الجمعة، 12 سبتمبر 2025

من كتابنا 90، إيمانيات دين الحق 3، 2017.

 

إنه لا يوجد أكثر من الاشتراك اللفظي بين السمة إلهية وبين السمة الكونية، ولا يمكن أن يعبر عن السمة الإلهية إلا بما ألفه الناس من ألفاظ، أما كنه السمة الإلهية فكل ما يعلمه الإنسان عنها إنما هو من آثارها في الآفاق وفي نفسه وأنها كاملة كمالا لانهائيا وأنها ذاتية مطلقة واجبة ، فهو يعلم شيئا عن آثارها ولا يدرى كنهها، أما ما لدى الإنسان من معنى أو تصور ذهني عن سمة ما فهو لا يمكن أن يتطابق تماما مع كنه تلك السمة، وذلك أمر عام لا يختص بالسمة الإلهية وحدها، بيد أنه لا سبيل إلي الإدراك إلا هكذا، فإدراك الإنسان للأمور إنما يبني علي ما لديه من معان وصور ذهنية ويستعملها، أما ما أضافه الله تعالى إلى نفسه فإنه ليس بالضرورة سمة ذاتية خاصة بكيانه وإنما يمكن أن تكون إضافة ملكية أو تشريف أو بيانًا لعظم شأن المضاف وأهميته، فإضافة الآيات أو الكائنات إليه ليست كإضافة المعاني أو السمات، ولا تعرف السمة الخاصة به إلا بورودها بطريقة قطعية أو بوجود اسم يشير إليها.

أما الآيات التي وصفته سبحانه أو نسبت إليه أشياء أو أقوال أو أفعال فإنما ينسب كل ما ورد فيها إليه كما يليق بذاته، ولما كان كنه ذاته مجهولا فإنه لا ظاهر لتلك الآيات حتى يؤخذ به، ولا يجوز أن يزعموا أن ظاهرها هو المعاني المألوفة الدارجة الخاصة بما هو دونه من الكائنات، وإنما يمكن تفسير تلك الآيات ومعرفة ما يلزم المؤمن منها، وفي كل أمر منسوب إليه يجب ألا يؤخذ إلا بنصوص قطعية الورود، أما كل ما هو دون ذلك فيجب التوقف عنده وألا يستخدم لإحداث الفتن، ويجب ألا يروى إلا إذا أحاطوا علما بكل الظروف والملابسات التي صاحبته، فكل سمة منسوبة إليه لابد من أن تثبت بنص قطعي الورود لأنه يجب الإيمان به كما سمى نفسه وكما وصف نفسه، فمعرفة ذلك من لوازم وأركان الإيمان به، ولا يجوز تشبيه تلك السمة بسمة كونية مشتركة معها في اللفظ الدال عليها فإنه سبحانه ليس كمثله شيء.

*******

إن الله سبحانه يحكم ويفعل ويقضي ويدبر ويفصِّل ويتكلم، وفق مقتضيات أسمائه الحسنى التي هي لوازم وجوده وكينونته، وهو يفعل أو يتكلم من حيث منظومة أسمائه الحسنى، لذلك لابد من سريان سماته كالحكمة مثلاً في كل ما يصدر عنه من فعل أو كلام، فهو ليس بمجبر علي مراعاة الحكمة، ذلك لأن من يفعل ما يتفق مع كنهه الذاتي وسماته لا يكون مجبرا علي شيء، ولا يقال إن الحكمة هي التي تسيره، ولذلك أيضًا لا يحق للأشاعرة و لا لغيرهم أن يجوِّزوا عليه فعل ما يناقض الحكمة أو أي سمة من سماته أو ما يناقض ما أخبر به عباده، فما أخبر به هو الصدق المطلق وهو سبحانه الأصدق حديثا، فلا يوجد ما يضطره إلي أن يقول ما يخالف الحق، فقوله هو عين الحق وهو عين الصدق.

وكونه سبحانه لا يُسأَل عما يفعل هو من مقتضيات ألوهيته التي هي المرتبة العظمى في الوجود، ولكن سماته لا تناقض ألوهيته ولا تضاد حكمته، فليس معنى أنه لا يُسأل عما يفعل أن يجوزوا عليه فعل ما يناقض سماته الذاتية وكمالاته اللانهائية، أما زعم الأشاعرة بأن أفعاله سبحانه لم تصدر عن حكمة فإن فيه تجاهلا لمنظومة الحكمة، وهي من منظومات الأسماء الحسنى، وكذلك تكذيبا بآيات الكتاب العزيز التي حرصت علي بيان الحِكَم والمقاصد من كل فعل أو أمر صدر عنه أو تضمنت ما يعين الإنسان على استخلاصها واستنباطها، ولقد كان موقف المتكلمين من هذا الأمر من أعظم الأدلة علي عقم مذهبهم وفشل منطلقاتهم، فالإله الأعظم ليس بطاغية شرقي علي الناس أن يخشوا بوادره وتقلباته، وإنما عليهم أن يخشوا مقتضيات نقصهم ونفوسهم الأمارة بالسوء والتي تحثهم علي تجاهل أوامره ومخالفتها مما يعرضهم للآثار الماحقة المترتبة علي ذلك، أما هو سبحانه فهو يعاملهم وفق ما بينه لهم من القوانين والسنن التي هي مقتضيات كماله المطلق.

******* 

البقاء هو من لوازم أن لله تعالى الحياة الذاتية والوجود الحقيقي المطلق المحيط بالزمان والمتعالي عليه علوا مطلقا، قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} [الرحمن].

*******

قال بعض المتكلمين: "إن الرحمة هي إرادة الإنعام والإعطاء أو هي الإنعام والتفضل والإحسان"، وقالوا إن معنى "الرحمن الرحيم" هو معطي جلائل النعم.

والحق هو أن ما ذكروه هو من لوازم ومقتضيات الرحمة، والرحمة هي أصلا معنى أولي بسيط لا يمكن اختزاله إلى ما هو مختلف عنه من المعاني أو التعبير عنه بلفظ واحد غير لفظ الرحمة ذاته، فهو معنى ذوقي لا يمكن إنزاله إلى عالم الألفاظ بالدقة اللازمة، والرحمة تتمثل في الصلات بين بعض الكائنات وبعضها الآخر، فمن مظاهرها الأمومة واهتمام الوالدين بأمر أولادهما، واهتمام الأقارب ببعضهم البعض.

فالرحمة تتمثل في الصلات التي تقتضي إيصال الأرزاق المادية والمعنوية من كائن أقدر أو أعلى إلى كائنٍ أضعف أو أدنى، ومن الأرزاق العون والدعم والمساندة وكل ما يتضمن نفعا للكائن الأدنى.

*******

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق