الثلاثاء، 8 يوليو 2025

الإمام الشافعي: من تأسيس الفقه إلى صناعة الجمود – أثره البنيوي في تشكيل الإسلام التاريخي

الإمام الشافعي: من تأسيس الفقه إلى صناعة الجمود – أثره البنيوي في تشكيل الإسلام التاريخي

مقدمة: مهندس الإسلام القانوني

من بين أبرز العقول المؤسسة في تاريخ الإسلام، يبرز الإمام محمد بن إدريس الشافعي (150هـ – 204هـ) بوصفه العقل القانوني الأول للإسلام السني.
فقد كان أول من وضع نظرية متكاملة لمصادر التشريع الإسلامي، مؤسسًا بذلك لعلم "أصول الفقه"، ومرسخًا لسلطة المرويات، ومقننًا العلاقة بين النص والعقل.

غير أن هذا الإنجاز الضخم حمل معه مفارقة كبرى:

فبينما وضع الشافعي اللبنات المنهجية لبناء الفقه، كان في الوقت نفسه يؤسس لصيغة جامدة شكلانية من الدين، تُقصي الوجدان والعقل، تتحدث فقط عن الأمور الظاهرة المنضبطة، وتُفرّغ العبادات من بعدها التزكوي، وتُحول الرسالة من مشروع قيمي إلى مدونة قانونية لإدارة أمور الأفراد.

فالنظام الذي وضعه، والذي أبدى فيه حرصًا شديدًا على النص والتقنين والانضباط، قد أسهم أيضًا في إغلاق الدين على نفسه، وتحويله من حركة روحية أخلاقية إلى منظومة قانونية سلطوية.

 

أولًا: تأسيس مصادر التشريع – عقل ينظّم لا يبدع

لقد نظم الشافعي مصادر الشريعة في ترتيب هرمي صارم:

1.   القرءان: بوصفه الأصل الأول.

2.   السنة: أقوال وأفعال وتقريرات الرسول فقط، واعتبرها وحيًا ثانيًا.

3.   الإجماع: أي اتفاق العلماء المسلمين.

4.   القياس: كملحق محدود، عند غياب النص.

ورفض الشافعي الاستحسان الذي اعتبره ضربًا من التشريع البشري، رافعًا شعار:

"من استحسن فقد شرّع."

بهذا الترتيب، كان الشافعي هو أول من حول الإسلام إلى نظام تشريعي مستقل متكامل، لا مجرد ميراث روحي أو عرف مجتمعي.

 

ثانيًا: السنة بوصفها وحيًا – تحوّل جذري في المفهوم

قبل الشافعي، كانت "السنة" مصطلحًا مرنًا يشمل:

  • أقوال الصحابة.
  • عادات المجتمع.
  • سنة المدينة أو أهل الكوفة.

لكن الشافعي:

  • حصر السنة في ما نُسب إلى النبي فقط.
  • واعتبرها مساوية للقرءان في الحجية.
  • وأوجب اتباعها حتى لو لم تُذكر في القرءان.

وبهذا التأسيس غيّر مفهوم "الوحي" ذاته، فأدخل فيه المرويات المنقولة، وفتح الباب أمام جمع المرويات وتدوينها ونقدها، وهو ما سيتحول لاحقًا إلى علم الحديث المعروف.

لكن اعتبار (السنة) وحيا يوحى مثل القرءان سيخلق إشكاليات تأويلية هائلة، إذ بدأ تفسير القرءان في ضوء الروايات، لا العكس، واعتُبر ظاهر القرءان محكومًا بمرويات ظنية، تختلف فيما بينها في درجة الظنية.

 

الشافعي وبداية علم الحديث – إنتاج شرعية جديدة

لم يكن للحديث تلك المكانة قبل الشافعي، حتى أن أبا حنيفة لم يعتبر الأحاديث من مصادر التشريع إلا نادرًا، وكان يحتكم كثيرًا إلى الرأي والقياس، وكان مالك يعتمد على حديث الصحابة وأهل المدينة أكثر من الأحاديث النبوية.

لكن الشافعي:

  • أعاد الاعتبار للأحاديث.
  • جعلها المصدر الثاني بعد القرءان.
  • فتح الباب أمام جمع المرويات وتدوينها وتمحيصها.

فكان الشرارة التي أيقظت المشروع الحديثي، فظهر بعده:

  • أحمد بن حنبل.
  • البخاري ومسلم.
  • النسائي والترمذي وأبو داود.

بل يمكن القول:

"لولا الشافعي، لما نشأ علم الحديث على صورته المؤسسية، ولظل الحديث متفرقًا بين الآثار والفتاوى والأخبار."

 

ثالثًا: المفارقة الكبرى – رفض نسخ القرءان بالسنة... ثم قبوله قبولا صريحا

من مآثر الشافعي أنه رفض القول بأن السنة تنسخ القرءان، وكان أكثر الفقهاء تحفظًا في ذلك، بخلاف أبي حنيفة ومالك.

لكنه – هو ومدرستهأخذوا لاحقًا بأحكام من السنة تعارض آيات محكمة، منها:

  • قتل المرتد رغم غياب نص قرءاني يأمر بذلك.
  • استتابة وقتل تارك الصلاة، رغم غياب نص قرءاني يأمر بذلك
  • الطلاق الشفهي ووقوع الثلاث بلفظ واحد، رغم تعارض ذلك مع القرءان تعارضًا صريحا.
  • أحكام الميراث التراتبي (العصبة)، رغم تعارض ذلك مع القرءان تعارضًا صريحا..

وهكذا، وقع المذهب الشافعي في التناقض البنيوي:

  • رفض نظريًا أن تنسخ السنة القرءان.
  • لكنه قبل عمليًا أن تُخصصه أو تُقيده أو تُحكم عليه بما يُنسب إلى الرسول، حتى لو كان من أخبار الآحاد.

وقد اعتبر بعض علماء المذهب رفضه القول بأن السنة تنسخ القرءان "كبوة فارس"، و "سقطة من سقطات الأكابر"، لأن التأسيس النظري لا ينسجم مع الممارسة الفقهية.

 

رابعًا: مواجهة الاعتزال – بناء سدّ ضد العقل الفلسفي

كان الشافعي من أوائل من واجهوا المعتزلة، وشجبوا استخدامهم للفلسفة والمنطق اليوناني في العقيدة.

  • رأى أن العقل ليس مصدرًا للتشريع أو العقيدة.
  • وأن ما لم يرد في النص لا يُقبل بالعقل وحده.
  • واعتبر أن استخدام الجدل والكلام تفريط في الدين واتباع للهوى.

ورغم أن الأشعرية ستظهر لاحقًا كحركة وسطية بين المعتزلة وأهل الحديث، وسينسب أكثرهم نفسه إلى الشافعي، فإن الشافعي لو عاش زمنهم لعاداهم كما عادى المعتزلة، لأن مبدأهم الكلامي يخالف منطقه الأصولي.

وهكذا أسهم الشافعي في:

  • تحجيم العقل التأويلي.
  • غلق الباب على التجديد العقلي الفلسفي.
  • تكريس النقل والتسليم بدل النظر والتحليل.

 

خامسًا: الشافعي وبناء الدين القانوني الشكلاني

وهنا تبرز أخطر النتائج التي ترتبت على عمل الشافعي:

 

الدين كمدونة أحكام لإدارة الرعية

تحوّل الإسلام إلى نظام قانوني مفصّل يُضبط به سلوك الأفراد، دون نظر إلى وظيفة الحاكم أو أمانة السلطة.
فلم يكن يُسأل: "هل الحاكم عادل؟" بل: "هل طلاق هذا الرجل صحيح؟".

 

العبادة كفعل شكلي منضبط لا كتزكية

ركّز الشافعي على: أمورٍ مثل

  • أحكام المياه
  • أنواع النجاسات والمبطلات.
  • عدد الركعات.
  • أركان الصلاة وهيئاتها.
  • مفسدات الصيام
  • صلوات المناسبات المختلفة

وتُرك البُعد الروحي – التزكوي – بلا تأصيل.

 

تجاهل البُعد الوجداني

تم تجاهل الأمور الوجدانية الجوهرية مثل التوبة، والإنابة، وحب الله وتقوى الله ... الخ

كان ذلك بحجة أن هذه أمور غير منضبطة، أو أنها لا تدخل في نطاق عمل (الفقه)، والحق أنهم هم الذين أساؤوا استعمال هذا المصطلح وحرفوا معناه، الفقه عندهم لا يعني إلا ضبط الأحكام والعبادات العملية!

فصار الدين بذلك آلة ضبط لا مشروع تحوّل إنساني.

 

تجاهل العمل بالأوامر التي هي خارج النطاق القانوني السطحي

بسبب تحريف وسوء استعمال المصطلحات الدينية تم تجاهل أوامرَ دينية كبرى، منها:

1.   ذكر الله، وذلك يتضمن الذكر بالأسماء الحسنى والتسبيح والحمد والتسبيح بالحمد.

2.   العمل على إقامة صلة وثيقة بالله تعالى وعلاقة حميمة معه سبحانه ودعمها وترسيخها

3.   استعمال الملكات الذهنية والحواس الإنسانية للنظر في الآيات القرءانية والكونية والنفسية وفي عواقب الأمم السابقة ولفقه واستيعاب السنن الإلهية والكونية والإفادة منها ولتحقيق المقاصد الدينية

 

تهميش العقل والاجتهاد

رفض الشافعي الاستحسان، وقيد القياس، ومنع العقل من التمدد خارج النص.
وهكذا جُمّد العقل في خدمة النصوص الموروثة، ولو كانت ظنية أو متعارضة مع المقاصد.

 

ولكن الحقيقة أن الشافعي كان يتحرك في إطار شكل الدين كما بينه مالك بن أنس من قبله بأمر الطاغية العباسي أبي جعفر المنصور.

 

خاتمة: الإمام الشافعي – الباني العظيم... والمجمد الخطير

لا ريب أن الشافعي:

  • أسّس علمًا مهما في الإسلام (أصول الفقه).
  • وأرسى تصورًا دقيقًا لمصادر الشريعة.
  • وأحدث ثورة منهجية في فهم النص.

لكنه أيضًا:

  • أدخل الدين في قمقم الشكليات.
  • وجعل السنة مظلة تُفسر بها الآيات وتُخصّص وتُقيّد.
  • وأقصى العقل والوجدان من الصياغة الدينية.
  • وحوّل الخطاب القرءاني إلى قانون تفصيلي لإدارة شؤون وأفعال وحركات الأفراد، بدلًا من أن يكون دعوة إلى الحق والحرية والعدل والنهضة.

لقد كان الإمام الشافعي من أعظم صانعي الإسلام التاريخي، ومن أعظم المؤثرين فيه إيجابيا وسلبيا، سيكون مذهبه أحد الأركان الثلاثة للصيغة الغزالية التي ستنجح في الدفاع عن قلب العالم الإسلامي، وهي "عقيدة أشعرية، فقه شافعي، تصوف سني".

لكنه كان كذلك من أشد من قيدوا الإسلام التاريخي داخل بنية جامدة لا تزال سارية إلى اليوم.

 

*******

 

الاثنين، 7 يوليو 2025

هل كان انتشار الإسلام في مصر بحاجة إلى غزوة همجية أعرابية؟

هل كان انتشار الإسلام في مصر بحاجة إلى غزوة همجية أعرابية؟

هل كان انتشار الإسلام في مصر بحاجة إلى غزوة همجية أعرابية؟ كلا، بالطبع. بل إن هذه الغزوة الهمجية أخّرت انتشار الإسلام الحقيقي في مصر، وطمست معانيه ومقاصده النبيلة، إذ لم يكن الإسلام رسالة غزاة أو مطامع فاتحين، بل كان في جوهره دعوة للحق والعدل والروح، تنفر بطبعها من القسر والنهب والهمجية.

لقد بدأ أول ظهور محسوس للإسلام في مصر بين السكان المصريين الأصليين في عصور الاستقلال، وليس في زمن الغزو. ومنذ أن استقل أحمد بن طولون بمصر سنة 254 هـ، بدأت ملامح التدين الحقيقي تظهر وتترسخ، حيث لعب هذا الاستقلال دورًا مركزيًا في فصل المشروع الروحي للإسلام عن السلطة السياسية الجشعة التي رافقته في بداية الدخول العسكري إلى مصر.

ولم يكن الفاتحون الأعراب هم من نشروا الدين في مصر، بل إن الذي نشر الإسلام بمحبته وصفائه وروحه العالية كان سلسلة مباركة من العترة النبوية، والأولياء الصالحين، وأئمة التصوف الذين خاطبوا قلوب المصريين وعقولهم. وعلى سبيل المثال، أسلم كثير من المصريين على يد:

  • السيدة نفيسة، حفيدة الحسن بن علي، التي رأى المصريون فيها الطُهر والقداسة والرقي والمحبة.
  • ذي النون المصري، أول من تكلّم بلغة الوجد الروحي والعشق الإلهي
  • أبي الحسن الشاذلي الذي تخصص في تربية الصديقين والصالحين.
  • أبي الحجاج الأقصري، الذي اختلط حبّه بالوجدان الشعبي حتى اليوم.
  • أحمد البدوي القطب الصوفي البطل، الذي تخصص في تحرير الأسرى المصريين من أيدي الفرنجة.

لقد جاء هؤلاء بدين روحاني سامٍ، لا بقعقعة السيوف، ولا بنداء الجزية، بل بجاذبية الحق والنور.

 

ولكي نقارن حجم المفارقة، يكفينا أن نتذكّر أن رجلًا واحدًا فقط، هو القديس مرقص، تمكن من نشر المسيحية في مصر، في أوج قوة الرومان الوثنيين، وفي ظل إمبراطوريتهم الطاغية. ولم يفتح مصر بجيش، ولم يفرض على أحد أن يؤمن به، بل دخلها بروح المحبة والرحمة والرسالة، فآمن المصريون برسالته، وتقبّلوا المسيحية بقلب نقيّ وعقل حرّ، وبلغ حبهم لها أن استشهد عشرات الآلاف منهم دفاعًا عنها، وتحملوا أبشع أنواع الاضطهاد دون أن يتخلوا عن إيمانهم.

والمصريون أنفسهم هم من ابتدعوا الرهبنة، في سعيهم العميق للزهد والخلاص الداخلي، وخرج من أرضهم آلاف الرهبان والنساك الذين علّموا العالم فن الزهد والتأمل والانقطاع لله. فهل رأى المصريون في جيش الأعراب وقائدهم عمرو بن العاص نموذجًا روحانيًا، أو قديسين زاهدين في الدنيا كما كان الأنبياء والأولياء؟ أم رأوا غزاة همجًا متعطشين للغنائم، لا همّ لهم إلا الفتح والنهب وتحصيل الخراج؟

 

ماذا قدم عمرو بن العاص للمصريين؟

إن ما قدّمه عمرو بن العاص، بحسب وقائع التاريخ، لا يُقارن أبدًا بما يتطلبه دخول دين سماويّ إلى قلوب شعبٍ متدينٍ بطبعه. فقبل أن يتم غزو مصر بالكامل، كان عمرو يسبي النساء المصريات ويرسلهن للحجاز لكي يُبعن هناك في الأسواق، رغم أن المصريين لم يقاتلوه، بل تركوه وشأنه في صراعه مع الروم البيزنطيين، بسبب الخلافات العقائدية بين الكنيسة القبطية والكنيسة الملكانية البيزنطية.

وقد تزامن دخول عمرو بن العاص إلى مصر مع ذروة حملة اضطهاد بشعة شنّتها الكنيسة البيزنطية ضد الكنيسة القبطية، مما جعل السكان الأصليين في حالة نفور من الدولة الرومية، لكنهم لم يقاتلوا العرب، ولم يكن بينهم وبين عمرو عداوة مباشرة. ومع ذلك، عندما جلا البيزنطيون عن البلاد، فرض عمرو الجزية على المصريين، رغم أنهم لم يحملوا السلاح ضدّه، بل تسامحوا معه.

أما الخلفاء في المدينة، فكان كل ما يعنيهم هو نهب أكبر قدر ممكن من خيرات مصر، وقد وردت نصوص معروفة عن عمر وعثمان في هذا السياق، تعتبر مصر خزانًا ماليا يُستنزف بلا رحمة.

وعن عمرو بن العاص نفسه، فقد كان أشدهم نهمًا للذهب. بنى لنفسه قصرًا كان يكدّس فيه تلال الذهب الذي بلغ عدة أطنان، حتى إن أبناءه رفضوا أخذ شيء منه بعد وفاته، فأخذه معاوية، لأنه كان يعلم أنه "ذهب منهوب"، جمعه عمرو بأشد الأساليب خسّةً ووحشية، من ضرائب ثقيلة، وجزية مذلّة، وغنائم مأخوذة من شعب لم يحاربه أصلا.

 

فهل قدَّم عمرو والأعراب للمصريين، الذين يقدّسون الزهاد والرهبان والأولياء الصالحين، أي نموذج يُلهمهم أو يُقنعهم بقدسية هذا الدين الذي جاء به؟ هل رأوا فيهم وجه النبي محمد ﷺ الذي دعا للرحمة والعدل والحرية والكرامة؟ أم رأوا فيهم نموذجًا آخر، مختلفًا جذريًا عن الدين الذي كانوا مستعدين لتقبّله لو جاءهم من أهله الحقيقيين؟

بل لقد استمر العرب بعد الفتح في فرض الجزية حتى على من أسلم من المصريين، حرصًا على الموارد المالية، حتى جاء عمر بن عبد العزيز فأبطل ذلك، لكن البيروقراطية المتغوّلة فرضت ضريبة على أموات المصريين لتعويض الخسائر!

ويجب العلم بأن أخذ الجزية لم يكن مجرد تحصيل مالي، بل كان يتم بطريقة مهينة ومذلّة، كما أشار بعض الرحالة والمؤرخين في وصف طريقة إذلال ، حيث كان من يدفع الجزية يُجبر على الانحناء أو يُصفع أو يُعامَل بدون كرامة.، ثم يُختم على قفاه، ومازالت عبارة "مختوم على قفاه" تُستعمل في التراث الشعبي المصري للدلالة على شخص مهين محتقر.

 

دين مغشوش لا يمثل الإسلام

لقد قدَّم عمرو والأعراب للمصريين دينًا عدوانيًا همجيًا مشوَّهًا لا علاقة له بالإسلام الحقيقي، بل يناقضه في جوهره ومقاصده، كان دينًا يُبرّر الهيمنة والنهب والجور والجشع والظلم، ويُقصي روح الإسلام التي تدعو للحرية والرحمة والحق والعدل.

وهذا الدين لا يمكن أن يجتذب إنسانًا ذا نفس سوية، ولا عقل حرّ، ولا وجدان روحي متفتح، لهذا لم ينتشر الإسلام الحقيقي في مصر إلا في وقت لاحق، وعلى يد من حملوا من دين الحق النور، لا السيف؛ الرحمة والهداية، لا الغلظة والجباية؛ الرسالة، لا السلطة، السموّ الروحاني، لا الغلظة الهمجية الحسية.

*******

الأحد، 6 يوليو 2025

مسلّمات وأسس ومصادر الدين عند المذهب السُّنّي الأشعري: مدى الالتزام ومدى التناقض، والتعارض مع القرءان

مسلّمات وأسس ومصادر الدين عند المذهب السُّنّي الأشعري: مدى الالتزام ومدى التناقض، والتعارض مع القرءان

 

مقدمة

يتبنّى المذهب السُّني الأشعري إطارًا معرفيًا عقديًا وفقهيًا واسع الانتشار، ارتبط اسمه بما يُسمى "عقيدة أهل السنة والجماعة"، ويُفترض أن هذا المذهب يستند إلى مجموعة من المسلمات والأسس والمصادر التي تحكم التصور الديني والتشريعي، وتضبط العلاقة بين الوحي والعقل، وبين النص والاجتهاد، وبين الأصول والفروع.

غير أن مراجعة تطبيقات هذا المذهب في مسائل فقهية خطيرة – مثل قتل المرتد، وقتل تارك الصلاة، واعتبار الطلاق الشفهي نافذًا، وتوريث العصبة – تكشف عن مفارقة صارخة بين تلك المسلمات النظرية، والممارسات الفقهية الفعلية، بل وتُبرز نوعًا من النسخ العملي لأحكام القرءان المحكم باسم (السُّنّة) أو الإجماع أو القياس، بما يخالف أصول المذهب ذاته.

 

أولًا: مسلّمات وأسس المذهب السُّني الأشعري

يُمكن تلخيص المسلّمات والمصادر الرئيسة للمذهب في المجالات الثلاثة الآتية:

في مجال العقيدة (أصول الدين):

  • مصدر العقيدة هو:

أ‌.      القرءان الكريم أولًا.

ب‌.  الحديث المتواتر ثانيًا.

ت‌.  العقل القطعي ثالثًا.

  • خبر الآحاد لا تثبت به العقيدة، لأن العقيدة لا تُبنى إلا على اليقين.
  • لا يجوز نسخ آية قرءانية لا نصًا ولا حكمًا إلا بآية قرءانية أخرى.

وهذا ما قرّره الإمام الشافعي في "الرسالة"، وأكّده كبار الأشاعرة مثل الجويني، والآمدي، والرازي، والبيضاوي.

في مجال التشريع (الفقه):

  • مصادر التشريع أربعة:

1.   القرءان: المصدر الأول، قطعي الثبوت.

2.   السُّنّة: ويُشترط فيها الصحة والاتصال.

3.   الإجماع المنضبط، لا الظنّي.

4.   القياس: المعتبر بضوابطه.

  • تقبل الظنيات خبر الآحاد، وقياس الظن في الفقه، لا في العقيدة.

في المنهج:

  • لا يجوز تقديم الحديث على القرءان في حال التعارض، إلا إذا كان الحديث مفسرًا أو مبيّنًا لا ناسخًا.
  • تُفرَّق الأحكام بحسب درجاتها من الظن واليقين، ولا يجوز الجزم في الأحكام القطعية إلا بأدلة قطعية.

 

ثانيًا: مدى الالتزام بهذه الأسس في التطبيقات الفقهية

رغم وضوح هذه المبادئ، إلا أن المذهب السني الأشعري – في فروعه الفقهية، لا سيما الشافعية والمالكية – خالفها في مسائل أساسية، نذكر منها:

 

 قتل المرتد

  • المصدر: حديث آحاد: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ".
  • التعارض مع القرءان:

أ‌.      {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِين} [سورة يونس: 99]

ب‌.  {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيم} [سورة البقرة: 256]

ت‌.  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيم} [المائدة:54]

ث‌.  {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا} [النساء:137].

فالقرءان يقرر في نصوص محكمة قطعية الدلالة حرية الإيمان، وأن من يرتدون سيأتي الله بمن هم خيرٌ منهم، وأن عقوبة المرتد ستكون في الدار الآخرة.

  • المفارقة:

أ‌.      الحديث آحاد، والموضوع يتعلق بالإيمان والكفر.

ب‌.  ومع ذلك جُعل دليلا لعقوبة دنيوية خطيرة تُخالف حرية الدين التي قرّرها القرءان.

ت‌.  مبررهم: زعموا وجود "إجماع"، ولكن الإجماع هنا غير منضبط نصيًا ولا تاريخيًا.

 

استتابة وقتل تارك الصلاة

  • المصدر: حديث آحاد: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر".
  • التعارض مع القرءان:

لا عقوبة دنيوية تُذكر.

  • المفارقة:

أ‌.      لم يَرِد نص صريح بقتل تارك الصلاة.

ب‌.  والحديث لا يبلغ حد التواتر، ومع ذلك استُخدم لإزهاق النفس.

  • مبررهم: قالوا إنه "كفر عملي لا اعتقادي"، ومع ذلك قتلوا عليه، رغم أن الكفر العملي لا يوجب قتلًا!

 

قتل منكر "المعلوم من الدين بالضرورة"

  • المصدر: لا نص قرءاني أو حديث متواتر، بل قاعدة أصولية ظنية.
  • التعارض مع القرءان:

أ‌.      {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقرءان مَن يَخَافُ وَعِيد} [ق:45]

ب‌.  {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22)} الغاشية

ت‌.  {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيل} [سورة الأنعام: 66]

ث‌.  {وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل} [سورة الأنعام: 107]{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيل} [سورة يونس: 108]

ج‌.   {إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل} [الزمر:41]

ح‌.   {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاء اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل} [الشورى:6]

خ‌.   {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء:80]

د‌.    {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُور} [الشورى:48]

ذ‌.    {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة:272]

ر‌.    {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين} [النحل:125]

هذا بالإضافة إلى كل الآيات التي تقرر حرية الإيمان

  • المفارقة:

أ‌.      لا وجود لهذه القاعدة في نصوص محكمة.

ب‌.  ومع ذلك، استعملت لتشريع القتل.

ت‌.  أعطوا للمتسلطين عليهم سلطات لم يعطها الله سبحانه للرسول نفسه.

  • مبررهم: لم يقدموا أي مبرر يُعتد به.

 

الوقوع الفوري للطلاق الشفهي

  • المصدر: عرف فقهي وبعض المرويات غير القطعية.
  • التعارض مع القرءان:

أ‌.      {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1]

ب‌.  {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2]

ت‌.  {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُون} [سورة البقرة: 229]

  • المفارقة:

أ‌.      القرءان يُلزم بالإشهاد والتوثيق والتدرج، وهم أخذوا باللفظ الشفهي وحده.

ب‌.  فحكموا على البيوت بالانفصام بكلمة لحظية، دون تحقق من عدل أو قَصد.

  • مبررهم: "الطلاق حقٌّ للزوج بلفظه"، وهو استدلال عرفي لا نصي.

 

الطلاق ثلاثًا في مجلس واحد

  • المصدر: اجتهاد عمر بن الخطاب.
  • التعارض مع القرءان:

ما سبق ذكره من الآيات القرءانية المحكمة.

  • المفارقة:

أ‌.      نصّ القرءان واضح بالتدرج، وهو يجعل الطلاق عملية مركبة معقدة.

ب‌.  فوقع هنا نسخ فعلي لحكم قرءاني صريح باجتهاد أحد الأشخاص.

  • مبررهم: "مصلحة تأديبية"، لكنها لا تُسوّغ تعطيل النص القطعي.
  • الحكم: هم جعلوا من مخلوق مشرعًا في الدين، ونسخوا يقوله أحكام ربّ العالمين، وهذا من الضلال والشرك المبين، قال الله تعالى:

{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} [الشورى:21]

 

توريث العصبة

  • المصدر: حديث آحاد: "فما بقي فلأولى رجل ذكر"، تبرأ منه من نسبوه إليه، وكان فعله بخلافه
  • التعارض مع القرءان:

أ‌.      القرءان لم يذكر العصبة، بل بيّن الورثة مفصلين.

ب‌.  أعطى كل ذي حق حقه صراحة.

  • المفارقة:

أ‌.      حُكم العصبة ليس نصًا قرءانيًا، ومع ذلك صار مقدمًا عمليًا على النص عند التزاحم.

  • مبررهم: مروية ظنية وعمل الصحابة"، وهو ليس حجة على النص المحكم.

 

ثالثًا: خلاصة المفارقة الكبرى

 

المبدأ الشافعي: لا يُنسخ القرءان إلا بقرءان        

الممارسة الفعلية: نُسخت آيات الحرية، والصلاة، والإرث، وغيرها بأحاديث أو اجتهادات

المبدأ الشافعي: خبر الآحاد لا يُؤخذ به في العقيدة 

الممارسة الفعلية: بُنيت عليه أحكام القتل والإكراه العقائدي

المبدأ الشافعي: يُشترط القطع في الدماء والأعراض

الممارسة الفعلية: أُزهقت الأرواح بأحاديث ظنية أو أعراف فقهية

المبدأ الشافعي: لا يجوز تقديم (السُّنّة) على القرءان

الممارسة الفعلية: تم ذلك فعليًا في أحكام الطلاق، والردة، والتوريث

أما موقف أبي حنيفة من المرويات فمعلوم.

 

خاتمة:

لا حلَّ إلا بالأخذ بدين الحقّ؛ كاملا غير منقوص

*******