلك لابد من وجود شفعاء يرتضيهم الله تعالى، فهم جزء من المنظومة الخاصة بالشفاعة، منهم حملة العرش ومن اصطفاهم الله تعالى وأنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
7-      كل ذلك يقتضي أنه لن ينتفع بالشفاعة إلا بعض الناس وفي زمن معلوم، وأن البعض الآخر لن ينتفعوا بها.
8-      مفهوم الشفاعة لا علاقة له بالمحاباة ولا المجاملات ولا يمكن أن ينتفع من ليس لديه استعداد بالشفاعة مثلها في ذلك مثل الهدى.
9-      يحاول بعض (المجتهدين الجدد) انتزاع بعض الآيات التي تتحدث عن الشفاعة من سياقها لفرض مفهومهم عن الشفاعة على آيات القرءان، وهم يتجاهلون بذلك الآيات التي تقوض مفهومهم هذا، وهم في الحقيقة يحاولون أن ينفوا التصور العامي الدارج الذي لديهم عن الشفاعة دون أن يفقهوا المفهوم القرءاني، وبالطبع لا جدوى من أن يفقهوا المفهوم الحقيقي ولا أمل في أن يقلعوا عن ضلالهم أو يثوبوا إلى رشدهم.
10-  المسلمون الحقيقيون ينتفعون في حياتهم الدنيا بشفاعة الرسول الأعظم وبشفاعة حملة العرش، وسيرون أثر ذلك أيضا في الدار الآخرة.

*******

الاثنين، 20 فبراير 2017

التيار الزبيري القرشي

التيار الزبيري القرشي
كانت الانتفاضة الزبيرية آخر محاولة قرشية للاستيلاء على السلطة، كان هذا التيار أشد عداءً للعترة النبوية من الأمويين، وكان هذا العداء الأعمى من أسباب هزيمتهم رغم أنهم سيطروا في مرحلة من المراحل على الحجاز والعراق ومصر، ودانت لهم بالولاء بعض قبائل الشام.
وبعد أن أعلن عبد الله بن الزبير نفسه خليفه أرسل أخاه مصعب بن الزبير (أنهد وأجمل فتى في قريش) إلى العراق حيث حارب المختار الثقفي الذي كان قد أخذ بثأر الإمام الحسين، تخلَّى الناس كالعادة عن المختار فوجد نفسه يحارب في مجموعة صغيرة، فقتل وقطعت رأسه كعادة العرب وأرسلت إلى عبد الله بن الزبير.
تولى أمر العراق لخمسة سنوات قتل فيها ما لا حصر له من البشر، أثار ذلك إعجاب وحسد عدوه اللدود وصديقه القديم الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان الذي لم يتمكن من تحطيم هذا الرقم القاسي المسجل باسم مصعب، فقال مادحا إياه: "أشجع العرب من ولي العراقين خمس سنين فأصاب ثلاثة آلاف ألف" !! هذا هو مقياس النجاح عند هؤلاء المجرمين؛ أنه أصاب ثلاثة ملايين إنسان!!!
في إحدى شطحاته قتل سبعة آلاف في غداة واحدة، وهو رقم قياسي لم يستطع ريشارد قلب الأسد أن يقترب منه، قتل 2700 فقط.
قال عبد الله بن عمر للكتكوت السفاح مصعب بن الزبير:‏ "أنت القاتل سبعة آلاف من أهل القبلة في غداة واحدة.!".  فقال مصعب‏:‏ "إنهم كانوا كفرة سحرة."  فقال ابن عمر‏:‏ "والله لو قتلت عدتهم غنمًا من تراث أبيك لكان ذلك سرفًا‏.‏".!
أما نهاية هذا الكتكوت السفاح فكانت على يد عبد الملك بن مروان -صديقه القديم والمعجب بإجرامه- حيث هاجمه فتخلى الناس عنه كالعادة فقاتل حتى قُتل، وقطع أحدهم رأسه وجاء بها إلى عبد الملك فأراد أن يعطيه ألف دينار فأبى أن يأخذها!!!
وبالطبع لم يكن لمثل هذا الكتكوت السفاح مهما بلغ جماله وافتتان الناس به أن ينجح كرجل سياسي.
وقد رووا أن (الصحابي الجليل) عبد اللّه بن الزبير قطع ذكر رسول اللّه في خطبة الجمعة أسابيع كثيرة، فاستعظم الناس ذلك فقال: "واللّه ما تركت ذلك علانية إلا وأنا أقوله سرا وأكثر منه، لكنى رأيت بنى هاشم إذا سمعوا ذكره اشرأبوا واحمرت ألوانهم وطالت رقابهم، واللّه ما كنت لآتى لهم سرورا وأنا اقدر عليه، واللّه لقد هممت أن احظر لهم حظيرة ثم أضرمها عليهم نارا فإني لا أقتل منهم إلا آثما كفارا سحارا، واللّه لا أنماهم اللّه ولا بارك عليهم بيت سوء لا أول لهم ولا آخر، واللّه ما ترك نبي اللّه فيهم خيرا، استفرغ  نبي اللّه صدقهم فهم أكذب الناس"، ولقد جمع بالفعل بنى هاشم في سجن عارم، وأراد أن يحرقهم بالنار فجعل في فم الشعب حطباً كثيرا، فأرسل المختار جيشًا من أربعة آلاف فارس فما شعر بهم ابن الزبير إلا والرايات تخفق بمكة فأخرج الهاشميين.
إن هذا (الصحابي الجليل) كاد يكفر بالرسول لكي لا يبتهج أهل بيت النبي!!!، ولقد عقد العزم على أن يستأصلهم، إن هذا مما يبين أنه كان ثمة اتفاق ضمني بين أكابر القرشيين علي استئصال ذرية النبي، ولقد حاول مجرمو الأمويين والعباسيين دائما تنفيذ هذا الاتفاق، أما ذلك (الصحابي المقدس) الذي امتلأ قلبه غلاً لأهل بيت النبي الذي أخرجهم من الظلمات إلي النور فلقد دفع ثمن ما فعل غاليًا في الدنيا قبل الآخرة بعد ما حاول الاستيلاء علي السلطة، وجاءت نهايته عندما حاصره أحد من أكابر المجرمين وهو الحجاج الثقفي وضرب الكعبة التي لاذ بها وهدمها إذ قتله ومثل به وصلبه، وهكذا ارتد كيده في نحره وكان هلاكه في تدبيره ولقد قضى بنفسه علي كل من كان من الممكن أن يناصروه، فلما حوصر خذله الجميع وأسلموه إلى من لا يرحم.
كان عروه بن الزبير من أعلام الرواة والمحدثين يعذر أخاه (الصحابي) عبد اللّه في حصر بنى هاشم في الشعب وجمعه الحطب ليحرقهم ويقول: إنما أراد بذلك ألا يختلف المسلمون وأن يدخلوا في الطاعة فتكون الكلمة واحدة كما فعل عمر بن الخطاب ببنى هاشم لما تأخروا عن بيعه أبى بكر فإنه أحضر الحطب ليحرق عليهم الدار!!! وهكذا لا يري الراوي الأثير لدي السيدة عائشة وأحد أركان (سنة) الرسول من بأس في محاولة أخيه استئصال أهل بيت هذا الرسول بل قبيلته كلها وذلك لحماية الأمة من (الاختلاف)!!!!!؟؟؟

إنها ديمقراطية الحطب وديمقراطية "اشدخوا رأسه بالسيف" التي مازال أمام البشرية آلاف السنين لتفقهها لتعود بذلك إلى العصر الحجري الأول وربما إلى عصر الديناصورات.
الإسهام الرئيس الذي خلفه استيلاء عبد الله بن الزبير على السلطة في الحجاز ثم في العراق بعد مصرع يزيد هو في ظهور تيار من النواصب مستقل عن التيار الأموي، رَفَع من قدر السيدة عائشة فوق كل نساء النبي، وجعلها مرجعية دينية في مقابل مرجعية أهل البيت، وأصبحت المرويات المنسوبة إليها جزءا كبيرا من الدين القرشي، وتمثل في التهوين من قدر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ ومنع الصلاة عليه حتى لا تطول به أعناق بني هاشم وتحمر ألوانهم كما قال ابن الزبير، وقد كان يعتبرهم ألد أعدائه، وهو الذي ربتَّه السيدة عائشة في بيتها، ولم يستفد بجهود هؤلاء إلا الأمويون والعباسيون في النهاية، أما ابن الزبير فكانت نهايته بشعة على أيدي الحجاج الثقفي.
ومن آثارهم أيضًا تضخيم أمر ورقة بن نوفل، وهو مجرد رجل متحنف آمن بالرسول ثم سرعان ما توفي، وقد تم تضخيم دوره لأسباب سياسية أثناء خلافة عبد الله بن الزبير، لأنه من أسد قريش مثل الزبيريين، خاصة وأن عروة بن الزبير كان من كبار الرواة، وما قيل عن ذهاب الرسول إليه للاطمئنان على نفسه هو قصة مختلقة، وكالعادة تسبب السلف المعبود في مشكلة كبرى للإسلام والمسلمين، فبسبب أسطورة ورقة المختلقة بنى أعداء الإسلام قصورا وألفوا سيناريوهات وجعلوا ورقة أسقفا لمكَّة تارة ومعلما للرسول تارة أخرة وممده بأخبار الأنبياء ومؤلفا للقرءان المكي .... الخ.
*****
ولقد أضاع ابن الزبير فرصتين تاريخيتين هائلتين لتخليص الأمة من التيار الأموي، الأولى عندما عرض عليه قائد الجيش الأموي الذي كان يحاصره في مكة وضرب الكعبة بالمنجنيق أن يوليه الخلافة بعد وصول الأنباء بمصرع يزيد القرود، ولكنه رفض، ففاز بها مروان بن الحكم.
والثانية أنه بدلا من أن يهاجم الأمويين وهم في ذروة تفرقهم واختلافهم فضَّل أن يضرب أنصار العترة النبوية في العراق، فتضعضعت الجبهة المعادية للأمويين، فتمكن عبد الملك بن مروان من القضاء عليهم بسهولة لتدين له الأمور تماما.
*****
وقد قام التابعي الجليل والمجرم الخطير الحجاج بن يوسف الثقفي حبيب الجنس السلفي بقتل (الصحابي الجليل) عبد الله بن الزبير ابن أحد (العشرة المبشرين بالجنة) وابن السيدة أسماء بنت أبي بكر (أول العشرة المبشرين بالجنة) والذي تربى في بيت خالته السيدة عائشة (التي كان معها نصف الدين) والذي أثبت أنه ألد أعداء آل بيت الرسول الذي نالهم كل الخير بسببه!!!
وكان ابن الزبير قد أعلن نفسه خليفة في مكة بعد مصرع يزيد اللعين حبيب الجنس السلفي، واستولى على العراق ومصر، فأرسل له عبد الملك بن مروان جيشا بقيادة الحجاج حاصر مكة وهدم الكعبة فوق رأسه ورؤوس أتباعه، وبعد أن سقط في يد المجرم الخطير الحجاج قام كالعادة بالتمثيل به وقطع رأسه الشريف -حرصا عليها- وأرسلها إلى التابعي الجليل وحمامة المسجد الخليفة عبد الملك بن مروان ليتبرك بلمسها ولثمها وتقبيلها، وأمرهم إذا مروا بالمدينة أن ينصبوا الرؤوس بها لإرهاب أهلها، ثم يسيروا بها إلى الشام ، ففعلوا ما أمرهم به، ثم أمر بجثته فصلبت على ثنية كداء عند الحجون منكسة، وظلت كذلك إلى أن مرَّ بها (الصحابي الجليل) عبد الله بن عمر، فبكاه بالدمع الهتون، ورثاه رثاءً حارا، وأرسل إلى الحجاج يتوسط له قائلا: أما آن لهذا الراكب أن ينزل ؟ فبعث الحجاج، فاستجاب له وأنزله عن الجذع.
هل لدى أي أمة أخرى سلف مثل هؤلاء الرحماء فيما بينهم أيها الجاحدون؟! أليس من الأولى بكم أن تتأسوا بهم وأن تباهوا الأمم بهم؟!!
*****
ويُلاحظ أن الناس في مصر قبل الغزو الوهابي لم يكونوا يستعملون أبدًا أو يتسمون بأسماء من ناصب العترة النبوية أي عداء، فلم تكن توجد أسماء معاوية، يزيد، الزبير، طلحة، ...، وحتى الاسم "عثمان" كانوا لا يطلقونه بصفة عامة إلا على الخدم والعبيد (وهم مخطئون في ذلك بلا شك).
*******

السبت، 18 فبراير 2017

المثـنى الإلهي

المثـنى الإلهي

المثنى هو اسمٌ إلهي واحد استلزمَ التعبيرُ عنه اقتران اسمين عربيين مفردين متلاصقين طبقًا لتعريفِ الاسم المفردِ السابق، وهو يشير إلى سمة واحدة محكمة تفصيلها هو السمتان اللتان يشير إليهما الاسمان المفردان لا بمعنى أن السمة الواحدة مركبة منهما أو أنها ازدواج لهما بل بمعنى أن هاتين السمتين من تجليات وتفاصيل السمة المحكمة الواحدة، فتلك السمة الواحدة هي بالضرورة تعلو على نطاق الإدراك البشري، فليس لدى الإنسان بالتالى لفظٌ مفردٌ يعبِّرُ عنها، وهو لا يمكن أن يدرك إلا شيئا من مقتضياتها من الآيات المصاحبة لها فضلاً عن مقتضيات السمتين المشار إليهما، أما هاتان السمتان فتتنوعُ الارتباطاتُ الممكنة فيما بينهما مع تقدمِ الأولى، فقد تـفضي السمة الأولى إلى الثانية، وقد تُخَصِّص السمة الثانية الأولى، وقد تؤكد معنى متضمنا فيها، ولكن معنى المثنى يجب أن يُلتمس أساسا فيما يصاحبه من آيات وبالنظر إلى معاني الكلمات طبقاً للاصطلاح القرءاني، ثم إن اقتضى الأمر بالرجوع إلى المعاني الأصلية اللغوية، ولا يجوز أبدا القول بأن الاسم الثاني الوارد في المثنى هو تابع للاسم الأول، فهما متكافئان.
أما ترتيب الورود في المثنى فله معناه ومغزاه وحقانيته، فهو من السمات المميزة للمثنى، وتغييره يؤدي بالضرورة إلى معنى جديد ودلالات جديدة؛ فهو يشير بالضرورة إلى سمة أخرى، والآيات المصاحبة لكل مثنى من هذه المثاني تبين ذلك، وعلى سبيل المثال فالآيات المصاحبة للمثنى الحليم الغفور هي: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44]، {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر:41]
أما الآيات المصاحبة للمثنى الغَفُور الحَلِيم فهي: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيم} [البقرة:225]، {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيم} [البقرة:235]، {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيم} [آل عمران:155]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقرءان تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيم}[المائدة:101]
فمن الواضح أن الآيتين المصاحبتين للمثنى الحليم الغفور تتحدثان عن شؤون إلهية وأمور كونية، بينما تتحدث الآيات المصاحبة للمثنى الغَفُور الحَلِيم عن أوامر شرعية وأفعال المخيرين.
ومن أمثلة المثاني: الحي القيوم، العزيز الرحيم، العزيز العليم، الحكيم العليم، الحكيم الخبير، العزيز الحكيم، الواحد القهار، الغفور الرحيم،...... إلخ، والمثاني التي وردت بالترتيبين الممكنين: "الحكيم العليم، العليم الحكيم"، "الغفور الرحيم، الرحيم الغفور"، "الحليم الغفور، الغفور الحليم"، فهذه المثاني هي بذلك عناصر نوع آخر من الأسماء هو الحلقات الإلهية ولذلك آثاره الهائلة على الحقائق الوجودية والسنن الكونية.
والسمة التي يشير إليها المثني لا تعني الجمعَ البسيط للسمتين اللتين يشير إليهما الاسمان المفردان، بل إنه لا يوجدُ في اللغة العربية لفظ واحد من الألفاظ يمكنه الدلالةَ عليها وإنما تعرف آثارها من الآيات التي ورد فيها المثنى.
إن السمة المحكمة التي يشير إليها كل مثنى من المثاني أو حلقة من الحلقات الإلهية يعبر عنها بألفاظ عربية يشير كل منها إلى سمة من السمات التي يمكن أن تُفصَّل إليها السمة المحكمة، وذلك يشير في الوقت ذاته إلى ارتباط موجب بين تلك السمات، فثمة مثلاً ارتباط موجب بين السمات (العلم والحكمة)، (العلم والعزة)، (القوة والعزة)، (الرأفة والرحمة)، (العزة والحكمة) .... الخ
وورود الاسم كتابع لأي من الأسماء الإلهية الرئيسة (الله، الرحمن، الرب، الإله) لا يجعل من الاسمين مثنى، لذلك فليس من المثاني (رب غفور، إله واحد….)، أما الاسم "الرحمان" في المثنى "ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ"، فهو ليس الاسم "الرحمن" الذي يرد دائما مفردا وعلما على الذات الإلهية كالاسم "الله"، وإنما هو اسم مفرد له بنية صفة مشبهة، وهو مشتق من المصدر "رحمة"، والحرفان "الـ" هما هنا أداة التعريف المعلومة.
وترتيب الاسم في المثنى هو خاصية هامة ومُميِّزة A definite and a defining characteristic للمثنى، فإذا كان ثمَّة مثنى مكوَّن من لفظين  كـ"الغفور الرحيم"، فإن المثنى المكون من نفس اللفظين باختلاف الترتيب كـ"الرحيم الغفور" هو بالضرورة مثنى آخر يشير إلى سمةٍ أخرى، لذلك تختلف مدلولات الآيات المصاحبة للمثنى "الغفور الرحيم" اختلافا بيِّنًا عن مدلولات الآيات المصاحبة للمثنى "الرحيم الغفور"، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المثنى "الحكيم العليم" والمثنى "العليم الحكيم" والمثنى "الغفور الحليم" والمثنى "الحليم الغفور"، وقد يُقال إن هذا الاختلافَ ليس إلا لضرورةٍ لغوية، وهذا قولٌ بلا برهان، فضلاً عن أنه لا يجوز تصوره في حق رب العالمين، إنه يجب العلم بأن الله عزَّ وجلَّ لا يخضع لأية ضرورات أو إلزامات لغوية وأن أسماءه سابقة علي وجود الألسنة واللغات، وهو قد صاغ الآيات هكذا ليعلم الناس أسماءه الأسبق، وليعلمهم أيضًا دلالاتها ومقتضياتها.
والحق هو أن وجود مثل هذه المثاني يشير إلى حقائق إلهية وجودية عظمى؛ هي الحلقات الإلهية، فثمة ارتباط موجب بين المثاني وبين الحلقات الإلهية، فالمثاني الواردة هي تفاصيل لأسماء إلهية عظمى هي الحلقات الإلهية، ومنها الحلقات المكونة من هذه المثاني مثل: "الحكيم العليم-العليم الحكيم"، "الرحيم الغفور-الغفور الرحيم"، "الحليم الغفور-الغفور الحليم"، وهي تُسمَّى كذلك لإحاطتها التامة بكل المخلوقات ولاقتضائها أنساقا من القوانين والسنن الحاكمة عليها.
والرمز "حم" يرمز إلى المثاني الإلهية كما ترمز الكلمة "فعل" إلى كل الأفعال الثلاثية، هذه المثاني من أسرار القرءان الكبرى، وهي مما يثبت له الهيمنة على كل الكتب الأخرى.
والسور التي تبدأ بالرمز "حم" يتجلى فيها النور المحمدي الخاص، هذا النور سارٍ في كل من لديه الاستعداد الحقيقي ليكون من أمته الحقيقية.
*******

الجمعة، 17 فبراير 2017

حوار مثمر حول مروية السحر

حوار مثمر حول مروية السحر
الحوار مع بهيم عتيد من أعلام همجستان
البهيم: كيف يا هذا تنكر مروية السحر؟ أتشكك في السنة المطهرة؟
مسلم: وهل من السنة المطهرة أن تقولوا إن من تنسبون إليه السنة قد سحروه؟
البهيم: إنها أمانة السلف، هل تريدهم أن يكذبوا بالخبر الثابت لأنه لا يوافق هواك؟
مسلم: لا يمكن أن يكون زعم البخاري أن لبيد بن الأعصم عميل اليهود قد سحر النبي صحيحا!
البهيم: بل هو صحيح، ورد في الصحيح، وسلسلة حديث السحر من أقوى السلاسل، ولقد أحسن السلف صنعًا إذ أبقوا على هذه المروية.
مسلم: لماذا؟
البهيم: حتى نستطيع دائمًا أن نكشف بها أعداء السنة فلا يضلون الناس.
مسلم: هل أنت جاد؟
البهيم: أي نعم!
مسلم: نفى الله تعالى أن يكون النبي من المسحرين، وبيَّن الله تعالى إن هذا القول هو قول الكافرين الظالمين: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)} الإسراء، {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)} الفرقان
البهيم: أنت غير متخصص، ولو تلقنت العلم على يد بهيم مثلي لعلمت التفسير الصحيح لمثل هذه الآيات، ولعلمت أن السنة حاكمة على الكتاب وقاضية عليه ومبينة لمشكلة ومفصلة لمجمله ومقيده لمطلقه.
مسلم: وما هو المشكل أو المجمل في هاتين الآيتين؟ إنهما واضحتان كالشمس في رابعة النهار.
البهيم: أنت غير متخصص، من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب
مسلم: أليس السحر هو تسلط شيطان أو جني على مخيلة إنسان؟ ألم يكن الرسول يستعيذ من الشياطين بناءً على أمر ربه الذي قال له: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)} المؤمنون؟ وهذه آيات مكية.
البهيم: ومن أدراك أنه استجاب له؟
مسلم: ألم يتولاه ربه؟ ألم يتعهد أن ينجيه وأن يحفظه وأن يعصمه من الناس؟ ألم يأمره أن يتحدى كل الشركاء والناس وأن يقول: {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)} الأعراف، ألم يعلن أنه يجعل من بين الرسول ومن خلفه رصدا؟
البهيم: من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب
مسلم: ألا تلاحظ أنك تتحدث كشيطان رجيم وتريد النيل من الرسول لشيءٍ ما في نفسك؟
البهيم:   هاهاهاهاهاهااااااااااااااااااااهـ
مسلم: ألا تتضمن المروية تكذيبا بآيات القرءان وتشكيكا في مقامي الرسالة والنبوة بل وتطاولا عليهما؟
البهيم: السنة قاضية على الكتاب وحاكمة عليه وناسخة له عند التعارض.
مسلم: عجيب أمرك، لماذا تؤمن إيمانا لا يتزعزع بمروية السحر رغم أنف القرءان والمنطق والعلم؟
البهيم: لا قيمة لأي شيء يخالف السنة المطهرة، وبغض النظر عن موضوع السحر فطالما وردت المروية في صحيح البخاري فهي صحيحة وملزمة لك رغم أنفك! البخاري أصح كتاب بعد كتاب الله، ولن ينال منه مثلك!
مسلم: ها أنت قلت "بعد كتاب الله" وذلك إقرار منك بأن لكتاب الله الهيمنة على غيره من الكتب، ولقد قرر القرءان ذلك من قبل، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ......} [المائدة:48]
البهيم: ها قد كشفت جهلك، المقصود أنه مهيمن على ما بين يديه؛ أي على التوراة والإنجيل، وليس صحيح البخاري!! هل علمت الآن؟ إنه البخاااااااااااااااااااااااااري
مسلم: ألا تقرّ بهيمنة كتاب الله على البخاري وغيره؟ ألا تقولون إن القرءان هو المصدر الأول للتشريع؟ ألا تقولون بقياس الأولى؟ أيكون لكتاب الله الهيمنة على التوراة والإنجيل وليس على البخاري؟
البهيم: ألا تعلم أنت أن البخاري فيه السنة التي هي الوحي الثاني المبين والموضح للوحي الأول؟
مسلم: وهل من التبيين والتوضيح إبطال النص الأصلي والقول بخلافه أو نسخه؟
البهيم: هذا ما أجمعت عليه الأمة، وتلقته بالقبول، ولم نعلم مخالفًا لذلك إلا من هو مفارق للملة خالع للربقة متبع غير سبيل المغفلين،لا لا لا أقصد المؤمنين!
مسلم: لا قيمة لك أصلا أنت مجرد بوق أجوف لأقوال سلفك، أما سلفك الذين صححوا هذا الإفك فهم غير معصومين، أذكر صراحة مبررك للأخذ بها!
البهيم: قلت لك إن إسنادها قوي، ولو أقررنا بأنها غير صحيحة لفتحنا باب التشكيك في الدين كله ولانهار صرح الإسلام!
مسلم: هل صرح الرسالة الخاتمة والدين الكامل كله معلق بمروية السحر؟
البهيم: أي نعم.
مسلم: هل تؤمن بأن البخاري كان إلها أو رسولا أو معصوما؟
البهيم: كلا، بالطبع
مسلم: ما المشكلة في القول بأنه أخطأ أو تعرض لخديعة أو دُسَّت المروية في كتابه من بعده خاصة وأن النسخة الأصلية مفقودة وأن النسخة التي نقلوا منها كتبت بعده بأكثر من مائة سنة؟
البهيم: كل ذلك سيؤدي إلى نفس النتيجة المذكورة!
مسلم: إذاً أنتم خوفًا من وساوس وأوهام في صدوركم تلزمون الناس عمليا بالإيمان بالعصمة المطلقة للبخاري ولو كان ذلك يتضمن تكذيبًا بآيات القرءان وتطاولا على النبي الخاتم!
البهيم: لقد تسلمنا الدين هكذا من أسلافنا ولابد من أدائه هكذا لخلفنا ولن يفتنَّا عنه أي إنسان!! العب غيرها!
مسلم: وبافتراض صحة السند، ماذا عن المتن؟ ألم تجدوا في المروية علة قادحة توجب عدم الأخذ بها؟
البهيم: كلا بالطبع، بل أقرها الجهابذة وأجمعت عليها الأمة وتلقتها بالقبول
مسلم: إن الناس في الغرب ينتجون أفلاما تصور الناس كما ورد عنهم في التراث بالضبط ولا يبالون بهالات القداسة التي يسبغها عليهم المؤمنون بهم، وقد فعلوا ذلك مع أكابر الرسل والأنبياء، وطالما أنت تقول إن تعرض النبي للسحر من أقوى الآثار ومرويتكم تقدم وصفا تفصيليا للرسول وهو واقع تحت تأثير السحر، هل تقبل أن يضمنوا أفلامهم ما تقوله هذه المروية كما وردت بالضبط في كتبكم؟
البهيم: كلا بالطبع، ولئن فعلوا لنفجرن الأرض من تحتهم نارا ولنحرقن أعلامهم ولنحاصرن سفاراتهم!
مسلم: أنت بذلك تقول بأن التطاول على الله وكتابه ورسوله يجب أن يكون حكرا عليكم أنتم وحدكم من دون الناس.
البهيم: وهل نترك كل من هبَّ ودبَّ ليتكلم في الدين؟
مسلم: ولكن كل المسلمين مجمعون على أنه يجب الدعوة إلى الإسلام، لذلك فكل الآخرين لديهم حق النظر بحيادية فيما تقدمونه أنتم على أنه الإسلام وأنتم مطالبون بتقديم إجابات مقبولة عن أسئلتهم المشروعة.
البهيم: هذا هو الإسلام، وإن لم يقبلوا به فحكمهم الشرعي معلوم، يجب أن نقاتلهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، أما من ينكرون ما هو معلوم من الدين بالضرورة ويشككون في ثوابت الدين فهم مرتدون يجب استتابتهم وإلا فقد وجب قتلهم.
مسلم: أنت لست فقط من العتاة في الإجرام! أنت أقل شأنًا من بهيمة الأنعام!
البهيم: هجومك لن يزحزحنا عن موقفنا قيد أنملة وسنظل ندافع عن السنة المطهرة، ولم تكن أنت أول من أنكر هذه المروية، حاول ذلك الكثيرون قبلك، ولكنها بقيت راسخة كالطود.
مسلم: ولكنك قلت إن الأمة أجمعت عليها!
البهيم: لا قيمة لأهل البدع، وأقوالهم لا تقدح في الإجماع.
مسلم: هل تقبل لنفسك أن يقال عنك ما تزعمه أنت عن نبيك؟ ألم يأمرك ربك ألا تؤذي النبي وحذرك من ذلك، ألم تقرأ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا} [الأحزاب:57]
البهيم: أنت غير متخصص، أنت لست ندا لي، أنت غير متخصص، أنت لست ندا لي، أنت غير متخصص، أنت لست ندا لي أنت غير متخصص، أنت لست ندا لي ..............
مسلم: بل قل إنك تؤمن بدين كتابه الأقدس هو البخاري أيها البُخبُخ البهيم!


*******

الثلاثاء، 14 فبراير 2017

من خلاصة القول في أهل الكتاب

من خلاصة القول في أهل الكتاب

1.        الدين المقبول والمعتمد عند الله في أي زمان ومكان هو الإسلام.
2.        هذا الدين كان يكتمل عصرا بعد عصر مواكبا للتطور البشري وملبيا لاحتياجات الناس في عصرهم وقائدا ومحفزا لتطورهم.
3.        كان الأنبياء والرسالات التي أنزلت عليهم هم الآلات الإلهية لإكمال وتجديد الدين عصرا بعد عصر.
4.        كل نبي مرسل ومن آمن به واتبعه مسلمون، قال تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُون}[آل عمران:52]، {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) }[البقرة].
5.        كل نبي مرسل ومن آمن به ملزم ومأخوذ عليه العهد والميثاق بالإيمان بالرسول الجديد المصدق لما معه، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِين} [آل عمران:81]
6.        من يرفض رسالة الرسول الجديد هو فاسق: {فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون} [آل عمران:82]، ولكون القرءان فيه حكم الله تعالى فمن لم يحكم بما فيه فهو ظالم كافر فاسق.
7.        لذلك فبافتراض أن رسالة النبي السابق ظلت نقية صحيحة لم تُحرف فإن من ظل مؤمنًا برسالته ملزم باتباع الرسول الجديد، ولكن لا توجد رسالة إلا وألقى الشيطان فيها إلا القرءان الكريم، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)} الحج، فسيظل الَّذِينَ كَفَرُوا بالقرءان فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ.
8.        ومع ذلك فإن كل الرسالات التي أتت قبل الإسلام قد أضاعوا الكثير منها وتعرضت لتحريف هائل وضل بها متبعوها وأضلوا وضلوا عن سواء سبيل، والقرءان يندد بمسلك الذين أوتوا الكتب وأهل الكتاب بأقوى العبارات، {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُون}[المائدة:14]، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِين} [المائدة:64]، والآيات تبين أن النصارى باقون إلى يوم القيامة، والمسيحيون هم الفرع الأكبر والذي بقي من النصارى.
9.        الإسلام بصورته الكاملة هو الذي اكتمل بنزول الآية: {...الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا .....} [المائدة:3]، فلا يحق لأحد الاكتفاء بمرحلة سابقة نُسخ منها ما نُسخ، وتجاوزها الوحي والعصر، ومثل من يفعل ذلك أسوأ ممن اكتفى بالشهادة الابتدائية مثلا، ورفض التعليم العالي اللازم لتأهيله للعمل في حياته الباقية.
10.    الإسلام بصورته الكاملة هو رسالة للناس كافة، فكل إنسان موجود على ظهر الأرض الآن ملزم باتباع الإسلام بصورته الكاملة إذا بلغه البلاغ المبين، وشرط البلاغ المبين غير متحقق الآن نتيجة وجود المحسوبين على الإسلام مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُون، فهؤلاء المفرقون قد برَّأ الله تعالى رسوله منهم بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُون} [الأنعام:159]، فهؤلاء ليسوا إلا آلات شيطانية لصدّ الناس عن سبيل ربهم إلا قليلا ممن أنجاه الله منهم.
11.    كل كيان مسلم ملزم بدعوة من لم يكن مسلما بما فيهم أهل الكتاب إلى الإسلام بما في ذلك المحسوبون على الإسلام، ووسائل الدعوة سلمية، فهي يجب أن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن وبالعمل الصالح وبتقديم الأسوة الحسنة.
12.    أهل الكتاب بالذات مأمورون أمرا مشددا باتباع خاتم النبيين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولا} [النساء:47]، {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)} آل عمران.
13.    أهل الكتب اختلفوا عن الإسلام الكامل ورفضوه، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)} آل عمران،{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُون} [آل عمران:64]، فأهل الكتاب ليسوا مسلمين.
14.    ملة إبراهيم هي أساس الإسلام، فالإسلام بصورته التي اكتملت بالقرءان أكبر منها، فمن لا يتبع ملة إبراهيم لا يمكن أن يكون مسلما، ومتبع ملة إبراهيم فقط والذي يرفض ما جاء في الرسالة الخاتمة ليس بمتبع لدين الحق، بمعنى أن اتباع ملة إبراهيم ضروري للمسلم ولكنه غير كافٍ Necessary but not sufficient.
15.    اليهود والنصارى الموجودون الآن ليسوا على ملة إبراهيم، قال تعالى: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين} [البقرة:135].
16.    لكي يؤمن أهل الكتاب يجب أن يؤمنوا بمثل ما آمن متبعو القرءان: {فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)} البقرة.
17.    سيبقى دائما في الأمة محمدية قلة من قلة هم الذين اصطفوا لحمل الرسالة والدفاع عنها ودعوة الناس إليها، وهؤلاء تظهرهم وتنبئ بهم أعمالهم، وسيكون منهم كلما اقتضت الضرورة مجددون يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالِ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلِ الْجَاهِلِينَ.
18.    للمصدر "أسلم" معانيه اللغوية ومعانيه الاصطلاحية، ومعناه الاصطلاحي الآن أنه اسم عَلَم Proper name هذا الدين الكامل الذي كتابه المقدس هو القرءان، ورسوله هو خاتم النبيين، ويلزم أتباعه بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسوله دون تفريق، هذا مع العلم بأن القرءان هو الكتاب المهيمن على سائر الكتب، ولا يجوز استعمال المعاني الأخرى لكلمة إسلام لإضلال الناس.
19.    جلّ الناس بما فيهم المحسوبون على الإسلام لا يخلون من كفرٍ أو شرك، قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِين} [يوسف:103]، {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُون} [يوسف:106]، ومع ذلك فمتبع دين الحق ملزم بأن يعاملهم وفق منظومة القيم الإسلامية؛ أي يجب أن يحافظ على حقوقهم وكرامتهم وأن يحكم بالعدل وأن يؤدي الأمانات إلى أهلها وأن يبرهم وأن يقسط إليهم، ولأهل الكتاب حقوق إضافية على المسلم، فيمكن أن يتزوج منهم وأن يأكل من طعامهم، وهذه إشارة إلى وجوب التعايش البناء المثمر معهم.
20.    مسألة مصائر الناس هي شيء آخر.
21.    يجب التمييز بين الفعل "كفر" وبين أن يكون الإنسان: " كافرا" أو من "الذين كفروا"، ففعل الكفر يسند إلى من كفر بأي شيء من عناصر دين الحق، ولا يكاد يخلو منه إنسان، بما في ذلك النصارى واليهود والمحسوبون على الإسلام، ولا يوجد عليه أي عقاب دنيوي، فحرية الإيمان مقدسة في الإسلام، وقوله تعالى {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} هو سنة إلهية كونية وسنة شرعية وسنة تشريعية وركن من أركان منظومة القيم الإسلامية، والحكم والفصل في الأمور الدينية الإيمانية مرجأ إلى يوم القيامة، ولا يجوز لأحد أن يأخذ أموالًا من إنسان مقابل تركه يمارس حقًّا أعطاه الله تعالى له.
22.    أهل الكتاب هم كما قال القرءان: "أهل الكتاب"؛ ليسوا مسلمين، وليسوا كفارا، هم يهود أو نصارى، يجب احترام كافة حقوقهم الإنسانية والحفاظ على كرامتهم وبرهم والإقساط إليهم، ويجوز الأكل من طعامهم والزواج منهم.

23.    التعايش السلمي البناء المثمر هو الحالة الطبيعية بين الناس، أما القتال فهو أمر استثنائي، وهو لا يكون لإكراه طائفة على اعتناق الإسلام، ولا لإلزامها بدفع جزية والخضوع لأحكام الصغار، ولكن يكون دفاعًا عن الدين والأهل والديار والأموال وعن أهل الكتاب الذين يتعايشون مع الأمة.

*******

الجمعة، 10 فبراير 2017

العبرة بالخواتيم

العبرة بالخواتيم
كل إنسانٍ طالما هو على قيد الحياة هو عرضة للتغير والتبدل، وكل عملٍ اختياري يصدر عنه له آثاره عليه، ونفسه هي ألدّ أعدائه، ولذلك هو مأمور بتزكيتها، فلا يجوز أن يأمن الإنسان شرّ نفسه.
وحقيقة الإنسان تتضمن جانبا عشوائيا شواشيا، لذلك لا يمكن لأحد إلا الله أن يقدر بكل دقة استجاباته وردود أفعاله، ولذلك كان الصالحون بل والمرسلون يقدمون المشيئة ويخشون من العودة إلى ملة أقوامهم، قال تعالى:
{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)} الأعراف، وكذلك قال إبراهيم عليه السلام: {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُون} [الأنعام:80]
ولذلك كان على من هو مكلف بتزكية الناس أن يحذرهم دائمًا من مكر أنفسهم، ولقد كان من مهام الرسول أن يزكي قومه الأميين، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِين} [الجمعة:2]
وبالطبع يتفاوت الناس في قدرتهم على الاستجابة لجهود المزكِّي، ولا عجب في ذلك، فلابد من تمييز المراتب والدرجات ليعلم الناس أيهم أحسن عملا، ولقد كان أعلاهم مرتبة السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، أما سابقهم والأول في الترتيب العام فكان الإمام عليّ، وهذا ما أعلنه الرسول عليهم بعد حجة الوداع، ولم يكن لأحد منهم أن يجادل في ذلك، فلقد ثبت ذلك بكل ما هو ممكن من اختبارات وابتلاءات.
ومن مقتضيات عمله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله سَلَّمَ كمزكٍّ لقومه حذَّرهم من أن يتنافسوا والدنيا ومن أن يرجعوا من بعده كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض، فقد رووا أنه قال: "ما الفقر أخشى عليكم. ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم. فتنافسوها كما تنافسوها. وتهلككم كما أهلكتهم"، وقال: "لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضُكم رقاب بعضٍ".
وهذا يدل على قابليتهم لذلك، وليس على أنهم معصومون منه، ولو كانوا آلهة أو أربابا أو ملائكة لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون كما يتصور عبيدهم الذين أشربوا الشرك والضلال في قلوبهم لما كان للتحذير من معنى، فمن المحال تحصيل الحاصل، وليس من اللائق أن يُقال لربٍّ من الأرباب أو لملَك: "لا ترجع كافرا"!
ولكن الذي حدث بالفعل أنهم تنافسوا الدنيا، وكدس بعضهم وكنز القناطير المقنطرة من الذهب التي كانوا يكسرونها بالفؤوس ليوزعوها على الورثة، كما ضرب بعضهم رقاب بعض في حروب مهلكة دامية، وليس من حقِّ أحد أن يفرض توثينهم على الناس بعد أن تورطوا فيما حذرهم منه الرسول.
والإنسان قد يجتهد حتى يصل إلى درجة عالية ثم يفتتن ولا يصمد لابتلاءات الدنيا فيضل، وفي هذه الحالة يجب على الناس ما يلي:
1.    ألا يتأسوا به بعد ضلاله.
2.    ألا يفرضوا على الناس تجاهل أنه ضل فيطالبوهم بمعاملته وفق حالته الأولى
3.    ألا يتجاهلوا إنجازاته قبل ضلاله، بل يجب عليهم الانتفاع بها.
ومن ناحية أخرى قد تكون حالة الإنسان الأولى بالغة السوء ثم يهتدي ويحقق إنجازات مبهرة، وفي هذه الحالة يجب على الناس ما يلي:
1.    ألا يتأسوا به في مرحلة ضلاله.
2.    ألا يتخذوا من ضلاله الأول حجة للتطاول عليه ورفض الانتفاع بإنجازاته.
3.    ألا يفرضوا على الناس تجاهل أنه اهتدى فيطالبوهم بمعاملته وفق حالته الأولى.
والإنسان لا يُختم له إلا بما هو متسق مع حالته الحقيقية الجوهرية التي وصل إليها كمحصلة لآثار كل أعماله الاختيارية، فلن يختم لأحد على حالةٍ معينة بالإكراه، ومن أراد أن يعرف حالته الحقيقية فليبحث عنها في أعماق نفسه.   

*******