الثلاثاء، 10 يونيو 2025

الرسول والدولة: قراءة قرءانية لمفهوم السلطة في الإسلام

 

الرسول والدولة: قراءة قرءانية لمفهوم السلطة في الإسلام

لم يكن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ ملكًا ولا إمبراطورًا، ولم يكن يملك شيئًا من متعلقات الحكم الوراثي أو السياسي، حتى يورّث ذلك لأحد من بعده. لقد نفى القرءان عنه جميع لوازم التسلّط والاستعلاء على الناس بأشدّ العبارات وضوحًا، فقال:
{.... وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقرءان مَن يَخَافُ وَعِيد} [ق:45]

{لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِر} [الغاشية:22]

{وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيل} [سورة الأنعام: 66]

{..... وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل} [سورة الأنعام: 107]

{... وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل} [الزمر:41]

{..... اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل} [الشورى:6]


وقد أمر الله الناس بطاعته لا بوصفه حاكمًا دنيويًا، بل بوصفه رسولًا مبلّغًا عن ربّه، لذلك لم يأت أمرٌ بطاعته إلا بصفته كرسول.

كما لم يُكلّف الرسول بتأسيس ما يُعرف اليوم بـ "الدولة" على النحو المؤسسي، إذ إن الإسلام دين عالمي خالد، لا يجمّد ما هو بطبيعته متغيّر، ولا يفرض شكلًا ثابتًا للحكم أو نظامًا سياسيًا بعينه. الرسالة القرءانية لم تُكلّفه بتأسيس دولة، بل أوكلت إليه مهمة إعداد أمة مؤمنة، آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر، داعية إلى الله، وشاهدة على الناس.

كان الرسول يريد للأمور أن تستمر بعده كما كانت في حياته: أمة تحكم نفسها بنفسها، أفرادها آمِرون مأمورون، يتحملون مسؤولياتهم، ويتولى الإمام علي استكمال مهمته في التعليم والتزكية والقضاء، لا بوصفه حاكمًا سياسيًا، بل كامتداد وظيفي للنبوة من حيث التربية والبيان، وقد شهد له بأنه خليفته وهارون الأمة وولي كل مؤمن.

وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، صار شهيدًا عليهم لا مسؤولًا عن اختياراتهم، وقد أدى ما عليه: بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وأشهدهم على ذلك، وهم المسؤولون بعده عما اختاروه لأنفسهم. أما الدعوة إلى الله، فهي ركن ديني دائم، واجب على الفرد والأمة.

كان الإمام عليّ أحقّ الناس بتحمّل هذه المهمة لما له من سبقٍ وتميّز: فهو أول من أسلم، وتربّى في بيت النبوة، ونشأ على الإسلام الخالص، وتفوق في جوهره علمًا وزهدًا وعدلًا. لذلك كان اختياره من الناحية الدينية الجوهريّة هو الأمثل، وإن لم يتحقق على المستوى الواقعي والسياسي.

وفي الحقيقة، لا وجود في الإسلام لمصطلح "الحاكم" بمعنى Ruler أو Sovereign، بل الحاكم في الإسلام هو من يحكم بين الناس، لا عليهم. قال تعالى:

{..... فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين} [المائدة:42]

{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ .....} [المائدة:48]

{وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُون} [المائدة:49]

{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء:65]

أما مفهوم "أُولي الأمر"، فهو المفهوم القرءاني الأصيل، ويعني أصحاب الكفاءة والمسؤولية في الشأن العام. وكلمة "أمير" في السياق الإسلامي لا تشير إلى النُّبل الطبقي أو الوراثي كما في النظم الملكية، بل تعني ببساطة من يملك سلطة إصدار الأوامر داخل جماعة معينة، قلت أو كثرت، وفقًا لمقتضيات المصلحة وتنظيم المهام.

والنبي لم يسعَ إلى دمج الكيانات القبلية التي أسلمت في وحدة سياسية مركزية، بل ترك كل كيان على حاله، لا يتدخل في طبيعة نظامه أو هيكله السياسي، وإنما يرسل إليهم معلمًا، وقاضيًا، وجابيًا للزكاة. وكانت طاعتهم له من منطلق الإيمان، لا باعتباره سلطة سياسية. ولذلك، لما تولّى أبو بكر الخلافة، ولم يشارك كثير من العرب في اختياره، وطلب منهم الطاعة كما كانوا يطيعون الرسول، رفضوا ذلك، لعدم وجود مسوّغ ديني أو قانوني معتبر، خصوصًا أنهم لم ينكروا الإسلام ذاته.

ورأى أبو بكر أن من واجبه توحيدهم قسرًا في كيان سياسي واحد، سواء رضوا أو لم يرضوا، وقد اجتهد في ذلك، والاجتهاد البشري لا يخلو من مزايا وعيوب. وكان أول المعترضين على قراره بشن حرب شاملة ضد من امتنعوا عن دفع الزكاة هو عمر بن الخطاب نفسه، أقرب أنصاره، وشريكه في مشروع إقامة الدولة القرشية، مما يدلّ على أن ما حصل لم يكن من الدين في شيء، بل اجتهاد سياسي محض، ولعلّ أخطر ما ترتّب على تلك المرحلة هو التحول من "أمة مؤمنة" إلى "دولة قرشية" حلت محلها.

ولم تحدث ردة عامة كما يُروّج، ولكن رفض كثير من العرب دفع الزكاة لأبي بكر بعضهم بدافع الأنفة والكرامة وبعضهم لعدم اقتناعهم بشرعية مطالبته، بل إن بعضهم أعلن تمسكه بالإسلام، ومع ذلك تعرّض للقتل والتنكيل، في حروب يمكن وصفها بدقة بأنها "حروب تأسيس الدولة القرشية المركزية"، وهي، ككل قرار استراتيجي بشري، لا قداسة لها، وتُقيّم بموازين المصلحة والمآل، لا بمقاييس الإيمان والكفر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق