الأحد، 8 يونيو 2025

منظومة السُّنن الشرعية: البنية، التصنيف

منظومة السُّنن الشرعية: البنية، التصنيف

1-          مدخل عام

يحتوي الدين، في بنيته التكوينية، على منظومات متكاملة تؤطر العلاقة بين الإنسان وربه، وبين الإنسان ومجتمعه، وبينه وبين الوجود. ومن بين أعظم هذه المنظومات وأوسعها أثرًا: منظومة السُّنن الشرعية، وهي المنظومة التي تضم ما شَرَعَه الله تعالى لعباده من أوامر وتكاليف وسلوكيات، يجب أن يتخذوها سُننًا؛ أي أنماطًا دائمة من الفعل والالتزام. وتلك السنن ليست مجرد أوامر نظرية، بل هي وسائل فعالة لتحقيق المقاصد الكبرى للدين والفلاح في الدارين.

 

2-           تعريف منظومة السُّنن الشرعية

تشير "السنن الشرعية" إلى كل ما سَنَّه الله تعالى لعباده من تكاليف وأوامر في الكتاب العزيز، بحيث يُطلب منهم الالتزام بها والتعبد بها واتخاذها منهجًا وسلوكًا مستمرًا. وتُفهم هذه السنن على أنها:

  • أوامر قرءانية (صريحة أو ضمنية) يجب أن تصبح من عادات الإنسان وطرائقه ونهجه الدائم.
  • برمجة سلوكية دينية تهدف إلى غرس أنماط من الفعل تتكرّر بقصد تحقيق مقاصد الدين الكبرى.
  • شرائع مرنة تتسع لاختلاف الحالات والكيانات (فرد، أسرة، أمة، دولة، زمن سلم، زمن حرب... إلخ).

 

3-           بنية المنظومة: التنوع حسب الكيان المكلف

تتصف السنن الشرعية بمرونة تنظيميّة تسمح بتوزيعها وفق طبيعة الكيان الذي يُخاطب بها، وهو ما يكشف عن عُمق البنية المقاصدية للدين، ويمكن تصنيف السنن بحسب ذلك على النحو الآتي:

  • سنن فردية: تُلزم الفرد المسلم في ذاته، كالصلاة، الصدق، غضّ البصر، التعفف، طلب العلم.
  • سنن جماعية/أممية: تُخاطب بها الأمة ككل، كالأمر بالمعروف، الجهاد، إقامة العدل.
  • سنن خاصة بالمرأة أو بالرجل بحسب الخصوصيات.
  • سنن متعلقة بوليّ الأمر: كالعدل بين الناس، حراسة الدين، إقامة الحدود بمقاصدها.
  • سنن ظرفية: كالسُّنن المتعلقة بأوقات القتال، أو التعامل مع غير المسلمين، أو إدارة الخلاف.

 

4- تفريع المنظومة: السنن العبادية والسنن المعاملاتية

4.1  منظومة سنن العبادات

تشمل جميع الأوامر والسلوكيات المتصلة بعلاقة الإنسان بربه، وهي لا تقتصر على مظاهر الشعائر، بل تمتد لتشمل:

  • الغاية المعرفية من العبادة: تدبُّر الآيات، توسيع ملكة الوعي بالله.
  • الأثر الأخلاقي المطلوب: كالخشوع، والتواضع، والتقوى.
  • استعمال الملكات الذهنية والوجدانية: فكل ما حثّ عليه القرءان من تأمل وتفكر وتقدير يدخل ضمن السنن العبادية.

4.2  منظومة سنن المعاملات

تضم القواعد والمبادئ التي تنظّم العلاقات بين الناس، من الأسرة إلى الدولة، وتشمل وفقًا للمنهج الحديث:

  • الأحوال الشخصية (الزواج، الطلاق، النسب، المواريث...).
  • المعاملات المالية والمدنية.
  • القانون الجنائي والمرافعات.
  • القانون الدستوري والدولي.
  • القوانين الاقتصادية والإدارية.

