الاثنين، 30 يونيو 2025

بين "دين الحقّ" والتصوف

 بين "دين الحقّ" والتصوف

سؤال منهجي:
هل كانت تربية النبي ﷺ للمؤمنين تُشبه في جوهرها التربية التي يمارسها شيوخ الطرق الصوفية على مريديهم؟

جواب تحليلي:
كلا. هناك فارق جوهري بين المنهجين، ليس فقط في الوسائل، بل في الرؤية الوجودية، والمقاصد النهائية، والمكوّن البنيوي للتربية نفسها.

 

التصوف والإسلام: علاقة الحاجة بالبديل

ليس الإسلام في صورته الكاملة بحاجة إلى إضافات من خارج منظومته، فبنيته تحتوي على كل ما يلزم لتحقيق المقاصد الكبرى: تزويد الإنسان بأرقى وأصدق علم بربه، إعداد الإنسان الرباني الفائق ذي الصلة الوثيقة بربه، إعداد الأسرة الصالحة، إعداد الأمة الخيرة القائمة بمهام حمل الأمانة والخلافة في الأرض، تزويد الأمة بما يلزم من قيم وسنن للتعايش السلمي البناء المثمر مع الآخرين، تحرير الإنسان من عبوديته لغير الله.

ولكن الذي حلّ محل الإسلام الحق عبر التاريخ، خاصة منذ التحوّل الأموي، كان دينًا طقوسيًا شكليًا، أُفرغ من جوهره التربوي والوجداني، وأُعيد تشكيله ليخدم أغراض السلطة، وتدجين الشعوب، وتقديس الأسلاف، حتى ولو كانوا من المنافقين أو المنقلبين على الرسالة.

في هذا السياق، ظهرت الحاجة إلى سدّ الفراغ الوجداني والتربوي في هذا "الدين الأعرابي الأموي"، فالتفت الخاصة، من التوّاقين إلى الكمال والعارفين بمآزق الروح، إلى تجارب الزهاد والعُبّاد في الأمم الأخرى، خصوصًا تلك التي حملت تراثًا روحيًا غنيًا كالمسيحية والهندية والفارسية، فتم استعارة عناصر من هذا التراث، بعد تعديلها وتأطيرها لتتناسب – في الظاهر – مع ما تبقّى من الشريعة. وجُمعت هذه العناصر في ما عُرف لاحقًا بالتصوف.

هكذا، يمكن القول إن التصوف لم ينبع من صلب الإسلام الحق، بل ظهر كردّ فعل على خلوّ النسخة الرسمية من الدين من جوهره التربوي والروحي. فهو أقرب إلى أن يكون محرّكًا خارجيًا أُلصق بسيارة تعطّل محركها الأصلي، أو رادارًا خارجيًا أُضيف إلى طائرة فُقد رادارها المدمج.

 

طبيعة التصوف داخل النسق الأعرابي الأموي

رفض التيار السلفي – الذي كان حريصًا على نقاء البنية الأمويّة – التصوف جملة وتفصيلًا، لا لأنهم أدركوا حقيقته الناقصة، بل لأنهم تمسكوا بقشور الطقوس وخافوا من كل ما يهدد سرديتهم المؤسسة على النقلانية الجامدة وتعظيم السلف.

وفي المقابل، قبِل أكثر المتصوفة الدخول في المنظومة السنية الأموية، بل وزايدوا عليهم في تأليه السلف وسدنة الدين الأعرابي الأموي، فأصبح بعض الخلفاء ومؤسسي المذاهب أقطابا وأوتادا.

وهكذا نشأ تيار تصوفي متصالح مع التقديس المرضي للتاريخ والمقابر والطرائق.

أما العوام فوقعوا فريسة هذه الصيغة الشعبية من التصوف، فغرقوا في شرك القبور وانتقلوا للعيش في عالمٍ من الخيال والأوهام، وابتعدوا عن مقاصد الدين الحق، فصاروا أقرب إلى "أُمّة نائمة تدعو ولا تفكر، وتتضرّع ولا تُنتج".

 

التربية النبوية مقابل تربية الطرق الصوفية

في دين الحق، كانت التربية النبوية تهدف إلى بناء الإنسان الكامل: عاقلًا، حرًا، متزنًا، مسؤولًا عن ذاته وأمّته، جامعًا بين الروح والعقل والجسد، وبين الحق والعدل. وهذا النموذج تجسّد في قمّته في شخص الإمام علي بن أبي طالب، رمز العقلانية الإيمانية والبطولة الروحية والسياسية والعلوم النافعة والقيم النبيلة.

أما في الطرق الصوفية، خاصة بعد أن أصبحت مؤسسات دينية وسياسية، فكانت التربية في معظمها قائمة على التلقين، والخضوع المطلق للشيخ، وامتحان المريد بتجارب طقوسية، تجعل منه عبدًا للرمز، لا حرًّا باحثًا عن الحقيقة. وكانت نتيجة هذه التربية أمة ضعيفة، تغرق في الدعاء بدل المبادرة، وفي الخرافة بدل التخطيط.

وخير مثال ذلك ما حدث عندما وصل الجيش الفرنسي العلماني إلى القاهرة، واستعدوا لعبور النيل، وبدلا من أن يتركهم الجيش المملوكي يقومون بهذا العبور الخطر عبر هو إليهم لفرط جهله واستخفافه بهم.

أما في الضفة الشرقية فقد احتشد رجال الطرق الصوفية بكافة أعلامهم وبيارقهم ومعهم الأهالي يشقون عنان السماء بالدعاء بالنصر للمماليك، فكانت النتيجة هزيمة ساحقة سريعة للمماليك وتشتيت شملهم وتفريق جمعهم وفرارهم إلى الصعيد، وعلى رأسهم الحاكم وقائد الجيش مراد بك.

بينما انسحب إبراهيم بك شريك مراد بك في الحكم والوالي العثماني إلى الشام وجنودهم، ولم يشتركوا في القتال، ولم يقاوموا.

كانت جموع الشعب المتصوف تدعو، وتنتظر "الكرامة"، وكانت النتيجة: هزيمة سريعة، تشتت عسكري، وفرار القادة.

هكذا كان الحال في ذروة سطوة التصوف في تلك المرحلة: شعب مريض، ضال جاهل مشرك، يدعو للخليفة العثماني الذي كان يستنزفه، بدل أن يسعى إلى خلاصه.

 

التصوف ومقاصده مقابل مقاصد دين الحق

دين الحق يحمل مقاصده الواضحة: ومنها تحرير الإنسان، إقامة العدل، تحقيق المعرفة التوحيدية، بناء أمة شاهدة على الناس. أما التصوف – وإن سعى إلى مقاصد روحانية – فإنه فقد بوصلته حين انعزل عن العقل، وتخلّى عن الواقع، ورضي بالعزلة بدل المسؤولية.

ومع ذلك، فإن التصوف الراقي، في لحظاته النادرة، حين اقترن بالعقل والتجديد والصدق، قدّم بعضًا من أفضل النماذج في التاريخ الإسلامي: من أمثال ذي النون المصري والجنيد البغدادي وأحمد الرفاعي ونجم الدين الكبرى والنفري وأبي الحسن الشاذلي وابن عطاء الله السكندري، والفاروقي السرهندي وغيرهم، وهؤلاء لم يكونوا تابعين للمنظومة الرسمية، بل غرباء عنها، كما هو حال "دين الحق" نفسه.

 

خلاصة

  1. الإسلام الكامل ليس بحاجة إلى التصوف، لأنه يتضمن الجوهر الذي افتقدته النسخة الرسمية من الدين.
  2. التصوف جاء كردّ فعل على فقر تلك النسخة، فأُضيف إليها كجهاز خارجي يعوّض غياب الجوهر وضعف المحرّك الداخلي.
  3. التربية النبوية تحقق مقاصد الدين العظمى، ومنها إنساء أمة حية فعالة إيجابية، بينما تربية الطرق الصوفية قد تنتج رجالا متفوقين على المستوى الوجداني، وذلك على المستوى الفردي الخاصّ، بينما تكرّس العجز والخضوع. والشرك وعبادة المشايخ والمقابر على المستوى العام.
  4. رغم ذلك، فإن التصوف الراقي – حين يخلو من الخزعبلات – يظل أفضل ما هو متاح للمسلمين الذين حُرموا من دين الحق.

الأربعاء، 25 يونيو 2025

مراتب الصلاح العليا

مراتب الصلاح العليا

إن مرتبة الرسول النبيّ هي أعلى مراتب الصلاح الإنساني، فهي تجمع بين المقامين: النبوة التي هي اصطفاءٌ بوحيٍ يتلقاه النبيّ من ربّه، والرسالة التي هي تكليفٌ بتبليغ ذلك الوحي إلى الناس وقيادتهم به.

الرسول النبي هو بالأصالة صاحب رسالة كبرى، ويتلقى من الله وحيا، وهو مأمور بإعداد أمة من الصالحين.

تليها مرتبة النبي المرسل، وهو بالأصالة نبي، ولكنه تلقى رسالة في إطار رسالة كبرى سابقة.

وتليها في الرتبة النبوة المحضة، وهي مقام من اصطفاه الله بالوحي ولم يُكلفه بتبليغٍ عامّ، وقد خُتمت النبوة بما لا يُبقي مجالًا لادّعائها بعد تمام نزول الكتاب.

وبختم النبوة ختمت مرتبتا الرسول النبي، والنبي المرسل.

أما الرسالة بدون نبوة فهي باقية، والملائكة رسل، وهم باقون، وهم مكلفون بأداء رسالات بطريقة غيبية تخفى على الناس، والملائكة باقون ما بقي أمر الله يجري في العالم، والمرتبة تشمل أيضًا كل من يبلّغ عن الله بشرط أن يكون قوله متسقًا مع الوحي الخاتم، غير مُدّعٍ لما خُتم.

وفي مقابل ذلك، تُعدّ الإمامة مقامًا آخر من مقامات التأثير والهداية، وهي قد تكون في الخير كما تكون في الشرّ، قال تعالى:
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73]، وقال في النقيض:
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص: 41]

فـالإمامة في الخير منزلة من منازل الصلاح، وهي مزية وظيفية لا تقتضي بالضرورة الأفضلية الذاتية، إذ قد يُجعل الإنسان إمامًا في قومه لا لكونه أفضل الناس مطلقًا، بل لأنه أليقهم بتحمل المسؤولية العامة والتأثير الفعّال. وهذه الإمامة لا تنال بالطلب، بل تكون بجعلٍ إلهيّ مخصوص، قال تعالى:
{إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124]

ومن جعله الله إمامًا للناس في الدين، فإن الله يُيسّر له ما به تَتِمُّ وظيفة التأسي، فيُحفَظ من سيرته وذكره وأقواله ما يُحتاج إليه للاهتداء به، على قدر ما أراده الله من هدايته للناس.

وهكذا يتّضح أن الرسالة، والنبوة، والإمامة، مراتب مختلفة من الصلاح والهداية، يجري التمييز بينها من حيث الأصل والمقصد والوسيلة،

والإمامة مرتبة وظيفية، قد تكون لرسول نبي، وقد تكون لعبد صالح تقي.

الترف

 *الترف

الترف حالة نفسية وسلوكية يُصبح فيها الإنسان متعلقًا بالأشياء ذاتها، لا بوظيفتها كوسائل لتحقيق مقاصد الدين. فيفقد وعيه بالمقاصد العليا، ويغدو التنعم بلذائذ الدنيا وشهواتها غاية قصده ومنتهى علمه، منشغلًا بالنعمة عن المنعِم، وبالنعيم الفاني عن النعيم الباقي، حتى تصير تلك اللذائذ وهمًا في تصوراته وحياته.

الترف لونٌ من الشرك، فالمترف يجعل للأشياء مكانة في قلبه لا يستحقها إلا ربه، ويؤثر الفاني على الباقي، فهو أشقى الخاسرين.

والمترف هو الذي أطغته النعمة حتى تجاوز حد الاعتدال، فاستعلى بسببها على الخلق، وتكبر عليهم، واتبع هواه فيما أُترف فيه، فانقاد بعيدًا عن ربه، مُجرمًا في حق نفسه وفي حق خالقه. فالترف يؤدي إلى قلب نظام الأشياء، حيث يحاول المترف إخضاع الأعلى للأدنى، ويكفر بالسنن والآيات التي تُعلن أن الأشياء مسخرة للإنسان، وأنه مكرم ومسؤول.

ويتضمن الترف عدوانًا على حقوق الإنسان، وولعًا بالاستئثار بما يزيد عن الحاجة، مع إهمال الوظيفة الاجتماعية للاستخلاف في المال، مما يؤدي إلى شيوع الفسق، وإضعاف بنية الأمة ومتانتها الحضارية.

ولقد بيّن القرءان أن انتشار الترف، وتكاثر المترفين، من الأسباب الكبرى لهلاك الأمم وزوال الحضارات. وقد جاءت الآيات القرآنية شاهدة على ذلك، منها قوله تعالى:

{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود: 116]،
{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16]،
{لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 13]،
{وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} [المؤمنون: 33]،
{حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} [المؤمنون: 64]،
{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ: 34]،
{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]،
{إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة: 45].

وهكذا، فإن الترف حين يتمكن من النفوس، ويغمر المجتمعات، يضعف قيمها العليا، ويهوي بها إلى الفسق والفساد، فيحل بها العذاب، وتسقط في مهاوي الهلاك.

الترف ليس ظاهرة اقتصادية أو اجتماعية فحسب، بل هو ظاهرة نفسية وحضارية ذات آثار عميقة في مصير الأفراد والأمم، وإن التصدي لآثار الترف يتطلب ترسيخ معاني الاستخلاف، والاعتدال، والشكر في الضمير الجمعي، بحيث تبقى النعم خاضعة لمقاصد الدين وغايات الاستخلاف، لا موجهة نحو التعلق بالدنيا وانغماس الذات فيها. ومن ثم، فإن محاربة الترف تمثل ضرورة حضارية لبناء مجتمع راشد قوي متماسك، يستمد بقاءه من ارتباطه بالله ومن تحكيمه لمنظومة القيم العليا.

الترف ليس مجرد إسراف في المتاع، بل هو انحراف في التصور والسلوك، يقطع الإنسان عن ربه، ويجعله عبدًا للنعيم الفاني، لا لنعيم الحق الباقي، فليحذر المؤمن أن تغلبه نعمة دنيوية على شكرها، أو أن تفتنه زخارف الأرض عن غاية وجوده، وليجعل من المال نعمةً طيبةً بين يديه، لا لعنةً تجثم على قلبه، فالنجاة كل النجاة في الاعتدال، والشكر، والقيام بوظيفة الاستخلاف أداءً للحق، ووفاءً بالعهد مع الله تعالى.

أخرج حب الدنيا والترف من قلبك، وعظِّم فيه ربَّك، فهو خيرٌ وأبقى.

الأحد، 22 يونيو 2025

دين الحقّ لم يُفعّل بعد

دين الحقّ لم يُفعّل بعد

يشيع في بعض الأوساط الفكرية والحقوقية المعاصرة القول بأن أديان التوحيد تُكرّس للاستبداد، وتُمعن في احتقار الإنسان وازدراء حقوقه، بينما تُعدّ أديان الشرك والتعددية مصدرًا للحرية والتسامح والديمقراطية.
وهذا التصور، وإن كان مفهومًا في سياق ما شهده التاريخ من انحرافات دينية جسيمة، إلا أنه مجافٍ للحقيقة إذا ما تم تحليل المسألة في ضوء التمييز الدقيق بين دين الحق بوصفه وحيًا ربانيًا خالصًا، وبين ما انتحل اسمه من نظم مذهبية وسياسية وأيديولوجيات بشرية شوهت جوهره.

حقيقة دين الحقّ وتاريخ تعطيله

دين التوحيد الحقّ، الذي أنزله الله على أنبيائه وخُتم برسالة محمد ﷺ، هو دين قائم على تزكية النفس، وتحرير الإنسان من كل عبودية لغير الله، وتهذيب علاقته بذاته وبالكون وبالآخرين على أساس الحق والعدل، والرحمة، والكرامة الإنسانية.

غير أن هذا الدين لم يُفعّل يومًا في التاريخ تفعيلًا كاملًا، وذلك لأنه لم يُتح له أن يتحقق اجتماعيًا وسياسيًا في بنيته الأصلية التي خُتم بها في أواخر العصر النبوي.

لقد اكتمل دين الحق قبل وفاة النبي ﷺ، ولكن اللحظة التاريخية التي كان يفترض أن يبدأ فيها التفعيل المؤسسي والاجتماعي الكامل له، شُوهت بفعل انقلاب مبكر بدأ عندما رفض القرشيون وصية النبي العلنية بإمامة عليّ، وقطعوا عليه – صراحة – رغبته في كتابة الكتاب الجامع الذي لا يضل من تمسك به، خوفًا من أن يكون "حجة" عليهم، كما قال عمر.

السقيفة وبدء الانحراف المؤسسي

ما حدث في السقيفة لا يمكن اعتباره امتدادًا لدين الحق، بل هو انحراف سياسي مبكر وقع في لحظة فراغ حرجة، تم فيه إقصاء النصّ، وفرض التوافق العشائري على حساب الوحي.

نجح الحزب القرشي في إقامة دولة لحسابهم على حساب مفهوم الأمة الخيرة القرءانية، الداعية إلى الخير، التي تقدم للبشرية القيم الحقانية الإسلامية.

 لم تستند قرارات الخلفاء الثلاثة إلى نصوص قطعية من كتاب الله، بل غلب عليها البراجماتية والاجتهاد الشخصي الآني، وكانت الشورى التي طُبقت لاحقًا شورى مجتزأة لا تتعدى بعض القضايا الثانوية مثل ميراث الجدة، أو الاستئذان، أو تقدير المهور، بينما تم تجاهل الشورى الكبرى في الشؤون المصيرية والسيادية.

وفي عهد الخليفة الثالث تحديدًا، وقع الانحراف الأكبر، إذ أُقصي البعد القيمي في السياسة، وبدأت مؤشرات المحسوبية والتمييز الطبقي والظلم الجهوي في التصاعد، مما مهّد لثورة غاضبة أطاحت بالحكم، وأتت بالإمام الحق، غير أن قوى قريش – وعلى رأسها بنو أميةتحالفت ضده، واستعرت الحرب بين أهل الحق وأهل البغي.

دين بديل: من الانقلاب إلى التنميط

منذ أن تغلّب أهل البغي والمنافقون والمنقلبون على الأعقاب، تمت إعادة صياغة دين موازٍ انتحل اسم الإسلام، لكنه لم يحتفظ منه إلا بقشور شعائرية ومصطلحات لغوية، أما روحه ومقاصده فقد غُيّبت، اختفت الجوانب العقلانية والوجدانية، وأصبح الدين أشبه بمدونة قانونية لإدارة شؤون الرعية وسيفًا مسلطًا على أعناق الآخرين.

لقد ظهر دين أعرابي–تلمودي، إقصائي عدواني، مبني على هيمنة السلف، واستبداد الحكّام، وتجميد العقول، وهو ما لا يمت بصلة لدين الحق الذي جاء لتحرير الإنسان وتهذيب السلطة ورفع الكرامة.

وقد سادت هذه النسخة المحرّفة من الدين إلى يومنا هذا، مع تعديلات شكلية طفيفة رفضها أصحاب التيار "الأثري"، الذين يمثلون اليوم ما يُعرف بالسلفية. ورغم ظهور مذاهب أخرى مثل التشيّع، وإدخال تحسينات كلامية ووجدانية، إلا أن معظمها نُسج على ذات الهيكل الموروث، وظل يتوارث نفس الأخطاء البنيوية في التصور والتشريع والسلطة.

استثناءات فردية: شواهد من النور

ومع ذلك، لا يخلو التاريخ من أفراد – في كل مذهب – سعوا بصدق إلى تحصيل العلم الحق، والتعبد وفق مقتضى العدالة والهدى. هؤلاء لم يكونوا مقلدة ولا أبواقًا للمذهب، بل كانوا باحثين عن الحق، متحررين من عبودية السلف، يُعملون عقولهم ونفوسهم في ميزان الوحي.

لقد أدرك هؤلاء أن دين الحق ليس انتماءً مذهبيًا، بل هو رؤية توحيدية متكاملة، تؤسس لعالم يتعبد فيه الإنسان بإقامة العدل، وباحترام حقوق الإنسان وكرامته، وبالتحرر من الأصنام المعنوية والسلطوية، وكل ما يُغرق الإنسان في دونيته.

الثلاثاء، 10 يونيو 2025

*الكَذِبُ: ركنٌ من أركان منظومة الصفات الشيطانية

 

*الكَذِبُ: ركنٌ من أركان منظومة الصفات الشيطانية

الكذب ليس مجرد خطأ عابر في اللفظ أو الموقف، بل هو من أركان منظومة الصفات الشيطانية، ومن أمهات الرذائل الوجودية التي تُناقض الحق وتُخرّب كيان الإنسان من داخله. وهو ضدُّ الصدق، سواء باعتباره صفةً أو فعلًا. فالكاذب هو من يقول ما يُخالف الحقيقة مع علمه بها، أي أنه ينطق بما يعلم أنه باطل، ويُزيّن الباطلَ بكلمات تُوهِم بالحق، فيكون بذلك قد خان فطرته وخرق ميثاقه مع الحقيقة.

ومن يتحرّى الكذب ويُمارسه بوعيٍ وتكرار، تترسّخ فيه هذه الصفة حتى تصبح جزءًا من بنيانه النفسي، ويتحول الكذب عنده من فعلٍ إراديّ إلى عادةٍ تلقائية، بل إلى سمةٍ جوهرية يُنتجها قلبه دون تكلّف، ومن كانت هذه حاله، فقد انقلبت فطرته، وتحول إلى كيانٍ يحجب النور ويأنس بالظلام.

الكذب وانفكاك الإنسان عن الحقانية

الكذب مضادّ مباشرٌ لمقتضيات منظومة الأسماء الإلهية الحقّانية:

  •  (الْحَقّ): الذي يقتضي المطابقة التامة للوجود الثابت.
  •  (الْمَلِكُ الْحَقّ): الذي هو المالك المُطلق للوجود الحقيقي.
  • (الْحَقُّ الْمُبِين): الذي يقتضي ويقدر الحقائق الظاهرة البينة.
  •  (الْمَوْلَى الْحَقّ): الذي هو السيّد المُطلق الذي يقوم بالقسط ويحكم بالعدل ويقضي بالحق.

فمن يكذب عمدًا فقد نأى بنفسه عن ربّه، أي ابتعد عن مصدر وجوده وبقائه وقوّته. الكذب انقطاعٌ عن العهد الإلهي، وتمزيقٌ لوشائج النور، واختيارٌ واعٍ للارتماء في أحضان العدم.

الكذب: نصرةٌ للباطل على حساب الحق

إن الكذب ليس مجرد تبديلٍ للحقائق أو تشويهٍ للوقائع، بل هو انحيازٌ عميق للباطل في وجه الحق، وللعدم في وجه الوجود، وللوهم في وجه الحقيقة.

الكذبُ هو ادّعاء الوجود لما ليس بموجود، وتزيين العيب على حساب الكمال، وتقديم ما لا ينبغي أن يُقال على ما يجب أن يُقال.

الكذب خيانة للواقع، وتآمر على الحقيقة، ومُمالأة للشيطان ضد الرحمن.

فالكاذب، في كل مرةٍ يكذب فيها، إنما يُعلن عداءه للمُطلق الحق، ويُشعل نار الباطل في كيانه، ويُفسد ميزان نفسه.

إن الكذب هو قُربانٌ يُقدَّم للشيطان، وعقدُ ولاءٍ مع أعدى أعداء الإنسان.

إبليس: أول من كذب

لقد كان إبليس – لعنه الله – أوّل من اقترف إثم الكذب، بل أول من حوّله إلى وسيلةٍ للإغواء. كذب على آدم وزوجه، بل وأقسم بالله كاذبًا، فجمع بين جُرمي الكذب واليمين الغموس. وهكذا كان الكذب أول خيانة تُرتكب في تاريخ الإنسانية، وأول سلاح استُعمل لخرق العهد مع الله، وأول خطوة في طريق الغواية الكبرى.

الكذب: مخالفةٌ لقوانين الفطرة والوجود

الكون كلّه مخلوقٌ بالحق والميزان، والإنسان مفطورٌ على الصدق. فحين يكذب الإنسان، فإنه يخالف قوانين الوجود، ويشقّ على فطرته، ويجلب على نفسه حربًا من قِبل السنن الإلهية التي لا تحابي أحدًا، إذ الكذب يناقض بنية الواقع، ويُفسد توازن النفس، ويستجلب عواقب وخيمة في الدنيا والآخرة.

فمن افترى الكذب، فقد خان الأمانة، وسار في طريق التدمير الذاتي، وما أقسى أن يُصبح المرءُ عدُوّ نفسه، ومُهلكَ كيانه بيده!

الكذب: فسادٌ للفطرة، وتشويهٌ للوعي

الكذب صفة عدمية تنقض سِمة الحقّ الوجودية، وتفسد بناء الإنسان النفسي والمعرفي. ومن يتحرى الكذب، إنما يهرول نحو العدم، ويُدير ظهره للنور، ويُؤثر الظلمة. إن الكاذب يفرّ من وجه الرحمن، ليُلقي بنفسه في أحضان الشيطان. وكفى بالمرء جهلًا وخسّةً أن يختار الزيف على الصدق، والعدم على الوجود، والعدو على الحبيب!

آثار الكذب على النفس

الكاذب الذي يُداوم على الكذب يدمر كيانه الجوهري، بما يجلبه من أمراض نفسية وأخلاقية وروحية، ويُمهّد لتفاقم خطرها. ومن استمرأ الكذب، فإنه يُفسد فطرته، حتى تنقلب عليه آثار كذبه، فلا يحتمل نور الحقيقة، ويستطيب ظلام الباطل، ويُصبح مهيّأً، في نهاية المطاف، ليتبوأ مكانه في جهنم.

فالإنسان إما أن يسعى في اتجاه النور، أو يَسقط في مهاوي العدم؛ ومن يُصدّق الكذب أو يُروّجه أو يُجاريه، إنما يُشارك في مشروع الخراب، ويخون الله وضميره والإنسان.

في الختام

الكذبُ جريمةٌ وجودية، وخيانةٌ للأخلاق الربانية، ومظلمةٌ أخلاقية. وهو نقيض الصدق الذي به قُوّمت السماوات والأرض.
فليحذر الإنسان أن يُصبح عبدًا للكذب، مُنحازًا للعدم، مُستحقًّا للغضب الإلهي.
وليكن من أهل الصدق، فإن الله مع الصادقين.

الصبر: ركنٌ تفصيلي لوازمي من أركان الدين

 

الصبر: ركنٌ تفصيلي لوازمي من أركان الدين

الصبر هو أحد الأركان التفصيلية واللوازمية من بنية الدين، وهو ركن أساس في منظومة القيم الإسلامية. وقد أولاه القرءان الكريم عناية فائقة، فقرنه بأركان دينية كبرى كالصلاة، بل قدّمه عليها أحيانًا، وأمر به في مواضع كثيرة بأشد العبارات وأوضحها، مما يدل على منزلته الجليلة وضرورته الوجودية.

تعريف الصبر ومجالاته

الصبر هو السِّمة المعبرة عن متانة البنيان النفسي، وهو يتجلى في التجلّد، والثبات، والتماسك، ومتابعة العمل، والقدرة على التحمل في مختلف مستويات الحياة. فهو يشمل:

1- تحمُّل أعباء إقامة الدين.

2- الثبات أمام الشدائد والمحن والابتلاءات.

3- ضبط النفس في مواجهة الانفعالات المدمرة كالغضب، والحقد، والرغبة في الانتقام.

ويُقابل الصبر على المستوى الصفاتي: الجزع والهلع.
ويُقابله على المستوى العملي: الارتداد على الأعقاب، والنكوص، والإخلاد إلى الأرض، والفرار من ميدان الجهاد أو القتال.

مكانة الصبر في بنية الدين

الصبر ليس مجرد خُلُق محمود، بل هو ركن تفصيلي لوازمي، أي أنّه:

  • من لوازم الأركان الكبرى الثلاثة:

1.   ركن التزكي

2.   ركن الجهاد في سبيل الله

3.   ركن عبادة الله

  • من مقتضيات أسماء إلهية عليا في كيان الإنسان، مثل: الصمد والقوي والمتين والسلام
  • الصبر بوصفه تجليًا لمتانة البنيان النفسي

الصبر هو المقابل النفسي للقوة الجسدية، وهو معيار تماسك الكيان الإنساني واستقامته. ومن لوازمه:

أ‌.      الجلد والثبات.

ب‌.  الصمود أمام الابتلاءات والمصاعب.

ت‌.  القدرة على تجاوز المثبطات والضغوط النفسية.

ث‌.  الاستمرار في العمل رغم الإخفاقات أو تأخر النتائج.

الصبر لا يعني الخنوع أو الاستسلام، بل هو المثابرة والعمل الدؤوب، والصمود أمام الصعاب، والارتقاء فوق المحن، والثقة بوعد الله، وعدم استعجال النصر.

الصبر والإيمان

يرتبط الصبر ارتباطًا وثيقًا بالإيمان والتوكل على الله والثقة بوعوده، كما أنه يرتبط بثقة الإنسان بنفسه وبقدراته التي هي أثر من آثار الأسماء الإلهية.
ومن يجتمع فيه الإيمان، والصبر، والفقه، فقد بلغ شرط الغلبة والانتصار.

آثار الصبر في الكيان الإنساني

الصبر هو أثر من آثار الأسماء الإلهية، مثل: الصمد والقوي والمتين والسلام في كيان الإنسان، ويظهر في:

1.   تحمّل أعباء الأمانة.

  1. الوفاء بالتكاليف.
  2. الاضطلاع بمهمة الاستخلاف في الأرض.
  3. الثبات في طريق تحقيق المقاصد الكبرى للدين.

العلاقة بين الصبر وبقية الأركان

  • ركن التزكي: يقتضي اكتساب هذه الصفة والتطهر مما يناقضها.
  • ركن اجتناب الكبائر والفواحش: يتطلب ألا يتصرف الإنسان وفق مقتضيات الجبن والهلع، اللذين يقودان إلى النكوص والفرار من مواجهة المحن.

أنواع الصبر

1.   الصبر على الطاعات: تحمّل مشقة الأوامر الشرعية، في ظل طبيعة النفس، وصعوبة الحياة، وغلبة الإعراض في الناس.

2.   الصبر على التكاليف والأمانة: المثابرة على أداء أركان الدين ومقاصده دون ملل أو فتور.

3.   الصبر في سبيل الله: تحمّل المشاق والمجاهدة في إقامة الدين.

4.   الصبر حين البأس: الثبات في ميدان المعركة ومواجهة الأعداء.

5.   الصبر في البأساء والضراء: القدرة على تجاوز المحن والشدائد دون انهيار.

6.   الصبر في متابعة العمل: الاستمرار حتى بلوغ الغاية وتحقيق الهدف.

الصبر بوصفه سِمة جماعية

الصبر ليس مجرد صفة فردية، بل هو صفة تلزم الجماعة كما تلزم الفرد. وقد يكون هناك أفراد صابرون لا تشكل جماعتهم كيانًا صابرًا، إذا غابت آليات الترابط والتكامل. والعكس أيضًا ممكن؛ فقد تتخلق جماعة بالصبر رغم ضعف بعض أعضائها، إذا وُجدت منظومة قيمية وروحية تربطهم وتشدّ أزرهم.