معنى إيتاء المثنى
قال تعالى:
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
ٱلۡخَلَّٰقُ ٱلۡعَلِيمُ (86) وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَٰكَ سَبۡعًا مِّنَ ٱلۡمَثَانِي
وَٱلۡقُرۡءَانَ ٱلۡعَظِيمَ (87)} الحجر
وٱلۡقُرۡءَانَ ٱلۡعَظِيمَ، وهو روحٌ من أمر الله ونور هاد، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ
وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ
عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} [الشورى:52]، {يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ
مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ
إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُون} [النحل:2]
والرسول أوتي سَبۡعًا مِّنَ ٱلۡمَثَانِي، وذكر المثاني مقترنًا بذكر القرءان يشير إلى
تشابه في الحقيقة والحكم والأهمية، لذلك فالمثنى المؤتى هو كِيان أمري روحاني
نوراني هاد، والاسم "المثنى" المفرد المعرف هو اسم نوع لكل كيان من هذه
الكيانات.
فإيتاء إنسانٍ
ما مثنى ما هو بمثابة التأييد بالروح المشار إليه في الآية: {.... أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ
وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا
الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ
أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُون}
[المجادلة:22]
إن لكل مثنى من المثاني الإلهية مقتضاه الأمري، هذا
المقتضى الأمري له تفاصيله ولوازمه وتجلياته، ومعني إيتاءِ إنسانٍ ما مثنيً من
المثاني أن يكون لديه استعداد أصيل أو مكتسب للتحقق بمقتضياته من الصفات والتوافق
مع مقتضياته من القوانين والسنن والتآلف مع جنوده، فإيتاءُ مخلوقٍ مثنى من المثاني
لابد له من آثار على شخصية من أوتي هذا المثنى وإمكاناتِه وملكاتِه وسماتِه
وأفعالِه ومجريات حياته.
فإيتاء إنسانٍ ما مثنى من المثاني يعني أن يتضمن
استعداده وكيانُه الجوهري ما يلزم ليتلقى مددًا إضافيا من حيث هذا المثنى وبحيث
تعمل أنساقُ القوانين والسنن والملائكةِ والجنودِ الخاصة به لصالحه ولتحقيق
مقاصده.
فالإيتاء أشدُّ ثباتًا وأقوى من الإعطاء، فالإيتاء
يترتب عليه أمر يكون مركوزا في الماهية أي
إنه لابد من أن تكون السمات التي يشير إليها المثني من السمات التي تُفصَّل إليها
الماهية حال تحققها، ويترتب علي ذلك استعداد ذاتي لقبول آثار المثنى والظهورِ وفقا
لمقتضياته، فبرسوخ السمةِ التي يعبر عنها المثنى في الماهية تقتضي القوانين والسنن
أن يُعامَل وفقًا لها؛ ويترتب عليه استعدادٌ ذاتي لقبول آثار المثنى والظهور وفقًا
لمقتضياته، فتكون أفعالُه وأقواله وتدبيراته وكلُّ ما ظهر منه وصدر عنه وكل ما
عومل به وآل إليه أمره مصداقا لذلك المثنى ومجالا لتجلياته.
وكما ذكرنا في كتبنا فإن الكيان الإنساني الجوهري
يتغير كدالة في آثار أعمال الإنسان الاختيارية، وذلك يكون مصحوبا بتغير مناظر في
الماهية The
quiddity, the essence مع ثبات الأنانية أو الأنية الإنسانية The
human I-ness.
ومن أعلى الأمور المسببة لسمو ورقي الكيان الجوهري للإنسان
والماهية المناظرة له إيتاء هذا الإنسان مثنى من المثاني.
إن إيتاء إنسانٍ ما مثنىً ما يعنى أن يعمل نسق
القوانين الذي هو من مقتضيات هذا المثنى وكذلك الكائنات والجنود الخاصة به لصالح
هذا الإنسان، فإيتاء إنسانٍ ما مثنى من المثاني يقتضي أن يكون لديه استعداد أصيل
أو مكتسب للتحقق بمقتضياته من الصفات والتوافق مع مقتضياته من القوانين والسنن
والتآلف مع جنوده وأن يكون هؤلاء الجنود مؤيدين له عاملين على إنجاح مقاصده.
والمثني كسائر أنواع الأسماء يشير إلى سمة محكمة،
فإذا كان المثنى اسمًا إلهيا كانت السمة إلهية، وإذا كان المثني صفة لإنسان كانت
الصفة من آثار السمة الإلهية.
إن إيتاء المثاني هو بالنسبة للكيان الجوهري أشبه بإضافات إلى المكونات الصلبة
Hardware
لجهاز الحاسب وعمل ما يمكن تسميته ببرمجة مدمجة دائمة Built-in
programming، وبالنسبة
للرسول كان بذلك مستعدا ومؤهلا ليتلقى القرءان العظيم، فكان لذلك بمثابة Software،
وقد كان بالنسبة له أيضًا ذكرًا، بمعنى أنه كان حاضرًا في ذاكرة العمل الرئيسة الدائمة
The
permanent working memory
الخاصة به، بحيث تكون أعماله وفقًا له، ومبينة له، ومصدقة له.
***
إن القول بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ قوي
عزيز هو كالقول بأنه رؤوف رحيم هو كالقول بأن الإنسان سميع بصير، فهو لا يعني أن
فيه من الألوهية شيئا، فقد كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ العبدَ المحض
لله تعالى، وبذلك علا مقامه فوق مقامات سائر المخلوقات، فيجب العلم بأن عباد الله
المصطفيْن الأخيار يكونون مهيئين لكي تتجلى فيهم وتظهر بهم السمات الأشد إحكامًا
والأعظم إحاطة.
فجعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ
حكيما عليما وقويا عزيزا هو كجعل الإنسان سميع بصيرا وكوصف الرسول بأنه بالمؤمنين
رؤوف رحيم، وما الصفات الإنسانية إلا من آثار الأسماء الإلهية، ولكن السمةَ
الإلهية مطلقةٌ واجبة لانهائية ذاتية، بينما الصفةُ الإنسانية محدودة نسبية مقيدة.
وعلى سبيل
المثال فلقد أوتي النبي سليمان عليه السلام المثنى المقتضى "غنيّ كريم"،
وكان الاسم الذي يربه ويتولى أمره هو الاسم الإلهي "الغنيّ الكريم"،
وبذلك كان لسليمان الثراء المعلوم والمُلْك العظيم، وقد كان له من الأصل الاستعداد
لكي يسأل ربه السؤال الوارد في الآية: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا
لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّاب} [ص:35].
*******
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق