الأربعاء، 20 أغسطس 2025

هل يجوز تقسيم الأسماء الحسنى إلى أسماء جلالية وأسماء جمالية؟

هل يجوز تقسيم الأسماء الحسنى إلى أسماء جلالية وأسماء جمالية؟

 

من المسائل التي تثار في مباحث الأسماء الحسنى ما يُسمَّى بمحاولة تقسيمها إلى أسماء جلالية (توجب الهيبة والخوف) وأسماء جمالية (توجب المحبة والرجاء). غير أن التدقيق في النصوص القرءانية، ومقاصد معاني الأسماء نفسها، يكشف أن هذا التقسيم فيه تكلف ظاهر، ولا أصل له في الكتاب العزيز.

 

1.    الأصل القرءاني في وصف الأسماء

  • القرءان الكريم وصف الأسماء جميعًا بأنها حسنى: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} [طه:8]
  • ومن أسمائه سبحانه الاسم "ذو الجلال والإكرام" الذي يتضمن صراحة سمة الجلال، وهو من الأسماء الحسنى، فيجب فقه معانيه ومقتضياته على ضوء ذلك، فضلًا عن أنه يجمع مع الجلال معنى الإكرام، مما يدل أن الجلال مقرون بالإكرام، والرهبة ممتزجة بالمحبّة.
  • فالأسماء الإلهية لا تُفصل إلى جلالٍ محض أو جمالٍ محض، بل كل اسمٍ يجمع مقتضيات متكاملة، قد يبرز منها جانب الهيبة أو جانب اللطف، ولكنها مترابطة في النهاية.

 

2.    المعنى الحق للأسماء الحسنى

  • لكل اسمٍ من الأسماء الحسنى معانيه، ودلالاته، وتجلياته التي تستوجب في قلب المؤمن هيبةً ومحبةً معًا.
  • فمثلًا: اسم العليم يوجب الهيبة لأنك تهاب من يعلم عنك بعض أسرارك، فكيف بمن يعلم عنك كل شيء ظاهرًا وباطنًا!، وفي الوقت نفسه يوجب المحبة لأن علمه شامل وحكيم، لا جهل فيه ولا عبث.
  • واسم الغفور يبعث الرجاء والاطمئنان، لكنه يوجب كذلك الخشية، لأن علمك بسعة مغفرته يجعلك تستحي أن تعصي من هذا شأنه.

 

3.   إشكاليات تقسيم الأسماء

  • تكلف اصطلاحي: لأن محاولة وضع حد فاصل بين "جلالية" و"جمالية" تُخِلّ بالمعنى المركب لكل اسم.
  • غياب الأصل الشرعي: فالقرءان لم يشر إلى هذا التقسيم، بل وصفها جميعًا بالحُسن.
  • التباس في التطبيق: إذ يعتمد أغلب من يتحدثون عن هذا التقسيم على القائمة الشائعة للأسماء، التي تضم أسماءً غير ثابتة، أو أسماء لا يصح أن تُعد من الأسماء الحسنى، ويغفلون عن أسماء قرءانية صريحة.

 

4.    خطأ الاقتصار على القوائم الشائعة

  • كثيرٌ ممن يتناولون الأسماء الحسنى يبنون تصوراتهم على قوائم مشهورة ترجع إلى اجتهادات الرواة، ولا يميزون بين الثابت والضعيف.
  • وبهذا يُغفلون عن أسماء وردت في القرءان بجلاء، ويتداولون أسماء لم ترد فيه أصلًا.
  • كما يجهلون ما ذكره القرءان من المثاني والحلقات الإلهية، وهي ضمن البنية المتكاملة للأسماء الحسنى التي تُظهر ارتباطها العميق، وتكشف أن كل اسمٍ يتكامل مع غيره في شبكة دلالية واحدة.

 

الخلاصة

الأسماء الحسنى كلها أسماء حُسنى، فلا مجال لتقسيمها إلى "جلالية" و"جمالية" على نحو مصطنع.

  • كل اسمٍ يجمع في داخله ما يوجب الهيبة والمحبّة معًا.
  • القرءان لم يشر إلى هذا التقسيم، بل جعله البشر من باب التصنيف الذهني المتكلَّف.
  • الواجب هو فقه المعاني الحقيقية للأسماء كما وردت في القرءان، وفهم شبكة الارتباطات بينها، وعدم الاقتصار على القوائم الشائعة غير المحكمة.

 

*******

الثلاثاء، 19 أغسطس 2025

مقدمة كتابنا رقم 136، الحقائق والشؤون الإلهية والمتشابهات، الطبعة الثانية، 2018

 مقدمة

 

يقدم هذا الكتاب حشدا هائلا من المعلومات والأسرار المتعلقة بالحقائق والشؤون الإلهية، والتي توصل إليها المؤلف بفضل الله تعالى، كما يقدم الإجابات عن الأسئلة والمعضلات التي حيَّرت البشرية منذ ظهورها، ومن بينها العلاقة بين هذه الحقائق وبين المسائل والقضايا الوجودية، ومنها قضية الوجود والمصير البشري، وكل ذلك من ثمرات اتباع دين الحق والالتزام بمناهجه، وهذه المعلومات على درجة عالية من الخطورة والأهمية لمن أراد أن يزكِّي نفسه وفقا لمنهج دين الحق ولمن أراد أن يطلع على الحقائق الكونية وأسرار الوجود الإنساني.

كما يقدم الكتاب بيانا وتفصيلا لمسألة المتشابهات، ويتضمن معالجة جذرية وجديدة وأصيلة لهذه المسألة.

ويجب الإشارة إلى أن علم الأسماء الحسنى الإلهية يشكل الجزء الأكبر والمحوري من علم الحقائق والشؤون الإلهية، ولذلك تم تخصيص كتب مستقلة له، وكذلك الأمر بالنسبة للأفعال الإلهية، فهذا الكتاب متمم للكتب السابقة، وهي تتضمن الإيمانيات الإسلامية والكثير من الحقائق العليا والوجودية.

 

*******

 

 

الحقائق والشؤون الإلهية 1

 

لله تعالى كيان حقيقي له الأسماء والأفعال والسمات؛ ولقد ألفوا أن يُطلقوا عليه لفظ "الذات"، ولفظ الذات مشتق من "ذو"، هو ليس بلفظ قرءاني، إذ لم يرد منسوبا إلى الله تعالى في القرءان، لذلك فالإنسان مخير بشأنه، ونحن نستعمله أحيانا مع الأسماء والسمات (الصفات)، فنقول الذات والسمات، وهو لا يغني عن ضرورة استعمال لفظ الكيان أو لفظ الكينونة في حالات كثيرة، واللفظ الأفضل هو "النفس" الوارد في قوله تعالى: {... كَتَبَ رَبّكُمْ عَلَىَ نَفْسِهِ الرّحْمَةَ ....} الأنعام:54، {...وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ} آل عمران28، {.... وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ...} آل عمران30، ولكن الناس لن تستسيغ مثل هذا الاستعمال فهم لم يألفوه، ولذلك نجد أنفسنا مضطرين لاستعمال لفظ "الذات".

فالمقصود بالذات الإلهية هي نفسه سبحانه، وهي التي ذكرها في الآيات المذكورة، هذه الذات هي عين كينونته المطلقة ووجوده المطلق لنفسه بنفسه والذي قامت به أسماؤه العظمى والحسنى، وهي أيضًا قيوم كل شيء، ولها الإحاطة بكل الكيانات والمعاني والمباني فلا يُحكم عليها بشيء ولا يُعرف لها كنه ولا تُعرف هي إلا من حيث الأسماء التي هي من لوازمها، ولا تُعرف الأسماء من حيث هي وإنما من حيث مجالاتها ومظاهرها وآلاتها من الآيات والكائنات، كما لا تعرف إلا من حيث مقتضياتها من القوانين والسنن، وكما لا يمكن معرفة شيء عنها إلا من آثار أسمائها فإن تلك الأسماء هي حجب عليها بمثل ما أن العلم بها هو الوسيلة إليها.

فالله سبحانه ليس مجرد معنى أو نظام إدارة الكون أو نسق من القوانين، وإنما له كيان حقيقي هو الذات الحقيقية التي لها الوجود المحض والكينونة المطلقة والحسن المطلق، فالذات هي الكيان الإلهي، والأسماء من لوازم الذات، والسمات من لوازم حقيقة الذات، وتلك الذات تمارس مقتضيات ما هو لها من السمات دونما حاجة إلى آلات أو أدوات وتمارسها أيضًا بما أوجدت ومن حيث ما أوجدت من آلات وأدوات، فذلك من لوازم طلاقتها اللانهائية.

أما السمة فلا تكون ذاتا وإنما هي قائمة بالذات، وإنما تتجلى الذات من حيث ما هو لها من السمات، والذات من حيث سمة من سماتها هي الاسم الوجودي الذي يشير إليه الاسم اللفظي، أما ما ينتج عن الذات من حيث ممارستها لمقتضيات الأسماء والسمات فهو لا يتساوى مع الذات على أي مستوى من المستويات، فللذات على كل ما أوجدته أو صدر عنها التقدم والعلو الذاتي المطلق.

وكما أن للذات العلو اللانهائي المطلق عن الزمان والمكان والأكوان والمدارك والتصورات فكذلك الأمر بالنسبة للوازمها من الأسماء، ولوازم حقيقتها من السمات.

والذات الإلهية لها البساطة المطلقة التامة فلا تركيب فيها، لذلك فلا سبيل إلى إدراك أي شيء عنها إلا ما كان من آثار أسمائها التي هي من لوازمها، فلا تركيب في ذاته سبحانه، وكل ما هو من دونه مركب، إذ لابد له من كيان خلقي وكيان أمري، ولو كان سبحانه مركبًا لسبقت وجودَه أجزاؤه ولكان ثمة حاجة إلى من يجمعها، ولو كان كذلك لكانت أجزاؤه غير ذاته فيكون وجود ذاته محتاجا إلى وجود غيره ولكان لغيره التقدم عليه بما في ذلك التقدم الزماني، والحق هو أن له سبحانه الوجود الذاتي المطلق الذي له العلو والتقدم بكل مقياس أو معيار على كل ما هو من دونه بما في ذلك كافة أنواع الزمان، فالزمان من إبداعه وتقديره، وهو سبحانه المحيط به من كافة أطرافه.

ومما لا ريب فيه أن التصور الذي يقدمه ما يسمى بعلم الكلام أو أصول الدين أو بعض المذاهب الفلسفية عن الذات الإلهية ليس بالصحيح، فأولئك، بصفة عامة، ما نزهوا الله حقّ تنزيهه، وما عبدوا إلا إنسانا مضخما أو معنىً مطلقا مجردا أو ذاتا ساكنة جامدة، وما عبدوا الإله الحيَّ الفعال الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا.

فالإله طبقا لآيات الكتاب العزيز هو إله يتسم بالحياة والأسماء الحسنى والفعالية المطلقة ويرتب بعض أفعاله على أفعال عباده فيثيب المحسن ويعاقب المجرم، فثمة تفاعل حي وديناميكي بين الرب وبين العبد لا سبيل إلى إنكاره.

والربّ هو الذات من حيث تجليها بالسمة التي تستخدم المخلوقات لتحقق بهم مقاصدها الوجودية، فعبودية الإنسان لربه هي عين كونه مستخدَمًا لتحقيق المقاصد الوجودية، ولذلك خلقه، والإنسان بكافة أطواره وأفعاله هو من لوازم تحقيق ذلك، ويبقى الإله رغم كل ذلك على ما هو عليه، فمجال التفاعل ومحل آثاره هو العبد وغيره من المخلوقات، أما الربّ سبحانه فهو باقٍ على ما هو عليه   Immutable.

وطبقا لما يقدمه القرءان فإن الله سبحانه ما خلق كائنا إلا بالحق، وهو رقيب عليه ومعتنٍ بأمره ولم يتركه أبدًا سدى مهما هان في نظر الآخرين شأنه، أما الذين لا يبالي بهم فهم الذين لم يبالوا في حياتهم به، ولم يرتبوا أي أمر في حياتهم على الإيمان بوجوده، ولكن ذلك هو من حيث المرتبة الدينية الشرعية التي اقتضتها منظومة أسماء الرحمة والإرشاد والتشريع التي مجالها الكائنات المخيرة، أما على المستوي الكوني الوجودي فهو معتنٍ بكل ما خلق وآخذ بناصية كل ما خلق، أما الصورة التشبيهيـة التي يقدمها له عباد الأسلاف والحشوية وأضرابهم فإنما كانت تكبيرا للصورة التي ألفوا عليها سلاطينهم وخلفاءهم، ولقد ضحوا بجلّ ما جاء في القرءان في سبيل التمسك بالصورة التي صاغها لهم أسلافهم والتي لا تليق أبدًا بمن له الكمال الذاتي الواجب المطلق والأسماء الحسنى.

وأعلى مراتب الذات الإلهية هي تلك التي يكون فيها الوجود هو الكينونة هو الكمال الذاتي الواجب وهو الحسن المطلق وهو الماهية أي الحقيقة الذاتية، والمقصود بالوجود هنا حضوره سبحانه بذاته لذاته، ووجدانه لذاته بذاته، فذلك الأمر فوق كل إدراك وتصور، ولا قبل لملك أو إنسان بإدراك شيء عن تلك المرتبة وليس لدى الإنسان أصلًا من الحواس أو اللطائف أو المفاهيم والألفاظ والإمكانات ما يمكنه من ذلك.

ولكل المراتب الذاتية العليا الإحاطة بالزمان ولقد كانت قبله ولها الحكم عليه، وإنما كان الزمان الأصلي من مقتضيات تتابع التجليات والتنزل وتفصيل الكمالات، أما زمان هذا العالم فلقد نشأ معه مرتبطًا بالمكان كإطار لازم لفتق النواة الكونية الأصلية، ولقد عُلِّق هذا الإطار بالمكونات المادية وحركتها فلا انفصال لذلك الإطار عن تلك المكونات ولا وجود له ولا لها بدونها أو بدونه، والزمان يستند إلى تتابع التجليات وتنوعها وكون بعضها أعظم إحاطة من الأخرى أو أكثر إحكاما منها وكون بعضها تنزلات للأخرى، وكان لابد منه لأنه لا يمكن لعالم أو كون ولو كان لا نهائيًّا من إظهار كل تفاصيل الكمال الإلهي المطلق..

وكل ما يمكن قوله فيما يتعلق بالمراتب الذاتية هو محاولات قلبية لإدراك الأمر استرشادًا بالقرءان الكريم وتذوق بعض آثار آثارها إذ لا قبل للإنسان المحدود المقيد بإدراك اللانهائي المطلق لأنه من حيث طبيعته الذاتية لا يدرك إلا الأمر المفصَّل من حيث أنه هو الأداة المثلى اللازمة للتفصيل.

ولقد كان هو سبحانه في المراتب المشار إليها عليما بذاته وبحقيقته الذاتية والتي هي هاهنا عين الحسن المطلق وكذلك عليما بكل لوازمها من سمات الكمال، وكان علمه عين ذاته بمعنى أن ما علمه كان هو الذات نفسها فكان هو العالم والمعلوم.

والسمات التي علمها لذاته في تلك التجليات هي سماتها الذاتية التي هي لوازمها ولا انفكاك لها عنها، فهو العليم، وعلمه هاهنا هو عين الذات بالمعنى المشار إليه هاهنا وبمعنى بأنه ليس بحاجة إلى أجهزة أو آلات لتحصيل العلم أو المعلومات، ثم تتابعت تجلياته الذاتية لنفسه بنفسه وفق ما علمه بها فكانت حضرات التجليات الذاتية الواجبة والمسماة بالأسماء العظمى، وكان منها تجل متقدم عليها وله الاحاطة بها هو الاسم الأعظم.

ثم تتابعت التجليات التي كانت تفصيلا لذلك الاسم الأعظم من حيث تميزها بظهور سمة محكمةٍ ما ظهورا يفوق ظهور السمات الأخرى، فبذلك الظهور تميزت الأسماء ومن ثمَّ تميزت السمات إذ لا تميز لها في حضرة الإحكام السابقة أو البطون السابق، فلا تميز إلا بالظهور ولا ظهور إلا بتميز الأسماء من حيث السمات، فالاسم الذي يكون للسمة العلمية فيه السبق والتقدم على السمات الأخرى هو الاسم العليم مع استمرار وجود كل السمات الأخرى.

الاثنين، 18 أغسطس 2025

مقدمة كتابنا رقم 115، الأفعال الإلهية والحرية الإنسانية، طبعة ثانية، 2017

 مقدمة

 

يقدم هذا الكتاب حشدًا هائلا من المعلومات والحقائق الإلهية التي توصل إليها المؤلف بفضل الله تعالى، كما يقدم الإجابات عن الكثير من الأسئلة والمعضلات التي حيَّرت البشرية منذ ظهورها، ومن بينها العلاقة بين السمات والأفعال الإلهية وبين الصفات البشرية، ومسألة القضاء والقدر، وحقائق ما هو منسوب إلى الإنسان من مشيئة وإرادة واختيار وحرية، وكلها من ثمرات اتباع دين الحق والالتزام بمناهجه، وهذه المعلومات على درجة عالية من الخطورة والأهمية لمن أراد أن يزكِّي نفسه وفقا لمنهج دين الحق ولمن أراد أن يطلع على الحقائق الكونية وأسرار الوجود الإنساني.

وكل فعل من الأفعال الإلهية قد يكون قد يكون مقتضى اسم من الأسماء الإلهية، وقد يكون مقتضى منظومة من منظومات الأسماء، وهذا الكتاب يتحدث بصفة أساسية عن الأفعال التي هي من مقتضيات منظومات الأسماء مثل المشيئة والإرادة والقضاء ... الخ، لذلك، فهذا الكتاب مكمِّل لكتب الأسماء.

 

*******

 

 

 

 

الباب الأول

*الأفعال الإلهية

 

الله تعالى هو الفعال، فهو فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، وذلك يعني أن له الفعالية المطلقة، ومن أسمائه الحسنى "الفعَّال"، قال تعالى:

{فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} البروج16  *  {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} هود107

{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} الأنبياء104  *  {لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ }الأنبياء17  *  {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّا آتَيْنَا حُكْما وَعِلْما وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ } الأنبياء79

واللفظ "فعل" له دلالتان، فهو من ناحية ينوب عن كل الأفعال الخاصة الأخرى، الذاتية، والمتعدية الأثر إلى الغير،  كالحياة والعلم والتكلم والوحي والذكر والتنعيم والتعذيب والاستدراج والرضى والغضب والحب والتدبير والتصريف والتجلي والاختيار والإنزال والتنزيل .... الخ.

ومن ناحية أخرى يُعبَّر عما به يتحقق ما وقع عليه الاختيار من أفعال وما كان مرادًا منها.

والفاعل الحقيقي هو الله سبحانه، ذلك لأن كل سمات الكمال هي بالأصالة له، فهو الفعال لما يريد، فكل فعل من حيث هو فعل ينسب إليه لأنه كان بمقتضى سننه، أما من حيث محدودية الفعل أو كونه يتضمن مخالفة لأمر شرعي فإنما صدر من حيث النقص الذاتي للمخلوق فهو ينسب إليه، ولا يجوز أن يوصف به الله تعالى، ولا أن يُنسب إليه.

فالفعل الصادر عن إنسانٍ ما إنما كان بمقتضى طبيعته الذاتية، وهو لذلك يكون محلا لآثار الفعل بمقتضى السنن، وطبيعة الإنسان تتضمن صفات كمال هي مقتضيات سمات الحسن الإلهية في الطبيعة الإنسانية، كما تتضمن تلك الطبيعة صفات نقص هي أمر ذاتي خاص بهذا الإنسان ويتميز به عن غيره، لذلك فهو الأولي بآثار فعله.

والله سبحانه لا يتصف بصفات مخلوقاته، ولكن صفات كمالهم النسبي المقيَّد تشير إلى سمات حسنه المطلق، ولولا ذلك لما علموا شيئا عنه، وكل مخلوقات الله تعالى، وكل ما هو لهم من جوارح وإمكانات وقدرات، آلات لله عزَّ وجلَّ يفعل بها ما يشاء ويستعملها كيف يشاء؛ فهو يعذب المشركين عند القتال بأيدي المؤمنين وهو يحيي الأرض بالماء الذي ينزله من السماء.

فالفعل قد يُنسب إلى الآلة الظاهرة كما يُنسب إلى من استعملها، ولكن يجب الحذر فلا يجوز أن يُنسب إليه سبحانه الأفعال التي هي مقتضي النقص الذاتي المحض لهذه الآلات والذي يحوجهم إلى الأكل والشرب وغيره.

ومع ذلك فمن حقه سبحانه أن ينسب إلى نفسه بعض أفعال وشئون عباده على سبيل التنزل أو للتعبير عن عظم الأمر أو للتشريف أو لبيان رضاه عن الفعل، قال تعالى:

{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)} الأنفال

ولقد ورد في إحدى المرويات قوله: "يا عبدي استطعمتك فلم تطعمني" فهو يبين هاهنا بأسلوب مجازي مدي خطورة أن يُترك أحد الناس جوعانا.

*******

إن لله سبحانه الفعالية المطلقة؛ أي له كل فعل حقيقي وكل تأثير مطلق، وليس لمخلوق أية قدرة على إحباط آثار الفعالية الإلهية، بل إن فعاليته هو نفسه من مظاهر الفعالية الإلهية، وبها عرف شيئا عنها.

فكل مخلوق في كل حين لكي يكون فعالا لابد له من مدد لا ينقطع من فعالية الله وتأثيره، ولكن فعالية المخلوق محدودة مقيدة بحكم طبيعته المحدودة المقيدة، وهي تكشف أيضًا ما لديه من نقص كامن في طبيعته الذاتية، ولا يمكن نفاذ تأثيرها إلا بسماح المشيئة الإلهية؛ أي بتوافق مشيئة المخلوق مع منظومة السنن الكونية التي لا يستطيع أحد من المخلوقات تغيير شيء منها.

وقد رووا أن الرسول قال: "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بسيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ... "، فهذا تعبير عن ثبات منظومة السنن وعن أن الأمر الذي حتَّمته لا سبيل إلى دفعه أو تغييره، وهذا ما نصَّت عليه آيات القرءان نصًّا صريحا:

{... وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلا} [الإسراء:77]، {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} [الأحزاب:62]، {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} [الفتح:23].

وتوافق الفعل الإنساني مع طبيعة الإنسان الذاتية وصدق تعبيره عنها وصدوره بمقتضى اختيار الإنسان وإرادته كل ذلك هو مناط مسئولية الإنسان عن فعله ومناط كون الإنسان محلا لتلقي تأثيرات هذا الفعل، هذه التأثيرات تؤدي إلى تغيير صورة الكيان الجوهري شديد السيولة والتأثر، وهي التي تتمثل في الجزاء الوافي في الدنيا والأوفى في الآخرة عندما ينقلب الباطن ظاهرا.

*******

يظن البعض أن الإيمان بأن الله هو الفاعل الحقيقي وأنه الفعال لما يريد يتنافى أو يتعارض مع حتمية الأخذ بالأسباب العادية الظاهرة كحتمية السعي طلبا للرزق مثلا، ولكن من يسعى وهو مؤمن بأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين هو يوقر في نفس الوقت القوانين والسنن التي هي مقتضيات المشيئة الإلهية والأسماء الحسنى، فهو بذلك يحظى برضا وتوفيق من ربه، فهو الذي اقتضى وقدر هذا النظام الكوني، وهو الذي ربط الأمور ببعضها وجعل للفعل آثاره ونتائجه.

ولكن على الإنسان أن يعلم أن ثمة أسبابًا خفية أيضا، وبذلك يصح الافتقار الدائم من العبد إلى ربه ويظهر أن الله هو الغني الحميد، لذلك فعلى الإنسان السعي الجاد مع التفويض وصدق التوكل على الله.

*******

إن الفعل الإلهي يتضمن نقل الكيانات من حالة إلى أخرى ومن ذلك نقلها من إحكام إلى تفصيل ومن تفصيل إلى إحكام أو من حالة أعلى إلى حالة أدني أو من حالة أدني إلى حالة أعلى أو من بطون إلى ظهور نسبي أو من ظهور إلى بطون نسبى …. إلخ، وكل ذلك طبقا لطبيعة الكيان ذاته.

*******

الأحد، 17 أغسطس 2025

من كتابنا رقم 138، نظرات في المذاهب 1، 2018

 مقدمة

 

هذا الكتاب هو بصفة عامة تجميع لبعض ما تناثر في كتبنا وفي الرسائل التي تمَّ نشرها على الشبكة الدولية للمعلومات من نظرات في المذاهب السائدة المحسوبة على الإسلام، هذا فضلًا عن بعض النظرات الجديدة التي لم يسبق نشرها.

وهو لذلك يفترض في القارئ أن يكون ملمًا بعض الشيء بهذه المذاهب، وكذلك ببعض مصطلحاتنا.

وليس المقصود من الكتاب تقديم دراسة وافية جامعة شاملة لهذه المذاهب، وإنما هو بمثابة نظرات في بعض عناصرها ومكوناتها من حيث دين الحق الذي يتخذ من القرءان الكريم المصدر الأوحد في الأمور الكبرى والمصدر الأعلى في الأمور الثانوية.

ولقد صدر من قبل في هذا الإطار كتاب نظرات في السلفية 1، 2016، ويمكن اعتباره بمثابة جزء من أجزاء هذا الكتاب.

 

******* 

*المذاهب التي حلَّت محل الإسلام

 

إنه لابد من نسق معرفي يمكن الاحتكام إليه عند النظر في أمر الأديان والمذاهب، هذا النسق قد يكون مذهبًا فلسفيًا أو منطقيًّا أو دينًا معينًا أو مذهبًا معينًا، فلا يمكن الاحتكام في الأمور الدينية إلى الفراغ مثلا، ونحن ننظر في أمور الأديان والمذاهب السائدة من حيث النسق المعرفي الخاص بدين الحق الذي سبق تقديمه وتبيينه.

ولذلك لكي يتضح المقصود بمصطلح المذاهب التي حلَّت محلّ الإسلام كان يجب أولا تقديم معنى مصطلح دين الحقّ.

فالمقصود باصطلاح المذاهب التي حلَّت محلّ الإسلام تلك المذاهب التي حلَّت محل دين الحقّ الذي سبق تقديمه، فهي ليست هو لأنها لا تمثله تمثيلا كاملا، وهي تختلف عنه في البنية وفي الأسس والمنظومات والعناصر والأمور وموازين الأمور والمصادر.

وهي حلَّت محله لأنها هي التي يعرفها الناس ويأخذون بها، بينما يجهلونه هو ولا يعملون بأكثر أوامره.

ولكونها حادت عن الدين الحق فقد اختلفت مصادرها كما اختلف ترتيب هذه المصادر فيما بينها، وبذلك فرق الناس دينهم.

ومما لا شك فيه أن تفريقَ الدين هو إثم من كبائر الإثم، ولقد نهى الله تعالى عنه، قال تعالى:

{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} الشورى13.

ولقد أعلن الله تعالى في القرءان براءة الرسول من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} الأنعام159.

بل لقد أعلن الله تعالى أن الذين فرقوا دينهم الفرحين بما هم عليه من المشركين، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ{30} مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ{31} مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ{32}} الروم.

لذلك من اتبع مذهبًا جازما أنه الدين الصحيح لمجرد أنه ألفى عليه آباءَه هو ضال مشرك، وبالطبع يزعم أتباع كل مذهب أن لديهم الإسلام الصحيح، بل يزعم بعض عتاة المجرمين المتمذهبين أن من خالفهم من المسلمين هو أكفر من اليهود والنصارى!! ويبيحون لأنفسهم دمه، وهذا يكشف أنهم اتخذوا من سدنة مذاهبهم ومقولاتهم أربابًا من دون الله تعالى، فهم لا يعنيهم في شيء أن يكون أتباع المذهب الذي كفَّروه يؤمنون بالله وكتابه ورسوله واليوم الآخر! فالمهم عندهم هو موقفهم ممن اتخذوهم أربابا حقيقيين ومشرعين، فهؤلاء الأرباب المزعومون هم بذلك أعز عندهم من الله وكتابه ورسوله ودينه!

والتشريع في الدين هو بالأصالة لله تعالى، فالشريعة تكون بالأمر الإلهي وبالجعل الإلهي، قال تعالى:

{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ }الجاثية18، {....لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}المائدة48، {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} الشورى13، {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الشورى21.

وبذلك فكل من ادعى لبشر سلطة التشريع الديني يكون قد أشرك بالله تعالى لكونه قد زعم شأنا وحقا إلهيا لمخلوق من مخلوقات الله تعالى.

وآية الشورى 21 تلمح إلى أن التشريع ممكن ولكن بالإذن الإلهي، ولا يكون ذلك بالطبع إلا لمن يتلقى الوحي بالطريقة الشرعية الرسمية مثل الأنبياء المرسلين، فالرسول كان مأذونا له بالاختيار لأمته في أمور العبادات العملية مثل الصلاة والحج فاختار الأيسر لأمته، ولقد أشار الرسول إلى ذلك بموقفه ممن قال في شأن الحج: "أفي كل عام يا رسول الله؟"، فأعرض عنه عدة مرات ثم قال ما معناه إن الحج مرة واحدة في العمر وأشار إلى إنه لو قال "نعم" لوجبت، وهذا التشريع يكون في إطار ما هو معلوم ومقرر ومذكور في القرءان.

ولكن بعد ختم النبوة لم يعد ممكنًا لأي مخلوق أن يأتي بقول أو رأي أو تشريع ثم ينسبه إلى الله تعالى، فكل رأي أو قول نتج عن استعمال الإمكانات الذهنية البشرية أو الآليات البشرية مثل الإجماع أو القياس أو الاستحسان أو الاستصلاح لا يجوز أن يعتبر تشريعا دينيا، وإنما تلزم طاعته من حيث وجوب طاعة أولي الأمر إذا كان صادرا عن أولي أمر حقيقيين، ولكن لا يجوز لأحد اعتبارهم مشرعين في الدين.

والحق هو أن أي إحداث في الدين يكون عادة على حساب جوانبه الجوهرية، وهذا ما حدث وأدَّى إلى نشأة المذاهب التي حلت محلّ الإسلام.

ولو مثلنا دين الحق بجهازٍ ما فأتباع أي مذهب لا يمكن أن ينتفعوا به حق الانتفاع، ذلك لأن كل مذهب استبعد منه بعض الأجزاء الأساسية أو حطم بعض الأجزاء الجوهرية كما استبدل ببعضها أجزاء أخرى من لدنه وأعاد ترتيب ما تبقى دون علم، هذا مع الحفاظ على بعض الشكل الخارجي وبعض المسميات، فلا يمكن للجهاز الناتج أن يؤدي دوره، ولا يمكن أن يقال إنه هو.

فلا يمكن لجهاز الكومبيوتر مثلا أن يؤدي دوره بعد انتزاع وحدة المعالجة المركزية، ولا يمكن لأحد أن يشتريه على هذه الحال على أنه جهاز كمبيوتر، وهذا ما فعله سدنة المذاهب عندما استبعدوا أركان الدين الجوهرية ومقاصده العظمى الحقيقية وجعلوا غاية همهم ضبط الأمور الشكلية الخارجية أو الانتصار لبعض الشخصيات التاريخية.

أما دين الحق فهو غريب ولا يتبعه إلا قليل من الناس، وقد يكون ذلك بدون علمهم، ومنهم هؤلاء الذين عقدوا العزم على الالتزام بكل أمر قرءاني وعلى التحلي بالتقوى ومكارم الأخلاق، ولم يخوضوا خوضا في محدثات المذاهب ولم يتعمقوا فيها بل نأوا بأنفسهم عنها، هؤلاء هم الذين سبقت لهم الحسنى.

*******

أمور لازمة للحكم على أي مذهب

يجب عند بحث أمر أي مذهب محسوب على الإسلام النظر فيما يلي:

1.       مدى اتساق المذهب مع الرسالة الحقيقية والأساسية للإسلام، وهي القرءان الكريم.

2.       المصادر الحقيقية للمذهب، والوزن الحقيقي الذي يعطونه لكل مصدر.

3.       عقيدته الحقيقية في الإلهيات؛ أي ما لديه من مفهوم عن الإله.

4.       عقائده ومسلماته الحقيقية التي يعطيها الوزن الأكبر.

5.       حقيقة مقولاته وليس ما يقوله سدنته ومتبعوه عنه.

6.       مدى الاتساق في عقائده ومقولاته.

7.       منظومة القيم والمعاني الحقيقية السارية في نفوس متبعيه

8.       مقاصده الحقيقية.

9.       تاريخه الحقيقي وعلاقات متبعيه بالآخرين.

10.   حقيقة منتجاته، بمعنى أنه يجب النظر في المستوى الحقيقي للأفراد والشعوب التي تعتنقه، فمدى نجاح كل مذهب هو الحالة الحقيقية لمتبعيه.

والعبرة إنما هي بالعقائد والأمور الراسخة في الدين أو المذهب، وليس فقط بما يضمنونه كتبهم أو ما يتشدقون به أو ما يتمشدقون به أو ما يتفيقهون به.

*******

السبت، 16 أغسطس 2025

مقدمة كتابنا رقم 187، نظرات في مرويات النووي، 2021

 

مقدمة، ونظرات عامة في المرويات

 

كتاب "الأربعون للنووي وتتمَّة الخمسين لابن رجب" يتضمن 42 مروية منتقاة، أكملها ابن رجب إلى خمسين مروية.

وهذا الكتاب يقدم نظرات في هذه المرويات.

وبداية يجب العلم بأنه لا يجوز التحرج من فحص المروية وإعادة النظر فيها لزعمهم أنها حديث الرسول أو عن الرسول، أو لاستعمالهم عبارة "قال الرسول" فيها، وذلك لما يلي:

1.         هذه المرويات هي مجرد أخبار نسبها أتباع أحد المذاهب إلى الرسول، ولا يوجد أي برهان قاطع على أنها من كلامه بالفعل، ولا يمكن أثبات ذلك بأي طريقة قطعية.

2.         كل مرويات هذا الكتاب، وكل المرويات بصفة عامة، أخبار آحاد، لا يتحقق بها شرط البلاغ المبين، وذلك على عظم ما تتحدث عنه، وما تلزم الناس به من أمور الدين، هناك، مثلا، مروية يقوم عليها جزء كبير من نظام الميراث، هي خبر واحد، مشكوك فيها من كافة جوانبها.

3.         احتمال صحة هذه المرويات، طبقًا لنظرية الاحتمالات، ولما دهم الأمة من كوارث فاجعة وكوارث هائلة قبل تدوينها، صغير، فلا يمكن أن يُعتد بها في أي شأن كبير أو أمرٍ خطير.

4.         رغم أن المرويات هي الحاوية للسنة كما يقولون فإن آلهة وأرباب الدين السني لم يعيروها أدنى اهتمام، بل اتخذوا كل ما يلزم لتبديدها ولمحوها محوا.

5.         السؤال المحوري الصادع: "لماذا لم يأمر عمر أو عثمان أو معاوية بتشكيل لجنة للتدوين الموثق لسيرة الرسول وأقواله وأفعاله؟" لم يقدم سدنة الدين السني، كإجابات على هذا السؤال إلا كل ما هو هزيل مضحك مبك هزلي.

6.         أكثر المرويات منسوبة إلى شخصيات هامشية! لذلك يبرز السؤال الآخر: أين مرويات أكابر أهل القرن الأول؟ ألم يحدث أن تحدث أحدهم يومًا ما في أمور الدين؟ ألم يخطر ببال أحدهم أن يدون شيئا عن الرسول أو عن قصته هو مع الرسول؟ ألم يسألهم أحد المسلمين الجدد يومًا ما عن ذكرياتهم مع الرسول؟ هل كان هؤلاء شخصيات دينية حقيقية؟

7.         هذه المرويات لم تدون إلا في القرن الثالث الهجري، وكانت من قبل تراثا شفهيا، فلم يدونها الشهود الحقيقيون الذين رأوا وسمعوا، ما الذي منعهم من تدوينها، أو إملائها على طلاب العلم؟

8.         هذه المرويات لم تدون إلا من بعد أن تمزق الدين وتفرقت الأمة وضربتها الفتن الجامحة والكوارث المروعة.

9.         هذه المرويات لم تدون إلا في إطار الدين الأعرابي الأموي العباسي، وفي ظل وجود سلطة إجرامية إرهابية، تحكم باسم الدين، هي سلطة العباسيين

10.     جامعو المرويات لم يكونوا عربًا من أهل المدينة أو مكة، وإنما عجمًا أتوا من أقاصي الأرض في أزمان متقاربة بطريقة مريبة.

11.     جامعو المرويات فحصوها، واستبعدوا أضعاف أضعاف ما استبقوه منها، ولم تأخذهم فيما استبعدوه رأفة أو رحمة، فقد كانوا يعلمون جيدا حالتها.

12.     جامعو المرويات فحصوها بناءً على معايير خاصة بهم، وقد طبقوها بأنفسهم، فنتائج أعمالهم هي بالضرورة ظنية احتمالية.

13.     لا يوجد أي نصّ ديني يبشر بظهور جامعي المرويات هؤلاء، ولم يتم تكليفهم بما قاموا به من قيل أي سلطة دينية حقيقية، ولم تتم مراجعة أعمالهم أو اعتمادها بواسطة أي سلطة دينية حقيقية

14.     لم يتم عمل مجامع مسكونية لمناقشة ما توصل إليه الجامعون رغم خطورة عملهم، فمن جاؤوا من بعدهم اعتبروا كتبهم حاوية لثلاثة أرباع الدين على الأقل!!!!

15.     كان الأصل في مسألة المرويات الوضْع والتحريف، وهذا باعتراف الجامعين وضعف نسبة ما استبقوه إلى ما استبعدوه.

16.     لا يمكن أن تسلم مروية، إلا فيما ندر، من تحريف عارض أو متعمد.

17.     لم يرو أي راوٍ إلا ما ذكره وفقهه من أي مروية.

18.     أوردوا كل المرويات كنصوص مطلقة، بدون أي ذكر لتوقيتها أو للأحوال التي قيلت فيها.

كما يجب العلم بما يلي:

1-    القرءان الكريم هو المصدر الأوحد لكل أمور الدين الكبرى، وهو المصدر الأعلى لأموره الثانوية، وميزان الأمور هو من أمور الدين الكبرى، فمصدره الأوحد هو القرءان.

2-    الغيب من الأمور الكبرى، لذلك فالقرءان الكريم هو المصدر الأوحد لما يجب الإيمان به من أمور الغيب، ما مضى منه، وما هو آت.

3-    لا يجوز في شأن المرويات إطلاق أحكام عامة مثل: "كل المرويات باطلة، وهي مجرد تراث، ويجب تجاهلها كلها"، أو "المرويات وحي ثان، وهي مكافئة للوحي الأول، ويمكنها أن تنسخ آياته".

4-    يجب النظر في كل مروية على حدة، وفحصها على هدي من دين الحق القرءاني.

***

لكل ما سبق ذكره فمن الواجب إعادة فحص المرويات على ضوء الأسس الراسخة لدين الحق، وقد سبق تقديم المنهج اللازم وبعض نتائجه في كتبنا.

ويأتي هذا الكتاب في هذا الإطار.

*******

لقد جمع الشيخ النووي، بلا شك، مجموعة ممتازة من المرويات، وقد لوحظ أن أكثرها لم يرد في البخاري.

وبفحص هذه المرويات المنتقاة وُجد أن أكثرها له أصول صحيحة مما يعني إمكان اندراجها في البنيان الشامخ لدين الحق.

ولكن هذه المرويات يمكن الاستغناء عنها بالقرءان، ثم تنقسم بعد ذلك إلى قسمين: القسم الأكبر هو ما يجب الإبقاء عليه لأسباب متنوعة، والقسم الثاني لا يلزم فحصها أو الإبقاء عليها، وإنما يجب بيان الآيات القرءانية التي تغني عنها.

وهناك مرويات قليلة تتعارض مع الإسلام أو لا علاقة لها بالإسلام أصلا، أو تقدم معلومات غيبية لم يرد لها ذكر في القرءان، أو تحوم حولها شكوك معينة، فلا يوجد ما يبرر اعتمادها كنصوص دينية.

*******

إن تنزيه الرسول عن المرويات المسيئة والمضادة للدين وقيمه المثلى ومقاصده العليا التي نسبوها إليه هو انتصار له وتعظيم لقدره، ومن الصلاة والتسليم عليه.

 

*******