ويتم في دين الحق الربط الصريح بين كل سُنّة ومقصدها، بحيث لا يُفصل الحكم عن حكمته، ولا الوسيلة عن الغاية.

 

5-  أصناف السُّنن بحسب ورودها في القرءان

5.1  السُّنن بالأمر المباشر

هي الأوامر أو النواهي التي وردت بصيغ أمر صريحة في الكتاب، مثل:
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُون، إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ، أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ، إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِين.

5.2  السُّنن بالإشارة أو الفحوى

هي الأوامر التي تُفهم من خلال فحوى الخطاب أو قرائن المدح والذم أو الوعد والوعيد، مثل:

  • مدح الله المتطهرين، الصادقين، الصابرين، المتوكلين.
  • وعد الله المؤمنين والمتقين بجنات الخلد.
  • ذمّ الله الظالمين، المسرفين، المتكبرين.

وهذه تُعد أوامر شرعية وإن لم تأت بصيغ مباشرة، لأنها تحمل دلالة إلزام أو تحفيز ضمني معتبر.

 

1- وظيفة المنظومة في تحقيق مقاصد الدين

إن السنن الشرعية، بوصفها أوامر إلهية يجب الالتزام بها، تمثل وسائل لتحقيق مقاصد الدين العظمى، ومنها:

  • تحقيق العدل.
  • بناء النفس الإنسانية على التقوى والنقاء.
  • تنظيم الحياة بما يحقق الصلاح.
  • تحقيق العبودية لله بمعناها الكامل.

وهكذا، تتحول السنن إلى قنوات تربوية وتشريعية تنقل الإنسان من الفوضى والغريزة إلى الكمال العقلي والروحي والاجتماعي.

 

2- ضرورة البيان الكامل للسنن الشرعية

لكي يُعمل بالسنن الشرعية كما أرادها الله تعالى، يجب أن يكون لدى المسلمين بيانٌ وافٍ بها، وهذا يستلزم:

  • بيان سنن كل كيان (المرأة، الأب، وليّ الأمر...).
  • تحديد الواجبات والانضباطات المطلوبة منهم بحسب موقعهم.
  • معرفة مناطق العفو التي لا يُسأل فيها الإنسان ولا يُطالب فيها بالاستفتاء.

وبذلك تنتفي الحاجة إلى وجود طبقة كهنوتية تحتكر التفسير أو الفتوى، وهو ما ينقض مقاصد الدين لو تحقق.

 

3-  نقد الكهنوت والاستغناء عنه بمنظومة السنن

من خصائص دين الحق أنه لا يتضمن طبقات كهنوتية، ولا يعترف بمبدأ "الواسطة الإلزامية" بين الإنسان وربّه في التشريع أو العبادة. بل إن وجود منظومة سنن شرعية مفصّلة، واضحة، ومتصلة بمقاصدها، يجعل الفرد المسلم قادرًا على فهم دينه والعمل به من دون وصاية.

ولهذا فإن استنبات كهنوت ديني باسم الفتوى أو الفقه المؤسسي المغلق، هو اعتداء على جوهر الدين، ولا يجوز التساهل معه أو مجاملته.

 

خاتمة

إن منظومة السنن الشرعية هي جوهر الشريعة ولبّ الدين العملي، وهي التي تصوغ سلوك الإنسان وفق أوامر الله، وتربطه بالمقاصد الكبرى للدين. وهي منظومة مرنة، شاملة، تتسع لتنوع الحالات والكيانات، وتلغي الحاجة إلى الوساطة الكهنوتية، وتؤكد أن الدين هو بيانٌ وتكليفٌ ومسؤوليةٌ فردية وجماعية، وبدون هذا الفهم للسنن، يتحوّل الدين إلى جُمود أو غموض، وينقطع أثره الفعّال في إصلاح الحياة وبناء الإنسان.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق