السبت، 7 يونيو 2025

موقع الأركان الخمسة في ضوء المعيار القرءاني

 

موقع الأركان الخمسة في ضوء المعيار القرءاني

مقدمة

كثيرًا ما يُقدَّم الدين في الوعي الجمعي من خلال مجموعة من الشعائر والأركان الظاهرة، تُعرَف باسم "أركان الإسلام الخمسة". وقد استقر هذا التصور في الذهنية الإسلامية المعاصرة حتى بات معيارًا لتحديد الانتماء الديني والحكم على إيمان الفرد وصحة تدينه. إلا أن هذا التصور، رغم انتشاره، يطرح إشكالات جوهرية عند إخضاعه للتحقيق القرءاني الدقيق، لا سيّما إذا نظرنا إليه باعتباره تمثيلًا لبنية الدين في كليّته.

المقصد هنا مراجعة هذا التصور السائد، من خلال إعادة فحص موقع الأركان الخمسة الظاهرة في ضوء النص القرءاني المهيمن، وبيان الفرق الجوهري بين الأوامر الشعائرية والأوامر الجوهرية والمقاصدية، مع التأسيس لمعيار قرءاني أصيل يضبط تراتبية الأوامر، ويعيد ترتيب الأولويات الدينية بما ينسجم مع غايات الدين الحقّ، كما يُبيّنه كتاب الله العزيز.

أولًا: الأركان الشعائرية وتعريفها

تُعرف الأركان الخمسة المعلومة بأنها مجموعة من الأقوال والأفعال التي يُعلن بها المسلم هويته الدينية أمام الناس. وهذا هو التعريف الأدق لمفهوم الأمر الشعائري، أي الأمر الذي يتخذ طابعًا ظاهرًا، رمزيًا، جماعيًا، يُظهر انتماء الإنسان لأمة معينة، ويُمنح بموجبه وضعًا قانونيًا داخل تلك الأمة.

وقد وردت هذه الأركان في مرويةٍ واحدة ضمن عدد من الروايات التي تتفاوت في الثبوت والصحة، وقد حذفت بعضها، وأضافت غيرها، مما يدل على أن تدوينها لم يكن نصًّا قطعيًّا ولا صيغة نهائية للدين. ومن هنا، فإن الحَسم الحقّ لمكانة هذه الأركان لا يمكن أن يتمّ إلا بالرجوع إلى القرءان الكريم، باعتباره النصّ العليّ، الحكيم، والمهيمن على سائر النصوص.

 

ثانيًا: الحَسم القرءاني

يبين القرءان أن الانضمام إلى الأمة الإسلامية يُحدَّد بثلاثة شروط ظاهرية:

{فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون} [سورة التوبة: 11]

فبمجرّد أن يُعلن الإنسان توبته من الشرك - والتي تتضمّن الشهادة المعلومة - ويُقيم الصلاة ويُؤتي الزكاة، يُعدّ منتميا للأمة الإسلامية، ويترتب على ذلك اعترافٌ اجتماعي وحقوقي وقانوني بعضويته، حتى لو كان في باطنه منافقًا متماديًا.

وهذا يوضح أن هذه الأركان هي بمنزلة بطاقة هوية دينية ظاهرية، وليست معيارًا للنجاة الأخروية، ولا كافيًا لضمان القبول عند الله.

 

ثالثًا: معيار دين الحقّ

في دين الحقّ، لا تختزل بنية الدين في الأركان الشعائرية، بل كل أمر قرءاني صريح أو ضمني يُعدّ عنصرًا أصيلًا في بناء الدين. ويتميّز الدين الحقّ بأنه هرمي البنية، تتدرّج فيه العناصر من ظواهر شعائرية إلى أصول جوهرية تُكوِّن قلب الدين ومقصده الأعلى.

وهكذا، تنقسم الأوامر إلى:

  • أوامر شعائرية: تمثّل الهوية الظاهرة والانتماء المجتمعي.
  • أوامر أساسية: هي أساس الأمور الدينية.
  • أوامر جوهرية: تتصل بجوهر الكيان الإنساني.
  • أوامر مقاصدية: تعبّر عن الغايات العليا للدين، مثل القسط، والرحمة، والتزكي.

 

رابعًا: تفاضل الأركان في ضوء القرءان

إن ترتيب الأوامر في النص القرءاني يدلّ على تفاضل جوهري بين الأركان، ومن ذلك:

  • ذكر الله: أقوى وأشدّ جوهرية من الأركان الشعائرية الظاهرة، وقد جعله الله أكبر من الصلاة نفسها:

{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُون} [سورة العنكبوت: 45]، كما أنه يتقدم عليها تقدم الغاية على الوسيلة: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي} [طه:14]

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [سورة البقرة: 183]

  • القيام بالقسط: مقدّم على كل الشعائر، لأنه يمثل جوهر الغاية الأخلاقية للتشريع، ولقد جعله الله تعالى المقصد من إرسال الرسل بالبينات:

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيز} [الحديد: 25]

 

خاتمة

إن النظر إلى الدين من زاوية الأركان الخمسة فقط يُعدّ اختزالًا مخلًا بمقاصده الكبرى، وتشويشًا على حقيقة التراتب بين الأوامر القرءانية. فالقرءان الكريم يضع أمام الإنسان نظامًا شاملًا، يُرتِّب الأولويات، ويُبرز الجوهري من العرضي، والمقصد من الوسيلة، والباطن من الظاهر، وفي ضوء هذا النظام، تتقدّم الأركان الجوهريّة والمقاصدية مثل ذكر الله، وقراءة القرءان، والتقوى، والقيام بالقسط، على الأركان الظاهرة، مع الإقرار بأهمية الأركان الثلاثة  المعلومة في ذاتها، ولكونها بطاقة هوية شعائرية للمنتمي إلى الأمة الإسلامية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق