الجمعة، 15 مايو 2015

سورة الماعـون


سورة الماعـون

{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ{1} فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ{2} وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ{3} فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ{4} الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ{5} الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ{6} وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ{7}} الماعون

تتضمن سورة الماعون حملة ضارية على أولئك الذين يسيئون فهم الدين ويظنون أنه مجرد مجموعة من الشعائر والطقوس التي تؤدَّى دون معرفة بحقيقتها ولا بمقاصدها، فهم يظنون أن الدين لا يستوجب سلوكا عمليا ولا يترتب عليه أي التزام تجاه الإنسانية أو المجتمع، فالمكذب بالدين والذي يدعُّ اليتيم ولا يحض على طعام المسكين ما أقام الصلاة وإن صلى، ذلك لأن مثل هذا لم يتشبع بالإيمان الحقيقي ولم يقم بحقوق الأسماء الحسنى فلم يتحل برحمة أو رأفة ولم يخشع لربه ولم يراقبه في آياته ومخلوقاته.
فالمصلي هاهنا فهو الذي أدى حركات الصلاة  الظاهرية الشكلية ولكنه لم يقمها ولم يصل ما أمر الله به أن يُوصل، ولذلك وُصف بالمصلي ولم يوصف بمقيم الصلاة فهو ساهٍ عن حقيقة الصلاة وعن مقاصدها وعن ذكر الله تعالى فيها، لذلك فهو لم ينتفع بها، ذلك لأنه لم يترتب على أدائها أية تزكية لنفسه ولم يتعلم بها الرحمة ولم ينته بها عن الفحشاء والمنكر، فهو لم يزدد بها إلا ضلالاً وشقاءا، فهو بغفلته عن مقاصدها لن يكون أداؤه لها إلا محض رياء فهو بذلك يمنع الماعون عن نفسه كما منعه عن اليتيم والمسكين، بل الحقيقة أنه يدعّ يتيم نفسه ولا يحض على طعام مسكينها، ذلك لأن زادها الحقيقي هو تقوى ربها، فذلك الساهي هو الذي حرمها زادها عندما تجاهل المقصد من إقامة الصلاة.
فالمصلون هنا لا يؤدون الصلوات المعلومة كما يأمرهم الله تعالي، فإن أداء الصلاة طبقا للمصطلح القرآني يعبر عنه بإقامة الصلاة، فالمصلون الحقيقيون هم من يتبعون السابق؛ أي من يقدمونه إماما، وهو هاهنا الأحكام الواردة في كتاب الله تعالى، ومنه الصلاة المعلومة والتي من أداها يكون مقيماً للصلاة، فهم مقيمو الصلاة، وهم الذين يعملون أولا وقبل كل شيء على أن يصلوا ما أمر الله به أن يوصل؛ أي هم الذين يعملون على إقامة المجتمع الفاضل كما يرتضيه رب العالمين، وذلك يكون بإنشاء صلات بين مكوناته كما أمر هو وأراد.
والمصلون هنا هم أيضاً الدعاة طبقا للمصطلح اللغوي، والمصلى هو الداعي، فالمقصود أنه ويل للداعي الساهي عما يدعو إليه وعمن يوجه إليه الدعاء والذي يرائي الناس بذلك ويمنع الماعون.
والمكذب بالدين هو من يظن أنه لا غاية لهذه الحياة وأنه متروك فيها سدى، فهو لا يؤمن بحساب أو عقاب، وهو لا يؤمن في قرارة نفسه باليوم الآخر، لذلك لا يفرط فيما هو لديه من حطام الدنيا بسهولة فيرسخ في نفسه البخل والشح، وهو لذلك لا يطيق أن يرى غيره ينفق في سبيل الله تعالى ويأنف من صفات الجود والكرم والإيثار.
-------
إن المصلي هو من يتبع السابق، والمطلوب من الإنسان أن يتخذ كتاب الله تعالى إماما، وذلك يكون بالعمل بمقتضى الأوامر والتعليمات المذكورة فيه، وهذا يتضمن وصل ما أمر الله تعالى به أن يُوصَل، فهو يعني دعم وترسيخ الصلات مع الله تعالى بإقامة الصلوات المعلومة والذكر والتوبة والإنابة والحمد والشكر وكذلك دعم وترسيخ الصلات الشرعية مثل صلات القربى والأخوة في الدين، فالمصلي ينبغي أن يتذكر دائما كل ذلك.
-------
إن الله سبحانه قد توعد بالويل المصلين الساهين عن صلاتهم الذين هم يراءون ويمنعون الماعون وليس مقيمي الصلاة، فالمصلى بسهوه عن صلاته ما أقامها، لقد أدي بالطبع الحركات الظاهرية ولكنه كان ساهيا عن روحها ومقاصدها وعن ذكر ربه في صلاته.
فالمصلون هنا هم الذين أتوا بالحركات الشكلية الظاهرية للصلاة ولكنهم ما أقاموا الصلاة إذ غفلوا عن لب الصلاة ولم يدركوا مقاصدها فلم يعملوا على تحقيقها، وعلامة قبول الصلاة أن تؤدي المقاصد منها، أما المصلون المذمومون فهم المصلون أمام الناس بينما هم في الحقيقة عن صلاتهم ساهون فما انتفعوا منها بشيء فإنه لا نفع بحركات الأبدان إذا ما سهت النفوس، ذلك لأنه لا انتفاع لإنسان بعمل إلا بقدر ما نفذ إلى باطنه من آثاره، أما من ينكرون مقاصد العبادات فإنما هم يكفرون أو علي الأقل يكذبون بكثير من الآيات. ولقد زعم الأشاعرة أنه ليس ثمة علل غائية أو حِكَم أو مقاصد للأوامر الشرعية اتساقاً مع منطلقاتهم الكلامية، واحتجوا بأنه لو كان المقصد من الصلاة الانتهاء عن الفحشاء والمنكر لتحقق لكل المصلين ذلك، وهم بذلك خلطوا بين الإرادة المتعلقة بالكائنات المخيرة والتي اقتضتها منظومة أسماء الرحمة والهدي والتي تتبدى في المقاصد من الأوامر الشرعية وبين إرادة الله الكونية أو قضائه الكوني وكلاهما من مقتضيات المنظومة الكلية للأسماء الحسني، وكلاهما يترتب عليه تحقق الشيء المراد أو الأمر الذي تعلق به القضاء، أما المقاصد فلن تتحقق للكائن المخير إلا بمقدار إحسانه القيام بالأمر الشرعي.  
والنقيض الموضوعي للمصلين الساهين هم المصلون الموصوفون في سورة المعارج؛ فهم في صلاة دائمة بحضورهم مع رب العالمين، وهم على صلاتهم يحافظون، وهم لأماناتهم وعهدهم راعون، وهم لا يمنعون الماعون، ذلك لأنهم يعلمون أنهم وأموالهم لله رب العالمين وأنهم لا يملكون أموالهم وإنما هم فيها مستخلفون، وأن فيها حقاً لابد من إعطائه للسائل والمحروم، فهم حريصون دائما على إقامة وترسيخ الصلات التي أمر الله بها بين الناس، فهم الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ولا يفسدون في الأرض.
وكلمة "الصلاة" تُطلق أيضا على قراءة القرءان، لذلك فالساهون عن صلاتهم هم أيضا الساهون عن قراءتهم، فلا ينتبهون إلى معاني الآيات ولا إلى الأوامر التي تتضمنها؛ فلم يتأدبوا بآدابه، ولم يزدجروا عما نهى عنه.
-------
إن الله تعالى جعل إقامة الصلاة لذكره، فكيف يؤديها الساهي والغافل عنه؟ إنه من المفترض أن الإنسان يتزكَّى ويذكر اسم ربه فيصلي له، والصلاة تزيده ذكرا له، فكيف يسهو فيها عنه؟ وعلامة الساهي عن ربه ألا يذكره في خلقه وأن يكون للناس مكانة في قلبه تتجاوز مكانة ربه، وهذا هو حال من يراءون ويمنعون الماعون، وعلامة الذين هم عن صلاتهم ساهون أنهم لا يصلون ما أمر الله به أن يوصل فيمنعون عن نفوسهم بركات الصلاة بالرياء ويمنعون عن غيرهم الماعون.
*******
إن الرياء هو نوع من الشرك، وهو من عناصر منظومة الصفات الشيطانية، والمرائي لا يصلي لربه وإنما لغيره، وهو يطلب بعبادته ما لا يغني عنه من الله شيئا، ولن يزيده أداء الطقوس من الله إلا بعدا، فكل عمل صدر عن رياء ستكون آثاره وخيمة على الكيان الجوهري الإنساني، وقد تتفاقم هذه الآثار على قلب الإنسان فيختم على قلبه بالشرك الذي لا يُغتفر؛ فيهلك هلاك الأبد.
*******



هناك تعليقان (2):