سورة آل عمران 28
لَا يَتَّخِذِ
الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ
يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ
تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
معيار الحكم هو
اتباع دين الحق، بمعنى الإيمان بكل مكوناته وعناصره، ومن حيث ذلك ينقسم الناس إلى
مؤمنين وكافرين، فيجب على المؤمن أن يوالي المؤمنين، ويأثم إثمًا كبيرًا إذا
اتَّخذ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ.
إن الله تعالى
ممثل لدى الناس بالحق الذي يتضمنه كتابه، ومن هذا الحق منظومات قيم وسنن وعناصر
دين الحق، فمن عادى من يمثلونها ويدعون إليها ووالى من يعادونها فليس من الله في
شيء.
وكذلك قد تضطر
الأمة لمواجهة عدوّ كافر بدينها يريد أن يفتنها فيه، مثلما حدث مع مؤمني القرن
(الجيل) الإسلامي الأول، وفي هذه الحالة يجب على كل فردٍ في الأمة أن يعلن ولاءه
لها، وأن يتصرف بمقتضى ذلك، وبالتالي يصبح من كبائر الإثم المهلك موالاة أعدائها
الكافرين.
ولقد استثنى
الله سبحانه من أحوال النهي حال التقية فقال: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ
تُقَاةً} وقوله: {تَتَّقُواْ} من الاتقاء بمعنى تجنب المكروه، وعدى بمن لتضمينه
معنى تخافوا {تُقَاةً} مصدر تَقيته، كرَميته، بمعنى اتقيته ووزنه فعلة ويجمع على
تقى: كرطبة ورطب. وأصل تقاة: وقية من الوقاية. فأبدلت الواو المضمومة تاء والياء
ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها.
فالتقية سلوك
اضطراري طبيعي يوجبه أنه لا يجوز أن يلقي الإنسان بنفسه إلى التهلكة، فلا يجوز أن
يدخل المؤمنون في صراع مع قوة تفوقهم عددا وعدَّة عِدَّة مرات.
والتقية لا تلزم
المسلم بالميل القلبي أو بالموالاة القلبية، فكل إنسان يواجه قوة مادية دنيوية
عاتية لا يحق له أن يتورط في مواجهتها، والفضيلة المتفق عليها هاهنا هي الصبر،
وليس التحدي والاستفزاز.
والله تعالى
يحذر عباده بقوله {وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ
ٱلْمَصِيرُ}، فعلى الإنسان أن يحذر أن يتورط في المخالفة عن أمرٍ إلهي، وكما سبق
القول، قيم ومثل وسنن وأوامر الدين تمثل ذات الحقّ بالنسبة للإنسان، ولذلك يحذرهم
الله نفسه، ويبين لهم أم إليه، وليس إلى غيره، المصير.
والآية تثبت أن
لله تعالى نفسًا، هي كيانه وحقيقته، وهي التي تُسمَّى بالذات لتحرج الناس من
استعمال المصطلح القرءاني، وكلمة "نفس" هاهنا ليست مستعملة للتأكيد، بل
هي النفس الخاصة بالله تعالى، والتي هي فوق كل تصورات ومدارك البشر.
*******
الولي
هو جماع معاني المحب المحبوب والصديق الصدوق والصاحب والنصير والحليف، ولا يجوز أن
يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ في الدين مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ بهذا المعنى الجامع المذكور، ومن الواضح أن الآية تتحدث عن وجود
نزاع أو حالة حرب على أساس ديني مثل تلك الحالة التي كانت في العصر النبوي بين
الذين آمنوا وبين المشركين والذين كفروا، ففي هذه الحالة فإن اتخاذ الْكَافِرِينَ
أَوْلِيَاءَ يكون عملا من أعمال الخيانة العظمى (في مصطلح العصر الحديث).
فالكافر
الذي لا يجوز اتخاذه وليا هو الكافر بالمعنى الاصطلاحي، وهو الذي كفر بالرسالة
عمدًا مع سبق الإصرار بعد أن بلغته البلاغ المبين، واعتبر المؤمنين من حيث ذلك
أعداء له يفتنهم في دينهم ويظاهر عليهم وينتهك حقوقهم ويخرجهم من ديارهم وأموالهم
كما كان حال الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ في العصر
النبوي.
أما
التقية فلا يجوز اتخاذها عقيدة، فهي ليست أكثر من سلوك ممكن أو رخصة قد يضطر إليها
المسلم اضطرارا ليدرأ عن نفسه خطرًا أو عذابا أو فتنة في الدين، واللجوء إلى
استخدامها مفوَّض إلى تقدير المسلم للظروف والى درجة إيمانه واحتماله، ومن الأخذ
بالعزيمة ألا يلجأ إليها أبدا.
ولكن
اتخاذ التقية عقيدة هو أمر باطل، ذلك لأن ثمة فرقانا بين السلوك والعقيدة، فالسلوك
لا يكون عقيدة، ولكنه يمكن أن يترتب على عقيدة، ومع ذلك فإن التقية أفضل من إلزام
الناس بالخضوع المطلق للمتسلطين على الأمر من الظلمة والطواغيت وأهل البغي والجور
وجعل ذلك من الدين، وهي أفضل من إجلالهم والخضوع التام لهم، وفي كل الأحوال فإنه
علي المؤمن أن يعلم أن ثمة أحكاماً خاصة بالمضطر وأن الله تعالي لا يكلف نفسًا إلا
وسعها، فعليه أن يكون علي بصيرة من أمره وأن يتحمل مسؤولية نفسه.
ومن
كبائر الإثم أن يتخذ المؤمن كافرا وليا من دون المؤمنين، فذلك يدل على خلل في نفسه
ونقص خطير عنده سيتأكد كلاهما ويرسخ بسبب ذلك مما سيؤدي إلى تقويض شيء من مقاصد
الدين العظمي، وعلى المؤمن أن يقدم حق ربه على ما يتصور أن فيه مصلحة لنفسه.
والله
تعالى يُحَذِّرُ الناس نَفْسَهُ وَيذكرهم بأنه إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ، وهذا
التحذير يتضمن ما يلي:
1.
التحذير من
المخالفة عن أمره.
2.
التحذير من
محاولة معرفة كنه النفس (الذات) الإلهية، فهي فوق كل إدراك أو تصور.
ويلاحظ
أنه سبحانه بعد أن حذرهم نفسه سارع بذكر أنه رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ، فالتحذير هو من
باب الرأفة بهم، وهو سبحانه لا يكلفهم بما ليس في وسعهم وما لا طاقة لهم به.
ويذكرهم
الله تعالى بأنه يعلم كل شيءٍ عنهم وأنه لابد من يَوْمٍ تَجِدُ فيه كُلُّ نَفْسٍ
مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ
بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا، وكلّ ما هو آتٍ قريب، وذلك يقتضي من
الإنسان أن يبادر بإصلاح سريرته، وألا يضمر في نفسه ما يكره أن يطلع الناس عليه
وأن يزكي نفسه بأن يتطهر من مساوئ الأخلاق.
*******
إن
من أحب أحدًا فسيحب بالضرورة معرفة أي شيء عنه، وسيحب أن يصل إليه وأن ينعم بقربه
وأن يحظى برضاه، فهو يجب أن يسلك كل طريق إليه وأن ينتظره في مظان وجوده وأن
يتتبعه في مظان سيره، ولما كان الله سبحانه محيطًا بكل هذا الوجود وبكل السبل كانت
الحيرة في كيفية الوصول إليه مع العلم بأن الكل مغمور في بحاره قائم به، لذلك سنَّ
للخلائق طريقا إليه من سلك غيره ضل وهوى مهما شاهد ورأى، ذلك الطريق هو اتباع
الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله
وَسَلَّم، فهو سبيل الوصول الآمن إلى الله تعالى، واتباعه يعنى
اتباع ما أنزل إليه من ربه وهو هذا الكتاب العزيز فمن تركه من جبار قصمه الله ومن
ابتغى الهدى في غيره أضله الله.
أما
الوصول إليه سبحانه فهو اكتساب الإحساس الحقيقي بحضوره الذاتي والفعال والمؤثر
والتحقق بالكمالات الممكنة التي هي مقتضيات سماته، وكذلك إدراك تجلياته والتفكر في
آياته من حيث أنها من مقتضيات أسمائه، ورؤية كل ما هو من دونه كآلات له ومظاهر
لتفصيل كمالاته، ومعرفة سننه ورؤيتها أثناء عملها وسريانها، فاتباع الرسول هو
السبيل المتاح للناس كافة للفوز بمحبة الله تعالى، والاسم "الغفور
الرحيم" هو الحاكم على هذا الأمر، وهذا يعني أن مآل من عقد العزم على اتباع
الرسول هو الرحمة الإلهية، وفي سبيل ذلك سيتم غفران كل نقص -لا مفر منه- يشوب
أفعال الإنسان، والرحمة الإلهية هي صلة قائمة بين الله تعالى وبين عبده، تتمثل في
إفاضة النعم والهبات والعطايا التي يرقى بها كيان الإنسان ويتزكى.
وقوله
تعالى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا
يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} يتضمن أن الإعراض والتولي عن الأمر المذكور إنما يرجع إلى
كفرٍ كريه يعاني منه هذا المعرض، فعليه أن يبادر بعلاج نفسه وتطهيرها من آثار نقصه
وكفره.
*******
وقرأه يعقوب "تقِيَّة".
وتقاة هنا هي
حال مؤكد للفعل "تتقوا".
وفي قوله وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ
نَفْسَهُ نَفْسَ منصوبة لأنها في محل مفعول عليه، وليس كما يقولون منصوبة على نزع الخافض
لأن أصله ويحذّركم الله من نفسه.
فاستعمال الفعل "يحذر" في
القرءان مرتين متعديا بنفسه يعني لا محالة أنه متعدٍّ بنفسه.
ورغم
ورود النفس منسوبة إلى الله عدة مرات في القرءان فإن منهم من منع ذلك، ومنهم من
جوزه مع إضافة أنه من المتشابهات.
*******
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق